الإثنية واليهودية وسردية إسرءيل كتراث ثقافي فلسطيني

محمود الصباغ
2023 / 10 / 21 - 02:47     

استهلال
تتألف هذه المقالة، في الحقيقة، من مقالتين دمجتهما معاً بطريقة لا تخلو في المعنى العام لهما إذ يتناول فيهما توماس طومسون موضوعاً واحداً يتعلق بتراث فلسطين وتفسيره وفهمه من منظور تاريخي ثقافي؛ وتكاد تكرر كالتهما ذات الأفكار والكلمات وحتى العبارات والجمل. نشرت المقالة الأولى بعنوان Also the Narratives of Israel are a Palestinian Heritage ( انظر الرابط https://bibleinterp.arizona.edu/articles/2014/12/tho388009). والثانية بعنوان Your Mother was a Hittite and Your Father an Amorite: Ethnicity, Judaism, and Palestine’s Cultural Heritage ( انظر الرابط https://bibleinterp.arizona.edu/articles/tho368024). وقدمت كورقة بحث في ندوة التراث الفلسطيني في القدس، برعاية وزارة الثقافة الأردنية في 28 كانون الثاني 2012. (ينوه الباحث إلى ذلك ويوجه شكره إلى وزارة الثقافة الأردنية وإلى د. أحمد راشد ود. صبحي غوشة من لجنة يوم القدس).
وإذا كانت المقالة الثانية، وهي الأحدث، أكثر تركيزاً وتوضيحاً لأفكاره وتضمنت عدداً كبيراً من الإحالات المرجعية ، فإن المقالة الأولى كانت -كما يقول طومسون في موضع آخر- مجرد عمل افتتاحي تشبه كثيراً مجاز من يفكر وحيداً بصوت عالٍ؛ لذلك خلت من الهوامش والمراجع والمصادر، ويشير طومسون إليها بتصنيفها مقال رأي دون حواشٍ وحجج مفصلة مفترضاً، ببساطة، أن من يقرؤها سيكون على دراية بطبيعة السجال حول هذه القضايا منذ السبيعينات تقريباً، ولعل الدافع الأساس في تصور طومسون كان البحث في "مستقبل التأريخ الصهيوني" لفلسطين ورغبته في فتح نقاش حول تاريخ فلسطين "الذي لم يكن صهيونياً" على حد قوله، واستكشاف إمكانات تطوير تاريخ لماضي فلسطين القديم الذي لم تشوهه البروباغاندة الصهيونية القومية.
يقدم الكاتب ملخصاً لكيفية سير الأمور في العالم القديم عبر مجموعة من الطروحات الجدلية التي ترتبط بحقيقة أو عدم حقيقة "تلك الأمور" وانعكاسها، بطرق مختلفة، على عالمنا الحديث. ويرفض، بطريقة جدلية، المزاعم التي تقول بأن الشكل الآشوري لكلمة، يودا Judáa يحمل معنىً إثنياً أو إشارة إلى كيان إثني، بل يراها أطلقت على منطقة محددة من فلسطين (الهضاب الجنوبية)، والأمر ذاته ينطبق على الاسم إيهود Yehud الذي يعود للفترة الفارسية؛ والذي كان تعبيراً سياسياً أطلق كاسم لتلك المنطقة، أي أن كلا المصطلحين لم يكن يقصد منهما الإشارة إلى جماعة إثنية بعينها، أو إلى "ناس-شعب". ومع الانفتاح الثقافي والحضاري الذي مثلته الحقبة الهلنستية انتشر سكان تلك المنطقة الذين عرفوا باسم إيهوديم -يهوديم yehudim في جهات حوض المتوسط كافة؛ مما يجعل من الصعوبة بمكان- من الناحية المنهجية على الأقل- القبول بأن إيهوديم/ يهوديم yehudim تشير هكذا ببساطة إلى سكان مقاطعة إيهود أو ضمناً إلى منشأ وأصول اليهوديم وهذا يشبه، وإن في سياق مختلف، ما يقترحه شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" عن الأساطير المؤسسة لتعريف "اليهود" بصفتهم "عرق- إثنية" أو "شعب" التي ليس لها سند تاريخي، بل مجرد مطابقات نصية توالى حسب الأفكار والمعاني لا تعكس أي حقيقة تاريخية بقدر ما تعكس توجه أصحابها نحو فهم المعنى المطلوب بناء على سياقات محددة ودلالات مباشرة دون غيرها والتي يقدمها النص "كما هو".
اتهم طومسون بسبب أفكاره ودراساته المتعددة والمتعددة "خارج تيار وسياق الأدبيات الكتابية/ التوراتية" بكونه "معادٍ للصهيونية" وبالتالي "معادٍ لإسرائيل"؛ واتهم بتقديم رواية مريدة للفلسطينيين مثيرة للاهتمام؛ لكنها لا تستند إلى معطيات أثرية أو بيانات تاريخية معروفة. علماً أن طومسون، في نهاية المطاف، شخص أكاديمي وليس رجل سياسة ولا حتى ثائر، وبالتالي ليس من مهامه "خلق رواية مضادة" بل تتمثل مهمته في "خلق رواية دقيقة" أقرب إلى الصحة والوقائع التي يتحدث عنها، وهذا لا يعني بطبيعة الحل أنه لا يجلب معه، في نقاشه، مثل الجميع طبعاً، خلفيته الثقافية والنفسية والنشأة التي تطور فيها وبها. ولعل هذا ما سمح- ويسمح- له ، ولغيره بطبيعة الحال، التحدث علناً بأي شأن سياسي ذو صلة وثيقة بالمنظومة المجتمعية التي تحيط به ويعيش فيها.
لكن هذا ليس سبباً لتقديم دفوعات تتبنى مغالطات منطقية من أي نوع؛ فمن واجبنا، والحال هذا أن نفهم التاريخ باعتباره مدونة سياسية وفقاً لمنظور المؤرخ الذي يكتبه ضمن سياق سياسي/ ذاتي معين يكون مسؤولاً عنه وعن مقاربته في إعادة بناء الماضي "الحقيقي"، علماً أن هذه مهمة شبه مستحيلة.
وإذا كان من غير الممكن إعادة كتابة الماضي، كما يرى ميشيل فوكو، فيمكننا على الأقل تمثله.

توماس طومسون
إعداد وترجمة محمود الصباغ
1.تمهيد: أَبُوكِ أَمُورِيٌّ وَأُمُّكِ حِثِّيَّةٌ
هيمنت سردية تاريخ إسرءيل القديم في التمثلات الصهيونية في تأويلها تاريخ فلسطين؛ بل إنها، حلتّ محله في بعض الأحيان؛ فيظهر ماضي فلسطين القديم وفقاً للتصورات الصهيونية في نطاقين زمنيين يمتدان نحو 3 آلاف سنة من "عصر داود" حتى القرن التاسع عشر الميلادي: وتشمل الفترة "التاريخية" الأولى ماضٍ عظيم يمتد لنحو ألف عام -من زمن "مملكة داود المتحدة" حتى نهاية ثورة باركوخبا، يليها ألفي عام من المعاناة، حيث المنفى اليهودي العظيم، وحيث غابت أرض إسرءيل عن شعبها منذ طرد اليهود من إيليا كابيتولينا في العام 135 ميلادية وحتى "العودة" في القرن التاسع عشر. ويدعم هذا السرد القومي الاستعماري الحديث "حق العودة" لجميع يهود العالم، كما يمنع -في ذات الوقت- هذا الحق عن سكان البلد الأصليين. ونجحت هذه السردية في إبعاد الشباب الفلسطيني عن تراثهم الثقافي الغني، كما أثّرت سلباً على الهوية الفلسطينية منذ أربعينيات القرن الماضي، رغم عدم وجود ما يدعم هذه السردية المضللة في الأبحاث التاريخية. ومن عجيب المفارقات المأساوية أن تأسيس دولة يهودية بصفتها ملجأً دائماً وضرورياً للغاية ليهود أوروبا قد حدث على حساب عدة ملايين من الفلسطينيين النازحين: وهي تكلفة ما انفكت ترتفع؛ وما انفك الفلسطينيون يدفعون ثمنها حتى اليوم. وتحاول تلك التمثيلات والمراجعات الصهيونية المتحيزة للقصة الكتابية الرمزية باعتبارها تاريخاً للأصول اليهودية، التقليل، بل أحياناً تتجاهل، أهمية النقوش التاريخية الفعلية التي تشير إلى عمليات ترحيل الناس من بيت عُمْري ويودا القديمتين، وفي بعض الأحيان يتم تجاهلها.
لقد تمت إعادة كتابة الصفات الأسطورية لمثل هذه الاستعارات الكتابية مثل مجاز الأرض الفارغة في سفر إرميا (إرميا 4: 23-26) ضمن منظور الحكومة الإسرائيلية في القرن العشرين لفلسطين لخلق تاريخ مشترك للمستعمرين اليهود الجدد ولإخفاء وإزاحة واقع سكان فلسطين الأصليين وتراثهم في ماضي فلسطين، بما في اليهودية القديمة. وبرغم استخدام قصة السبي البابلي الكتابية في هذا البناء السياسي المتحيز، إلا أنه تحول إلى فصل صغير أو محطة قصيرة في إطار القصة الخيالية الأكبر عن الهيمنة اليهودية ووجودها المتواصل في الأرض من "زمن داود" إلى "المنفى الكبير" سنة 135 م، وهذا الأخير يتم تأويله بصفته عملية طرد قسري كبرى نفذها الرومان ضد اليهود بنفيهم من إيليا كابيتولينا Aelia Capitolina ومن فلسطين، في وقت لم يحدث فيه أي شيء غير متوقع أو غير عادي، وحيث لم يتم تحقيق أي تغيير أو تطور.
لم يتردد الدين المتجذر بعمق في اليهووية Yahwistic العربية والسامرية القديمة، والذي يتركز حول التعاطف مع الفقراء ومحبة الغريب، في تعريف سكان فلسطين الأصليين بأنهم غرباء في أرضهم. ومن خلال بناء ماضٍ مشترك لأفراد متنوعين ثقافياً وإثنياً، ولكن متطابقين دينياً، من أجزاء مختلفة من العالم، فإن الفائدة السياسية لبناء تراث فلسطين وتعيينه بشكل فريد في الفهم الإثني والعرقي لليهودية أدى في الواقع لتدمير وحرمان وتهجير أحفاد ليس فقط سامريي إسرءيل القديمة، ولكن أيضاً يهود فلسطين القدماء من سكان يهوذا وإدوم ويودا Judáa [التسمية الآشورية للمرتفعات الجنوبية الفلسطينية] وإيهود [Yehud [التسمية الفارسية لتلك المقاطعة] والجليل.
وليس من العلم بشيء القول بقيام فلسطين العصر الحديدي نتيجة غزو الإسرءيليين لأرض كنعان بقيادة يشوع، علماً أن هجرة كبيرة واحدة على الأقل حدثت في المنطقة؛ فقد وصل "شعوب البحر" في القرن الثالث عشر ق.م. ودمجوا سلمياً على طول السهل الساحلي من عكا حتى غزة وساعدوا في استقرار السكان المحليين في عدد من الممالك الصغيرة التابعة والمستقرة. وأطلق الآشوريون، في زمن العصر الحديدي الثاني، على المنطقة الساحلية الجنوبية اسم "بيليشتو Pilishtu" ومنحوا مدينة صور حق رعاية المنطقة الساحلية الشمالية الممتدة من الطنطورة إلى عكا. أما في المناطق الداخلية، فقد تميزت الفترة الانتقالية للعصر الحديدي الأول بإعادة توطين السكان في قرى صغيرة. وظهرت، في ذلك الوقت، قرىً عديدةً ذات أسواق في مدن تتمركز حول الإقليم في أودية يزرعيل وبيسان وشمال الأردن وفي سفوح التلال القريبة، والهضاب الوسطى، والجليل الشرقي والأدنى وشرق الأردن من دمشق وصولاً إلى وادي الحسا. وانتقلت تبعية الهضاب الوسطى من سكمم Sekmem البرونزية المتأخرة (تل بلاطة) إلى السامرة القريبة، حيث نشأت مملكة صغيرة في وقت ما في القرن التاسع ق.م. وبينما استمرت مجدّو في السيطرة على وادي يزرعيل، والتي من المرجح أنها أصبحت إلى جانب حاصور ودان، تابعة لدمشق معظم سنوات القرن التاسع ق.م وأوائل القرن الثامن ق.م. وبشكل عام، أدى استقرار السكان في معظم مواقع شمال فلسطين أثناء العصر الحديدي الأول إلى إعادة الحياة للعديد من مدن العصر البرونزي التقليدية بحلول العصر الحديدي الثاني، في حين سيطرت الممالك الإقليمية الصغيرة على شمال ووسط شرق الأردن: مثل بيت حزائيل (دمشق)، بيت عماني ومآب / موآب.
كانت الزراعة في مرتفعات جنوب القدس أقلّ مقاومة للجفاف، وبقيت غير مأهولة حتى العصر الحديدي الثاني. في حين حافظت أوروساليمّو Urusalimmu على مكانتها بصفتها مدينة مقدسة، ولم تشهد أي استقرار سكاني مهم منذ العصر البرونزي الوسيط. لم يكن هناك "مملكة موحدة" قط سيطرت فيها أوروساليمّو على كل فلسطين حتى الفرات. وبينما قد يشير اسم المكان "بيت دود bytdwd " إلى دور القدس al-Quds التقليدي بصفتها مدينة مقدسة، فلا يمكننا الحديث عن مساحة كبيرة للملك داود في التاريخ، رغم وجود شخص مثل سلامانو Salamanu ملكاً على مآب شرق الأردن!
