الاغتراب والعلاقات الاجتماعية في مواجهة العولمة والتحولات الناشئة عن العالم المعاصر


فواد الكنجي
2023 / 9 / 10 - 10:24     

الاغتراب والعلاقات الاجتماعية في مواجهة العولمة / 1

الأسرة كمنظومة اجتماعية؛ لها واجبات أساسية في تنشئة الأبناء لرفد المجتمع بعناصر يعززونه بقيم.. وأخلاق.. وتقاليد.. وعادات أصيلة، ولكن هذه الأسرة في خضم ما يشهده العالم المعاصر من غزو (ثقافة العولمة) والقيم (الرأسمالية) المتوحشة وصناعتها التي أغرقت الأسواق بالأجهزة الالكترونية المتطورة ومن التكنولوجية والاتصالات والتقنيات الحديثة من شبكات (الانترنيت) لرفد أجهزة (الكومبيوتر).. و(اللابتوب).. و(اللايباد).. و(التلفاز).. و(الهاتف النقال)؛ بمعلومات وثقافات متنوعة هابطة وعالية المستوى وبشتى المجالات الحياة.. العلمية.. والأدبية.. والسياسية.. والاقتصادية.. والاجتماعية؛ والتي يداولها وينقلها الأفراد عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات؛ تشكل للأسرة اكبر تحديا في كيفية تربية أبنائهم محصنين من مغريات ما يتلقونه من المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي؛ ليكونوا على بينة بما هو صح وما هو خطا، وهذا التحدي الذي تواجهه الأسرة هو تحدي خطير؛ إذ لا يمكن للأسرة منع أفرادها من وصول إلى معلومات هذه التقنيات الحديثة في العلم والمعرفة؛ لان إبعادهم عن هذا العالم هو اخطر من تركهم متواصلين مع الحداثة؛ لان أولا.. وأخيرا؛ عواصف التغيير و(العولمة) أصبحت واقع حال تعصف بالمجتمعات الإنسانية، لذلك ليس أمام الأسرة إلا تنظيم طبيعة العلاقات بين جميع إفرادها وفق قيم أخلاقية رصينة في التربية والتعليم وتعزيز الحوار بينهم دون قسر وفي كافة مجالات الحياة .

