رواية -الحياة لحظة- الفصل الرابع عشر - جندي أمريكي و عدس عراقي -


سلام إبراهيم
2023 / 9 / 6 - 16:48     

جندي أمريكيّ وعدس عراقي


لم يستطع «إبراهيم» النوم.. استلقى في السرير منهكا من الضحك والقصة كلها.. كانت الغرفة تسقط في عتمة خفيفة، فمن نافذة زجاجية مسدودة أعلى بابها، يتسلل ضوء باهت من مصباح الممر الفجري.. أطبق جفنيه دقائق معدودة دون جدوى، ثم فتحهما على شخير «أحمد»، الذي سقط في النوم حالًا.. كان متوترًا بشدة يفكر في الدقائق القليلة المتبقية الفاصلة، بينه وبين التوجه صوب الحدود حيث طفولته وصباه وشبابه.. سيعبر نحو العراق، الذي عاش فيه بعنف قويا معتدا بنفسه.. قاوم الدكتاتور، وسجن أكثر من خمس مرات.. رفض الحرب فهرب ليقاتل في صفوف الثوار في الجبل..
- يا بقعتي الدامية!.
هتف بصوتٍ مسموع، طغى على شخير «أحمد» .
- فيك كنتُ في العُلا رغم القسوة!.
قال ذلك متذكرا وضعه البائس في المنفى، الذي بدا منذ وصوله الشام، وكأنه يخصُّ شخصا آخر.. هذا الشعور ما لبث أن تعمّق مع لقائه بـ «أحمد» و«علي»؛ فالحديث المتشعب أيقظ لديه سمات شخصية، سُحِقَتْ في أهوال ليالي التشرد.
اعتدل في استلقائه متكئًا بمؤخرة رأسه إلى الجدار البارد، محدقًا بشرود في الحقائب المعدة والمصفوفة جوار الباب.. في الضوء الشاحب، وهو يتدرج ليتلاشى في الزوايا البعيدة عن النافذة، منصتًا إلى شخير صاحبه المتخافت قليلا.. قليلا، والمتحول إلى شبه أنين حزين، وإلى الضجيج الذي بدأ يتصاعد من أعماقه، من الماضي المحتدم بالعنف والدم، فحاصره سيل من الأسئلة:
- ماذا جرى في غيابي الطويل؟!.
- هل سأجد أمكنة طفولتي كما هي؟!.
- هل سأزور قبر أمي وأبي اللذين ماتا في غيابي؟!.
- هل أستطيع العيش من جديد في مدينتي؟!.
توقف طويلا عند السؤال الأخير، فمهما يكن الوضع.. فإن ذلك أفضل له من حياة التشرد في تلك الأمكنة الباردة الغريبة.
- سأبدأ من جديد!.
قال لنفسه شادًّا العزم على النهوض، وأردف بحماس:
- سأجد نفسي.. سأجدها!.
شاعرا بنشوة من يرى هدفه دانيًا ويستطيع بلوغه.. رغبَ في النوم، فسرح بجسده والتحف بالغطاء وأغمض عينيه، فتخايلت المدينة بنهرها الصغير.. جسورها.. سوقها القديم المسقوف.. أزقة «الجديدة» الضيقة.. المقاهي.. وجوه مَنْ تبقّى من الأصحاب، ممن لم يقضوا في الحروب والسجون.. تصفحها وجهًا.. وجهًا بالصورة التي تركها بهم، وتاق لرؤية ما جرى لهم من أحداث وقصص طوال عشرين عامًا.. رأى نفسه يتقدم في مساء، يضج بصراخ الأطفال والنسوة، نحو باب بيت طفولته نصف الموارب.. يدفعه هاتفا بصوت عالٍ:
- عدت يا أهلي.. عدتُ!.
فيتعالى الضجيج من أبواب غرف البيت، ويهرع نحوه أخواته وإخوته صارخين باكين فاتحين الأذرع.. وبغتةً رن الهاتف قاطعًا المشهد.. نهض من السرير.. رفع سماعة الهاتف.. كان خفر إدارة الفندق يعلمه بوصول السائق.. أيقظ «أحمد» بهدوء.. كانا مهيّأيْن تماما فقد استلقيا بملابسهما.. تنكب حقيبته الصغيرة، وحمل إحدى حقائب «أحمد» الكثيرة، الذي أجاب على تعليقه:
- هدايا يا «إبراهيم» .. هدايا!. يعني واحد غاب عشرين سنة يرجع وأيده فارغة!.
حسده تلك اللحظة، فمن أين له شراء هدايا؟!.. وقتها قال لنفسه:
- سأقول لهم أنا هديتكم!.
في محاولة لإقناع نفسه.
كان السائق شابًّا أسمر من أبناء مدينتهم.. أسرع بحمل الحقائب عنهم، وراح يرتبها في صندوق السيارة الخلفيّ.. كان الليل ساكنا، والشارع مظلما خاويا إلا من بعض الكلاب السائبة، التي تخطف تحت أضواء أعمدة الشارع العام البعيد.. جلس جوار السائق، وشغل «أحمد» المقاعد الخلفية لوحده.. صفقَ السائق الباب، وتحركت السيارة على صوته الخافت المردد عدة مرات تميمة:
- عليك يا الله!.. عليك يا «أبا الحسن»!.
ثم التفت إليهم قائلا:
- إن شاء الله، سنكون عند الفجر بنقطة الحدود! والمغرب بالمدينة.
