عنف البادية، وقائع الأيام الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب: عرض كتاب


مجدي الجزولي
2006 / 11 / 12 - 10:01     

عنف البادية
وقائع الأيام الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب
السكرتير السياسي السابق للحزب الشيوعي السوداني
المؤلف: د. حسن الجزولي
منشورات مدارك، الخرطوم – القاهرة، 2006م

انتهت حياة عبد الخالق محجوب على حبل مشنقة سجن كوبر في الساعات الأولى من صباح الأربعاء 28 يوليو 1971م، لكن بخلاف حيوات الكثيرين كان شهيدنا قد أثرى حياته على وجه التحقيق فكأنما نفذ إلى سرها فاكتشفه وتحقق منه، فكان مشروعاً يمشي على قدمين خلال حياة دامت خمسة وأربعين عاماً 1926 – 1971م. وبما أن الرجل لم يرغب أبداً الفصل بين ذاته ومشروعه فقد صعب جداً التمييز بين ما هو تاريخ عبد الخالق محجوب الشخصي وبين ما هو تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، حيث عاش ونشط وفعل وأنجز وأصاب وأخطأ ومات حاملاً وعياً شاخصاً ومبصراً بصيراً بقضية شعبه وحزبه. ولعله حقق كامل مشروعه الحياتي إلا القليل في تلك الأعوام التي قضاها بين الناس، ومات وهو آمن أن أدى ما عليه وزاد من حمولة الوعي وثقله، فلا تكاسل أو تأخر أو تردد أن ينصف عقله الوقاد فعلاً وقولاً، ولا خار واستجار بالسهل من كساد الحياة، إنما واجه ذاته بتحقيقها على صحيفة الكمال.
التقط الدكتور حسن الجزولي مسؤولية صعبة عصية بتأريخ الأيام الحاشدة الأخيرة في حياة السكرتير السياسي والتي انتهت إلى اعدامه وهو صامد ليس ساخط، محب لشعبه فيه واثق وليس قانط. ويحمد جداً للدكتور أنه عرف مهمته بدقة منذ اللحظة الأولى والتزم بها طيلة سرده حيث أثبت أنه ليس بصدد كتابة سيرة حياة السكرتير السياسي وإنما يختص حصراً بأحداث الأيام الثلاثة التي هي عمر انقلاب 19 يوليو 1971م متتبعاً ما كان من أمر عبد الخالق محجوب. اختار الدكتور لكتابه عنواناً من صك عبد الخالق نفسه في وصف الهجمة الضارية التي تعرض لها الحزب الشيوعي السوداني عام 1965م كيداً بربرياً بطرد نوابه من البرلمان واغلاق دوره وتدميرها واستهداف عضويته، وذلك بحجة ما بات بعرف بحادثة معهد المعلمين العالي شتاء عام 1965م. وقد أصاب سداداً في اختياره عنواناً يفضح بين كلمتيه ما تراكب على الحزب الشيوعي من كيد لنسفه كامل النسف وافناءه مادياً ومعنوياً، ومن ذلك اغتيال قياداته وبينهم سكرتيره السياسي بغياً سياسياً بغير حق بعد محاكمات انتقامية. المطلع على تاريخ الحزب الشيوعي والحركة السياسية في السودان يعرف لا بد تفاصيل كثيرة عن مجازر 1971م. لكن ما قدمه حسن الجزولي يعتبر إضافة فوق ذلك بجمعه كماً هائلاً من المعلومات التاريخية من مظانها المكتوبة والشفوية، حيث أفاد من الكم الكبير المتفرق من الكتابات حول الموضوع بما في ذلك وثائق الحزب الشيوعي المنشورة في هذا الخصوص، بالإضافة إلى اجتهاده جمع شهادات شفوية عبر مقابلات شخصية وتلفونية مع معاصري تلك الفترة، وصانعي أحداثها، والمقربين من السكرتير السياسي حزبيين وسواهم. حصيلة هذا الجهد كانت عمل توثيقي من الطراز الأول سد كثيراً من الثغرات في تاريخ أيام الفتك الثلاثة. أما كسب د. حسن الجزولي الأعظم فكان رشاقته في إعادة صياغة هذا التاريخ وسرده بلغة الراوي المبدع، وليس المؤرخ بالمعنى الأكاديمي أو الكاتب الحزبي في معنى التكاليف، حيث أخرج من ضنك تلك الأيام الثلاثة عملاً روائياً استشرافياً وليس تسطيراً بارداً للأحداث والأشخاص، بل بث في المشانق والرصاص حياة القدر، واستنطق الشوارع الأمدرمانية والكباري الجاثمة على النيل، ومعسكرات الجند وبنادقهم، وجعل للزمان والمكان سمات وصفات، وأضفى على الجغرافية والمناخ حساً وشعوراً، فصور وأحسن. على هذا النحو استطاع أن يقترب بالقارئ قدر الامكان من التراجيديا العدمية التي كانت ساحتها أياماً من يوليو 1971م، فأزال عن الأحداث والأشخاص ما أصابهم من تحنط وجمود جراء تقادم العهد، واجترار القصص دون دوي مستحق. فكلما مر علينا يوليو تقافز الصحافيون يلتقطون من هذا شاردة ومن ذاك واردة يثبتونها في حوارات مل التكرار تكرارها، حتى فقد الشعور قرونه التي بها يدرك بعد لأي فظاعة اعدام ثلة من الأولين بذلوا أقصى ما لديهم حتى ماء الحياة في سبيل الوعي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك بسقم عرفه محمد أحمد المحجوب بأنه "نهاية عهد التسامح والحلول الوسطى في حياة السودان السياسية" (محمد أحمد محجوب، الديموقراطية في الميزان، دار النهار، بيروت، 1982م: ص 246). كل ذلك والكتاب ينطق بعاطفة حسن الجزولي الجياشة محبة وانحيازاً تجاه موضوع كتابته الوطن والحزب والسكرتير السياسي ورفاقه. بذلك كان أحيانا كالذي يكتب شهادته الشخصية ويسجل موقفه الخاص في تمجيد الرفاق السودانيين وتحية نضالهم والوقوف احتراماً ودهشة على تضحياتهم، ما جعل القراءة رحلة وجدانية يقطع مسافاتها القلب قبل العقل، فكأنما الكتاب قصيدة جزلة اللفظ في حب حرية الوطن موسيقاها الخلفية صرير حبال المشنقة التي التفت حول عنق السكرتير السياسي وحول أعناق رفاقه، وفرقعة الرصاص الذي اغتال ضباط يوليو وجنوده، وهم لحرية الوطن الحراس والأوفياء. الكتاب قطعة أدبية وتوثيقية في آن جمعت عناصر الرواية والاحكام الأكاديمي، ووازت بين مشقة فقدان قامة عبد الخالق محجوب الباسقة، والنشوة بشموخه الأسطوري بطلاً شهيداً لحرية الشعب السوداني. لذا فهو مما يقرأ حتى نهايته، على الأقل بالنسبة للمحبين. عاش نضال الشعب السوداني، وعاش نضال عبد الخالق محجوب، وشكراً د. حسن الجزولي، أحسنت وأجدت.

3 نوفمبر 2006م