الحرب العالمية الثالثة - فيلم إيراني - يكشف محرقة الفقراء والمهمشين


علي المسعود
2023 / 9 / 9 - 14:27     

" الحرب العالمية الثالثة " فيلم إيراني - يكشف محرقة الفقراء والمهمشين

منذ عام 1994 تختار مؤسسة الفارابي فيلما إيرانيا لجوائز الأوسكار من كل عام تقريبا . فاز المخرج الإيراني الشهير أصغر فرهادي مرتين بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي في عام 2011 عن فيلم "انفصال" وفي عام 2017 عن فيلم "العميل" من إخراج أصغر فرهادي هو إنتاج فرنسي مشترك. وفي هذا العام إختارت اللجنة المكلفة بتقديم ممثل السينما الإيرانية في حفل توزيع جوائز الأوسكار الفيلم الإيراني الذي يحمل عنوان "الحرب العالمية الثالثة" من بين خمسة أفلام . والسبب في إختيار اللجنة لهذا الفيلم على وجه الخصوص "لمستواه التقني العالي وإخراجه الاستثنائي ونصه المبتكر" بحسب ما قاله برويز شيختادي المتحدث باسم لجنة الاختيار لوكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية الرسمية . الفيلم من أخراج ( هومان سيدي) ، سبق لمخرج الفيلم وأن فاز بجائزة أفضل تفسير وأفضل سيناريو في مهرجان فجر السينمائي في طهران في عامي 2014 و 2
ويعتبر هذا العمل هو التجربة الإخراجية السابعة لهومان سيدي بعد أفلام "أفريقيا" و" الثلاثة عشر" و"الغضب والضجيج" و"العقول الصغيرة الصدئة" و"اعترافات ذهني الخطير" ومسلسل "الضفدعة". تدور قصة فيلم " الحرب العالمية الثالثة" حول رجل يدعى شكيب ( محسن تنابنده) الانسان والعامل البسيط الذي بفقد زوجته وابنه في زلزال ضرب منطقة سكنه ويحوّل حياته إلى روتين يومي في منطقة العمال غير الحرفيين ( المسطر)، ممن يعملون في أعمال التحميل والإزالة في أي ورشة تطلبهم ، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية كان يعيش علاقة مع شابة صماء تدعى لادان لعبت دورها "مهسا حجازي". سوف نرى تكرار مكالمات فيديو بينه وبين المرأة الصماء ونكتشف أن هناك قصة "حب" بينها وبين شكيب "دون أن نعرف ما هو الرابط المسبق لعلاقتهما سوى أنهما صورة من صور الضحية والقهر". سنتعرف لاحقا أن المرأة الصماء مستغلة من رجل حقير " قواد" ويستدرج الرجال بواسطتها. في احدى المشاهد ، يقفز شكيب الى احدى السيارات التي وصلت مسطر العمال وتبحث عن شغيلة ، وتبين أنها موقع تصوير فيلم عن الحرب العالمية الثانية ، وكانت "الورشة" هي بناء "معسكر اعتقال" لتصوير فيلم عن "الهولوكوست" وفظائع هتلر النازي.
يرافقنا منذ البداية وجه "شكيب" الكئيب الذي عانى من الفقد والحرمان، وجه لا يحمل الكثير من التعابير سوى الاستكانة والحزن . ويبدو من خلال ترحيله من مجموعة من العمال إلى مكان التصوير أنه يبحث فقط عن أدنى شروط الراحة في عمله "كالنوم في مستودع يحجب الصوء عنه ويتسرب اليه الماء طوال الوقت". وحتى عندما يُساق كعنصر (كومبارس) لتكملة جموع العمال الآخرين إلى "غرفة الغاز" دون توضيح من قبل المخرج عن طبيعة مهمته ، فلا نلاحظ ردة فعل منه سوى وجه يمعن في شعور الإحباط والإذلال . تبين أن موقع البناء الذي يعمل فيه اليوم هو مسرح فيلم تجسد فيه فظائع هتلر خلال الحرب العالمية الثانية . وتحدث الانعطافة الكبيرة في حياة شكيب حين يموت الممثل الذي يقوم بدور هتلر فجأة أثناء التصوير أثر تعرضة لأزمة قلبية. يحصل شكيب على فرصة عمره للخروج من التهميش، ويقدم له عرضٍ في تجسيد شخصية هتلر للشبه الكبير بينهما . تتغير حياته من "كومبارس" لجموع الذاهبين إلى "المحرقة" الى شخصية رئيسية في الفيلم . ويتم تشكيله بهيئة جديدة دون أدنى اعتراض أو تذمّر من حلق لحيته وتغيير هيئته . شكيب يتمتّع بحضور وشكل مُلائمَين للدور ، ولاحقاً تظهر قدرته الهائلة على تحويل تعابيره الجامدة والتحوّل من إنسان بسيطٍ ومسكين وخاضع ، إلى حيوان هائج شرس (هتلر) . على الرغم من كل المشاكل يتم استبدال شكيب بالممثل بسبب تشابهه الغريب مع هتلر وينتقل مسكنه من غرفة رثة وغير صحية الى منزلا كبيرا .
