أمريكا أسّ الحرب الأخيرة

محمود الصباغ
2023 / 10 / 20 - 02:47     

ستيفين والت
ترجمة محمود الصباغ
كيف حولت أحدث حرب في إسرائيل وفلسطين جهد 30 سنة من السياسة الأمريكية إلى كارثة.
بينما يشيع الإسرائيليون والفلسطينيون قتلاهم وينتظرون بخوف وتلهف لمن يخبرهم عن المفقودين، يصعب على الكثير منا مقاومة الرغبة في البحث عن شخص نلقي عليه اللوم لما حصل ونحمله مسؤولية ما يجري هناك. يريد الإسرائيليون وأنصارهم لوم حماس على ما حدث بالمطلق؛ التي لا شك في مسؤوليتها المباشرة عن الهجوم المروع على المدنيين الإسرائيليين. بينما يرى من هم أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية أن المأساة الحالية تتويج حتمي لعقود من الاحتلال والمعاملة الإسرائيلية القاسية والمديدة لرعاياها الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها. وثمة من يصر على اعتبار الجميع مسؤولاً، وأنه من غير المنصف تبرئة طرف على حساب طرف آخر.
ومن المحتم أن يقودنا هذا الجدال حول أي من الأطراف الرئيسية المعنية بصورة مباشرة بالأحداث هو الأكثر خطأً من غيره إلى حجب العديد من الأسباب المهمة الأخرى ذات الصلة غير المباشرة بالصراع الطويل بين الإسرائيليين الصهاينة والعرب الفلسطينيين. وينبغي ألا تغيب هذه الأسباب عن بالنا حتى أثناء تأملنا في الأزمة الحالية، لأن ما يحدث اليوم سوف يتردد صداه لفترة طويلة بعد توقف القتال. ومن الصعوبة بمكان أن نقرر من أين نبدأ في تتبع الأسباب العرضية لسير الأحداث (هل نبدأ من كتاب تيودور هرتزل 1896، الدولة اليهودية The Jewish State؟ أم من وعد بلفور 1917؟ أم من الثورة العربية 1936؟ أم من قرار التقسيم 1947؟ أم من الحرب العربية الإسرائيلية 1948 ، أم من حرب الأيام الستة 1967؟). لن أمضي إلى كل هذا، بل سأبدأ من العام 1991، عندما برزت الولايات المتحدة كقوة خارجية وحيدة مؤثرة في شؤون الشرق الأوسط؛ وبدأت في محاولة بناء نظام إقليمي يخدم مصالحها.
هنالك على الأقل خمسة أحداث رئيسية، في هذا السياق الأوسع، ساعدت في إيصالنا للأحداث المأساوية التي وقعت منذ أسبوعين.
أولى هذه الأحداث، كانت حرب الخليج 1991 وتداعياتها المتمثلة في مؤتمر مدريد للسلام. كانت حرب الخليج عرضٌ مذهلٌ للقوة العسكرية الأمريكية والفن الدبلوماسي الذي أزال التهديد الذي شكله صدام حسين على التوازن الإقليمي. ومع اقتراب الاتحاد السوفيتي من الانهيار، أصبحت الولايات المتحدة ذات مكانة مميزة وباتت هي وحدها من يقود العربة، واغتنم الرئيس جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر وفريق من خبراء الشرق الأوسط الفرصة لعقد مؤتمر سلام في تشرين الأول 1991، ضم ممثلين عن إسرائيل وسوريا ولبنان ومصر والمجموعة الاقتصادية الأوروبية ووفداً أردنياً فلسطينياً مشتركاً. ورغم عدم تمخض المؤتمر عن نتائج ملموسة -ناهيك عن اتفاق سلام نهائي- إلا أنه وضع الأساس لجهد جاد لبناء نظام إقليمي سلمي. ومن المثير تأمل ما كان يمكن تحقيقه لو أعيد انتخاب بوش في العام 1992 وأتيحت الفرصة لفريقه لمواصلة عملهم.
