سيرة بطاقة هوية 2 القرار المكلّف


باسم المرعبي
2023 / 9 / 24 - 23:33     

كان مكلِّفاً وعلى أكثر من صعيد، اتخاذ قرار كهذا، أي التخلف عن الالتحاق بالجيش تنفيذاً لقرار صادر عن أعلى هرم السلطة في عراق الثمانينات، فعدا عن الخطر المباشر الذي يمكن أن يصل إلى الإعدام، هناك أيضاً تبعات ذلك، الرسمية والاجتماعية. فليس من السهل أن تتحمل عبئاً كهذا وحدك تماماً، عدا أصدقاء خلّص أقل من أصابع اليد الواحدة، يمكن أن تبوح لهم أو هم يعرفون بحكم الصداقة والزمالة وما هو مشترك. فحتى عن عائلتي كتمت ذلك لمدة عام كامل وربما أكثر قليلاً، بسبب أنني لم أرد أن أسبب لهم أي قلق أو خوف، خاصة الوالد والوالدة، ناهيك عن صدمة قرار الفصل، وأنا في السنة الرابعة. وإذا كنت قد تدّبرت أمري وبشيء من الاطمئنان، مع الحذر، طبعاً، لمدة ما يقارب السنة، بحكم صلاحية هوية الطالب التي، أحملها، والتي بقيت نافذة حتى 1ـ10ـ1987. إلا إن الفترة التي تلت ذلك حملت من التفاصيل والمفارقات والمواقف المرتبطة بذلك و"المغامرات"، ما لا يمكن تصديقه. إن محنة بطاقة الهوية أضحت هاجساً يلازمني، وحتى اليوم، أتعرض لكوابيس ليلية يتعلق مضمونها بعدم امتلاكي لأوراق شخصية رسمية، في مواجهة من يطلبها، والمكان العراق، دائماً. وهو ما دونت بعضه في قصة قصيرة بعنوان "شجرة البنادق" نشرتها قبل أكثر من عام، ومنها: "كنت فارّاً من الخدمة العسكرية وأحمل أوراقاً لا أعرف مدى إمكانية إقناعها لرجال الانضباط العسكري الذين مهمتهم التفتيش والتدقيق في الشوارع عن الهاربين من الجيش أو المتخلفين عن الالتحاق به، وقد صار يعاونهم رجال الأمن، المقلوبو السحنات على الدوام". إنني أكتب هنا بشيء من التكثيف، تفادياً للإطالة، فهناك مخطوط موسّع حافل بالتفاصيل. في واحدة من مغامرات التلاعب بتاريخ نفاذ/ نفاد الهوية، كنت قد حاولت وبطريقة بدائية تغيير الرقم٧ إلى ۹ بنفس لون الحبر المرسوم به، ليصبح 1989 بدلاً من 1987. ولصقت فوق الكتابة الجديدة شريطاً لاصقاً شفافاً على كامل صفحة البطاقة وذهبت لأختار مكتب كبس الهويات كي أغلف الهوية حتى تبدو بصورة عادية لا تثير الشبهات عند النظر إليها. كانت هذه الخطوة صعبة جداً، فأي شك من قبل صاحب المكتب يمكن أن يؤدي الى الإبلاغ عني، ومثل هذه المخاوف طبيعية جداً، وقتها، لما أشاع النظام وكرّس من ثقافة الخوف والشك. وما أشبه العراق بألمانيا النازية، إبّان هتلر، حيث الشعب نصف مراقِب ونصف مراقَب، وفقاً لبرشت. قصدت شارع الرشيد ورصدت مكتباً مقابل مقهى حسن عجمي، لكن ما أقلقني أن شاباً كان هو الذي يقف في المحل، فلم أطمئن وقلت ربما يكون متعاوناً مع الأمن أو شيء من هذا القبيل، غادرت المكان وعدت بعد فترة فوجدت رجلاً كبيراً في السن هو الذي يدير الشغل ربما هو والده، فكان الإيعاز في داخلي يقول لي لا خوف من هذا الشخص. وبالفعل سلمته الهوية لغرض كبسها ـ تغليفها ـ غير إن المفاجأة التي كانت يمكن أن تودي بي، هو أن بعد أن أدخلها الماكنة وهي تعمل كما يسمّى بالكبس الحراري ولشدة الحرارة فقد سال الحبر الذي غيّرت به التاريخ لكن لحسن الحظ، فلم ينتبه الرجل بأي شكل لما حدث وأعاد لي الهوية وهي لا تزال ساخنة وكانت الصفحة المتضررة والتي سال عليها الحبر بفعل حرارة الجهاز في مواجهتي والصفحة السليمة فقط تحت عينيه. لقد نجوت! غير أن المغامرة الأخطر والتي كانت عنوان منشور الأمس : "مطاردة من الأكاديمية حتى الشؤون الثقافية" كانت أقرب إلى الأفلام السينمائية والحكايات الخيالية، حتى أنا نفسي لا أفهم، إلى اللحظة، كيف نجوت حقاً من مطاردة اثنين من جلاوزة الاتحاد الوطني للطلبة في الأكاديمية، أولهما كان المدعو عبد الكريم السوداني، والآخر، الذي ما من أحد في الكلية لا يعرفه، وهو المدعو ضياء ويُقال أنه رجل أمن يحمل رتبة، فقد كان يصل إلى المرحلة الرابعة التي تعني التخرج، وإذا به مع بداية السنة الدراسية الجديدة يبدأ الدوام في الصف الأول أو الثاني. هو طالب مزمن، لأن مهمته تتطلب ذلك. من المفارقات الكبرى التي لا تحدث إلا في بلد مثل العراق أو ما يشابهه، وإن كان لا مثيل لما يحدث لدينا، أن عبد الكريم هذا، المسعور حزبياً وأمنياً، بمظهره الزيتوني الماثل أمامي دائماً في مطاردته لي، قد أصبح بعد 2003 رئيساً لشبكة الإعلام العراقية لسنوات، وكان اسمه يظهر كراعٍ للأعمال الدرامية التي تنتجها الشبكة أو ما شاكل، وأعتقد أنه قبل ذلك كان قد أصبح مدرساً في الأكاديمية نفسها التي كان يطارد طلبتها، والله وحده يعلم كم من الطلبة قد أودت بهم تقارير عبد الكريم، هذا!. الذي أراد الهرب إلى سوريا بعد سقوط النظام، كما أخبرني أحد الأصدقاء، لمعرفته بمدى ما اقترفت يداه. وقد كتبت وقتها مقالاً حول حقيقة هذا الشخص وأرسلته إلى موقع إيلاف، وكان الصديق عبد الرحمن الماجدي محرراً لفضاء الرأي، وقد اعتذر عن عدم إمكانية نشر الموضوع بسبب تضمن المقال الاسم الصريح للسوداني، وهو ما قد يسبّب إشكالاً للموقع وله شخصياً، فقد سبق وإن حكمت محكمة هولندية لصالح شخصية في حادثة مماثلة، هو راشد الغنوشي، الذي رفع دعوى ضد إيلاف وكسبها، وحكموا له بتعويض مالي. من هنا جاء تخوف الموقع الذي تفهمته.
31ـ10ـ2022

"يتبع"