لقد تم اختياره للعب دور هتلر ، المشكلة في عدم معرفته في كيفيفة التصرف مع هذه الشخصية النازية. في الواقع، لم يسمع قط عن الديكتاتور الألماني سيئ السمعة. هذه هي أفضل لحظات الفيلم، عندما تمكن المخرج الإيراني هومان سيدي في بناء مشاهد من الكوميديا والضحك من خلال رسم صورة شعر هتلر وشاربه المثيران للسخرية ، وكذالك جهل شكيب في طبيعة الشخصية وعدم قدرته على التصرف هو الذي يبرز حقا من خلال أدائه المذع للسخرية لدرجة أنه بالكاد يستطيع القيام بتحية نازية. بالانتقال إلى مساحة نوم أكثر راحة، وعندما تظهر "لادان" منتصف الفيلم عند محاولتها الهروب من عملها ووكيلها، زارته فجأة حبيبته لادان (ماهسا حجازي) وهي صماء ويتعامل معها بالاشارة (كانت والدته صماء) . تستغل لادان وظيفة شكيب الجديدة وتراها فرصة للهروب من الرجل العنيف الذي يستغلها. وتطلب منه المساعدة في تخليصها من قيود(فرشيد) الرجل الذي يستخدمها لأغراض دنيئة وتطلب البقاء معه في موقع التصوير ويحاول شكيب أخفاءها ، لانه غير مسموح بالزيارات الخاصة للممثلين حسب بنود عقد العمل وليس أمام شكيب خيار سوى إخفائها عن الطاقم ، خوفا من فقدان وظيفته الجديد كممثل لشخصية هتلر. ما تضطر لادن إلى الاختباء تحت ديكور المنزل حتى لا يتمكن أحد من رؤيتها. الفتاة الصماء لادان لها تأثير غريب على شكيب.
تخبر لادن شكيب أن فرشيد (مجرم يعرف نفسه بالفعل أنه يتحكم بالفتاة وله سيطرة عليها) يلاحقها وتستنجد به لانقاذها منه . وبالفعل يأتي فرشيد إلى شكيب ويخبره أن عليه أن يدفع له 100 مليون تومان في غضون 24 ساعة قبل أن يتخلى عن الفتاة الصماء ويتركها له . يصارحة شكيب في إستحالة الحصول على 100 مليون دولار لعامل يومي خلال 24 ساعة. يقوم فرشيد بمساومة شكيب ويطلب منه أن يدفع له مبلغا غير قابلا للخصم في غضون يومين لشراء حريتها . ولدفع هذا المبلغ يطلب شكيب من نصرتي منتج الفيلم أن يدفع له راتبه . نصراتي يدفع فقط خمس المبلغ الذي يريده ويقول إن الباقي سيتم دفعه بعد الانتهاء من التصوير. تمكن شكيب من إقناع فرشيد بمنحه مزيدًا من الوقت، لكن عندما عاد إلى مكان التصوير ، يصاب بالصدمة والرعب عندما يجد ديكور المنزل الذي كانت تختبئ فيه لادن أصبح أنقاض بعد أن أشتعلت النيران فيه . يثور شكيب ويسعى كالمجنون في العثور على جثة لادن حتى يتمكن من دفنها بشكل لائق . يعده المنتج نصراتي بالبحث عن جثتها المحترقة في صباح اليوم التالي . ويحاول فريق الإنقاذ البحث عن "لادان"، وحين لم يعثروا على أثر لها ، يتوقعون إنها هربت قبل إندلاع الحريق . لكن "شكيب" لم يصدق رواية هروبها ، وكانت تلك البداية في التحول الجوهري في شخصية شكيب الهادئ والمسالم الى الوحش الذي يقترب من شخصية "هتلر ". وبعد أن يثور بوجه المخرج والمنتج اللذان يحاولان تهدئته ويخبرانه بانه ضحية لعبة من رجل دئي وفاسد وأمراة لعوب وأن الفتاة لم تمت بل عادت الى فروشيد يستكين ويقبل الهزيمة. لكنه يضمر في نفسه خطة للانتقام . يتحول "شكيب" إلى "هتلر" عندما يقوم بسرقة علبة السم القاتل من متجر أحد تجار الديٌن بالفائدة، وعندما يأتي مكان التصوير يعاتبه على سرقته و يستفسر عن علبة السم ، يقوم شكيب بقتله كي لا يخبر الجميع بأنه وضعه في الطعام