بحث مهم عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي في لواء الموصل


صباح كنجي
2023 / 10 / 2 - 18:33     

انتهيت اليوم من قراءة البحث التاريخي ـ التوثيقي المهم عن (تاريخ الحزب الشيوعي العراقي في لواء الموصل 1934 ـ 1970) للدكتور عبد الفتاح البوتاني.. الصادر عن مطبعة (روز هلات) في أربيل 2023 وهو من 980 صفحة من القطع الكبير..
يتضمن أربعة فصول مع تقديم للدكتور حسام الدين رشيد.. تشكل نصف صفحات الكتاب.. بالإضافة الى 18ملحقاً ومجموعة وثائق حزبية تعود لإصدارات وصحافة الحزب الشيوعي العراقي والمنظمات والواجهات التي كانت تنشط في محيطه ونشاطات لجنة محلية نينوى والمراسلات بين الهيئات الحزبية.. ووثائق أخرى مستله من ملفات أمنية رسمية.. تعود لمؤسسات الدولة القمعية في العهد الملكي.. ومن ثم الجمهوري في فترة قاسم.. وما تلاها من انقلابات بعثية ـ قومية.. شباط 1963 وما اعقبها في تشرين من نفس العام من تغييرات وصراعات أبعدت جزء من حزب البعث عن واجهة السلطة لفترة خمس سنوات.. ومن ثم عودته وتمركزه في السلطة تموز 1968..
وما رافق هذه العودة من تحولات وإجراءات ومتغيرات سياسية واجتماعية.. لم تكن خالية من صراعات دموية وعنف منفلت ضمن تشكيلة ما يسمى بالدولة العراقية في العهد الملكي ايضا..
الذي شهد عبر هذا الجهد الكبير للمؤلف.. وفقاً لما ورد في الكتاب.. عن بدايات نشاطات للشيوعيين وانتشار الفكر الماركسي مع العقد الأول من القرن العشرين أولا.. ومن ثم العقد الثاني منه.. حيث يلاحظ تدفق للمفاهيم الاشتراكية والشيوعية من عدة قنوات.. تشمل الطلبة الذين درسوا في لبنان.. وظهور شخصيات موصلية تدعو للاشتراكية وتتابع ما يجري على الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الأولى..
برزت كوجوه تقدمية مؤثرة في المدينة.. منهم دنون أيوب.. كامل قزانجي.. ويحي قاف.. وسليمان الحاج داود القصاب الفيضي 1885ـ 1951 الذي ادخل اول الكتب الاشتراكية ـ سوسياليزم المترجمة عن الفرنسية وكان له تأثير على من حوله وأصبح المقربون منه دعاة للاشتراكية وشيوعيون.. منهم عبد الرحمن القصاب وشقيقه أزهر القصاب.. وعزيز شريف نسيب سليمان الفيضي..
ناهيك عن النتائج المعكوسة لسياسة الاستعمار البريطاني في المدنية.. التي تجسدت في محتوى (جريدة الموصل) تلك الصحيفة التي كانت تشرف على اصدارها سلطات الاحتلال.. وتهاجم ما يحدث في روسيا بعد ثورة أكتوبر.. وتسعى للإساءة للبلشفيك وسياساتهم الجديدة.. فتحولت من حيث لا تدري الى وسيلة لنشر الفكر الشيوعي.. أصبحت تشرح للناس مبادئ الحزب الشيوعي.. التي استهوت الكثير من القراء والمتابعين لما ينشر فيها..
كان أيضا ضمن القنوات التي ساهمت في نشر الأفكار التقدمية في الموصل.. قبل تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934 بسنوات.. ما لعبه بعض الموظفين اللبنانيين.. منهم عبد الله الحاج.. الذي كان يعمل في ثانوية الهندسة 1919ـ 1920 والشاب رايلي الذي أصبح مديراً لمعارف الموصل.. وكان يجاهر بنزعته الاشتراكية خلال محاضراته للطلبة قبل ان يترك العراق عام 1926..
ويبدو من خلال الوثائق المعتمدة في الكتاب.. ان السلطات البريطانية في الموصل اخذت تصنف بعض الشخصيات والعوائل في المدينة واقرباءهم في سوريا ولبنان بالبلاشفة.. واخذت بمراقبتهم والتحذير منهم.. وربطت هذه الخطورة بالدول الإسلامية.. من باب التخويف.. فظهر ما يمكن وصفه بـ (الإسلاميون البلاشفة) وفقاً لما جاء تحت عنوان (البلشفية والجماعة الإسلامية) في نشرات تم توزيعها بتاريخ 13 كانون الثاني 1920.. واستناداً لهذا جرى تصنيف (يحي ق) من سنة 1926 كشخصية يتبنى وجهات نظر اشتراكية.. وانه شرع في حملة نشاط سياسي لنشرها وتعميمها..
