- المهم.. أنّنا الآن هنا


محمد عبد حسن
2023 / 10 / 14 - 00:48     

ضمن فضاء ضوءٍ شاحبٍ حول سراجٍ، صُنع على عجلٍ من زجاجة فارغة ورباط حذاء قديم، يجلس كهلٌ ضامًّا فخذيه إلى صدره وهو يتكئ على بقايا جدار قديم. قريبًا منه.. يتربّع شابٌ تضطجع في حضنه طفلة.. فيما امرأة، تتوسد قطعة من جدارٍ مُتهدّم، تتمدّد، مُلتمّة، في المساحة الضيّقة بين الشاب والكهل.
كلّ شيء ساكن باستثناء سيجارة الرجل الكهل: ترتفع وتنخفض. خيط الدخان المنبعث من السراج ما يلبث أنْ يضيع في ظلمة تحاول، كلّ حينٍ، التهام شيئًا من فضاء الضوء الشاحب.. ثمّ ترتدّ عنه مع حركة لسان السراج الضعيف.
سألت الطفلة:
- هل سيقصفون مرّةً أخرى؟
لم يجبْها أحد. انقلبت المرأة على جنبها الآخر لتواجه الظلمة الحالكة الممتدّة في الخارج.. وحرّكَ الشاب رجليه مهدْهدًا الطفلة علّها تنام.. وكان الكهل يشعل سيجارة جديدة من عقب سيجارته قبل أنْ ينطفئ.
وحين أتمَّ ذلك.. سحب نفسًا عميقًا ونفث الدخان عاليًا وببطء متذكّرًا أنّه سأل أباه يومًا عن ذلك ذات مساء بعيد. كانت الطريق، حيث يسيرون، طويلة ووعرة.. تمسكه أمّه بيدٍ، فيما يدها الأخرى تسند حملًا كبيرًا يستقرّ على رأسها. وليس بعيدًا عنهما.. كان أبوه يسير أمامهما.. بالكاد يراه خلف أمتعة كثيرة تتدلّى من كتفيه. ظنَّ أنّه لم يسمعه. ترك يد أمّه وركض ليصبح أمامه؛ رآه يعمّر سيجارة جديدة من سيجارة تكاد تنطفئ بيده ويرسل عينيه لاستجلاء الطريق أمامه. تتّقدُ الجمرة لحظات بين شفتيه ثمّ تخبو. وحين نفث الدخان عبر منخريه وفمه ببطء.. نظر في عينيه ليجيبه:
- ليتنا كنّا نستطيع البقاء هناك.