وتعود جذور إعادة توطن المرتفعات الجنوبية في منتصف وأواخر القرن التاسع ق.م إلى استقرار الرعاة الرحل الذين سيطروا على مساحات شاسعة من المنطقة الجنوبية لأكثر من نصف ألفية. عندما أحيت الممالك الكبرى في سوريا وبلاد ما بين النهرين التجارة الدولية، التي سيطر العرب على طرقها البرية؛ مما كان له كبير الأثر على فلسطين. فتوسع إنتاج زيت الزيتون والقمح والشعير والنبيذ والصوف واللحوم بصفتها "محاصيل نقدية" وخلقت فائضاً اقتصادياً أدى إلى تغيير كبير في الأنشطة الزراعية في فلسطين؛ الأمر الذي دفع العديد من الرعاة الرحل والصيادين إلى الاستقرار في المناطق الجبلية والمرتفعات الهامشية ليودا Judáa وأدوما Aduma، ليس بهدف التوسع الزراعي، بقدر ما كان تأمين منطقة السهوب الكبيرة هذه وتنظيم استخراج النحاس في عربا Araba والتجارة البرية المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً. وبحلول القرن الثامن ق.م، سيطرت ممالك رعاية صغيرة على المنطقة وراقبتها من بلدتي بصرا Bozra وأوروساليمو.
2.أصول اليهودية بوصفها مشكلة تاريخية
كنت قد أشرت، قبل نحو اثني عشر عاماً، في سياق النقاش حول استعمال كلمتي "يهودي" و "يهودية"، إلى الشكل الآشوري للاسم يودا Judáa، الذي كان يعني جغرافياً toponym هضاب فلسطين الجنوبية؛ ولم يكن يشير إلى كيان إثني من أي نوع، مثلما كان الاسم إيهود Yehud يعني التسمية الفارسية لتلك المقاطعة. ولم يكن القصد منها الإشارة إلى جماعة إثنية أو "شعب". وسوف يكون من قبيل التهور افتراض تماثلها، هكذا ببساطة، مع سكان مقاطعة إيهود؛ أو أنها تشير ضمناً إلى منشأ وأصل من يطلق عليهم إيهوديم yehudim ، بسبب الانتشار الواسع لسكان إيهود "أي الإيهوديم" في العصر الهلنستي(1). وهذا ليس جديداً عندي على كل حال؛ فقد نوهتُ، مؤكداً، في اختتام محاضرتي في ندوة يوم القدس في دورتها السابعة في العام 1996 لعدم حدوث ترحيل [ترانسفير] ليهود فلسطين ولا هجرة جماعية عقب تدمير تيطس لأورشليم وللهيكل سنة 70 م، ولا بعد إخماد تمرد بار كوخبا سنة 135 م؛ ومنع اليهود من دخول المدينة التي أعاد الرومان بناءها، بل واصل سكانها العيش فيها. وتحولت الغالبية العظمى منهم إلى المسيحية؛ ثم؛ بعد ذلك، إلى الإسلام في فترة [الخلافة] الأموية(2)، عندما أصبحت القدس تحت الإدارة الأموية في العام 638 ميلادي، فلم يحدث ترحيل أو إبادة لسكان فلسطين الذين كانوا مسيحيين في غالبيتهم، مع وجود عدد ل يستهان به ممن بقوا سامريين ويهود. وواصل الناس معيشهم، وتكيفوا مع الظروف المتغيرة؛ وقدم معظمهم الولاء لحكامهم الجدد وقبلوا تفسير الإسلام الجديد لتوحيدهم المشترك.
كما كنت قد ذكرت في الندوة الحوارية الأوروبية حول المنهج التاريخي European Seminar for Historical Method في لوزان(1997)، بعض السمات الأساسية لـ "إسرءيل الجديدة" في سياق الأدبيات الكتابية مثل "المنفى" و "العودة"، بصفتها مفاهيم أدبية واستعارات إيديولوجية طوباوية، أكثر منها حقائق تاريخية تؤدي إلى معنى الإثنية(3). وتطرقتُ في مناسبات أخرى لهذه المسائل في أبحاثي، قبل نحو عشرين عاماً بالتركيز على تكوين الهوية الإثنية لشخصية "إسرءيل" الكتابية في عملي المطبوع بعنوان "التاريخ المبكر للإسرءيليين من المصادر المكتوبة واللقى الأثرية The Early History of the Israelite People from the Written and Archaeological Sources"(4) [النسخة العربية من ترجمة صالح علي سوداح بعنوان "التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي" عن دار بيسان1995-المترجم]. لم أعتبر موضوعات "المنفى" و"العودة" مجرد محددات استراتيجية ونقاط انطلاق للسردية الكتابية، بل عينت ضمنها أيضاً الفهم الذاتي الديني لليهودية والمسيحية على حد سواء، باعتبارهما إسرءيل العهد الجديد(5). وينقل شلومو ساند هذا التأكيد للعصر الحديث حين يستعرض بكتابه "اختراع الشعب اليهودي The Invention of the Jewish People" [النسخة العربية من ترجمة سعيد عياش بعنوان اختراع الشعب اليهودي عن دار الأهلية للنشر والتوزيع سنة 2011 (بطبعة خاصة للعالم العربي حسب دار النشر-المترجم)] انتشار اليهودية خارج فلسطين(6). وفي الحقيقة تشجع أعمال [شلومو] ساند على محاولة تجميع الحجج الرئيسية المتعلقة بالمسألة الإثنية في فلسطين ما قبل الرومانية، بل وموافقته على التصور الأسطوري التاريخي لتعريف اليهود بصفتهم شعباً أو "عرقاً" من نسل فريد؛ وذلك لانتفاء مثل هذا الأساس(7)؛ الأمر الذي يساعد في استكشاف موجز لتطور مسائل الطائفية الجوهرية الملزمة داخل الديانة التوحيدية.
3.الحرم في قلب القدس
تظهر الإثنية تماسكاً واستمرارية لهوية شعب يمنحها لنفسه؛ أو ينالها عن طريق شعب آخر، تنسب تقليدياً، منذ هيرودوتس، إلى سكان منطقة معينة ذات تاريخ سياسي أو ثقافة أو لغة أو دين مميز(8)، بغض النظر عن مدى صدق مزاعمها وتأكيداتها الخيالية الزائفة. ونظراً لأن قضايا الدين- وفي الواقع، دور القدس في دين المنطقة- تعد محور الهوية اليهودية في العصور القديمة، فأود البدء بمناقشة أورشليم القديمة باسم القدسal-Quds؛ أي المدينة المقدسة، التي ترد بصورة روشاليموم Rushalimum، "مرتفعات (الإله) سالم"؛ أو "مكان سالم العالي" في أقدم المراجع، أي نصوص اللعنات Execration Texts المصرية [يسميها البعض نصوص التحريم-المترجم] من الفترة بين 1810 إلى 1770 ق.م، والتي تذكر أسماء عددٍ من مدن فلسطين(9). وربما يلمح اسمها إلى موقع حصين بعود للعصر البرونزي الوسيط الثاني، في موقع تل أوفيل [تل الظهور؟]، جنوب المدينة القديمة مباشرةً، حيث قامت كاثلين كينيون بأعمال تنقيب في الستينيات. كما يظهر الاسم بصيغة أوروشاليمو Urushalimu- مع لاحقة تشير إلى موقع عبادة الإله سالم- في النقوش المسمارية في ستة رُقَم مختلفة من رسائل العمارنة تعود لأواخر الأسرة الثامنة عشرة. ورغم العثور على لقى فخارية في الموقع من العصر البرونزي المتأخر، لم يُكشف أي موقع توطن مهم يعود لتلك الفترة(10). ولم يمنع هذا من ظهور أدلة تشير لوجود معبد على الطراز المصري على أساسات المدرسة الكتابية École Biblique، يمكن تأريخها إلى الأيام الأخيرة للأسرة الثامنة عشرة، أي فترة العمارنة، أو ربما بعد ذلك بقليل(11). كما عثر على لقى قليلة تشير إلى حالات توطن تعود لما قبل القرن التاسع ق.م، بخلاف الصرح المعروف باسم "المبنى الحجري المدرج الكبير" وبعض خرائب وأطلال لما قد يكون مبنى كبير(12).
ويبدأ تطور البلدة الحقيقي منذ النصف الثاني من القرن التاسع ق.م، لتتوسع أكثر مع بداية القرن الثامن ق.م، فتصل مساحتها في نهاية المطاف إلى نحو 50 هكتاراً تغطي التلال الجنوبية الشرقية والغربية عبر منطقة محاطة بجدران حصينة شيدت في وقت ما في نهاية القرن الثامن ق.م. وبلغت المدينة حداً من النمو وصلت فيه، حسب تقديرات مارغريت شتينر، إلى استيعاب ما يصل إلى 6000- 10000 نسمة(13)، قبل تدميرها في العام 597 ق.م. على يد نبوخذنصر حيث تشير النقوش البابلية لها باسم أوروشليمّو Urushalimmu. وتستحضر بعض الروايات الكتابية دور القدس، أي المدينة المقدسة، كما هي الإشارة المباشرة في النص المتأخر عن ملكيصادق، كاهن وملك سالم الذي يبارك إبراهيم بمباركة الإله العلي Elyon خالق السماء والأرض الذي يطابقه النص مع يهوه في حالات كثيرة [18 وَمَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ، أَخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا. وَكَانَ كَاهِنًا للهِ الْعَلِيِّ.19 وَبَارَكَهُ وَقَالَ: «مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ،20 وَمُبَارَكٌ اللهُ الْعَلِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ أَعْدَاءَكَ فِي يَدِكَ». فَأَعْطَاهُ عُشْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.]( تكوين 14 : 18-20)؛ (وراجع كذلك المزامير 76 :3 وسفر العدد 24 : 6 والمزامير 46 : 4). ويشار إلى الإله إيل (يرد كتابياً بصيغة إيلوهيم Elohim) في أدب العصر البرونزي المتأخر الأوغاريتي، بصفته كبير الآلهة ورأس البانثيون، ويحمل هذه السمة في فلسطين وسوريا عموماً غضون العصر الحديدي. واستخدمت العديد من النصوص الكتابية المتأخرة بتأثير مفاهيم التوحيد اسم إيلوهي شماييم Elohei Shamayim لوصف بعل شميم Ba’al Shamem المذكور في النصوص السورية من القرن الخامس ق.م. ويظهر، في المقابل، في العديد من النصوص الكتابية (لاسيما التراتيل والقصص) الاسم يهوه Yahweh (ياه Yah أو ياهو Yahu في النقوش) بوصفه "اسم الرب" عمانوئيل؛ الإله كما عرفته إسرءيل [12 فَقَالَ: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَهذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ: حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ، تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هذَا الْجَبَلِ».](خروج 3: 12) , أو حتى [8 «حِينَ قَسَمَ الْعَلِيُّ لِلأُمَمِ، حِينَ فَرَّقَ بَنِي آدَمَ، نَصَبَ تُخُومًا لِشُعُوبٍ حَسَبَ عَدَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.] (سفر التثنية 32: 8) حيث يظهر يهوه بصفته ابن إيل العاليEl elyon.
كان الدمار البابلي الساحق لأورشليم ويهوذا في العام 597 ق.م هائلاً؛ وقبل ذلك كان نبوخذنصّر قد فرض حصاراً في السنة السادسة من حكمه على مدينة يهوذا، بعد أن أغار على العرب في سهول حطّي Hatti (أي فلسطين)، فاستولى عليها وعين ملكٍ جديدٍ وأخذ غنائم ثقيلة(14). وخلال العقد التالي؛ دمّر الجيش البابلي أورشليم وجميع مواقع وبلدات يهوذا تقريباً، ورُحّل غالبية الأحياء، وشملت العمليات تدمير وتخريب لخيش ورامات راحيل وعراد، ومعظم مدن مرتفعات يهوذا ووديان بئر السبع وعراد، إلى جانب قلاع وحصون الهضاب الجنوبية والنقب الشمالي. ورغم تعرض المنطقة الواقعة جنوب القدس للنهب التام، كان الأمر مختلفاً شمالاً، فلم تعانِ منطقة بنيامين دماراً مشابهاً ونجت ثلاثة مواقع هامة: بيتئيل وتل الجب وتل الفول. كذلك تشير حفريات تل النصبة إلى نجاة المدينة التي أعيد بناؤها رغم الأضرار التي لحقتها(15). تحولت المدينة إلى مركز إداري للمنطقة في فترة الدولة البابلية الحديثة، كما يعتقد أهل الاختصاص، بسب استمرارية التوطن والتغيرات الكبيرة في مخطط البلدة وتحصيناتها (16).