ثقافة العولمة تعمل على تغيير نمط العلاقات الاجتماعية / 2

فـ(الحداثة المعاصرة) والانفتاح على العالم الخارجي عبر وسائل الاتصالات الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي المتعددة؛ فتحت إمام أفراد الأسرة فرصة لتعرف واسع على هويات مجتمعية أخرى؛ وهذا هو التحدي الأكبر التي تواجه الأسرة؛ فإذ لم يحصن الأفراد بقيم المجتمع الذي ينتمي إلية وبيئته وبطبيعة مورثهم الثقافي وعاداتهم وتقاليدهم الرصينة؛ فأنهم لا محال سينسلخون عنه بتطبيع واقتباس واخذ وتقليد من ثقافات أجنبية بدون وعي وأدارك مخاطر استبدال قيمهم بقيم بعيدة عن واقعهم وتربيتهم؛ وهذا ما يجر المجتمع إلى تفكيك نسيجه المجتمعي؛ وهذا ما تعمل علية (ثقافة العولمة) لتغيير نمط العلاقات الاجتماعية؛ بل نمط التواصل الأسري بعلاقات (عولمية) من اجل محو خصوصية الأسرة وأفرادها الأخلاقية.. والثقافية.. والتاريخية .
وأكثر من ذلك حاولت (العولمة) استهداف (الطفولة) بمنافذ مبرمجة لا تخطر على البال؛ وتحت عناوين ( حماية الطفولة) ولكن الحقيقة هي غير ذلك – إن لم تكن على عكسها – إذ تحاول (العولمة) السيطرة على (لغة الأم) للطفل لسيطرة على أفعاله وتصرفاته بما تواكب (المعاصرة المعولمة) لطمس هويته بمجتمعه وبيئته التي لا محال تؤدي إلى إحداث تغيرات سلوكية وشخصية؛ لان (الأطفال) تحديدا ونتيجة اعتمادهم على ما يقرؤون ويسمعون ويشاهدون على (الإنترنيت) ونتيجة استمرارهم ومتابعتهم المستمرة لما ليتقونه؛ يحدث تغيير في سلوك الأطفال.. والمراهقين.. والشباب؛ بما ليس له علاقة بالواقع الأسري أو بواقع مجتمعهم؛ فيصاب (الأطفال) – تحديدا – بنوع من التطرف في المزاج وتعاملهم مع الأخريين؛ لان طبيعة تفكير الطفل والمراهق وبما تلاقه من مواقع المتعددة في منافذ (الانترنيت) سيغير الكثير من تفكيره.. وإدراكه.. ومعتقداته.. وسلوكه؛ بل إن الكثير من الفئات المجتمعية وخاصة الأطفال.. والمراهقين.. والشباب؛ أثرت عليهم (الانترنيت) تأثيرا بالغا وبما غيرت طبيعة حياتهم التقليدية إلى حياة أخرى لا تشبه سابقتها أبدا؛ وهذا التغيير الذي أحدثته (الانترنيت) والوسائل التواصل الاجتماعي اثر أيضا على (الهوية الاجتماعية)، لان الاستخدام المفرط لـ(الإنترنيت) عززت مفاهيم (العزلة) و(الاغتراب) في نفوس الأفراد؛ لان القيمة الفردية والميل للوحدة والعزلة للمراهقين والشباب تطغوا على القيم الاجتماعية الإنسانية من التفاعل الاجتماعي والتعاون الأسري والمجتمعي؛ وهي أمور تنمي دائرة التعاون والمشاركة والتآخي وتعزز في المجتمع مبادئ وقيم السلم المجتمعي والأهلي، لأن (الإنترنيت) تساهم مساهمة فعالة في انعزال الأبناء داخل الأسرة والتفكك العائلي؛ لان أفراد العائلة عبر انشغالهم ولساعات طويلة إمام أجهزة الاتصالات الحديثة وخاصة الأطفال.. والمراهقين.. والشباب؛ لا محال تجعلهم منعزلين عن الأسرة وبعيدين عن التواصل مع أولياء أمورهم وأفراد أسرتهم أو أصحابهم، مما يفقدون أساليب بناء المهارات اللازمة للتفاعل مع الآخرين وعلى مستوى العلاقات الأسرية ومع الأصدقاء والأقرباء؛ وبذلك يتسع نطاق الغياب الروحي والعاطفي بين أفراد الأسرة برغم الحضور الجسدي، حيث يمسك كل واحد منهم بـ(اللابتوب) أو (هاتفه النقال) فيتجاهلون عمن يجلسون معه؛ وهذا الاستغراق في استخدام هذه الوسائل يضعف العلاقات الاجتماعية ويقلل من التفاعل الاجتماعي في محيط الأسرة وفي محيط الأقرباء والأصدقاء، وذلك من خلال قلة الزيارات واللقاءات العائلية، وهذا ما يزيد من (الاغتراب النفسي للأفراد) نتيجة التغيرات والتحولات الاجتماعية التي طرأت على المفاهيم الثقافية.. والسياسية.. والاجتماعية.. والاقتصادية؛ والتي ألقت بظلالها على مختلف شرائح المجتمع؛ وهي التي ساهمت في أضعاف وتفكك نسيج العلاقات الأسرية والمجتمعية؛ بل وعملت على (اغتراب) الأفراد وتدمير شخصيتهم؛ مما ساهم في تعدد أشكال الانفصال داخل (الأسرة) و(المجتمع)؛ والتي تجسد في تدمير الذات الإنسانية نتيجة (الاغتراب) التي ابعد الأفراد عن التضامن والمشاركة مع الآخرين في كل الممارسات .
فغياب الوعي عند الإنسان (المعولم) ساهم في الابتعاد عن تحمل المسؤولية لكي لا يلقى على كاهله تحديات التي تواجهها الأسرة في حياتها اليومية وأيضا تحديات مجتمعه؛ لكون (الاغتراب) شبعت أفكاره بكل ما هو(سلبي)؛ لذلك اختار طريق الابتعاد عن الآخرين وعدم المواجهة وعدم المساندة والدعم أية جهة كانت سواء في دائرة المحيطة من حوله أو مجتمعه؛ لأنه يريد إن يصنع لنفسه عالم خاص دون تبعية أو أملاءات حتى وان كان من اقرب المقربين إليه .