لم يكن مؤتمر مدريد خالياً من العيوب، فقد احتوى على معضلة جوهرية زرعت بذور الكثير من المشاكل في المستقبل. لم يوجه المؤتمر دعوة إلى إيران للمشاركة، وردّت على استبعادها بتنظيم اجتماع لقوى "الرفض" وتواصلت مع الجماعات الفلسطينية -بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي- التي كانت تتجاهلهما قبل ذلك. وكما يلاحظ تريتا بارسي في كتابه "التحالف الغادر Treacherous Alliance"، تنظر إيران إلى نفسها "كقوة إقليمية كبرى وكانت تتوقع أن يكون لها مقعدٌ على الطاولة"، لأن الصورة العامة لمؤتمر مدريد "لم تكن برؤيته كمؤتمر حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني فحسب، بل لحظة حاسمة لتشكيل نظام شرق أوسط جديد". كان رد طهران على مدريد استراتيجياً في المقام الأول وليس إيديولوجياً: فسعت لتثبت للولايات المتحدة ولغيرها قدرتها على عرقلة جهودهم الرامية لإنشاء نظام إقليمي جديد ما لم تؤخذ مصالحها في الاعتبار. وهذا هو بالضبط ما حدث، حيث عطلت التفجيرات الانتحارية وغيرها من أعمال العنف المتطرفة عملية التفاوض على اتفاقات أوسلو وقوّضت دعم إسرائيل لتسوية عن طريق المفاوضات. وازدادت العلاقات بين حماس وإيران قوة مع الوقت، ومع عدم تحقيق السلام وتدهور العلاقات بين إيران والغرب أكثر.
الحدث الثاني الحاسم كان توليفة مأساوية جمعت بين هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية والغزو الأمريكي اللاحق للعراق في العام 2003.
لم يمكن قرار الغزو مرتبطاً بشكل مباشر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، رغم دعم العراق البعثي للقضية الفلسطينية بطرق عدة. واعتقدت إدارة جورج دبليو بوش أن الإطاحة بصدام من شأنه القضاء على التهديد المفترض لأسلحة الدمار الشامل العراقية، وتذكير خصوم الولايات المتحدة بقوتها، وتوجيه ضربة واسعة للإرهاب، كما سيمهد الطريق لتحول جذري على أسس ديمقراطية في الشرق الأوسط بأكمله. ولكن ما حصلت عليه الإدارة الأمريكية كان، للأسف، مستنقع مكلف في العراق وتحسن كبير في موقف إيران الاستراتيجي. الأمر الذي أثار قلق المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، وبدأت تصورات التهديد المشترك من إيران في إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية بطرق مهمة، بما في ذلك تغيير علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل. كما شجعت المخاوف من "تغيير النظام" بقيادة الولايات المتحدة إيران على السعي وراء الحصول على قدرة عسكرية نووية، مما أدى إلى زيادة مطردة في قدرتها على التخصيب وعقوبات أكثر صرامة من جانب الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
وتمثل الولايات المتحدة نفسها، بالنظر إلى الوراء قليلاً، الحلقة الثالثة من عناصر الأحداث الخمسة بسبب تخلي الرئيس دونالد ترامب المشؤوم عن الاتفاق الشامل المشترك (JCPOA) لعام 2015 مع إيران وتبنيه سياسة بديلة تحت عنوان "الضغط الأقصى"، مما أدى إلى جملة آثار غير محمودة بسبب هذا القرار الأحمق؛ فقد سمح الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة لإيران باستئناف برنامجها النووي والاقتراب كثيراً من امتلاك قدرة عسكرية نووية فعلية، وأدت حملة الضغط القصوى إلى قيام إيران بمهاجمة منشآت وشحنات النفط في الخليج والمملكة العربية السعودية، لتظهر للولايات المتحدة أن محاولات إجبارها أو الإطاحة بها لن تمر دون تكاليف ومخاطر. وكما هو متوقع، زادت هذه التطورات من مخاوف السعوديين ومن اهتمامهم بالحصول على بنية تحتية نووية. وكما تتنبأ النظرية الواقعية، في مثل هذه الحالات، فقد شجعت تصورات التهديد الإيرانية المتزايدة أشكال تعاون أمني هادئ، لكنه مهم، بين إسرائيل والعديد من دول الخليج.
التطور الرابع كان ما يسمى ب "اتفاقيات أبراهام"، وهو امتدا منطقي، في بعض ملامحه، لقرار ترامب بالتخلي عن الاتفاق الشامل المشترك JCPOA. كانت الاتفاقات، (وهي في جوهرها من بنات أفكار جاريد كوشنر، الخبير الاستراتيجي الهاوي "وصهر ترامب")، عبارة عن سلسلة من الاتفاقيات الثنائية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة والسودان. وأشار النقاد إلى عدم دفع هذه الاتفاقات عملية السلام كثيراً لأن أيّا من الحكومات العربية الموقّعة عليها لم تكن معادية لإسرائيل أو قادرة على إلحاق الضرر بها. وحذّر آخرون من أن السلام الإقليمي سيظل بعيد المنال طالما بقي دون حل مصير 7 ملايين فلسطيني يعيشون تحت السيطرة الإسرائيلية.