ولا يبدو أن القدس، ومنطقة إيهود التي تقع على تخومها، تعافت في الفترة الفارسية حتى بدايات القرن الثاني ق.م، بل بقيت دون مهملة على مدار أربعة قرون كاملة تقريباً، وبلغ عدد السكان الباقين فيها ما بين 400 إلى 1000 شخص على الأكثر(17). ولا إشارات قاطعة أو دليل من الحفريات الأثرية الكثيفة في القدس والمنطقة المحيطة لها مباشرة، تدلّ على عودة المنفيين خلال الفترة الفارسية، كما لم يعثر ولو على حجر واحد من جدار نحميا الدفاعي الأسطوري المكون من اثنتي عشرة بوابة(18). وظلت يروشليم Yirushlem طوال العصر الفارسي مهملة وفقيرة، ولم تجاوز سكانها 1000 نسمة في أحسن الأحوال كما تذكر مارغريت شتاينر. ومن المرجح أن المعبد والكهنوت الذي تضاءل دوره كثيراً استمرا في دعم دور المدينة -منذ العصر البرونزي الوسيط- بصفتها القدس، أي المدينة المقدسة، ويعتقد أن مركز مقاطعة إيهود Yehud كان في رمات راحيل وليس في يروشليم، يذكر أن هذه الفترة شهدت إعادة الاستقرار في منطقة شفيلة والجزء الجنوبي من يودا السابقة وإعادة تنظيمها لتصبح مقاطعة إدوميا Idumea، وكان مركزها في مدينة لخيش، وعكس هذا موجة هجرة كبيرة سابقة من المنطقة الإدومية، خاصة بعد تدمير بصرا على يد نابونيد. وتفيد المصادر عدم تعرض المقاطعات الشمالية من السامرة ومجدّو وصور للدمار نسبياً، بخلاف ما حصل لأورشليم، خلال الفترة البابلية. وثمة رأي يعزو انتعاش مواقع الهضاب الوسطى بسبب بناء معبد جرزيم في بداية القرن الخامس ق.م؛ ولعل هذا سيؤكد، من خلال الثقافة الفكرية المرتبطة بالمعبد، على فهم السامريين لأنفسهم بصفتهم مسؤولين أكثر من غيرهم عن كتابة التوراة، والتي ربما تكون الأقدم تأليفاً في الكتاب المقدس.
وأرى لمحدودية توطن أورشليم خلال تلك الفترة دوراً كبيراً في الحفاظ على أهميتها بصفتها مدينة مقدسة، ونعلم أنها استمرت في أداء هذا الدور من رسالة كتبت سنة 410 ق.م، موجّه من إليفنتين في مصر إلى رئيس الكهنة في يروشليم Jerushlem (الكتابة الآرامية للكلمة المسمارية أوروشاليمّو Urushalimmu)، ما يعطينا دليلاً واضحاً على استمرار أورشليم- رغم تدميرها- كمكان مقدس، وربما دعمت معبداً آخراً أيضاً، نظراً لاحتمال ربط دور الكاهن الكبير بعبادة الهيكل، بسبب الدور التقليدي الطويل لأورشليم كمدينة مقدسة، والداعم، حسبما أرى، لنزعة دينية نضالية راديكالية للسيطرة على المدينة طوال الحقبة السلوقية واستمرار تغذية هذه النزعة لأكثر من ثلاثة قرون، وهو ما جعل مواصلة الصراع حول مكانة المدينة يلعب دوراً في تحديد مصيرها كمدينة مقدسة حتى بعد أن قضى بومبي على استقلال الحشمونيين.
علينا الانتظار حتى قدوم هيرودس ومحاولته إيجاد حل للصراع، حين استهل إعادة بناء المدينة على الطراز الهلنستي؛ فابتدأ بتوسيع الهضبة فوق تل أوفيل لتعادل مساحة حجم منطقة الحرم الحالية لبناء الساحة العامة والسوق الكبير في المدينة [الأغورا agora ]. كما أعاد بناء وتوسعة المعبد في مركزه، وفقاً لما تقوله التقاليد (Josephus, Ant. 15.11.1). ويرى جون سترينغ ( في كتاب من إعدادي مع سلمى الخضراء الجيوسي(2004)، [ظهر الكتاب في اللغة العربية سنة 2005 عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان "القدس: أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ"، تحرير توماس. ل. تومسون بالتعاون مع سلمى الخضراء الجيوسي-المترجم])(19)، بأن الجدار المعروف اليوم باسم "حائط المبكى" لم يكن من بقايا المعبد، بل كان جزءً من الجدار الغربي للسوق الكبير فوق المدينة، الذي بناه هيرودس لدمج معيش المدينة اليومي بمظهرها المقدس عبر توحيد مركز الديانة العامة والتضحية اليهوديين بمركز مجتمع المدينة والفكر والثقافة الهلنستية، على غرار الـ" أغورا "في أثينا. ومن الواضح أن نيته كانت تقديم اليهودية- سواء في الدين أو الثقافة على حد سواء- بالتساوي مع الأديان الهلنستية الأخرى. لكن مشروعه العظيم هذا استغرق أجيالاً؛ حتى العام 64 م، أي قبل نحو ثلاث سنوات من ثورة يهودية راديكالية معادية للهلنستية، حسمت مصير المدينة (20).
4.التكوين الإثني في فلسطين ما قبل الهلنستية
هيمنت محاولات تعيين الهوية الإثنية اليهودية على الأبحاث الكتابية والآثارية؛ على مدى قرن كامل تقريباً. فرأى ألت Albrecht Alt أصول إسرءيل على هيئة اتحاد قبلي "amphictyony" رعوي يضم أفراداً هاجروا جماعياً إلى هضاب فلسطين(21). وترمي الفكرة المركزية هذه إلى وضع وحدة إسرءيل من بداية وجودها بصفتها "شعب". ورأى، بما يشبه ذلك، الأمريكي أولبرايت William Albright في قصص رحلة إبراهيم الكتابية من أور إلى حران ثم إلى كنعان شكلاً ملحمياً saga يعكس الحركة التاريخية للأموريين "شبه البدو" الذين دخلوا فلسطين في العصرين البرونزي المبكر والوسيط EB IV/ MB I، مما يعكس وحدتهم الأصلية، أي "شعب"، من حيث نشأتهم(22). كما هيمنت فكرة وحدة السكان الأصليين على بحث مندنهول George Mendenhall وغوتوالد Norman Gottwald عندما اقترحا تسمية جماعة تاريخية باسم "جماعة موسى" ذات رسالة ثورية حوّلت بموجبها انتفاضة الفلاحين الفلسطينيين إلى "شعب جديد" فعلياً في أواخر العصر البرونزي الوسيط(23).
امتلكت هذه التخيلات التاريخية البارزة ملمحاً مقنعاً باعتبارها صدىً لوحدة دينية تتفاعل ضمنها قصص أصل الكتاب باستعارة مفصلة عن مفهومي النفي والعودة في النص كأنهما سلسلة وعود ورؤى طوباوية لعالمٍ جديدٍ؛ أو عهدٍ جديدٍ؛ أو إسرءيل الجديدة؛ شكلت موضوع الخطابات المركزية لمؤلفي أسفار الأنبياء تجاه جمهورهم الهلنستي باستحضار الدين عبر هوية رائدة نظرت لهؤلاء المؤمنين بصفتهم "شعب الرب". وفي الحقيقة، لم يكن المؤرخون وعلماء الآثار الكتابيون في القرن العشرين قراء أدب جيدين.
ومن المثير للاهتمام أن تكون الإشارة الأولى لاسم "إسرءيل"، بصفة شعب، أتت من أنشودة مصرية تعود لأواخر القرن الثالث عشر ق.م، تحتفي بانتصار [الملك المصري] مرنبتاح على الليبيين. ويظهر التعبير المجازي لكلمة "إسرءيل" في المقطع الختامي حين يختتم الحديث عن السلام الذي سيعم العالم في سياق الاحتفال بالنصر الحاسم على الليبيين اللذين يقرون بهزيمتهم، ويظهر معهم جميع الأجانب جاثين على ركبهم ويصرخون" شالوم Shalom"(24).
لا أحد من الأقواس التسعة سيرفع رأسه [ضد مصر].
وينبغي التوضيح أن مناسبة النشيد هو" السلام في ليبيا"، لكن هذا النصر يستحضر سلاماً إمبراطورياً. "حطّي Hatti (حثيي الأناضول) في سلام ونُهبت كنعان" بعد ذلك، يظهر الرمز الثلاثي بصفته دلالة للسيطرة المصرية على بلدات سهول فلسطين، ويشبه وقوعها بسقوط المحاربين: "عسقلان أُسرت وقُبض على جزر، وينعام كأن لم تكن موجودة" وآباء هذه المدن- المحاربين ليسوا سوى الأرض وخصبها، يمثّلون الرموز النهائية للنشيد: الزوج السابق للأرض "(إسرءيل [يسيريار ]) خراب؛ لم يعد له نسل [بذرة] "والأرض نفسها خارو، Hurru (اسم مصري لفلسطين)، أصبحت أرملة بسبب مصر" [ثمة جناساً هنا بين "خارّو" أي سوريا و"خارت" الهيروغليفية التي تعني "أرملة"- المترجم]. يحمل الرسم الذي يميز إسرءيل العلامة الهيروغليفية الدالة على معنى" شعب". وإن كان هذا الشكل المجازي لإسرءيل في النقش لا يلعب ذات الدور الذي تلعبه إسرءيل في قصص سفر التكوين كحامل لخصوبة خارّو / فلسطين، غير أن "الأبناء" في نقش مرنبتاح ليسوا بلدات الهضاب الوسطى، حيث يضع علماء الآثار الكتابين إسرءيل الكتابية، بل "هم" بلدات في سهول كنعان وفلستيا!(25).
وبالانتقال من المجاز الأدبي إلى الفهم التاريخي، يبدو أن تقدم دراسات تحليل أنماط التوطن، منذ أواخر الستينيات حتى أوائل التسعينيات، ساهم في تقديم بعض الحلول المهمة لمناقشة المرحلة الانتقالية بين العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي(26). وعَكَس نمط التوطن الرئيسي في مواقع العصر البرونزي المتأخر فجوات توطن الهضاب الوسطى، مع تناقص ملحوظ في استمرارية ثقافة العصر البرونزي الوسيط باستثناء عدد قليل من المواقع في بعض الأحواض والأودية الخصبة ذات الوفرة المائية المناسبة للري، مثل تل بلاطة قرب من نابلس. وتظهر المرتفعات الجنوبية أيضاً انخفاضاً ملحوظاً في مواقع العصر البرونزي المتأخر؛ ولعل ذلك يعود إلى تحول حدود الجفاف شمالاً، واتساعها الشديد بسبب "الجفاف الميسيني العظيم"(27). وتتناقض فجوات التوطن في مواقع العصر البرونزي المتأخر في الهضاب بشكل لافت مع عدد المواقع غير المحصنة، في معظمها، التي عثر عليها على السفوح الأقل انحداراً في سهل شفيله، وفي الوديان وعلى طول السهل الساحلي. كما عثر، مع بداية العصر الحديدي، على مواقع توطن عديدة وجديدة في مناطق لم تسكن من قبل. وأكثر ما نوقش عادةً، مواقع الهضاب الوسطى بين بين رام الله ووادي يزرعيل(28)، حيث تم تحديد حوالي 300 موقع تعود للعصر الحديدي الأول.
وثمة خطأ منهجي فادح هنا؛ يتمثل بتركيز وحصر النقاش بأنماط تطور توطن مواقع الهضاب الوسطى المهيمنة ضمن تصوراتنا التاريخية مما يؤدي لترسيم بنية تقليدية لتاريخنا توجهها النصوص الكتابية على حساب فهم البنية الآثارية لمناطق ومواقع التوطن الفلسطينية الأخرى. وسنلحظ، بسهولة، كيف أفسد [إسرائيل] فنكلشتين، على نحو خطير، استعراض الملامح المميزة -وأحياناً المتباينة- للتطور التاريخي في أماكن أخرى بسبب تركيزه على إسرءيل وتاريخ مواقع العصر الحديدي في فلسطين(29)، مما ساهم في تقويض الفهم الواضح للتاريخ الجغرافي الإقليمي لفلسطين الذي تأسس وتطور بفعل شبكة تنافسية نشيطة ومعقدة تربط الحواضر الفلسطينية التي ظهرت طوال فترة العصر الحديدي الثاني. ولا يعني هذا عدم وجود اختلافات جغرافية محددة بين أنماط التوطن والفخار في أنحاء فلسطين، مما يجعلها اليوم بحاجة إلى نقاش أكثر وضوحاً عما كان عليه الأمر في أوائل التسعينيات(30). وإذن؛ تسببت أولوية نقاش الهضاب الوسطى والتركيز المفرط على المواقع في تشويه خطير لتاريخ التوطن في فلسطين وشرق الأردن(31).