وهذا ما تجسد لاحقاً في الدعوة من قبل مهنيين وحرفيين لإنشاء جريدة وتشكيل اول حزب يحملان اسم الطبقة العاملة في العراق من الموصل.. جريدة حملت تحت عنوانها (يا عمال اتحدوا) قبل ان يعترض من لهم توجهات قومية وإسلامية عليه.. ويتحول الى شعار إسلامي مستتل من سورة النجم يشيد بالعمل (وإن ليس للإنسان إلا ما سعى)..
وكان قد سبق ذلك ظهور حركة البولشفيك في سهل نينوى بين الإيزيدين.. إثر عودة مجموعة من القوالين من الاتحاد السوفيتي.. ممن كانوا قد غادروا العراق الى روسيا عبر الأراضي التركية التي كان يقطنها الايزيديون في ذلك الوقت.. قبل الحرب العالمية الأولى عام 1913 وبقوا هناك بحكم المتغيرات التي حدثت في روسيا والعالم بعد الحرب الأولى عام 1914..
كانت عودة البعض منهم مع القوال حسين عبر ميناء البصرة متوجهاً الى بحزاني عام 1928 الذي لقب من حينها بـ القوال الأحمر أي الشيوعي.. بحكم ما كان يحمله من أفكار ومعلومات جديدة عن الشيوعيين.. الذين عاش معهم طيلة فترة غيابه هناك تجاوزت العقد والنصف من الزمن.. وترافقت مع نشاط اجتماعي ـ سياسي أسفر عن نشوء وانتشار الفكر الماركسي بين الايزيديين في الموصل واطرافها..
ليس هذا كل شيء عن بدايات الفكر الشيوعي في هذا اللواء..
الكتاب يتطرق في هذا المجال الى انشاء فرع لمنظمة (سبارتاك) الشيوعية بين الارمن بمبادرة من (هايكزون كاسكانيان) وخمسة أعضاء وفقاً لما اقتبسه البوتاني من بحث عزيز سباهي.. تؤرخ لفترة سابقة وقريبة من تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام 1934..
اما عن امتداد تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي ونشاطاته الأولى في المدينة.. فقد بذل الدكتور فتاح بوتاني جهداً متميزاً في البحث والاستقصاء الميداني.. بحكم نشأته في الموصل.. واطلاعه الواسع من خلال شبكة علاقاته الاجتماعية والسياسية.. ومواكبته للأحداث لاحقاً.. ومعايشته بوعي ومسؤولية لتفاصيلها..
ساعده ايضاً جمعه عبر عقود متواصلة من الزمن.. لأرشيف كبير ووثائق رسمية للدولة ومؤسساتها فيه ملفات مهمة عن نشاطات الحزب الشيوعي العراقي.. بما فيها الوثائق الأمنية لأجهزة الدولة منذ العهد الملكي..
ناهيك عن متابعته لما كتب.. وما يكتب عن فترات تاريخية شهدت صراعات سياسية واجتماعية معقدة.. بعد الرابع عشر من تموز 1958 وانعكاس هذه المتغيرات على الموصل.. التي شهدت أولى ارهاصات الصراع البعثي ـ القومي مع التيار الشيوعي ـ الديمقراطي..
ابتداء من زيارة عبد السلام عارف المشؤومة للمدينة بعد شهر واحد فقط من سقوط الملكية في 15 اب 1958.. التي شكلت بؤرة الانقسام.. وأسست لتطور الصراعات.. التي تمحورت باتجاهين مختلفين متضادين..
وتجسدت بمفصل زمني ـ تاريخي.. حدده الثامن من آذار 1959 مع انطلاق مؤامرة الشواف المستندة على اندفاع التيارات البعثية ـ القومية ـ الإسلامية وجوقة رؤساء العشائر الذين رفضوا التغيير بدعم من جهات إقليمية ودولية.. سعت للجم الجمهور والقوى السياسية التقدمية.. التي كانت تكافح وتنادي لتطوير الأوضاع وتجذيرها لصالح المجتمع والشعب العراقي..