الاغتراب حول الفرد لشخص غريب وبعيد عن النواحي الاجتماعية / 3

فـ(الاغتراب) و(عزلة الفرد) حول الفرد لشخص غريب وبعيد من وعن كل النواحي الاجتماعية، وهذا الشعور عزز في ذات الفرد عندما واجه مشاكل واضطرابات متعددة هددت كيانه لشعوره المتواصل والمتأزم في ذاته بعدم الرضا.. وخيبة الأمل.. وشعوره بالعجز.. والاستياء.. والإحباط.. وعدم الثقة.. واليأس.. والانفصال عن واقعه ومحيطة الاجتماعي، وهذه المشاعر هي التي تجعل الفرد أقل مشاركة نتيجة نقص الحوافز وإحساسه بعبثية المشاركة لإحساسه المسبق بتدني مستواه الاقتصادي ومكانته الاجتماعية؛ ليكون ذلك عند (الفرد) باعثا بالشعور بـ(الاغتراب)، وهذا الشعور سيضعف الانتماء إلى مؤسسات المجتمع والشعور بعدم القدرة على الأخذ والعطاء مع الأخريين واتخاذ القرارات المتعلقة بجانب أو أكثر من جوانب حياة الفرد اليومية؛ فعدم الرضا يصاحب الفرد كثير من أعراض العزلة.. والإحساس بالتمرد.. والرفض.. والانسحاب.. والخضوع؛ وهذا (الاضطراب النفسي) الذي يصاحب (الفرد) يعبر عن اغتراب الذات.. وبعدها عن هويتها.. وعن الواقع.. وانفصالها عن المجتمع، وهذا هو بعينه غربة النفس.. وغربة العالم.. وغربة بين البشر أيضا، والأمر لا ينحصر على العلاقات الإنسانية بل يمتد تأثيره على مستوى التفاعل الاجتماعي والتواصل الأسري والاجتماعي؛ ونتيجة لذلك لم يعد (اغتراب الفرد) واضح في سلوكه؛ لان جل تصرفاته ليس لها أي معيار للقبول والرفض أو الخطأ والصواب؛ وهذه تصرفات لا محال تستهجن من قبل محيطه ومجتمعه؛ ولكن يلقى تأييدا وقبولا عند أصدقاءه في مواقع ووسائل التواصل الاجتماعي الأمر الذي يؤدي ببعض من الإفراد الخروج على القيم ومعايير المجتمع .

العولمة تنشر ثقافاتها عبر(الانترنيت) و(وسائل التواصل الاجتماعي) بما لا تتفق مع ثقافة المجتمع الدينية والاجتماعية في اغلب بلدان العالم / 4