كانت مواقع الجليل الأعلى والكرمل، على سبيل المثال، شبه خالية من مواقع العصر البرونزي المتأخر باستثناء سفوح أودية الأغوار. كما تختلف كثيراً أشكال فخار بدايات العصر الحديدي الأول من هذه المنطقة (بما في ذلك موقع العصر البرونزي في تل القدح "حاصور Hasura") عن فخار الهضاب الوسطى. وفي الواقع، تحمل مواقع العصر البرونزي، لا سيما العصر الوسيط في حاصور خصائص سوريّة وتحتفظ بروابط قويّة مع ماري(32). كما هيمن، على سبيل المثال، الشكل الجليلي لجرار التخزين pithoi- المنحدر مباشرة من أشكال العصر البرونزي المتأخر في حاصور، على فخار العصر الحديدي الأول في الجليل الأعلى، أكثر من جرار التخزين المطوقةcollared-rim التي نجدها في الهضاب الوسطى(33). ويشير الطابع الجليلي لها، على وجه التحديد، إلى الطابع الأصلي لمواقع التوطن الجديدة في المنطقة؛ ويمثل ثقافة مادية تاريخية مميزة عن الثقافة المهيمنة في المرتفعات الوسطى. علاوة على ذلك تشير جرار التخزين الصورية Tyrian pithoi إلى صلات معينة مع مواقع ساحلية مماثلة لما كان عليه الحال في مواقع العصر البرونزي المتأخر القليلة في المنطقة. واستمر تمايز تواصل الجليل في روابطه الثقافية مع لبنان بدلاً من الهضاب الوسطى خلال الفترات الهلنستية والرومانية، لا سيما عبر الإيطوريين Ituraeans، الذين هيمنوا على المنطقة الممتدة من بيسان حتى جبال لبنان. كما بات واضحاً استمرارية توطن الجليل الأدنى في العصر البرونزي المتأخر في العديد من مواقع العصر الحديدي الأول، مما يدل على استمرارية سكانية في المنطقة؛ والأمر ذاته ينطبق على مواقع العصر الحديدي الأول في أودية بيسان ويزرعيل. وعند هذه النقطة، بالكاد يكون مقنعاً زعم فنكلشتين المبكر المستند إلى النص الكتابي عن الأصول "القبلية" أو البدوية لسكان المرتفعات الوسطى الفلسطينية(34)، ويقبل اليوم الاستنتاج القائل بأن هؤلاء السكان وسكان المرتفعات الجنوبية -حيث تشكلت إسرءيل ويهوذا العصر الحديدي- كانوا ورثة مباشرين لثقافات العصر البرونزي في المنطقتين.
وإذا ما تحولنا إلى الساحل الشمالي نحو عكا وتل كيسان وتل أبو حوام وجنوب الكرمل والطنطورة(35)، سنجد دليلاً واضحاً على الاستمرارية الثقافية بين لقى عصري الحديدي الأول والبرونزي المتأخر، ودليلاً على روابط وثيقة مع مواقع لبنانية. وليس من المستغرب منح الآشوريون مدينة صور حق رعاية المنطقة في العصر الحديدي الثاني. وإلى الجنوب، ومنذ عهد رعمسيس الثالث، تُظهر مستوطنات السهل الساحلي الممتد من الكرمل حتى غزة اندماجاً سلمياً وسريعاً للسكان الأصليين مع القادمين الجدد من كيليكيا أو بحر إيجة(36). أي الفلست Peleset (الذين اشتق منهم اسم فلسطين) والشردان Sherden والدانانو Dananu والتجيكر Tjekker، وغيرهم. وتشير حفريات عكا والطنطورة إلى اندماج المهاجرين السريع، وهو ما يؤكد الفخار أيضاً، لا سيما ما يسمى بالأواني الفلستية التي تستند إلى توليفة من إرث الخزف الميسيني المنقول والمحلي(37). لم يكن الفلستيون شعباً تاريخياً قط، وهم بذلك يشبهون الكنعانيين في اختلاقهم(38)، كما يمثلون رمزاً مجازياً لعدو إسرءيل في الأرض.
طوّرت حواضر العصر البرونزي الوسيط الساحلية من أوغاريت إلى غزة، على امتداد زمن العصر الحديدي، سلسلة من البلدات المتميزة والمستقلة في الغالب برعاية مصرية ثم آشورية. وتمتعت باستقلالية ملحوظة لدرجة يمكن مطابقة بعضها بلهجات كنعانية محددة، مثل أشدود، التي كانت موازية للهجات إقليمية أخرى، مثل الفينيقية، والإسرءيلية، واليهوذية، والإدومية، والموآبية. ولعل النمط الأكثر تميزاً في مواقع توطن العصر الحديدي المبكر تم تحديده بأعمال مسح مرتفعات يهوذا الجنوبية، التي هجرت تماماً في أواخر العصر البرونزي تقريباً، كما عثر على عدد قليل من مواقع العصر الحديدي الأول في المنطقة. وبدأ التوطن أولاً من منتصف حتى أواخر العصر الحديدي الثاني، أي من أواخر القرن التاسع ق.م حتى القرن الثامن ق.م، وسرعان ما توسعت مواقع التوطن الجديد بحيث يجب الأخذ في الاعتبار حدوث هجرة إلى المنطقة من الخارج(39). وعكس اقتصاد وبيئة الإقليم الجغرافية تطوراً شبيهاً لجنوب الأردن، وظهور مركز إداري في تل بصيرا (بصرا القديمة )، لا سيما فيما يتعلق بالمحاصيل التجارية القائمة على الرعي والزراعة، وخاصة الزيتون، والذي يعتمد إنتاجه بشدة على وجود نشاط تجاري، حيث تدين هاتان المنطقتان شبه السهبية بتطورهما السياسي، على هيئة حواضر ملكية صغيرة، وتجار نشطين في تطور نشاط التعدين والمناجم الخاضع للسلطات الآشورية وتوسعيها لشبكات التجارة العربية(40). وسوف نلاحظ أول إشارة واضحة إلى هيمنة أورشليم على يهوذا من قائمة الملوك الذين دفعوا جزية للملك تغلاتبلصّر الثالث سنة 734-732 ق.م(41). وقد تطورت يودا وإدوم عبر استمرارية اجتماعية اقتصادية ساهمت في دمج اقتصاد وسكان منطقة السهوب الشاسعة التي تربط بين سيناء والجزيرة العربية، وأدت سياسات الاستقرار التي اتبعها آسرحدون وآشوربانيبال إلى التوسع في إنتاج الزيتون والنبيذ والأنشطة الرعوية وزراعة الحبوب للمساعدة في إطعام المدن الآشورية المتنامية.
الأمر الذي شجع على مزيد من التكامل بين سكان يودا وأدوما عبر استمرارية اجتماعية واقتصادية متنامية في السهوب الكبيرة، ولعبت الحدود المرنة واللغة المشتركة والتقليد اليهووية Yahwistic المتمركزة حول عبادة يهوه دوراً وثيقاً في دعم الجذور التاريخية المشتركة والأنماط الاقتصادية المماثلة القريبة حدوداً مرنة غير ثابتة ولغة مشتركة وتقاليد دينية وثيقة الصلة تتمركز حول عبادة يهوه والتقاليد اليهووية -التي تبدو كأنها ليست عبادة أصلية في فلسطين- تطورت في القرن الثالث عشر ق.م بين سكان السهوب في مناطق سعير ومديان الذين يعرفون باسم الشاسو Sh3sw(42).
يشير نقش ميشع من القرن التاسع ق.م إلى عبادة يهوه في نبو Nebo، فضلاً عن نقش معاصر عثر عليه في كونتيلة عجرود Kuntillat Ajrud يربط يهوه بمراكز العبادة في كل من السامرة وطويلان Tawilan (موقع تيمان القديمة)(43). وربما تعكس القصص الكتابية عن موسى الذي كان حماه كاهناً مديانياً بعض الأصول المديانية لعبادة يهوه الذي التقاه موسى في العليقة المحترقة في "جبل الله حوريب" [1 وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ، فَسَاقَ الْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ.2 وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ. فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ.3 فَقَالَ مُوسَى: «أَمِيلُ الآنَ لأَنْظُرَ هذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟».4 فَلَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: «مُوسَى، مُوسَى!». فَقَالَ: «هأَنَذَا»]. ويتحدث الكتاب، في مكان آخر، عن يهوه كإله قادم من سهوب أدوم وتخوم الصحراء (من سعير، فاران، تيمان، ومديان). كذلك يشبه، إلى حد كبير، الوصف السامري ليهوه كإله محبّة، وحامي الغريب والمحتاج (تكوين 4: 1-16 ؛ سفر اللاويين 19: 18 ، 34) الشكل الإلهي لعبادة النبطيين كما يمكن فهمه من نقشين عثر عليها في موقع المحطة التجارية قرب قربة الفاو في الحجاز، يشيران إلى الإله ود wd، "المحبوب"، الذي يمثله الهلال والنجمة ويحمي المسافر والغريب والفقير والمحتاج(44).
5.الدمار وإعادة الإعمار: فلسطين في العصور الآشورية والبابلية والفارسية
أدى توسع توطن الهضاب الوسطى السريع مع بداية العصر الحديدي الثاني إلى عملية تمركز تدريجية وإنشاء حاضرة ملكية إقليمية في السامرة. وتظهر نقوش القرنين التاسع والثامن ق.م أنها كانت معروفة سواء من النقوش الآشورية مثل "المسلة السوداء" التي يدعوها "بيت عُمْري Bit Humri " أو" إسرءيل" كما في نقش بيت دود bytdwd وميشع. وكانت هذه المملكة الجهوية على نزاع مع مثيلاتها في صور وحماة ودمشق وموآب حول السيطرة على الجليل ويزرعيل وشمال شرق الأردن.
ازداد عدد سكان إدوم ويودا، بصورة كبيرة خلال القرن السابع ق.م. وانعكس التوسع في إدوم بتطور بصرا كعاصمة إقليمية. وفي المقابل، توسعت أورشليم على التلة الغربية، وربما يكون هذا أحد آثار التوطن القسري الذي فرضه الآشوريون على سكان السهوب في وادي عربة Araba وجنوب شرق الأردن والنقب لزيادة إنتاج الزيتون واستغلال إنتاج النحاس من وادي عربة وتوسيع خطوط الشبكة التجارية في النصف الثاني من القرن الثامن ق.م، ووسعوا نطاق التجارة البرية العربية بدمج أراضي سهوب فلسطين الجنوبية لفلسطين، ودانت لهم بالولاء بعض المناطق الأخرى مثل بيت عماني، ومآب، وعسقلان، وغزة ويودا وإدوما. كما عززت الإمبراطورية الآشورية مصالحها بتقديم دعمها لعدد من ممالك جنوب فلسطين الصغيرة في سياق العصر الحديدي الثاني، مثلما فعلوا في وقت سابق مع المناطق الشمالية. ورغم المقاومة القصيرة لدمشق السورية ضد الهيمنة الآشورية، بدعم من تحالف الملوك في معركة قرقر في العام 853 ق.م، لم تلبث أن دفعت آرام وبيت عُمْري الجزية بحلول العام 841 ق.م.
وبعد نحو قرن، وفي الوقت الذي بدأت فيه مملكتي إدوم ويودا تدمج معظم المرتفعات الجنوبية وسهول فلسطين الكبرى تحت رعاية آشورية،، تحركت القوات الآشورية بقيادة تغلاتبلصّر الثالث في العام 738 ق.م إلى حدود بيت عماني وبيت عُمْري، لكن الحركة الأبرز كانت في العام 733 ق.م للسيطرة على دمشق ثم السامرة، فابتلع دمشق في العام 732 ق.م وقتل ملكها رصين(45) وضمها مع مجدّو في العام 732 إلى المقاطعات الإمبراطورية، أي بعد وقت قصير من الاستيلاء على دول شرق الأردن وجنوب فلسطين؛ وبعد عامين فقط من السيطرة على السهل الساحلي حتى التخوم الجنوبية ليزرعيل، ومنح إدارة المنطقة الساحلية إلى مدينة صور في نطاق يمتد حتى الطنطورة جنوباً.
وفي العام 722 ق.م، قام خليفته شلمنصّر الخامس بحصار السامرة. لتسقط بعد ثلاث سنوات في السنة الأولى من حكم سرجون [شاروكين] الثاني؛ وترحيل نخبتها إلى آشور، وانتهت بيت عُمْري من الوجود كمملكة، بينما وضعت غالبية سكان الهضاب الوسطى تحت الإدارة الإقليمية الآشورية. وأعيد بناء السامرة كمركز إداري للمقاطعة الجديدة وأطلق عليها اسم سامرينا Samerina، واستمرت الغالبية العظمى من سكان إسرءيل القديمة في الأرض، وعرفوا أنفسهم، في نهاية المطاف، بصفتهم سامريين. وعلى الرغم من انتهاء إسرءيل كمملكة مستقلة، إلا أن السكان واصلوا معيشهم السابق. وتعكس السجلات الأثرية استمرارية كبيرة للثقافة والاستيطان في جميع مواقع الهضاب الوسطى. كما تفيد المصادر الآشورية إلى استخدامهم بعض العرب لإعادة توطن السامرة، يطابقهم أكسل كناوف Axel Knauf مع المديانيين الذين كان من السهل دمجهم مع مزارعي المرتفعات الأصليين بسبب خلفيتهم الدينية المشتركة(46). ليواصل سكان الهضاب الوسطى دورهم المهيمن في وسط فلسطين.
تأثرت الدراسات الغربية كثيراً بسبب انحياز التقاليد الكتابية المناوئة للسامريين، ليس أقلها الأسطورة التي عكست تحيزات يهودية معادية عن أسباط إسرءيل الضائعة؛ كما تظهر في الإصحاح 17 من سفر الملوك الثاني، ونحميا، وإسدراس Esdras، و[في كتابات] يوسيفوس [فلافيوس](47).