وتمخضت هذه الصراعات عن نشوء كتل وبروز شخصيات سياسية تزعمت الاتجاهات والحركات الاجتماعية والمهنية في المدنية وافرزت أسماء.. (عمر الياس.. عبد الرحمن القصاب.. إسماعيل رشيد.. عدنان جلميران.. غانم الدباغ.. يوسف حنا.. طالب عبد الجبار).. في المدنية كرموز للتيار الشيوعي ـ الديمقراطي وهكذا الحال خارج المدينة.. حيث العشرات من الأسماء في مدن وقرى سهل نينوى وسنجار وتلعفر وعقرة وزاخو والعمادية والشيخان.. التي شهدت دوراً فاعلا للشيوعيين.. وافرزت كوادر وقيادات كان لها شأن كبير في تقرير مصير الاحداث.. ومواجهة المتآمرين.. كما هو الحال مع جمعة كنجي ونشاطه في بحزاني وبين المعلمين والشيخان وسنجار والمذكرة التي قدمها مراد عطو الى الحكومة العراقية.. التي تضمنت مطاليب أهل سنجار.. كانت وفقاً لوثيقة امنية منشورة في الكتاب.. برتيب وخط جمعة كنجي.. الذي كان يقود تنظيمات سنجار للحزب الشيوعي العراقي في حينها..
وفي الجانب الآخر.. الذي افرز شخصيات ورموز امتهنت الاجرام والقتل.. برز منهم قائمة طويلة من الأسماء.. التي شكلت حصيلة عدة قوائم منشورة في الكتاب.. ابتداء من (المقدم محمود عبد العزيز الذي ورط الشواف.. وكان قد توجه الى سوريا سراً واتفق مع ممثلي عبد الناصر في سوريا على تدريب البعثيين ومن يناصرهم في معسكرات للفلسطينيين في سوريا.. مع تعهد من أعوان عبد الناصر بإرسال السلاح والعتاد والمقاتلين ومحطة ارسال لدعم حركة التمرد عبر الحدود السورية ـ العراقية.. ناهيك عن دفع رؤساء العشائر.. وفي المقدمة منهم عشائر شمر للمشاركة في اجهاض الأوضاع الثورية في العراق وردع من يسعى لتجذير التغيير.. والاتفاق ان تكون الموصل قاعدة انطلاق للحركة.. بالتنسيق والدعم المقدم للمتمردين من عوائل اقطاعية معروفة.. فصل في أدوارها المشينة الكتاب.. ووثق تفاصيل علاقاتها المحلية والخارجية البوتاني.. من خلال الكتب الرسمية المتداولة بين أروقة الدولة في عهد قاسم وما بعده.. وتحمل صفحات الكتاب أسماء كثيرة ساهمت بفاعلية في هذه الجرائم من بينهم طه ياسين رمضان.. ومدحت إبراهيم جمعة وغانم حمودات الذي اختص كرجل يدين بخطبه النارية ضد الشيوعيين وكان المسؤول الأول عن الاخوان المسلمين في الموصل وينسق مع البعثيين والمتآمرين القومجية في كل التفاصيل.. عزيز كشمولة.. إسماعيل السنجري.. عبد الباسط يونس.. فاضل الشكرة.. المحامي عبد الله الشبحون..
مما يلفت النظر في هذا المجال..
الدور السيء الذي لعبه رجال الدولة من المدنيين والعسكريين والعاملين في سلك القضاء.. ممن كان لهم ذات الدور في العهد الملكي.. واخذوا يتمادون في تصرفاتهم العلنية لتعكير الأجواء وعرقلة توجهات الدولة.. من المحيطين بقاسم.. ويبرز بشكل واضح هذا الدور في الأجهزة الأمنية والعسكرية.. خاصة بعد التغيير الذي حصل في توجهات قاسم.. إثر محاولة اغتياله في7 تشرين 1959 وهي فترة زمنية ليست بعيدة عن تاريخ مؤامرة الشواف في الثامن من اذار 1959..
يلاحظ من خلال تتبع بقية فصول الكتاب وما سبق المؤامرة من محاولة فاشلة لتفجير قطار أنصار السلام قبل الوصول الى الموصل.. وما رافق المؤامرة من جرائم تصفيات في الثكنة العسكرية وما تبعها من نشاطات سياسية إجرامية اعتمدت على العنف.. وشجعت الاغتيالات.. وكانت حصيلتها انتقال الفوضى الى كركوك.. التي شهدت اشتباكات وعنف.. لم تكن أجهزة السلطة في العهد القاسمي بعيدة عنها.. بحكم غض النظر عن السلوك الاجرامي للقتلة.. وفقاً للوثائق المعتمدة من قبل الكاتب..