فالخروج عن قيم المجتمع مبعثها وسائل التواصل الاجتماعي؛ لان (العولمة) التي تسيطر على ثقافة (الانترنيت) و(وسائل التواصل الاجتماعي) تحاول بشتى وسائل وأساليب؛ بث ونشر ثقافات لا تتفق مع ثقافة المجتمع الدينية والاجتماعية في اغلب بلدان العالم – وليس فحسب – بلدان الشرق والشرق الأوسط أو بلدان العالم الثالث، فـ(ثقافة العولمة الرأسمالية) التي تسيطر في المطلق على ثقافة التي تبث عبر (شبكات الانترنيت) والتي اغلبها موادها ومعلوماتها لها أهداف إيديولوجية مسيسة تخدم مصالح الرأسمالية وخصوصا لارتباطها بنمط العلاقات الشخصية وأنماط الحياة والعادات والتقاليد السائدة في المجتمعات (الليبرالية الرأسمالية) التي تسيطر على ما تبثه شبكات (الانترنيت)، ولما كانت (الإنترنيت) هي الوسيلة إلكترونية التي يتعامل معها الشباب والمراهقين بكثرة وهم متفاوتون في السن والمهن والمستويات الدراسية والعلمية؛ وهذه التقنية أي تقنية (الإيصال والاتصال عبر الإنترنيت) وبث المعلومة هي أداة الربط فكرية وذهنية و معنوية بين المستخدمين بمختلف تقنياتها على شبكة (الإنترنيت)، فاندفاع الشباب نحو (الانترنيت) ومواقع التواصل الاجتماعي يأتي بدرجة الأولى نتيجة :
أولا.. طول فترة الفراغ في حياة الشباب .
وثانيا.. ارتفاع نسبة البطالة في صفوفهم .
وهذا الأمور هي التي تجعلهم يرغبون بـ(الفرار) من الواقع، فيلجئون إلى (الانترنيت) ليقطعوا فيه فراغهم؛ فيبحثون عن مواقع الصداقة والتعارف؛ وهذا ما يبعدهم عن جو المنزل؛ وهو الأمر الذي أدى إلى انزلاق الشباب والمراهقين في مغريات ما يعرض وما يسمع والتي جعلت (الأسر) و(المجتمع) أمام امتحان صعب وكبير في كيفية تربية أبنائهم التربية الصحيحة التي تجنبهم ما تبثه ثقافة (العولمة الاجتماعية) والإشكالات التي أحدثته في ظل التقدم التكنولوجي وما شهده العالم من تطورات هائلة في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والتي أصبح معها العالم أشبه بقرية صغيرة – والتي شاء من شاء أو آبى من آبى – فرضت (عولمتها) على كل مجتمعات العالم بأساليب وحجج لخلق واقع جديد مغاير لواقع المجتمعات أين كانت؛ ففلسفت (عولمتها) بمناهج خاصة وتحت عنوان (عولمة المجتمعات) لتنميطها وفق رؤيتها وتحت عناوين التحضر.. والتقدم.. والحرية.. وإطلاق العنان للاختلاط.. والإباحية ودون حدود أو أية قيود؛ لضرب صميم المجتمعات المحافظة وقيمها وعاداتها وتقاليدها التي اعتادوا عليها في تنشئة أطفالهم وتربيتهم؛ والتي كانت تتميز اغلب هذه المجتمعات بخصوصية تتعامل مع محيطها بالمحبة.. والتعاون.. والاحترام المتبادل.. والتآخي.. وعدم التميز.. والترابط.. وبقدر كبير من ثقافة الاحترام.. والوئام.. والتكاتف.. والانضباط الذاتي في العلاقات مع بعضهم البعض أو مع غيرهم.. وبقدر كبير من الوعي والإدراك .

الاغتراب لا يكون محصورا في ذات الفرد ونفسيته فحسب بل في ذات المجتمع ليتسع مفهومه فيشمل الإطار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي / 5