لم تتأثر السامرة والهضاب الوسطى كثيراً بالسيطرة البابلية في نهاية القرن السابع ق.م، وأظهرت حفريات موقع جبل جرزيم امتلاك السامريين لمعبد مزدهر منذ القرن الخامس ق.م حتى أواخر القرن الثاني ق.م. وكان من الأهمية بمكان أنْ دعم التمرد خلال الحقبة الهلنستية المدينة بنحو عشرة آلاف شخص، إثر تعيين حاكم غير سامري، ومنعهم من دخول السامرة ذاتها(48). وبدلاً من قصة الأسباط الضائعة تلك، نستطيع التعرف الآن على نحو 750 شخصاً يعيشون بصفتهم سامريين يمتلكون يقيناً متيناً بأصالتهم المتواصلة منذ العصر الحديدي على صعيد ثقافتهم ومجتمعهم(49).
أحدثت هجمات سنحاريب سنة 701 ق.م أفدح الأضرار على بقاء عناصر من سكان المرتفعات الفلسطينية الأصليين؛ وحصاره الوحشي لمدينة لخيش وتدمير وترحيل سكانها وسكان المرتفعات الفلسطينية، كما تؤكده الآثار والسجلات الآشورية واللقى الأثرية(50)، ليس أقلها النقوش الجدارية الآشورية الشهيرة الموجود الآن في المتحف البريطاني. لم تكن يودا وسكانها جزءً من إسرءيل التاريخية قط، بل كان سكانها مهددين بالتلاشي والانقراض، بعكس شعب إسرءيل. وفي العام 701 ق.م، تم القضاء على دور القدس باعتبارها "مدينة يودا" بسبب حملة سنحاريب لمعاقبة حزقيا، لدعمه تمرداً في "عقرون Aqrun"(51). ودمر سنحاريب لخيش وسبى أهلها. كما دمر معظم قرى يودا وقام بترحيل ونفي الكثير من سكانها. وأعيد توزيع أراضي مملكة حزقيا على التابعين المخلصين في غزة وعقرون وأسدود، وعزلت أورشليم وحزقيا "مثل طائر في قفص" على حد قول سنحاريب،. وهكذا قضى سنحاريب فعلياً على المناطق النائية لمملكة حزقيا باحتلاله السفوح ونهبه المرتفعات. ورغم إعادة بناء لخيش وتعافي الكثير من مواقع شفيلة مع منتصف القرن السابع ق.م، إلا أنه لم يحدث إعادة توطن كثير من قرى المنطقة، وخاصة المرتفعات، حتى مع توسع أورشليم بسبب قدوم اللاجئين ووصولها إلى أكبر حجم لها في العصر ما قبل الهلنستي. ويمكن فهم إعادة بناء لخيش، بشكل أفضل، في منتصف القرن السابع ق.م، إلى جانب قرى سفوح ومرتفعات يودا والتوسع الكبير لسكان أورشليم -التي امتدت حتى التل الغربي- بربطها بالتوطن المتزامن لمناطق جديدة في مقاطعة السامرة Samerina الآشورية، وكذلك في أدوما وجنوب يودا، بما في ذلك حوضي بير السبع وعراد.
وإثر سقوط نينوى في العام 597 ق.م؛ قام الملك البابلي، نبوخذنصر الثاني، "بالاستيلاء على مدينة يودا Judáa "، وعين ملكًا تابعاً جديداً، وفرض جزية ثقيلة(52)، وبعد عقد تالٍ من الفوضى، تحولت أورشليم ومعظم ما تبقى من يودا إلى أرض يباب على يد الجيش البابلي، ورُحّل سكانها إلى بابل. ولم يظهر البابليون كثير اهتمام بالمنطقة، وبقيت المدينة ومحيطها في حالة خراب طوال فترة حكمهم، ولم يغير الفرس الذين أتوا بعدهم من الأمر شيئاً، ورغم حجم الدمار الهائل الذي لحق بأورشليم ويوداً، فقد عرف غالبية سكان جنوب فلسطين انتعاشاً ملحوظاً من خلال جيب صغير شمال أورشليم لم تطله يد الدمار التام كما في الجنوب؛ وشمل ثلاثة مواقع: بيتئيل والجيب وتل الفول. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر حفريات تل النصبة إعادة بناء المدينة، رغم الأضرار التي لحقت بها. وفي الواقع، وعلى النقيض من يودا، يبدو أن المدينة ازدهرت في عصر الدولة البابلية الحديثة. وهذا ما دفع العديد من الباحثين إلى اقتراح تعيينها مركزاً إدارياً ليودا خلال تلك الفترة(53). وامتد الدمار جنوباً حتى تل الخليفة وفينان وبقية المواقع التي هجرت في القرن السادس ق.م وبقيت غير مأهولة خلال حكم الدولة البابلية الجديدة(54). وتبع ذلك توغل الإدوميين نحو المرتفعات الجنوبية والمناطق الغربية من يودا(55).
بعد الانهيار النهائي لأعمال التعدين والمناجم والتجارة وتدمير بصرا [قرب مدينة بصيرا الحالية بين الطفيلة والشوبك في محافظة الطفيلة في الأردن-المترجم] على يد نابونيد، انساح التواصل الجغرافي والثقافي بين جنوب شرق الأردن والنقب ووادي عربة والنقب وفينان إلى لخيش وجنوب يودا حتى أشدود على السهل الساحلي. وخلال الحقبة الفارسية أصبح سكان إدوم والناجين من يودا مجموعة سكانية واحدة(56)، وسوف تستعيد لخيش ازدهارها السابق وتصبح - بمنتصف القرن الخامس ق.م- العاصمة السياسية لإدوم(57) والقوة المهيمنة الأكبر في جنوب فلسطين، لتبقى على هذه الحال حتى نهاية القرن الثاني ق.م. وعلى النقيض من الازدهار الذي أعقب تكامل الجنوب، لم تتوسع أورشليم والمنطقة المحيطة بها إلى ما هو أبعد من أماكن توطن القلة الباقية من السكان في تل أوفيل الناجي من الدمار البابلي. ولا تشر المكتشفات المعمارية القليلة على وجود مدينة في الحقبة الفارسية أو العصر البطلمي. وتركزت إدارة محافظة إيهود الفارسية على ما يبدو في رامات راحيل [خربة الصلّاح؟] التي أعيد بناؤها(58).
6.العصر الهلنستي والهيمنة "اليهودية" على فلسطين
أحدث التعايش الوثيق والاندماج الذي كان قائماً بين من بقي من سكان يودا وإدوم خلال الفترتين البابلية والفارسية، تحولات في اللغة والهوية. ولم تعد اللهجات "اليهوذية" و"الأدومية " الإقليمية المبكرة لغات أم؛ رغم هيمنتها ما بين العصر الحديدي إلى القرن الخامس ق.م(59)، وحدث تحول واضح لاستخدام الآرامية مما غيّر من صورة المشهد اللغوي(60)، ومع انتشار الأخيرة؛ بقيت الهوية الذاتية للسكان بصفتهم "يهوديم Yehudim"، ويعود ذلك في المقام الأول، كما أعتقد، بسبب الأهمية الإيديولوجية للمدينة المقدسة أورشليم. وفي الوقت الذي انتزع فيه السلوقيون المنطقة من البطالمة في نهاية القرن الثالث ق.م، بدأ أنطيوخوس الثالث إعادة بناء المدينة، كما أعاد ابنه أنطيوخوس الرابع تنفيذ خططه لتحويلها إلى حاضرة هلنستية polis، ذات قدسية سياسية ودينية تدعم النهضة الهلنستية للمدينة ومعبدها؛ مما أثار معارضة شرائح رجعية محافظة من كهنة المدينة وقفوا إلى جانب إيديولوجية دينية معادية للأجانب (ليس أقلها العداء للإدوميين والسامريين)، كما هو بادٍ في الأسفار المتأخرة نسبياً مثل ملاخي وعوبديا وإشدراس الأول(61) . كما أثرت الإيديولوجية الدينية المتشددة على القيمة الرمزية لهويتهم المتمحورة حول دينهم، وفهمهم لها بصفتهم إيهوديم Yehudim، بحيث أصبحوا لا يعكسون مظهر أيٍّ من شعوب فلسطين، بل باتوا يرون في هويتهم فهماً ذاتياً دينياً حصرياً، وتركزت هذه التحولات الإيديولوجية الراديكالية، بطبيعة الحال، في صراع ونقاش حادين.
ومثلما يمكن فهم نصوص عوبديا بصفتها نصاً راديكالياً ورجعياً وانعزالياً، يمكن أيضاً فهم نصوص سفر التكوين باحتوائها خطاباً شاملاً تقدمياً وتوافقياً.
لم تكن اليهودية وحدها في هذا الصراع الثقافيKulturkampf. فقد أثرت تحولات الهوية أيضاً على القيمة الرمزية والإيديولوجية لفهم السامريين لذاتهم، حيث بدأوا ينظرون لأنفسهم، من الناحية الدينية، على أنهم صفتهم "حراس الدين" شومرونيم Shomronim. وانعكس هذا على دورهم، أي "حماة" (التوراة)، في التزامهم بعبادة وتقوى دينية معينة بدلاً من مجرد فهم ذاتي جغرافي وسياسي. ويمكن التأكيد على صحة معالجة شلومو ساند للتطور وثيق الصلة بالتبشير اليهودي، باعتباره فهماً جوهرياً للتوسع الكبير لما يسمى بـ "الشتات Diaspora" اليهودي (أي اليهودية خارج فلسطين) منذ فترة مبكرة جداً.
لقد أصبحت النزعتان السامرية واليهودية تعتنقان بشدة أفكاراً تتبنى تحويل العالم إلى [عبادة الرب] يهوه. وانعكست مواقع توطن القرن الخامس اليهودية المتنوعة والمنسجمة دينياً، منذ بدايات الحقبة الفارسية على الأقل، في نيبور في ألوح موراشو Murashu(62)، كما انعكست المواقع اليهودية (السامرية) في إلفنتين Elephantine في البرديات(63). مثلما هو الحال في لخيش المركز اليهوذي-الإدومي، التي تدل بوضوح على قبول واسع للاندماج الديني مع الأجانب والالتزام الديني الكبير بذات القدر تجاه المجتمعات والقيم الأخرى.
لم تكن فلسطين باعتبارها "أرض إسرءيل" تمثل التزاماً لكل يهودي أو سامري، كما لم تكن أورشليم مركزاً حصرياً لليهودية والعبادة حسب سفر التثنية: "الذي سيظهره الرب" سواء كان ذلك بالإشارة إلى جرزيم أو أورشليم. وبالإضافة إلى معابد الفترة الفارسية في السامرة وأورشليم، كان هناك أيضاً معبد يعود لتلك الفترة في إلفنتين ومعابد أخرى مكرسة ليهوه من الحقبة الهلنستية كما في ليوتنوبوليس [كفر المقدم في دلتا النيل-المترجم] و" عراق الأمير" [ضمن حدود بلدية عمّان في منطقة وادي السير-المترجم]. وانتشر الاسم يهوه في أماكن عدة في الإمبراطورية. كما فتحت الهيلنة أبواب المناطق المحيطة بفلسطين وكل شرق المتوسط للمبشرين اليهود والسامريين. وعمّرت مجتمعات كبيرة في الحجم وجاليات عديدة في مدن مثل أنطاكية ودمشق والإسكندرية (العاصمة الجديدة للتعليم اليهودي والسامري)، وليبيا والمستعمرات الفينيقية وآسيا الصغرى وأثينا والجز الإيجية وقبرص وصقلية وروما. وشكّلت اليهودية والسامرية -وفقا لشلومو ساند -حوالي 7-8 ٪ من سكان الإمبراطورية الرومانية(64). ورغم تعرض مملكة العصر الحديدي يودا للدمار على يد سنحاريب ثم نبوخذنصّر، فقد سيطرت الهوية والإيديولوجية اليهودية على معظم فلسطين في نهاية القرن الثاني ق.م وكان للوسائل العسكرية الفضل في هذا التحول.
ومن المفارقات التاريخية أن جهود أنطيوخوس الرابع الداعمة للحاضرة الجديدة وتعيينه ياسون كاهناً كبيراً لإعادة بناء المدينة المدمرة كمركز حضري هلنستي، تحطمت في سياق صراعه مع مصر. وفي الواقع، كان الاحتجاج الرجعي على رعاية أنطيوخوس للمعبد وعقيدته الدينية باعتباره معادياً لليهودية وتدخل "أجنبياً" في عبادتهم؛ هو الذي دفع باتجاه قيام تمرد مسلح في العام 166 ق.م كرد فعل على إصلاحاته الاندماجية. وأدى نجاح الثورة إلى تمكين الكاهن متتياس [متتياهو] الحشموني من الاستيلاء على المدينة سنة 165 ق.م بقيادة ابنه يهوذا الذي أسس سلالة دينية بفرض أخيه يوناثان رئيساً للكهنة. وتمكن الحشمونيون، بعد وفاة أنطيوخوس، من مواصلة سيطرتهم على أورشليم بدعم من روما.
