سيرة بطاقة هوية -6- مطارَد لا يريد أن يستسلم بسهولة


باسم المرعبي
2023 / 9 / 29 - 22:15     

والمسدسات مخاضٌ معلّق
مجموعة "العاطل عن الوردة" ـ 1988

في ذلك اليوم، الذي اقتحم فيه رجل الأمن، على غير المألوف، المقهى وقد كنا اتخذنا مقاعدنا، في مكان لم نعتد الجلوس فيه عادةً، إذ غالباً ما كنا نحن ـ مجموعة الأدباء ـ نتخد أماكننا على "القنفات" المأثورة، التي عادة ما تكون محاذية للزجاج المطل على شارع الرشيد، قريباً من مدخل المقهى، أو في المكان الذي يعلوه رفّ التلفزيون. وهو الأكثر جذباً وإدماناً من رواد المقهى من المبتلين بحرفة الأدب. كانت جلستنا، ذلك اليوم، في عمق المقهى، لصق الجدار، قبالة المدخل وهو المكان الذي ما يشغله عادة لا عبو طاولة النرد. كنا ما لا يقل عن خمسة أشخاص، أتذكر منهم بوضوح جازم الشاعر عادل عبد الله، الذي كان لا يزال في الخدمة العسكرية، وحين أتى عليه الدور في التفتيش قدم ورقة إجازته الدورية إلى رجل الأمن، كما البقية الذين قدموا بدورهم ما لديهم من أوراق. أعتقد أن الموقف كان عادياً بالنسبة للجميع، عدا حامل الهوية العجيبة المنقرضة لمعهد السكك. والموقف كان مركّباً، بالنسبة لي، يجمع بين الخوف والحرج. الخوف في موقف كهذا يواجَه بهوية مزوّرة، لا أعرف مدى دقة التغيير الذي أحدثته فيها، وبالتالي إقناعها لعيني من يمثل السلطة هنا، عند فحصها. والشق الثاني من الموقف، يتمثل بالحرج من أصدقاء وزملاء، لا يعرفون موقفي على حقيقته، هم فقط يعرفون أنني طالب جامعي، وبالتالي يعرفون بالضرورة، ما يكون عليه لون وشكل الهوية التي يحملها عادة طالب كهذا. إذن، الهوية التي بحوزتي والتي فضحها رجل الأمن، لم تكن تنتمي بأي شكل وحال إلى الصنف الجامعي. لاحظت أن شيئاً من الاستغراب والتساؤل، قد طفا على وجوههم لكن لا أحد منهم قد توقف عند ما دار أمام أعينهم. كانت البرهة التي توقف فيها رجل الأمن وهو ينظر إلى الهوية، كأنها الأبد، بقي ينظر كأنه غير مقتنع بما يرى، وكان سُمك الهوية غير عادي لأنها مغلفة مرّتين، وتبدو قاسية كثيراً. لقد هيمن الصمت على الجميع، الصمت الذي كان قد حلّ بمجرد اقترابه من طاولتنا وطلب أوراقنا وشروعه بالتدقيق فيها. بعد هذا الموقف ـ الرجّة، انقطعت عن المقهى لفترة تتناسب وفداحة الموقف وخطورته، تلافياً لأن أجدني، ثانيةً، في وضع مشابه. سوف لن أعاود المقهى أو التحرك بيسر سواء في بغداد أو خارجها إلا بعد أن حزت "الهوية" التي يمكن أن أسميّها الآن بالذهبية، وكانت صك خلاص حقيقي، لكن بعد خضّات من القلق والرعب. وهو ما سأكشف عنه في وقفة قادمة.
كنت أرى حتى في التحية ما قد يثير الريبة، احتياطاً وحذراً. ولتوضيح ذلك، أقول. ذات مرة كنت قد دخلت المقهى بعد انقطاع، وهو ذاته أي مقهى حسن عجمي، وكالعادة بالزي الموحد. وقد تلقاني وسام هاشم، بحميمته المعهودة، بالأحضان، إذ أني لم أره لأشهر ربما، وهو زميل لي في الكلية، يدرس المسرح أيضاً، فهمست له: بلا معانقة! إذ من المفترض أننا كطلاب في القسم ذاته، أن يرى أحدنا الآخر ونلتقي يومياً، في حين أنّ ما أبداه يشير إلى أننا كنا منقطعين عن بعضنا، أي عن الكلية ولفترة طويلة. وهو ما قد يجرّ الشكوك.
هذا يوضّح إل أي مدى كنت موسوساً بهاجس الكمال لأداء دوري، كمطارّد لا يريد أن يستسلم بسهولة، على أكمل وأدق وجه.
10ـ11ـ2022

يتبع