العلاقات الثقافية العربية الروسية: تاريخ وتطور


حسين محمود التلاوي
2023 / 10 / 6 - 22:47     

من المهم إلقاء الضوء على العلاقات العربية الروسية في القطاع الثقافي، ولو في عُجالة،؛ لأن هذا القطاع لا يلامس الجانب السياسي من العلاقات فقط، ولكن ثقله يتركز، في المقام الأول، في الجانب الاجتماعي من العلاقات؛ لأن الثقافة تعبر عن هوية المجتمع، ويحمل لواءها أفراد من المجتمع؛ مما يجعل التعامل مع ثقافة أي مجتمع تعاملًا مباشرًا مع أفراد المجتمع ومزاجه ومنظومته القيمية أكثر مما هو تعامل مع قادته السياسيين.
وفي الأسطر التالية، نلقي نظرة على العلاقات الثقافية العربية الروسية من حيث الجذور التاريخية، والوسائل المستخدمة في التبادل الثقافي، وأبرز الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في هذا التبادل، إلى جانب المشهد الحالي للعلاقات، والآفاق المستقبلية أمامها.

تاريخ حضاري
لم تبدأ العلاقات الثقافية بين العرب والروس في الفترة الحالية؛ فلها جذور في مراحل تاريخية بعيدة؛ فيعود أصل هذه العلاقات إلى العصور الوسطى؛ حيث كانت هناك تبادل ثقافي بين الدولتين العباسية والدولة الروسية الكييفية. وفي تلك الفترة، جرى تبادل السلع والمنتجات الثقافية والفنية، وكان هناك تأثير بعض الكلمات العربية على اللغة الروسية.
في القرون اللاحقة، تطورت العلاقات بين العرب والروس على مدى العديد من القرون وشملت مجالات متنوعة؛ مثل الأدب والفن والعلوم والتجارة والسياسة. وتأثرت الثقافة العربية بالأدب الروسي والمسرح والموسيقى، في حين تأثرت الثقافة الروسية بالشعر العربي والفلسفة الإسلامية؛ الأمر الذي أكسب هذه العلاقات الثقافية تنوعًا وثراءً.
كذلك تطورت العلاقات الثقافية بين العرب وروسيا على مدى العقود الأخيرة؛ ففي القرن العشرين، أعقب الثورة البلشفية في روسيا تغيرات مهمة في العلاقات الثقافية؛ إذ عمل السوفييت على دعم الحركة العربية للتحرر من الاستعمار الغربي، وقدموا مساعدات للعديد من الدول العربية في مجالات التعليم والثقافة والصحة.

العلاقات الثقافية العربية الروسية أيام الدولة العباسية
خلال أيام الدولة العباسية، كانت هناك علاقات ثقافية متبادلة بين العرب وروسيا. وتعود نشأة هذه العلاقات إلى القرون الوسطى عندما كانت الدولة العباسية في ذروة قوتها وتألقها الثقافي؛ فساهمت الدولة العباسية في نشر العلوم والثقافة العربية في العالم الإسلامي والعالم الغربي، وكان لها تأثير كبير على الحضارة الروسية.
من بين الشخصيات المؤثرة في هذه العلاقات الفيلسوف وعالم الرياضيات الكبير الخوارزمي. كان للخوارزمي تأثير كبير على العلوم والرياضيات في روسيا؛ فتُرْجِمت أعماله إلى الروسية ودرسها العديد من العلماء الروس، وساهمت أفكاره في تطور العلوم الروسية.
كان الأدب العربي أيضًا له دور مهم في تعزيز العلاقات الثقافية بين العرب وروسيا في تلك الفترة. تُرْجِم العديد من الأعمال الأدبية العربية إلى الروسية، وتأثر الأدباء الروس بأسلوب الكتابة والقصص والشعر العربي، وشهدت روسيا تأسيس مراكز للترجمة والدراسات العربية
تأثرت العمارة الروسية بالعمارة العربية أيضًا؛ فاستورد الروس الأساليب المعمارية العربية، وطبقوها في البناء والديكورات في روسيا. واستُخدِمت الزخارف العربية والكتابة العربية في العمارة الروسية.
وفي سياق التبادل المستمر للمعرفة والفنون بين العرب وروسيا في تلك الفترة، زار العلماء الروس العالم الإسلامي ودرسوا في المدارس والجامعات العربية، وبدورهم، زار العلماء العرب روسيا واستفادوا من المراكز الثقافية فيها؛ مما يعني أن تبادلًا للأفكار والنصوص والأبحاث كان قائمًا في مجالات العلوم والفلسفة والطب والفنون.