غير أن النزعة الراديكالية الدينية قضت على تأثير اليهودية الهلنستية ودعمت نظاماً معادياً للأجانب وللهلنستية. وفي العام 142 ق.م، تبنى شمعون، آخر أبناء متتياس، سياسة توسعية متطرفة. فبعد طرده الحامية السلوقية من أورشليم، استولى على مدينة يوبا الساحلية [يافا] وحصن جزر، وبحلول العام 140 ق.م، عبّر مجلس الشيوخ الروماني عن قلقه من انهيار السيطرة السلوقية على فلسطين وقرروا الاعتراف بمملكة الحشمونيين المعادية للسلوقيين في أورشليم. وسرعان ما أعلن شمعون سحب ولائه لأنطيوخوس، وبعد اغتياله سنة 134 ق.م، تولى زمام الأمور من بعده ابنه يوحنا هركانوس (134-104 ق.م) الذي وضع في اعتباره مسافة كبيرة بينه وبين رعاته الرومان؛ وبدأ في العام 128 ق.م بتعزيز سيطرته على أورشليم، ثم الانطلاق، بطريقة منتظمة، لتوسيع سيطرة أورشليم على فلسطين. فاستولى على لخيش وإدوم بأكملها. وأجبر الإدوميين على الختان والولاء لهيكل أورشليم، كما دفع سكان لخيش لاعتناق اليهودية والختان حسب الشريعة، وفي النقب غزا حصن أدورا Adora [دورا الخليل؟] وماريسا Marissa [الدوايمة؟] فوقعت منطقة السهوب بأكملها تحت سيطرته حتى إيلات. وأُرغم الكهنة هنا أيضاً على الختان وتقديم الولاء لمعبد أورشليم. وعبر هركانوس الأردن فحاصر ودمّر مأدبا. وما بين 111 أو 110 ق.م، نقل جيشه شمال أورشليم وحاصر السامرة. فأحرق المدينة واستعبد سكانها. كما دمّر شكيم ومدينة ومعبد جبل جرزيم، وأجبر السكان على الرضوخ للعبادات الدينية اليهودية والتعهد بالولاء لمعبد أورشليم.
واستمر هركانوس ومن بعده أبناؤه أرسطوبولوس Aristobolus (104-103 ق.م) وينّايوس Jannaeus (103-76) في تهويد فلسطين، كما دخلت اليهودية إلى إيطوريا Ituraea من بيسان حتى لبنان وكذلك بقية الجليل الأعلى والأدنى حتى عكا والساحل الفينيقي. وإلى الجنوب من عكا استولى على كامل السهل الساحلي باستثناء عسقلان وفرض حصار على غزة. وبسقوطها سنة 96 ق.م، سيطرت اليهودية على منفذ البحر الرئيسي لشبكة التجارة النبطية، كما استولى ينّايوس على أودية بير السبع وعراد وشمال شيفلة اليهوذية، وعلى المنحدرات الغربية لجبال نابلس. عبر الأردن واستولى على بيريا Peraea بأكملها على طول الضفة الشرقية لنهر وادي الموجب. وبالانتقال إلى الشمال، أكد سيطرته على الضفة الشرقية بأكملها حتى الجولان مطالباً الجميع بالتحول إلى اليهودية.
ورغم عدم معرفتنا بمن استثنوا من هذه السياسات أو من استطاعوا تجنب الخضوع لها، أو الأقوام والجماعات داخل فلسطين التي كان بمقدورها الصمود ومقاومة العمليات السياسية أو الاقتصادية الحشمونية، فقد توقف التوسّع العسكري لليهودية في شكلها الطائفي الفوقي والتوحيدي الحصري(65) عندما هُزم ينّايوس على يد أرطاس النبطي حاكم دمشق في العام 88 ق.م، مما وضع هضبة الجولان حداً فاصلاً من جهة الشمال الشرقي ليهوذا الجديدة المعترف بها من قبل الرومان. وكما هو الحال مع فتوحات هركانوس، استخدم ينّايوس انتصاراته أيضاً لإجبار الناس على الاعتناق القسري لليهودية وعلى الولاء لمعبد أورشليم، وأصبحت فلسطين أرضاً يهوديةً، ولم تعد اليهودية هوية تستند إلى الجغرافيا؛ ولم يكن لها في الواقع علاقة بالإثنية؛ وتحول سكان الأراضي المحتلة في فلسطين إلى رعايا دولة محددة من الناحية الدينية، وأصبحت عبارات مثل "يهودي" و "يهودية" سواء داخل فلسطين الحشمونية أو في الشتات تعكس حالة الانشغال الديني للمنطقة.
اعترف الرومان بـ "فلسطين اليهودية" الجديدة من العقبة إلى الجولان، باستثناء السهل الساحلي، كمملكة يهوذا Judea الجديدة. لقد حدث هذا قبل وقت طويل من ظهور الإسلام، بل وقبل وقت طويل من أن تصبح فلسطين القديمة يهودية بالقوة على يد هركانوس، ولم يعد اليهود شعباً خاصاً محدداً ومميزاً.
7.الكتاب وتراث فلسطين الأدبي
يحتاج الأمر، قبل الختام، إلى التوقف والنظر في كيفية حدوث هذا في غضون فترة زمنية قصيرة جداً بعد إعادة بناء أورشليم كمركز حضري متحرر، هذه المدينة المقدسة وعبر تاريخ امتد لنحو 1500 سمة تقريباً من الإرث الديني الذي يحض على السلام، والجذور العميقة للدين التي تتمحور حول مواضيع مثل الحب والاهتمام بالغريب ورعايته المنسوبة إلى العبادة اليهووية في السامرة وتيمان، التي تعود بجذورها للقرن الثامن ق.م على الأقل. كل إرث المدينة هذا وتقاليدها أعيد تنظيمه في سلطة دينية متشددة تنشد الغزو والفتح، وتستخدم لقمع كل ما يمكن اعتباره أجنبياً.
لا شك أن ثمة صعوبة في فهم هذه المسألة لأننا نتعامل هنا مع آثار إيديولوجية ألهمت هذا التغيير التاريخي الجذري. وأعتقد لو نقوم بمقاربة أي إجابة عن كيفية حدوث هذه الأمور، فلابد، في بداية الأمر، من فهم العلاقة بين مجموعة الأعمال الأدبية الكتابية والتطورات المتعلقة باليهودية المتطرفة والطائفية التي ميزت حياة جيلين أو ثلاثة من الفلسطينيين، بعد اندلاع ثورة المكابيين.
وعندما أنظر إلى هذه المشكلة على هذا النحو، فإنني أركز على علاقة اليهودية بالكتاب الذي لم يتم تأليفه بصفته أدباً يهودياً، بل، بالأحرى كان الأدب الكتابي هو من أنشأ وأسس اليهودية. علاوة على ذلك كانت أورشليم -ليس بصفتها مدينة عظيمة، بل بصفتها مدينة القدس المقدسة مهد اليهودية(66). ويستوجب هذا التذكير بالطريقة التي صارت فيها المدينة غير صالحة لحياة الناس العاديين بسبب الوجود الإلهي على أساس قوانين القداسة والطهارة الكتابية.
هذا هو مفتاح فهم المزاعم الطائفية والأصولية المتطرفة الداعية للتطهير الإثني للمدينة التي كشف عنها أسفار عزرا ونحميا.
وكنت قد ذكرت قبل حوالي عشرين عاماً(67) بأن المجاز الأدبي المتمثل في "العودة من المنفى" كان الفرضية الأولى لفهم اليهود لذاتهم وتكوينهم الإثني.
واليوم، تجعل الفجوات المعروفة جيداً في تاريخ أورشليم من الصعوبة بمكان افتراض وجود عودة تاريخية من المنفى. وعلى عكس السامرية، كانت اليهودية تطوراً دينياً نتج عن محاولة خلق مجتمع جديد مثالي قائم على اليوتوبيا استناداً إلى إرثها وتقاليدها الدينية (68).
وقبل أن يعيد السلوقيون إعادة بناء القدس، كانت المجتمعات السكانية في فلسطين -ومنها- قد أسست، فعلياً، هوية ذاتية مستدامة عبر إنتاج إرث ديني وفلسفي. وفي العصر الفارسي، أسس المبعدون من فلسطين والسامريون واليهود والإدوميون وغيرهم مجتمعاتهم في مدن ما بين النهرين مثل حران ونيبور وبابل عكست في النهاية ليس فقط العديد من الإسقاطات المتعالية الطوباوية، كما نجدها في أعمال إشعيا النبوية وربما المراثي، بل أيضاً شعارات ورموز طوباوية في قصص ارتبطت بشخصيات مثل إبراهيم في دوره المجسد باعتباره "غريب في الأرض" : 1 وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ.2 فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً.3 وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ». (سفر التكوين 12). ويبدو أن هذه الاستعارات الطوباوية دمجت في أقدم أشكال التوراة السامرية في مجتمع معبد جرزيم، وربما حصل هذا في الحقبة الفارسية(69).. ويبدو أن الأعمال الأدبية وغيرها من المساهمات في إنتاج الهوية الثقافية لفلسطين جاءت من مقاطعة إدوم الفارسية، من لخيش، مع إرث عبادة يهوه ذات الأصول العربية المديانية ولمناطق السهوب وتنعكس في نقوش عثر عليها في سيناء تربط بين مراكز العبادة في السامرة وتيمان(70).
رأينا كيف كانت مجازات الإله في الموقع الديني في محطة القوافل النبطية في الحجاز تشبه موضوعات العبادة السامرية المركزية الداعية لمحبة الغريب وفهم الرب يهوه كحارس shomer ووصي على البشرية(71). وفي حين امتلكت أورشليم تقاليد واضحة تخصها مثل السرد النقدي في أسفار الملوك حول انتخاب السامرة ويهوذا وفقدان المكانة، ففقد انعكست الاهتمامات التي تعود لفترة الحشمونيين في مراجعة تحقيب النص الكتابي، مع التركيز عليه موضوعياً في إعادة تكريس المعبد في العام 164 ق.م للاحتفال بثورة المكابيين(72). ويبدو أن الخطاب الشوفيني وشيطنة الأجنبي في الأرض دفعا نحو مراجعة تكرار قصص التيه التثنوية، وعرض قصص توحيدية حصرية تظهر في تقاليد الحرب المقدسة ليهوه رب الجنود Yahweh Saba’ot والإيديولوجيات الانعزالية في أسفار الكتاب اليونانية اللاحقة مثل إسدراس الأول والمكابيين الأول والثاني(73).
8.اليهودية في العهد الروماني وفلسطين متعددة الإثنيات
رغم انشغالات الجناح اليميني اليوم بالهوية الإثنية، بالكاد يستطيع صانعو الهوية الإسرائيلية المعاصرة والنزعة القومية المتشددة والإيديولوجية المناهضة للأجانب تعريف اليهودية بالوجه الصحيح. نحن نرى كيف خضع ورثة الحقبة الحشمونية للقوة العسكرية للمتطرفين الدينيين.
لقد كان [شلومو] ساند محقاً في قوله بعدم وجود يهودية على الإطلاق تملك "سمة مجتمع من أصل مشترك"(74). وعندما قرر الرومان السيطرة المباشرة على فلسطين، بدلاً من تركها بيد أتباعهم الحشمونيين بدخول بومبي أورشليم سنة 63 ق.م، فقد واجهوا مشكلة سياسية تتمثل في فهم اليهود لذواتهم كيهود. وبهذا أصبح ينظر إلى الرومان الآن كأغراب في أرضٍ تهيمن عليها إيديولوجية راديكالية معادية للأجانب. ومع ذلك، لم يكرروا خطأ الإسكندر وتم ترحيل هذه المعضلة إلى المستقبل حتى "يوم الحساب" كما يقال. وعندما منحوا المنطقة حكماً ذاتياً في العام 42 ق.م، ومنح حكم السامرة وأورشليم في العام 37 ق.م إلى "اليهودي" هيرودس وأبنائه من بعده. وبأوامر منه والتزامه بفلسطين الهلنستية، أعيد بناء المدينتين، فأسس لمنطقة مستقرة نسبياً على مدى كامل؛ قبل الثورة اليهودية الأولى في العام 67 م بعد وقت قصير من الانتهاء من بناء معبد هيرودس، مما دفع الرومان إلى إخمادها على يد تيطس الذي دمر المدينة في العام 70 م. ومعها المعبد والأغورا اللذان بناهما هيرودس.