واصلت إدارة بايدن السير على مسار الإدارة السابقة تقريباً. ولم تتخذ أي خطوات ذات مغزى لمنع الحكومة الإسرائيلية اليمينية شديدة التطرف من دعم عنف المستوطنين المتطرفين، مما أدى إلى ارتفاع حاد في أعداد القتلى الفلسطينيين وتهجيرهم على مدى العامين الماضيين. وبعد فشل بايدن في تلبية وعوده الانتخابية بالعودة السريعة إلى الاتفاق الشامل المشترك، ركز، مع شركائه، جهود رئيسية لإقناع المملكة العربية السعودية بالتطبيع مع إسرائيل مقابل نوع من ضمانات أمنية أمريكية وربما الوصول إلى تكنولوجيا نووية متقدمة. لم يكن لهذا الدافع وراء هذه الجهود أي صلة تذكر بإسرائيل وفلسطين، وكان القصد منها منع المملكة العربية السعودية من التقارب مع الصين. كما كان ربط الالتزام الأمني تجاه المملكة بالتطبيع وسيلة أولية للتغلب على إحجام الكونغرس الأمريكي عن عقد صفقة مع الرياض. ويبدو أن كبار المسؤولين الأمريكيين افترضوا، على غرار نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته، أنه لا يمكن لأي جماعة فلسطينية القيام بما يمكنها إفشال أو عرقلة هذه العملية أو إبطائها أو لفت الانتباه مرة أخرى إلى وضعهم. لسوء الحظ، أعطت هذه الصفقة المشاعة حافزاً قوياً لحركة حماس لإظهار مدى خطأ هذا الافتراض. ولا يبرر الاعتراف بهذه الحقيقة بأي حال من الأحوال ما قامت به حماس وخاصة الهجمات الوحشية المتعمدة، بل هو ببساطة مجرد اعتراف بأن قرار حماس للقيام بشيء ما - وخاصة توقيته - كان استجابة للتطورات الإقليمية التي كانت مدفوعة إلى حد كبير بمخاوف أخرى.
أما الحدث الخامس، وكما أشرت في مقالات سابقة، ليس حدثاً واحداً بعينه، بل هو فشل الولايات المتحدة الدائم في إنهاء ناجح لما يسمى بعملية السلام.
لقد احتكرت واشنطن الإشراف على عملية السلام منذ اتفاقات أوسلو (التي، كما يوحي اسمها، تمت بوساطة نرويجية)، ولم تؤد جهودها المختلفة على مر السنين إلى أي نتيجة جديرة بالذكر. علماً أن الرؤساء الأمريكيين السابقين بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما أعلنوا مراراً عن التزام الولايات المتحدة -أقوى دولة في العالم في ذروة لحظتها المسماة القطب العالمي الواحد- بتحقيق حل الدولتين، لكن هذ ا الالتزام لم يفضِ إلى أي نتيجة حتى الآن وبات بعيداً أكثر من أي وقت مضى إن لم يكن مستحيلاً.
هذه العناصر الأساسية مهمة لأن طبيعة النظام العالمي المستقبلي ما زال قيد النقاش والتفاوض، والعديد من الدول النافذة والمؤثرة تطعن في النظام الليبرالي المتقطع "القائم على القواعد" الذي دعمته الولايات المتحدة لعقود. وتدعو الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وإيران وغيرها علناً إلى نظام متعدد الأقطاب، حيث يتم تقاسم السلطة بشكل أكثر توازناً.
إنهم يريدون رؤية عالم لم تعد فيه الولايات المتحدة تتصرف كقوة لا غنى عنها، أي القوة التي تتوقع من الآخرين أن يتبعوا قوانينها مع الاحتفاظ بحق تجاهلها كلما ثبت عدم ملائمتها.