بما فيها المراسلات واللقاءات التي حصلت مع قاسم شخصياً.. بمبادرة من شخصيات موصلية اعتمدت الوثائق والنقاش الحاد وجها لوجه معه.. ذكر تفاصليها الدكتور بوتاني.. وتعتبر أدلة دامغة تميط اللثام عن الكثير من الملابسات التي ترافقت مع تناقل الحقائق المؤيفة عبر الزمن.. بحكم فبركة الاعلام القومجي المدعوم من مؤسسات عبد الناصر ومساعديه في الشام وزبانيته في العراق..
وهي معلومات مذهلة لا تخلو من الفكاهة والسخرية أحياناً.. رغم قسوة الاحداث المؤلمة.. كما هو الحال مع كاتب كردي مبتذل اسمه عبد الستار فرج الهماوندي صاحب جريدة اليوم البغدادية في العهد الملكي.. الذي اختار لنفسه نسباً وجذوراً عربية بعد هروبه من العراق الى سوريا.. بسبب ملاحقته بقضايا نصب واحتيال في مجال العقارات في بغداد.. وفبرك كتاب بعنوان (مجازر الدم في الموصل وثائق وأحداث ج1) صاغه كما يقول كشاهد عيان على احداث الموصل في فترة مؤامرة الشواف.. وطبعه في مطابع لبنان عام 1962..
ساق فيه الأكاذيب لا تعد ولا تحصى.. وقلب الحقائق.. واخترع قصص وحكايات غريبة عجيبة.. وقبل ان يموت في السويد لاجئاً تبرأ مما كتبه.. وندم على ما فعله.. مؤكداً انه لم يكن في الموصل.. وكتب تلك الصفحات الدنيئة معتمداً على ما رواه له البعثيون والقوميون.. ممن دفعوا له ثمن الكتاب وتلقفوه ليوزعوه كوثيقة تاريخية..
سرعان ما تداعت.. مع غيرها من الحكايات والقصص التي بحث عنها البوتاني بحياد.. لا يخلو من جرأة رجل علم يتقصى حقائق التاريخ المغيبة.. ولم يكتفي البوتاني بهذا.. سعى بجد للقاءات مباشرة مع من عايش الاحداث.. من الشيوعيين والمستقلين وتمكن من استنطاقهم.. وتتبع كتاباتهم.. ولم يسكت عن اخطائهم وحاول إيجاد تفسير لها.. وطرحها في حدود حجمها.. رافضاً تهويلها وتضخيمها.. دون ان يغفل تأثيرها الاجتماعي والسياسي والنفسي..
في المقابل كانت جولته مع الطرف الآخر تواجه بالرفض والتبرير.. باستثناء من تغيرت مواقفهم وحسوا بالندم.. وكشوا عن الجرائم والممارسات العدوانية التي اشتركوا فيها واطلعوا عليها.. ومن كان يغذي العناصر الاجرامية بالمال والمعلومات.. ويقف خلفهم.. ويدفع للقتلة المأجورين.. ثمن جرائمهم.. وتشخيص الاسماء المطلوب اغتيالهم والتخلص منهم..
كتاب بحثي شامل.. سيكون له.. بلا شك.. شأن كبير كمرجع لا يمكن الاستغناء عنه للدراسات والبحوث القادمة.. بحكم ما فيه من معلومات مهمة وصادقة.. وما احتواه من وثائق يتعدى حدود مدينة الموصل لما كان يتبعها من اقضية ونواحي شملت (سنجار.. بعشيقة وبحزاني.. تلكيف.. الشيخان.. عقرة.. الحمدانية.. دهوك.. زاخو.. العمادية) بحكم تبعيتها الإدارية للموصل في حينها..
لا بل يتعداها.. بحكم اهمية معلوماته.. الى ما كانت عليه الأوضاع البائسة في دولة قاسم المتهرئة.. في العاصمة بغداد.. وبقية المحافظات.. بالإضافة الى الشام ولبنان ومصر ومن كان يخطط لإجهاض حركة التغيير في العراق..
هذه المساعي الشريرة التي سعى الكثيرون لوضعها امام قاسم ومن كان يدير الدولة لأكثر من مرة.. لكنه ومن معه لم يتعظوا..
كتاب يستحق الثناء والتقدير.. لا يخلو من بعض الأخطاء الصغيرة في المعلومات التي عكستها الوثائق ومن كتب سابقاً عن هذه الاحداث.. لا يتحمل الكاتب الدكتور فتاح بوتاني مسؤوليتها.. كما نوه في صفحات كتابه.. سيكون لنا وقفة ثانية لتصحيح بعض ما ورد فيها في الزمن المقبل مع الأيام القادمة أن سنحت الفرصة لذلك..