فـ(العولمة الاجتماعية) جاء نشرها واتسعت منظومتها عبر (الانترنيت) و(عالم الاتصالات) و(ثورة المعلومات) لتحدث خللا سلوكيا في منظومة الاجتماعية وتحديدا في منظومة القيم الأسرية؛ نتيجة ما تبعها من غزو مفاهيم كالحرية.. والتحرر.. والانفتاح الغير المحافظ لقيم المجتمع والأسرة؛ لدرجة التي فرضت (العولمة الاجتماعية) سلطتها داخل نظام الأسرة نتيجة تعرضها لمؤثرات خارجية، وهذا ما أدى إلى تفكيك الأسرة بعد أن فقدوا أفرادها الاحترام المتبادل فيما بينهم؛ فلم يعد الابن أو بنت يحترمان كلمة أولياء أمورهم؛ لأن عقولهم تعرضت إلى الغسيل المبرمج بما تعرضه مواقع (الانترنيت) الخاضعة لثقافة (العولمة الرأسمالية) ووفق برامج اتصالية خاصة من وسائل التواصل الاجتماعي ومن قبل (وسائل الإعلام) و(الإنترنيت) وغيرها؛ فأفقدتهم ثقافة الاحترام المتبادل والحس والشعور بالآباء.. والأمهات.. والأخوة.. والجيرة.. والقربة؛ وهذا ما أدى إلى تفتت ليس فحسب نظام الأسري بل نظام المجتمع؛ نتيجة تفاقم المشاكل الاجتماعية وعدم تماسكها نتيجة ابتعاد كل أفراد المؤسسة الاجتماعية المعاصرة عن مورثهم الحضاري.. والثقافي.. والاجتماعي؛ وهذا جاء لعدم تمكنهم التكيف المنظم في إطار التغيير الإيجابي بما يضمن ديمومة وعيهم الاجتماعي ويحفز أفراد المجتمعات بصور عامة لمواكبة الحداثة بشكل معقول وإيجاب مع تطورات العصر وما أفرزته ثورة الاتصالات من (ثقافة العولمة) التي هي لدى أعلب المجتمعات ثقافة (دخيلة)، وهذه (الثقافة الدخيلة) هي ثقافة بدون استيعاب وفهم عمقها.. ودوافعها.. وأيدلوجيتها؛ لتلافي مطب (الاغتراب الذاتي) بتداخل مفاهيم متناقضة عن كل ما تلقاه الفرد من قيم في التربية والتنشئة وما اكتسبه من محيطه وبيئته الأصلية من قيم وعادات وتقاليد رصينة لتجنب فقدان الفرد هويته الاجتماعية والأسرية ولكي لا يفقد الانتماء عن روح مجتمعه ورسالتها وقيمها الإنسانية؛ وحين يسقط الفرد في هذا المطب انه لا محال سيشعر بالغربة عن الذات وهذه (الغربة) هي التي تبعد الفرد عن مجتمعه؛ لان وجه (الاغتراب) لا يكون محصورا في ذات الفرد ونفسيته فحسب بل في ذات المجتمع ليتسع مفهومه فيشمل الإطار الاجتماعي.. والسياسي.. والاقتصادي، لان العجز المادي الذي يشعر به الفرد بعدم تمكنه امتلاك ما يرغب امتلاكه؛ فانه لا محال سيلجئ إلى كل الوسائل لامتلاك المادة والتي ستجعله في ظل مفاهيم الرأسمالية والليبرالية الراديكالية عبدا لها؛ ورويد.. رويد.. ونتيجة انغماس الفرد في العمل للحصول على مزيدا من الأموال التي يرغب في اقتنائها سينفقها لامتلاك كل ما هو حديث حتى وان كان فاض عن احتياجاته، ونتيجة رغبته المستمرة في امتلاك فانه لا محال (سيتشيؤ) في هذه الأشياء المادية؛ وسيولد عنده شعورا داخليا بالإحباط والانفصال عن المحيط الذي يعيش فيه؛ لأنه يعيش (ثقافة ذاته) بمعنى انه تلقائيا يغترب عن محيطه؛ ليزداد شعوره بـ(الاغتراب) أكثر فأكثر بعد إن يفشل في التعرف عن العالم ومحيطه الاجتماعي بشكل موضوعي بناء؛ فيبقى خاضعا لمحيطه المادي الذي (تشيئه) وجعله صنما يقوده الآخرين بدون وعي حتى انه لا يعرف ماذا يرد إلا من خلالهم؛ لأنه يصبح أسير لموقع عمله يفرض عليه شروط الآلة الصناعية وإنتاجها ووفق قيم (الرأسمالية) المتوحشة التي هي من تزرع في ذات الفرد شعور بـ(الاغتراب)، لان (النظام الرأسمالي) لا ينظر إليه كمنتج بل خاضعا للإنتاج ونظامه؛ لان بطبيعة (النظام الرأسمالي) هي تسويق الإفراد حسب قناعاتها ليتم سوقهم جميعا خلف عربتها الصناعية كقطيع يمتثلون إلى إرادة الآلة بلا وعي وعليهم الطاعة دون تساؤل؛ ليصل بهم إلى قمة (الاغتراب) و(الاستلاب) و(العزلة) ليتم صناعة ذاتهم وفق الطبيعة (الرأسمالية) و(ثقافة لليبرالية الراديكالية)، لكي يتم تعقيد علاقاتهم – أي علاقات الأفراد مع بعضهم البعض – مع الآخرين ولكي (لا) تكون لهم أية علاقة بين الذات والآخر؛ لكي يتم نزع كل القيم الإنسانية من ذات الفرد لدرجة التي تلغي من مدركاته ومشاعره أية فكرة تتعلق بالمواطنة والقومية وقيمها الأصلية؛ لتخلق في ذات الفرد أو الإنسان عالم من الروح مغتربة عن ذاته؛ ليتم الانفصال بين العالم الواقعي الفعلي وعالم العقل والوعي والتحليل والإدراك ما هو صح وما هو خطا، لان في عالم (الرأسمالية) تربط كل الأشياء في محاور (العمل) الذي يبقى عن العامل غريبا عنه؛ ولكن يهيمن علية بالقوانين (الرأسمالية الصناعية) وهي قوانين غريبة عنه؛ وهذا (الاغتراب) هو الذي جعل الفرد في حالة (التسيؤ) .