قاصدا قتل الجميع . وقبل مشهد النهاية، سوف يدهشنا المخرج "هومان سيّدي" بمشهد قصير بالغ التعبير لشكيب وهو يرتدي بدلة هتلر ويمشي "وظهره للكاميرا" بين خطين من الأسلاك الشائكة والثلج يتساقط، لدرجة نرى "هتلر" الحقيقي بكل جبروته وطغيانه . ينتهي الفيلم بسقوط الجميع موتى بعد تجرّع السم مع الطعام، وتكون كلمة النهاية ذات مغزى واضح أيضا (ساعدونا ) . يتحدث المخرج عن التحولات في الشخصية الرئيسية لشكيب من أنسان بسيط يعيش مأساة الى وحش وقاتل مرادف لشخصة هتلر، أجاب " لا أراه وحشا بل أراه كشخص ضحية قسوة الحياة وظروفها ، عندما التقينا به لأول مرة وقبل ما قسُت عليه الحياة بعد أن فقد منزله وعائلته في الزلزال ولم تعد لديه رغبة في الحياة . ولكن بعد ذلك، بعد منحه فرصة العمل في تصوير الفيلم، يحصل على فرصة للعيش في منزل جميل ويحصل على هذه الصديقة (لادان) التي تشبه الزوجة البديلة. هناك حديث بينهما ربما عن المستقبل وعن إنجاب طفل معها. فجأة أدرك أنه يمكن أن يحصل على تلك الأشياء مرة أخرى. عندما يؤخذ ذلك منه كل هذه الأحلام مرة ثانية ، عندها يصبح مثل مجنون يفعل أشياء فظيعة.

أشارات سياسية في الفيلم أو إستعارة للوضع إيران الحالي :

هل هذا الفيلم يتناول شخصية هتلر فقط ؟ وهل يتعلق الأمر بالحرب العالمية ؟ ، وهل يتعلق الأمر بأشخاص من الطبقة الدنيا في المجتمع؟ . هذا الفيلم هو عن الناس أو واحد من الناس الذين نصادفهم ونراهم في الحياة . لكن ما يغير مسار حياتنا وسلوكنا مع الحياة والناس هي الشروط التي تفرض علينا. يمكننا أن نكون أشخاصا بسطاء وعاديين ولكن ظروف الحياة والناس يمكن أن تخلق ديكتاتورا رهيبا. ما نراه في هذا الفيلم من خلال الشخصية الرئيسية للفيلم والتحول الجذري في سلوكها وممارساتها شخص هادئ ومسالم ومتصالح مع نفسه ، لكن بفعل الظروف والمجتمع وأحداث الحياة اليومية يتحول هذه الانسان الوديع الى وحش عديم الرحمة ومجرم سفاح . ترى هل يريد المخرج أن يقول إن هتلر أصبح ديكتاتورا وحشيا بسبب الشروط المفروضة عليه؟ ، أعتقد الجواب على هذا السؤال ليس واضحا جدا. ولكن من خلال خلق هذا التحدي يظهر المخرج تأثير العلاقات الإنسانية والظروف المعيشية على الناس . في بعض النواحي، فيلم الحرب العالمية الثالثة رمزي تماما، ولحظته هي استعارة للوضع السياسي والاجتماعي للحكومة الإيرانية وعلاقتها مع الشعب الإيراني. في البداية ، يمكننا التكهن من الأدلة بأن الفيلم كوميديا سوداء ، ولكن بمرور الوقت يصبح مأساة وينقلنا إلى عالم جديد. يظهر التناقض في سرد حكاية الفيلم بوضوح. يبدأ شكيب حياته المهنية كومبارس يمثل سجين في معسكر الاعتقال ، ولكن مع مرور الوقت يأخذ دور هتلر . شخصية الرجل في الفيلم مضطهدة للغاية وكيف أن نهاية المأساة لهذا الأنسان ، وربما ألاطار العام للحكاية هو أن شعب إيران لن يكون مضطهدا دائما أيضا ،