لسوء حظ الولايات المتحدة، وفرت هذه العناصر الخمسة التي وصفتها للتو وتأثيرها على المنطقة، ذخيرة قوية لظهور موقف يسعى إلى إعادة النظر في الأمور (كما سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في التعبير عنه الأسبوع الماضي): "ما عليكم سوى النظر إلى الشرق الأوسط.. حيث تدير الولايات المتحدة المنطقة بنفسها منذ أكثر من ثلاثة عقود، فماذا أنتجت "قيادتها"؟ حروباً مدمرة في العراق وسوريا والسودان واليمن، ولبنان على حافة السقوط، وهناك فوضى في ليبيا، ومصر تترنح وتسير نحو الانهيار. والجماعات الإرهابية تحولت وتحورت وزرعت الخوف في عدة قارات، وتواصل إيران اقترابها من القنبلة [النووية]. لا أمن في إسرائيل ولا أمن ولا عدالة عند الفلسطينيين. هذا، يا أصدقائي، ما تحصلون عليه عندما تسمحون لواشنطن بإدارة كل شيء. لقد أظهر لنا قادة الولايات المتحدة، بصرف النظر عن نواياهم، افتقارهم إلى الحكمة والموضوعية لتحقيق نتائج إيجابية، ولا حتى لأنفسهم".. أليس هذا ما سنسمعه من خطاب أصحاب ذلك الموقف؟ وفوق هذا؛ يمكننا بسهولة تصور مسؤولٍ صينيٍّ يضيف: "هل أستطيع الإشارة إلى علاقاتنا الجيدة مع الجميع في المنطقة. إن مصلحتنا الحيوية الوحيدة هناك هي الوصول الموثوق إلى الطاقة؛ لذلك نحن ملتزمون بالحفاظ على المنطقة هادئة وسلمية، ولهذا السبب ساعدنا إيران والمملكة العربية السعودية على إعادة العلاقات بينهما في العام الماضي. أليس من الواضح الفائدة التي ستعود لبقية دول العالم إذا ما تراجع دور الولايات المتحدة هناك وزاد دورنا نحن؟"
إذا كنتم تعتقدون أن رسالة كهذه لن يكون لها صدى خارج الحدود المريحة للمجتمع عبر الأطلسي، فأنتم لم تنتبهوا لفحوى الرسالة إذن. وإذا كنتم تعتقدون أن مواجهة التحدي المتمثل في الصين الصاعدة يمثل أولوية قصوى، فقد ترغبون في التفكير كيف ساهمت تصرفات الولايات المتحدة السابقة في تفاقم الأزمة الحالية - وكيف سيستمر ظل الماضي يعمل على تقويض مكانة الولايات المتحدة العالمية في المستقبل.
يحسب لبايدن وفريقه نشاطهم المطرد على مدار الأسبوع الماضي، وعمل ما في وسعهم بشكل أفضل، أي إدارة أزمة كانت من صنعهم جزئياً على الأقل. نراهم يعملون بجد ويبذلون جهوداً إضافية للحد من الضرر، ومنع توسع الصراع، واحتواء التداعيات السياسية المحلية (لنشابك أصابعنا هنا!)، وإنهاء العنف. وينبغي لنا جميعا تمني نجاح جهودهم.
ولكن، كما أشرت قبل أكثر من عام، من الأفضل لنا النظر إلى طاقم السياسة الخارجية في الإدارة الحالية على أنه فريق عمل ميكانيكي ماهر وليس فريق هندسي.. طاقم يمارس نشاطه في عصر أصبحت فيه البنية المؤسسية للسياسة العالمية مسألة متزايدة الأهمية وتحتاج إلى مخططات جديدة على الدوام.
إنهم بارعون في استخدام أدوات القوة الأمريكية وآلية الحكومة لمعالجة المشاكل قصيرة الأجل، ولكن ما زالت تحكمهم عقلية قديمة حول دور أمريكا العالمي، بما في ذلك طريقة تعاملها مع مختلف عملائها في الشرق الأوسط. من الواضح أنهم قرأوا بصورة خاطئة الاتجاه الذي يسير نحوه الشرق الأوسط، وترميم الجروح فقط، -حتى لو كان بمهارة وجدارة- سوف يتركها دون علاج.
إذا كانت النتيجة النهائية لجهود بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن تعني العودة إلى ما قبل السابع من تشرين الأول ، فأخشى من نظرة بقية العالم لنا، حين يهزون رؤوسهم فزعاً واستنكاراً، ويستنتجون أن الوقت قد حان للقيام بمقاربة مختلفة.
المصدر: https://foreignpolicy.com/2023/10/18/america-root-cause-war-israel-gaza-palestine/#cookie_message_anchor