مشروع الاغتراب الثقافي مشروع لاستهداف الإنسان المعاصر اجتماعيا.. ونفسيا.. ووجوديا / 6

فـ(الغربة) وفي ظل ظروف العمل وقوانين (الرأسمالية) تحولت مع الزمن إلى آلية لإنتاج (الهجرة) و(إلغاء الهوية الوطنية)؛ لأن (المهاجر) حين يعيش في دولة غريبة عنه كل شيء عنده هو غريب ونظرة إفراد ذلك المجتمع عليه هي نظرة (الإنسان الغريب عنهم) قد يلقى الاحترام أو قد لا، وفي الغالب لا يلقى (الاحترام بل الازدراء) لكونه غريب عن مجتمعهم.. وعاداتهم.. وتقاليدهم.. وحتى جنسهم، وهو إذ فكر بالعودة إلى وطنه (بعد سنين الاغتراب) سينظر أفراد مجتمعه الأصلي إليه نظرة (إنسان غريب) أيضا؛ بكونه بعد إن تغرب عنهم أصبح إنسان غريب عنهم وينظرون إليه بهذه النظرة، ومن هنا ينتاب في ذاته شعور بـ(الاغتراب) سواء بقى في بلاد الغربة أو رجع إلى بلاده؛ وهذه هي مأساة (الإنسان المعاصر) ومن مفارقات التي أفرزتها الغربة.. والهجرة.. في عالم (العولمة الاجتماعية)، لتنشأ هذه المفارقة في أعماق (الإنسان المعاصر) هوية بلا هوية؛ فيعيش حالة إحباط مستمرة وحالة صراع دائم مع ذاته بعد إن يجد نفسه ممزقة.. ومنكسرة.. وبلا هدف.. متذبذب في مواقف لا يعرف رأسه من رجليه.. متأرجح في تقلبات الزمن والظروف الصعبة، فيعيش غربة عصره بكل تفاصيلها القاسية لتشكل هذه الظاهرة سمة الحياة المعاصرة في ظل (العولمة الاجتماعية) وإنتاج لايدولوجيا (الرأسمالية) و(الليبرالية الراديكالية) و(نيوليبرالية) والتي تم بثتها في (ثقافة العولمة الاجتماعية) التي تتغذى بقيم (الاغتراب) لتشعل الصراع الاجتماعي بين (الثقافة التقليدية) و(الثقافة الوافدة) مع (العولمة) و(الليبرالية الراديكالية) التي هي (ثقافة الاغتراب) التي تدمر النظم الاجتماعية.. والثقافية.. والاقتصادية؛ بعد إن يتم استغلال (المؤسسة التربوية) لنشر هذا المشروع لـ(الاغتراب الثقافي) لاستهداف (الإنسان المعاصر) اجتماعيا.. ونفسيا.. ووجوديا؛ لتضيعه في مشاعر الإحباط.. وعدم الاستقرار.. والقلق؛ لكي لا يستطيع الفرد التوافق مع محيطه، وهذا هو (الاغتراب) الأقسى من القسوة نفسها؛ وهو (اغتراب) الذي يشعر ويصيب (الإنسان المعاصر) بـ(العولمة الاجتماعية)، لان (الذات المغتربة) وفي آن واحد تنفصل عن الفرد والمجتمع؛ لتعيش المجتمعات حالة من التصدع في نظمها الاجتماعية والأخلاقية؛ وفي نفس الوقت