أسماء وأماكن
وتعتبر مدينة كازان، التي تقع في جمهورية تتارستان الروسية، نقطة تلاقٍ ثقافية مهمة بين العرب والروس؛ فهي تعد مركزًا للتعليم العالي والبحث العلمي، وتضم العديد من المعاهد والجامعات التي تستقبل طلابًا من الدول العربية لمتابعة تعليمهم هناك.
وتشمل الشخصيات البارزة في العلاقات الثقافية العربية الروسية العديد من الأدباء والفنانين والعلماء. يعتبر الشاعر الروسي الشهير "ألكسندر بوشكين" من بين الشخصيات المؤثرة في تعزيز الفهم المتبادل بين العرب والروس؛ إذ تُرجمت أعماله الشعرية إلى العربية وأثرت في الأدب العربي المعاصر. وبالإضافة إلى ألكسندر بوشكين، هناك شخصيات أخرى مؤثرة؛ مثل الكاتب الروسي ليف تولستوي الذي ترجمت أعماله إلى العربية وأثرت في الأدب العربي. كما يجب الإشارة إلى المؤرخ الروسي فاسيلي بارتولد الذي درس تاريخ العرب والإسلام وأسهم في فهم الثقافة العربية في روسيا.
ومن الجانب العربي، هناك عدد من الشخصيات المؤثرة في العلاقات الثقافية؛ مثل جبران خليل جبران، ومصطفى محمود، وميخائيل نعيمة.

أنماط التبادل ووسائله
على مر السنين، شهدت العلاقات الثقافية بين العرب وروسيا تطورًا ملحوظًا فيما يتعلق بأنماط التبادل الثقافي وحجمه؛ ففي الماضي، كان التواصل الثقافي بين العرب والروس بشكل أساسي من خلال التجارة والمبادلات الثقافية المباشرة؛ مثل تبادل المنتجات الحرفية، والسلع، والتحف الفنية. كذلك كانت الزيارات الثقافية والرحلات التعليمية تلعب دورًا مهمًّا في تعزيز التفاهم وتبادل المعرفة بين الثقافتين.
وتسهم وسائل الاتصال المختلفة في تطوير العلاقات الثقافية بين العرب والروس. تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تلعب دورًا هامًا في تعزيز التواصل وتبادل المعرفة بين الثقافتين. يمكن للأفلام والمسلسلات التلفزيونية والموسيقى والأدب تعزيز الفهم المتبادل وتعزيز الروابط الثقافية بين العرب والروس.
ومع التقدم التكنولوجي وظهور وسائل الاتصال الحديثة، زادت فرص التواصل الثقافي بين العرب وروسيا؛ فتطورت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؛ مما سمح بنشر المعلومات والمنتجات والتجارب الثقافية بسهولة وسرعة. والآن، بات من الممكن للأفراد التواصل وتبادل الأفكار والتجارب الثقافية بسهولة من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات المراسلة الفورية بإرسال المواد المكتوبة والمسموعة والمرئية.

حاضر له تاريخ
في الوقت الحاضر، تشهد العلاقات الثقافية بين العرب وروسيا نشاطًا ملحوظًا. تستضيف العديد من المدن الروسية المعارض الثقافية والفنية العربية، مثل المعارض الفنية والعروض المسرحية والحفلات الموسيقية. كما يُنظم المهرجانات الثقافية المشتركة وورش العمل والندوات التي تساهم في تعزيز التفاهم وتبادل المعرفة بين الثقافتين.
ومن الشخصيات المؤثرة في العلاقات الثقافية العربية الروسية في الوقت الحالي الكتاب والأدباء والفنانون والمثقفون. ويعد الشاعر الروسي سيرجي ستيبنسكي من أبرز الشخصيات المؤثرة في التبادل الثقافي بين الجانبين؛ إذ يهتم ستيبنسكي بالشعر العربي/ وترجم عدة قصائد من العربية إلى الروسية؛ مما يسهم في تعزيز فهم الروس للشعر والأدب العربي.
كذلك يشهد المجال الأكاديمي تبادلًا نشطًا بين العرب وروسيا؛ حيث تعاونت الجامعات والمؤسسات الأكاديمية على تنظيم برامج تبادل طلابي وعلمي؛ إذ يدرس الطلاب العرب في الجامعات الروسية، والعكس؛ وهو ما يتيح للشباب فرصة لمعرفة ثقافة الجانب الآخر ولغته وتقاليده، وتبادل المعرفة والأفكار.
ومن النماذج الملموسة للتبادل الثقافي بين العرب وروسيا تأسيس مراكز ثقافية عربية في روسيا والعكس؛ حيث توفر هذه المراكز فرصًا للتعلم والتواصل بين الثقافتين. بالإضافة إلى ذلك، يجري تنظيم الندوات والمؤتمرات الثقافية المشتركة التي تجمع بين العلماء والأكاديميين والمثقفين من العرب وروسيا. وتهدف هذه الفعاليات إلى تبادل الأفكار والمعرفة، وتعزيز التعاون الثقافي.

آفاق المستقبل
من المهم أن ننظر إلى الأفق المستقبلي للعلاقات الثقافية العربية الروسية. يمكن تعزيز هذه العلاقات من خلال زيادة التبادل الثقافي والتعاون في مجالات مثل الأدب والفنون والعلوم والتكنولوجيا. يمكن تعزيز التفاهم المتبادل وتوسيع قاعدة المعرفة بين العرب والروس من خلال تنظيم المزيد من الفعاليات الثقافية المشتركة وتبادل الخبرات والمعرفة.
باختصار، تاريخ العلاقات الثقافية بين العرب وروسيا يمتد لقرون عديدة، وقد شهد تطورًا ملحوظًا في العقود الأخيرة. تسهم الشخصيات البارزة والمؤسسات الثقافية ووسائل الاتصال المتنوعة في تعزيز هذه العلاقات، ومن المتوقع استمرار نمو تلك العلاقات في المستقبل.