"لم يكن التاريخ أبدا مثل ما هو مدون في الكتب المدرسية التي يدرسها المرء في المدرسة " ، كما يقول المخرج ، أعتقد أن جميع المجتمعات البشرية يجب أن تراجع التاريخ لأن التاريخ يرشدنا في الغالب إلى عدم تكرار الأحداث المأساوية مثل الحرب العالمية الثانية أو عدم السماح لأي ديكتاتور بالولادة من جديد. علينا مراجعة التاريخ خطوة بخطوة، وإلا فإن هذا النقص في المعرفة سيقودنا إلى ديكتاتورية أو إلى طريقة للمساعدة في خلق الديكتاتوريين . في أحد مشاهد الفيلم ، عندما يسأل مخرج الفيلم البطل شكيب عما إذا كان يعرف هتلر الذي يقوم بتجسيد شخصيته تكون إجابة شكيب تنم عن جهله بتلك الشخصية . فهذا يثبت أن لدينا شخصا هنا ليس لديه فكرة عن التاريخ . والحقيقة هي أن حياة الفقراء والمحرومين هي محرقة دائمة، ظروفهم المعيشية تشبه وجودهم في معسكرات الاعتقال. لا يتعين على فقراء اليوم "التعرف" على أهوال النازية عندما يعيشونها. ‏ فيلم " هومان سيدي "هو مثال على هذا الطغيان والقمع على وجه التحديد . إنه تحذير عاجل للحاضر والمستقبل من خلال العودة إلى الماضي.‏ ومع ذلك ، ليس فقط الجوانب السياسية ، فهناك العديد من نقاط الاشتعال بسبب الصراعات الطبقية - الاجتماعية والاقتصادية والجمالية وحتى السينمائية - مما يؤدي إلى غضبهم وتمردهم وانتقامهم ومأساتهم التي لا نهاية لها. "الجميع دائما يتنمرون على أي شخص ضعيف أو مسالم " ، كما جاء في الفيلم. يشكو شكيب من أن أحدا لا يستمع إليه، وأن ضربه أسهل من إعارته أذنا. "كنت لا أحد" . أنا لا أحد حتى الآن»، كما يقول، على الرغم من دوره البطولي. ولكن هل يستحق أن تصبح شخصا معرضا للخطر وبلا قلب؟ وهذا يشكل النقاش الأخلاقي الأساسي للفيلم.‏ موضوع سيدي الأساسي في الحرب العالمية الثالثة هو الاستقرار الهش للعالم من حولنا في أي وقت من الأوقات، حيث يكون الاستياء والشكوك دائما في نقطة الغليان. ولكن لا يوجد أيضا خلاص حقيقي لشكيب، الذي يعميه حبه و ويربطه إخلاصه، سواء كان متبادلا أم لا، إنه يجعل شكيب ولادان يحلمان بحياة مريحة معا ، لكن هل سيكونان قادران على تحقيق ذالك ؟ الحقيقة هي أن حياة الفقراء والمحرومين من حقوقهم هي محرقة دائمة، ظروفهم المعيشية تشبه جحيم التواجد في معسكرات الاعتقال. لا يتعين على فقراء اليوم "معرفة" أهوال النازية عندما يعيشونها . المخرج يكشف عن رسالة الفيلم ويقول :" رسالة الفيلم ، الأمل هو ما يبقيك على قيد الحياة. لكن ما يقتل الأمل هو الظروف. ظروفه تسلب هذا الأمل. لكن لا يزال الأمل هو الذي يبقي الناس على قيد الحياة . هذا شيء أؤمن به في أعماق قلبي ".. يجب ألا ننسى أن هذا الفيلم ، مثل جميع الأفلام التي تم إنتاجها في السنوات ال 40 الماضية رغم إنتاجه تحت إشراف شفرة الرقابة الحكومية ، لكنه لا يخلو من أشارات سياسية في الفيلم أو إستعارة للوضع إيران الحالي . لابد من الأشارة بالدور المذهل لممثل "محسن تانابندة"الممثل المسرحى المتمرس . كان من الممكن أن تكون الحرب العالمية الثالثة دراسة شخصية لرجل عاش وحيدأ بعد فقدان أسرته أثر زلزال أصاب مدينته قبل أن ينحدر الفيلم إلى مأساة ". عرض فيلم الحرب العالمية الثالثة لأول مرة في الدورة 79 لمهرجان البندقية السينمائي الدولي، وفاز بجوائز في فئتين: أفضل فيلم أفق وأفضل ممثل .
في النهاية ، يتناول الفيلم موضوعا حساسا وذا صلة بالحرب وعواقبها على الناس العاديين . يستخدم الفيلم أسلوبا واقعيا وبسيطا يخلق إحساسا بالانغماس والأصالة. كذالك يستكشف الفيلم المشاعر المعقدة والمتناقضة للشخصيات مثل الحب والشعور بالذنب والغضب والانتقام .

كاتب عراقي