لم تتغير البنية الإثنية للمدينة ولفلسطين غضون ذلك، رغم فقر ودمار البلد، ولم تحصل عمليات ترحيل. واندلعت ثورة ثانية، في العام 132 م، بزعامة شمعون بار كوخبا المسياني، واستمرت لأربع سنوات "خلاصية". وإذا اعتبرنا ما يقوله يوسابيوس صحيحاً (انظر الهامش 46) فقد تم تدمير المدينة، وتحرك هادريان ضد الرموز اليهودية المركزية فبنى مكانها مدينة جديدة باسم إيليا كابيتولينا تكريماً للإله جوبيتر، متعمداً الحفاظ على تراثها كمدينة مقدسة ومُنع اليهود من دخولها، لما يعتبره يوسيفوس تكراراً لسياسة الإسكندر [المقدوني] في السامرة في العام 323 ق.م. حين قامت جرزيم بدعم وتطوير مدينة لوزا Luzah بحوالي 10.000 شخص في الفترة الهلنستية، بعد منع السامريين من دخول السامرة، وأعيد بناؤها بعد تدميرها على يد الإسكندر بعد تمردها، وكان الإغريق قد أسسوا آنذاك خلال القرن الثالث ق.م وأوائل القرن الثاني ق.م، وبشكل منهجي، مستعمرات للسامريين واليهود في المدن الهلنستية الجديدة في أنحاء مختلفة من شرق المتوسط، مما ساهم في ظهور نواة مركزية لرعايا مخلصين موالين كلياً للإمبراطورية، في كل مدينة جديدة. كما تم تشجيع عمليات التحول الديني من قبل كل من السامريين واليهود على حد سواء؛ والجماعات الدينية المنتشرة عبر مناطق المتوسط. ومهما كانت تعليقات يوسابيوس(75) تقع في خانة الوقائع أو الحقائق التاريخية أم لا، فقد استمرت اليهودية في لعب دور مهم بين الأشكال الدينية الفلسطينية الأخرى. وخلال القرن الثاني الميلادي، ابتعدت اليهودية المسيانية عن اليهودية الحاخامية، وسرعان ما تحول هذا إلى عداء بين الطرفين أدى، في القرن الثالث الميلادي، إلى الانفصال بينهما. وفي القرن الرابع الميلادي، عندما أصبح معظم العالم الروماني مسيحياً، قبِل العديد من يهود فلسطين أيضاً أشكالاً مسيحيةً من عقيدتهم المشتركة.
ها هنا المجاز الأدبي والتاريخ يخفي أحدهما الآخر.
وشكلت طبريا وصفد في القرنين الثاني والرابع الميلاديين، نواة دينية يهودية حاخامية في فلسطين، ويعطي التراث الثقافي الغني للمعابد اليهودية من هذه الفترة شهادة واضحة على استمرار وجودها وازدهارها. والأهم من ذلك معابد السامريين والدور الذي لعبته داخل فلسطين في القرنين الرابع والسادس الميلاديين. استمر توسع اليهودية من خلال اعتناق عقيدتها، خلال العصر الروماني، وكنا قد رأينا كيف لعب التحول إلى اليهودية قبل عدة قرون دوراً مهماً لدى يهودية الشتات في المدن الهلنستية الجديدة في الفترتين البطلمية والسلوقية. وإلى جانب هذه التحولات إلى اليهودية والسامرية، شملت التحولات إلى المسيحية إيطاليا وإسبانيا والأراضي البربرية في شمال إفريقيا. وعندما أصبحت الإمبراطورية مسيحية، تحول المبشرون اليهودي نحو العالم العربي وإلى أطراف الإمبراطورية المضيافة، وانتشروا في اليمن والجزيرة العربية وفي حمير في شبه الجزيرة العربية Arabia Felix. وانتشر هذا التحول، كما يرى شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، بحلول القرن الثامن إلى ما هو أبعد من العالم العربي إلى الخزر ودخل حدود أوروبا الشرقية، وخاصة روسيا وليتوانيا وبولندا.
من المهم التأكيد، من جديد، على عدم قيام الرومان بأي عمل من نوع إبادة اليهود أو اليهودية في فلسطين. ولم يحدث ترحيل لهم من فلسطين. وكان السبب وراء الابتعاد الواضح للسكان عن اليهودية هو أنهم شكلوا غالبية الطائفة المسيانية التي أصبحت تعرف تدريجياً باعتبارها مسيحية (وبالتالي) غير يهودية. وقد أثر هذا التغيير في هوية معظم السكان، باستثناء منطقة الجليل حيث ازدهرت اليهودية الحاخامية ومثلت مجموعة فكرية ودينية مهيمنة حتى العصر الإسلامي.
لم تكن التوراة السامرية والكتب المقدسة اليهودية والمسيحية مؤلفة في الأصل بصفتها أدباً سامرياً ويهودياً بشكل خاص، ولا ينبغي النظر إلى تركيبها على أنها غريبة عن التراث الثقافي للفلسطينيين. كان التقليد الفكري الكتابي هو التعبير المكتوب عن تراث فلسطين الفكري القديم في الشرق الأدنى. لقد كان هذا الكتاب المقدس هو الذي خلق بالفعل يهودية واسعة الانتشار في الفترة الهلنستية، حيث قامت بتفسير تراث ينتمي لجميع الفلسطينيين. في أقدم أشكالها، اعتمد اليهود أسفار موسى الخمسة السامرية وانتشرت في أنطاكية ودمشق، وليس أقلها، الإسكندرية، مع نصوص بالعبرية واليونانية والآرامية. شمل الشكل اليوناني لهذا الكتاب المقدس اليهودي الجديد بناء على الأصل أدب العهد الجديد اليهودي؛ وأصبح هو "الكتاب المقدس الأول" للمسيحية خلال القرنين الثاني والرابع. وساهم هذا "الكتاب المقدس الأول" في القرن السابع في ترسيخ الإسلام والقرآن في التراث الأدبي والفكري الفلسطيني الذي يبلغ عمره 2500 عام. وعلى الرغم من الانقسامات الطائفية على مدى تاريخها الممتد لأكثر من 2000 عام، فقد استمر هذا الدين الكتابي في تطوير تراث فلسطين القديم المشترك في الشرق الأدنى، كما يتجلى بوضوح في أسفار موسى الخمسة السامرية، والتناخ اليهودي، والعهد الجديد المسيحي، والقرآن الإسلامي.
لقد تحول غالبية الفلسطينيين اليهود والسامريين، عن طيب خاطر، إلى الديانة المسيحية في ظل الهيمنة البيزنطية، وعندما احتلت الجيوش الإسلامية المدينة بعد مفاوضات سلمية في العام 637 م، استمر اليهود والمسيحيون في العيش في المدينة وفي فلسطين بأمن وسلام نسبيين. وخلال الفترة الأموية- وهي فترة ازدهار- تحول غالبية السكان -من جديد- إلى الديانة الإسلامية.
وتعتبر الإرث الديني للسامريين واليهود والمسيحيين والمسلمين إرثاً فريداً مستمراً تاريخياً وتراثاً مشتركاً في فلسطين، وهو تراث متجذر عميقاً في دين الشرق الأدنى القديم منذ ما قبل العصر البرونزي .
9.خاتمة
إن "قصة الأصل" المؤسسة ليهودية الشتات لا تنكر تراث السامريين وبقية السكان الأصليين في فلسطين فحسب، بل تنكر أيضاً التراث الغني والمعروف لمن كانوا يهوداً خلال الفترة البيزنطية وتخفي الطابعين التبشيري والعالمي لليهودية المبكرة لصالح يهودية عرقية وعنصرية حصرية، مدعية إرث الأرض، التي تزعم أنها فارغة. والغرض منها هو دعم قبول فلسطين كوطن تاريخي لليهودية العالمية.
لقد تحول استيطان يهود الشتات في فلسطين، ابتداءً من القرن التاسع عشر، من خلال "قصة الأصل" هذه إلى تجديد إيديولوجي لفلسطين بصفتها أرض وعد إلهي. ولا يقتصر الأمر على أن مثل هذه الآراء القومية والاستعمارية تدعم وتضفي الشرعية على سياسات "حق العودة" لجميع اليهود اليوم، بل إن وظيفتها المركزية تعزز التطهير الإثني للسكان الأصليين للأرض.
.........
8.هوامش
1 T. L. Thompson, The Bible in History: How Writers Create a Past (London: Jonathan Cape, 1999), 257 idem, “Lester Grabbe and Historiography: An apologia,” SJOT 14 (2000), 155-157.
2 T. L. Thompson, “Hidden Histories and the Problem of Ethnicity in Palestine,” in M. Pryor (ed.), Western Scholarship and the History of Palestine (London: Melisende, 1998), 23-39.
3 T. L. Thompson, “The Exile in History and Myth: A Response to Hans Barstad,” in L. L. Grabbe, Leading Captivity Captive: The Exile as History and Ideology (Sheffield: SAP, 1998), 101-119 idem, “Etnicitet og Bibel: Flere Jødedomme og det nye Israel” in N. P. Lemche and H. Tronier (eds), Etnicitet i Bibelen (København: Museum Tusculanum, 1998), 23-42.
4 The Early History of the Israelite People from the Written and Archaeological Sources (Leiden: Brill, 1992). This book is apparently unknown to the more recent work of Avraham Faust, which deals with the same issues from a very different perspective: A. Faust, Israel’s Ethnogenesis: Settlement, Interaction, Expansion and Resistance (London: Equinox, 2006) see also E. Pfoh, “Review Article: On Israel’s Ethnogenesis and Historical Method,” Holy Land Studies 7 (2008), 213-219 idem, The Emergence of Israel in Ancient Palestine: Historical and Anthropological Perspectives (London: Equinox, 2009).
5 Jer 31.
6 S. Sand, The Invention of the Jewish People (London: Verso, 2009) idem, On the Nation and the Jewish People (London: Verso, 2010).
7 Sand, On the Nation, 30.
8 The theoretical discussion is vast. A very useful reader is that of W. Sollors (ed.), Theories of Ethnicity: A Classical Reader (London: Macmillan, 1996) for a discussion related to Palestine, see the recent discussion in E. Pfoh, The Emergence of Israel in Ancient Palestine: Historical and Anthropological Perspectives, CIS (London: Equinox, 2009) for a very different and explicitly Israeli perspective, see A. Faust, Israel’s Ethnogenesis: Settlement, Interaction, Expansion and Resistance (London: Equinox, 2006).
9 K. Sethe, Die Ächtung feindlicher Fürsten: Völker und Dinge auf altägyptischer Tongefässscherben des mittleren Reiches APAW, 1926 G. Posener, Princes et Pays d’Asie et de Nubie (Paris: Garibalda, 1940) idem “Les Textes d’envoutement de Mirgissa,” Syria 43 (1966), 277-287 for the relative and absolute dating of these texts, see T. L. Thompson, The Historicity of the Patriarchal Narratives: The Quest for the Historical Abraham, BZAW 133 (Berlin: de Gruyter, 1974), 106-113.
10 M. Steiner, Excavations by Kathleen M. Kenyon in Jerusalem 1961-1967, Volume III: The Settlement in the Bronze and Iron Ages, CIS (London: SAP/ Continuum, 2001.
11 G. Barkay, “A Late Bronze Age Egyptian Temple in Jerusalem?” IEJ 46(1996), 23-34.
12 Steiner, Excavations, 52.
13 Steiner, Excavations, 109.
14 J. B. Pritchard, ANET, 563-564 Ahlström, History, 785-796 Stern, Archaeology, 325.
15 Stern, Archaeology, 321-322 see, also, P. R. Davies, Memories of Ancient Israel: An Introduction to Biblical History, Ancient and Modern (Louisville/ London: Westminster/ John Knox, 2008) idem, “Biblical History and Cultural Memory,” The Bible and Interpretation: http://www.bibleinterp.
arizona.edu/articles/memory (April 14, 2009), 1-5. For a well considered reconstruction of the region, see esp. O. Lipschitz, “Demographic Changes in Judah between the Seventh and Fifth Centuries BCE,” in O. Lipschitz and J. Blenkinsopp (eds.), Judah and the Judeans in the Neo-Babylonian Period Winona Lake: Eisenbrauns, 2003), 323-376.
16 Lipschitz, “Demographic Changes,” 346-347 also: idem, “The History of the Benjaminite Region under Babylonian Rule,” Tel Aviv 26/2 (1999), 155-190 J. R. Zorn, “Tell en-Nasbeh: A Re-evaluation of the Architecture and Stratigraphy of the Early Bronze Age and Later Periods,” PhD dissertation: University of California, Berkeley (1993) idem, “Tell en-Nasbeh and the Problem of the Material Culture of the Sixth Century,” in Lipschitz and Blenkinsopp (eds.), Judah and the Judeans, 413-447.
17 O. Lipschits, “Achaemenid Imperial Policy, Settlement Processes in Palestine, and the Status of Jerusalem in the Fifth Century BCE,” in O. Lipschits and M. Oeming (eds.), Judah and the Judeans in the Persian Period (Winona Lake: Eisenbrauns, 2006), 19-53 idem, “Persian Period Finds from Jerusalem: Facts and Interpretations,” The Journal of Hebrew -script-ures 9/ 20 (2009), 1-30: http://www.jhsonline.org. I. Finkelstein, “Jerusalem in the Persian (and Early Hellenistic) Period and the Wall of Nehemiah,” Journal for the Study of the Old Testament 32/4 (2008), 501-520.
18 T. L. Thompson, “What We Do and Do Not Know about Pre-Hellenistic al-Quds,” in E. Pfoh and K. W. Whitelam, The Politics of Israel s Past: Biblical Archaeology and Nation-Building (Sheffield: Phoenix Press, forthcoming).
19 J. Strange, “Herod and Jerusalem: The Hellenization of an Oriental City,” in T. L. Thompson and S. Jayyusi, Jerusalem in ancient History and Tradition….
20 Strange, “Herod and Jerusalem.”
21 Thompson, Early History, 27-76.
22 Thompson, Early History, 1-26.
23 T. L. Thompson, “The Joseph and Moses Narratives,” in J. H. Hayes and J. M. Miller, Israelite and Judean History (Philadelphia: Westminster, 1977), 149-180 210-212.
24 J. K. Hoffmeier, “The (Israel) Stela of Merneptah,” in W. W. Hallo (ed.), The Context of -script-ure II: Monumental In-script-ions (Leiden: Brill, 2003), 40-41.