تعيش في ظل تطورات هالة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات الحديثة، ولكنها على صعيد العلاقات الاجتماعية تعيش أزمات خانقة بسبب تحكم الفردية.. والمادية.. وسيطرة إيديولوجية (الرأسمالية) بثقافتها (المعولمة) بـ(الليبرالية الراديكالية)، لان (الرأسمالية) غزت عقول اغلب مجتمعات العالم؛ بحيث جردتهم من التفكير الايجابي؛ بقدر ما عززت عندهم رغبات بأخذ الجانب المادي من ثقافة التي تصدرها لهم؛ ليتشبعوا بقيم المادية مبتعدين عن القيم المعنوية؛ وهذا ما جرفهم إلى الانحراف قيمي.. وأخلاقي.. وثقافي؛ بعد إن جعلوا من أنفسهم أدواة (متشيئة) في الآلة الصناعية التي أصدرتها (الرأسمالية) لهم، وهذا الغزو الفكري في ظل التبعية للأقوى؛ هو الذي أولد مشاعر (الغربة) و(الاغتراب) في نفسية الأفراد؛ بعد إن فقدوا هويتهم وأخذتهم صراعات الثقافية بين (الفكر الوافدة.. من غزو العولمة للعالم) و(الفكر الوطني)، لدرجة التي أحاط الفرد بجملة من معطيات مشوشة تفاقمت في نفسية الشعور بالتمرد؛ لأنه فقد القدرة على الاندماج النفسي والفكري؛ ليغرق في (الإحباط النفسي)؛ وهو أساسا يعيش عزلته مغرقا بمشاعر الغربة؛ بعد إن عجز عن تحديد مسار حياته ومن تحقيق أهدافه فيشعر كان كل شيء في أعماق نفسه بات غير مجدية؛ بعد إن وجد نفسه محيط في عالم لا ينتمي إلية؛ وفي نفس الوقت لا يستطيع العودة على ما كان عليه قبل انغماسه في (العولمة الاجتماعية) وقيم (المادية والليبرالية الراديكالية) وإلى أصوله السابقة، لأنه يشعر بأنه فقد كل شيء.. وانه قلع قلعا من جذوره.. فلا هذا الواقع واقعه.. ولا جذوره تربطه بالواقع.. وانه يعيش حالة صراع في مجتمع متعدد الثقافات فرضتها عليه (العولمة) و(الرأسمالية الصناعية).. في وقت ذاته فقد القدرة على اكتساب هوية ديناميكية قادرة على التغيير المستمر أو التوفيق بين هذه المعايير الثقافية المتضادة؛ التي – على حين غرة – داهمت حياته وهو يعيش في ظل (الاغتراب) فرضته ظروف حياته إلى ذلك؛ ليعش بعيدا عن وطنه؛ وان يواجه العالم الخارجي وثقافتها؛ وهو حيال موطنه الأصلي يحتفظ بالشيء الكثير من ثقافتها.. وارثها.. وتاريخها؛ ولا يستطيع نسيانها أو تجاوزها؛ وفي نفس الوقت لا يستطيع تأقلم مع معطيات العالم المعاصر؛ وهذا هو أقسى عذاب و أقسى (اغتراب نفسي) يعيشه الفرد في العالم المعاصر .