25 I. Hjelm and T. L. Thompson, “The Victory Song of Merenptah: Israel and the People of Palestine,” JSOTS 27 (2002), 3-18 also K. W. Whitelam, “Israel is Laid Waste: His Seed is no more: What if Merneptah’s Scribes Were Telling the Truth?” in J. C. Exum (ed.), Virtual History and the Bible (Leiden: Brill, 1999), 8-22. A new reading of a yet earlier, topographic name, appearing together with the names ’askelan and pe’ kana’an (Gaza) appears in the form of Ischra-el, dating from about 1500 was published by Manfred Görg in 2001 and is just recently come under consideration. Cf. P. van der Veen, C. Theis and M. Görg, “Israel in Canaan (Long) Before Pharaoh Merneptah? A Fresh Look at Berlin Statue Pedestal Relief 21687,” Journal of Ancient Egyptian Interconnections 2/4 (2010), 15-25.
26 Y. Aharoni, The Settlement of the Israelite Tribes in the Upper Galilee (Jerusalem: Hebrew University dissertation, 1957) M. Kochavi Judea, Samaria and the Golan: Archaeological Survey 1967-1968 (Jerusalem: IES, 1972) I. Finkelstein, The Archaeology of the Israelite Settlement (Jerusalem: IES, 1988) T. L. Thompson, The Settlement of Sinai and the Negev in the Bronze Age, BTAVO 8 (Wiesbaden: Dr. Reichert Verlag, 1975) idem, The Settlement of Palestine in the Bronze Age, BTAVO 34 (Wiesbaden: Dr. Reichert Verlag, 1979) idem, Early Hist,215-300.
27 See my discussion on this in Early History, 215-221.
28 A. Zertal, Arrubath, Hepher and the Third Solomonic District (University of Tel Aviv dissertation, 1986) Finkelstein, Archaeology.
29 Finkelstein, Archaeology, passim cf., however, Thompson, Early History, 221-310.
30 Thompson, Early History: 217-300.
31 A related argument was put forward by K. W. Whitelam some time ago in his study: The Invention of Ancient Israel (London: Rutledge, 1996).
32 S. Zuckerman, The Last Days of a Canaanite Kingdom (2009).
33 Thompson, Early History: 239-250.
34 A. Alt, Die Landnahme der Israeliten in Palästina, Reformationsprogramm der Universität Leipzig (Leipzig, 1925) Finkelstein, Settlement, 89-91 cf. Thompson, Early History, 223-239 T. L. Thompson, “Palestinian Pastoralism and Israel’s Origins,” SJOT 6/1 (1992), 1-13.
35 Mentioned in the story of Wen-Amon: ANET, 25-29.
36 Biblical tradition refers to Caphtor for the origins of the “Philistines” (Jer 47:4).
37 T. Dothan, The Philistines and Their Material Culture (Jerusalem, 1982).
38 N. P. Lemche, The Canaanites and Their Land (Sheffield: SAP, 1991).
39 On this and what follows, see T. L. Thompson, “Memories of Esau and Narrative Reiteration: Themes of Conflict and Reconciliation,” in SJOT (forthcoming, 2012).
40 G. Ahlström, The History of Ancient Palestine from the Palaeolithic Period to Alexander’s Conquest (Sheffield: SAP, 1993), 639-664 [656.661].
41 E.g., D. D. Luckenbill, ARAB II, par. 801 ANET, 282 See further, B. Becking, The Fall of Samaria: An Historical and Archaeological Study, SHANE 2 (Leiden: Brill, 1992) 40-56 Ahlström, The History of Ancient Palestine, 665-701 W. Mayer, “Sennacherib’s Campaign of 701 BCE: The Assyrian View,” in L. L. Grabbe (ed.), Like a Bird in A Cage: The Invasion of Sennacherib in 701 BCE, JSHM 4 (New York: T&T Clark, 2003), 168-200.
42 R. Giveon, Les Bedouins Shosou des documentes égyptiens (Leiden: Brill, 1971), #6 and #16 (pages 26-28, 74-77) M. Weippert, “Semitischen Nomaden des zweiten Jahrtausends,” Biblica 55 (1974), 265-280. 427-433 K. van der Toorn, “Yahweh,” in K. van der Toorn, B. Becking and P. W. van der Horst (eds.), Dictionary of Deities and Demons in the Bible (Leiden: Brill, 1995), cols.1711-1729.
43 Weippert, “Semitische Nomaden” E. A. Knauf, “Yahwe,” Vetus Testamentum 34 (1984), 467-472 idem, “Eine nabatäische Parallele zum hebräischen Gottesnamen,” BN 23 (1984), 21-28 idem, Midian (Wiesbaden: Horassowitz, 1988), 43-48 L. E. Axelsson, The Lord Rose Up from Seir (Lund: CB, 1987).
44 Courtesy of the museum of the Imam Muhammed Ibn Saud Islamic University in Riyadh see T. L. Thompson, The Messiah Myth: The Near Eastern Roots of Jesus and David (New York: Basic Books, 2005), 370n25.
45 ANET, 283.
46 See on this I. Hjelm, “Changing Paradigms: Judean and Samaritan Histories in Light of Recent Research,” in M. Müller and T. L. Thompson, Historie og Konstruktion: Festskrift til Niels Peter Lemche i anledning til 60 års fødslesdagen, den 6. December, 2005 (København: Museum Tusculanum, 2005), 161-179 E. A. Knauf, Midian: Untersuchungenzur Geschichte Palästinas und Nordarabien om Ende des 2. Jahrtausends v. Chr. (Wiesbaden: Harrassowitz, 1988) for a discussion of 2 Kings 17, see I. Hjelm, Jerusalem’s Rise to Sovereignty: Zion and Gerizim in Competition (Sheffield: SAP, 2004).
47 See especially I. Hjelm, The Samaritans and Early Judaism: A Literary Analysis (Sheffield: SAP, 2000) also idem, Jerusalem’s Rise to Sovereignty, 210-214.
48 Y. Magen, Mount Gerizim Excavations II: A Temple City (Jerusalem: IAA, 2008) idem, “The Dating of the First Phase of the Samaritan Temple on Mount Gerizim in the Light of the Archaeological Evidence,” in O. Lipshitz, G. Knoppers and R. Albertz, Judea and Judeans in the Fourth Century BCE (Winona Lake: Eisenbrauns, 2007), 157-211.
49 E. Nodet I. Hjelm G. Knoppers B. Becking, “Do the Earliest Samaritan In-script-ions Already Indicate a Parting of the Ways?” in Lipschitz, Knoppers and Albertz, Judea and Judeans, 213-222.
50 D. Ussishkin, The Conquest of Lachish by Sennacherib (Tel Aviv: Institute of Archaeology, 1982).
51 See Lipschitz, “Demographic Changes in Judah between the Seventh and Fifth Centuries BCE,” in O. Lipschitz and J. Blenkinsopp (eds.), Judah and the Judeans in the Neo-Babylonian Period (Winona Lake: Eisenbrauns, 2003), 323-376.
52 ANET, 563-564 Ahlström, History, 785-796 Stern, Archaeology, 325.
53 Stern, Archaeology, 321-322 see, also, P. R. Davies, Memories of Ancient Israel: An Introduction to Biblical History, Ancient and Modern (Louisville/ London: Westminster/ John Knox, 2008) idem, “Biblical History and Cultural Memory,” The Bible and Interpretation: http://www.bibleinterp.
com/articles/memory.shtml (April 14, 2009), 1-5. For a well considered reconstruction of the region, see esp. O. Lipschitz, “Demographic Changes in Judah.”
54 Stern, Archaeology, 330.
55 Stern, Archaeology, 328 B. MacDonald, “The Wadi al-Hasa Survey 1979 and Previous Archaeological Research in southern Jordan,” BASOR 254 (1982), 39-40 see also C. M. Bennett, Levant 9 (1977), 3-9.
56 Thompson, “Memories of Esau.” For a different perspective on the presence of Jews and other ethnic groups in “Idumea,” see now E. A. Knauf, “Biblical References to Judean Settlement in Eretz Israel (and Beyond) in the Late Persian and Early Hellenistic Periods,” in Davies and Edelman (eds.), The Historian and the Bible, 175-193 [187-191].
57 Lipschitz, “Demographic Changes,” 341-345.
58 Lipschitz, “Demographic Changes,” 330-332 see also N. Na’aman, “An Assyrian Residence at Ramat Rahel.” Tel Aviv 28 (2001), 260-280.
59 See E. A. Knauf, Midian: Untersuchungen zur Geschichte Palästinas am Ende des zweiten Jahrtausends, ADPV (Wiesbaden: Harrassowitz, 1988).
60 I. Kottsieper, “’And They did not Care to Speak Yehudite’: On Linguistic Change in Judah during the Late Persian Era,” in Lipshitz, Knoppers and Albertz, Judah and the Judeans, 95-124.
61 Thompson, “Memories of Esau,” (forthcoming).
62 J. A. Montgomery, Aramaic Incantation Texts From Nippur (Cambridge: Cambridge University Press, 1911) M. D. Coogan, “Jews at Nippur in the Fifth Century BCE,” BA 37 (1974), 6ff.
63 A. van Hoonacker, Une Communité Judéo-Araméenne à Éléphantine, en Egypte, aux vi et v siècles avant J.-C (London, 1915) B. Porten, The Elephantine Papyri in English: Three Millennia of Cross-Cultural Community and Change (Leiden: Brill, 1996).
64 Sand, The Invention of the Jewish People, 166-167.
65 For a discussion of “exclusive monotheism,” see T. L. Thompson, “The Intellectual Matrix of Early Biblical Narrative: Inclusive Monotheism in Persian Period Palestine,” in D. Edelman (ed.), The Triumph of Elohim: From Yahwisms to Judaisms (Kampen: Kok Pharos, 1995), 107-126.
66 F. Sawah, “The Faithful Remnant.” T. L. Thompson, “What we Do and Do Not Know about Pre-Hellenistic al-Quds,” in E. Pfoh and K. Whitelam (eds.), The Politics of Israel s Past: Biblical Archaeology and Nation-Building (Sheffield: Phoenix Press, forthcoming 2012). On the dating of these texts to the Middle Bronze Age, see T. L. Thompson, The Historicity of the Patriarchal Narratives: The Quest for the Historical Abraham (Berlin: de Gruyter, 1974), 106-112.
67 Thompson, Early History, 412-423 also idem, Holy War at the Center of Biblical Theology.
68 As intimated already in Thompson, “The Intellectual Matrix of Early Biblical Narrative: Inclusive Monotheism in Persian Period Palestine.” In D. Edelman (ed.), The Triumph of Elohim: From Yahwisms to Judaisms (Kampen: Kok Pharos, 1995), 107-126 also and even more -dir-ectly to the point, see N. P. Lemche, “How Does One Date an Expression of Mental History? The Old Testament and Hellenism,” in L. L. Grabbe, Did Moses Speak Attic? Jewish Historiography and -script-ure in the Hellenistic Period, ESHM 3 (London: Sheffield Academic Press, 2001), 200-224.
69 E. Nodet, A Search for the Origins of Judaism: From Joshua to the Mishna, JSOTS 248 (Sheffield: SAP, 1997) idem, “Josephus and the Pentateuch,” JSJ 28 (1997), 154-194 idem, La Crise Macabéenne (Paris: Gabalda, 2005) idem, “Israelites, Samaritans, Temples, Jews,” in József Zsengellér (ed.), Samaria, Samarians, Samaritans: Studies on Bible, History and Linguistics, Studia Samaritana 6 (Berlin: de Gruyter, 2011), 121-171 I. Hjelm, The Samaritans and Early Judaism: A Literary Analysis, JSOTS 303/ CIS 7 (Sheffield: SAP, 2000) idem, “Brothers Fighting Brothers: Jewish and Samaritan Ethnocentrism in Tradition and History,” in T. L. Thompson, Jerusalem in Ancient History and Tradition, CIS 13 (London: T&T Clark, 2003)197-222 idem, “What Do Samaritans and Jews Have in Common: Recent Trends in Samaritan Stu-dir-s,” CBR 3/1 (2004), 9-59 idem, “Samaritans. History and Tradition in Relationship to Jews, Christians and Muslims: Problems in Writing a Monograph,” in Zsengellér, Samaria, 173-184.
70 T. L. Thompson, “’House of David’: An Eponymic Referent to Yahweh as Godfather,” SJOT 9 (1995), 59-74.
71 T. L. Thompson, “Genesis 4 and the Pentateuch’s reiterative discourse: Some Samaritan Themes,” in Zsengellér, Samaria, 9-22.
72 The Masoretic text’s revision of the chronology is discussed already in T. L. Thompson, Historicity, 9-16.
73 On Maccabbees’ revisionary reiterations of 1-2 Kings, see Hjelm, Jerusalem’s Rise to Sovereignty, 258-293.
74 S. Sand, On the Nation, 27.
75 For Eusebius’ account of Hadrian’s ban, see Hist. 4.6. For a discussion of his account of the Samaritan rebellion (Chron II. 114), see M. Mor, “I. Samaritan History: The Persian, Hellenistic and Hasmonean Period,” in A. D. Crown (ed.), The Samaritans (Tübingen: J. C. B. Mohr, 1989), 9-10.