بعد دقائق ساد الصمت، وحده محرك السيارة يضج، بينما سقط «أحمد» في النوم من جديد.. لم يستمر طويلا؛ إذ بدأ السائق في الحديث، كان «إبراهيم» ينصت شاردًا، وهو يحدثه عن تفاصيل ما حدث في المدينة لحظة دخول الجيش الأمريكي، عن بهجة الناس، عن عدم المقاومة، عن هرب ممثلي السلطة، عن.. وعن:
- هكذا سترجع يا «إبراهيم».. والحلم الذي حلمت به طوال عمرك تحقق. فمذ كان عمرك تسع سنوات، صارت هذه السلطة مبعث رعبك الدائم.. ففي 8 شباط 1963 وكنت في الصف الثالث الابتدائي بدأت قصة رعبك منها، وأنت ترى والدك يكمن خلف باب بيتكم الخشبي ماسكًا فأسه بعد عدة كؤوس من الخمرة، صارخا بوجه أمك وأختك الكبرى، اللتين تورطتا في العمل مع رابطة المرأة، بعد سقوط النظام الملكي عام 1958 :
- سأقتل واحدا منهم وليقتلوني، ولا أرى الحرس القومي يأخذكما!.
ثم وأنت تصطحب امرأة عمك إلى باب موقف «حي العصري» المجاور لمدرستك الابتدائية «الثقافة» في يوم ماطر والطرق غير المبلطة وقتها موحلةً، تحملان الطعام لعميك السجينين.. تتذكر ذلك الصباح، وكأنه البارحة.. كانت السماء ملبدة بالغيوم والمطر يتساقط خفيفا، وأنت تحمل عن امرأة عمك الحزينة السلة الصغيرة.. يوم ظل يعاودك حتى هذه اللحظة وأنت في طريقك إلى رحمِكَ المضطرب منذ بدء الخليقة.. سيتعمق رعبك مع انتهاء العطلة الشتوية.. سيغيب أغلب معلمي المدرسة وأحبهم.. ستعلم لاحقًا أنهم ليسوا بعيدين عن الصف، وتستطيع من نافذة الدرس مشاهدة باب الموقف الذين أودعوا فيه، مما جعل معلمًا يرتدي زيًا عسكريًّا يدعى «حسين» يسد الفراغ، ويحاضر بجميع الدروس..
تتذكر جيدا كيف كان يدخل باسمًا بوجهه الأبيض الجميل العريض، لينزع عن كتفه بندقية «بور سعيد» الصغيرة، ويبدأ التدريس.. كنت لا تدرك الأبعاد السياسية لما كان يجري.. لكنك أحسست أنهم يخربون طفولتك بحبس أعز الناس لديك، يضاف لرعب كل مساء، واحتمال قتلهم لأبيك وسجن أمك وأختك.. سيتضاعف كرههم في صباك، وأنت تسمع قصص تعذيبهم للناس.. ستهرع مع الصبية إلى طرف المدينة، حال سماعك نبش سلطات «عبد السلام عارف»، الذي انقلب عليهم بعد ستة أشهر لقبور من قتلوهم تحت التعذيب ودفنوهم سرًا..
سيرسخ بذاكرتك اسم «جبار شبرم» الطالب الجامعي، الذي رأيتهم يستخرجون جثته المتعفنة من التراب مع جثة فتاة مجهولة قيل إنها طالبة جامعية من البصرة، كانت تستقل القطار في طريقها إلى مدينتها عائدة من بغداد، عندما اعتقلها الحرس القومي.. ستظل أمكنة معينة في المدينة حية في ذاكرتك، وهي ترتبط بذلك التاريخ الذي سيمفصل حياتك لاحقًا، ويجعلك تعيش ما عشته من مخاض..
روضة أطفال المدينة الوحيدة وقتها حديثة البناء المواجهة لنهر المدينة، حولوها إلى معتقل لتعذيب السجناء. سيحكي لك عنها صديقك الشاعر عن ليالي الرعب التي عاشها في صفوفها، قبل أن يحكم عليه بعشرين عامًا؛ لسرقة آلة طباعة يدوية من مدرسة وطبع منشور ضدهم.
سيعودون إلى السلطة من جديد في تموز 1968، وستأخذ محنتك معهم شكلا آخر.. سَتُستكمل دائرة رعبك منهم، وتبلغ ذروتها لتشكل عالمك الباطني، وتصيرك شخصا مهزوزًا يرتعد من خاطر الاعتقال، وهم يقبضون عليك وأنت تسير في شارعكم.. حشروك في سيارة «فوكس واكن» صغيرة هي كانت الوحيدة وقتها لدى دائرة أمن المدينة، قبل أن تتطور في السبعينيات. ومن ألقى عليك القبض هم رفاق طفولتك، الذين انخرطوا في سلك رجال الأمن بعد الثالث المتوسط..
ستبقى تلك الوجوه التي انقضت عليك، وأنت لم تبلغ بعد السادسة عشرة من عمرك، تعاودك في كوابيس النوم حتى الآن، فما زلتَ غير مصدق زوال ذلك الكابوس.. حتى في الجبل وأنت بين الثوار كنت تستيقظ فزعًا صارخًا في قاعة نوم المقاتلين.. الوجوه نفسها تنقض عليك.. رفاق طفولة صاروا شرطة:
- هل سأراهم.. أم أنهم هربوا؟!.
سألت نفسك والسيارة تمخر ظلمة بادية الشام الخاوية.. لا ضوء في الأفق، سوى الريح وأزيز المحرك، وأنين «أحمد» المتعب، وصمت السائق الذي أيس من جركَ إلى حديث ما معه.
سيتكرر اعتقالك مرات.. آخرها في عام 1980حينما انقضوا عليك، وأنت تخرج بصحبة صديقين من بارٍ على «أبي نواس».. كان أحد النديمين من المختفين عن أنظار السلطة من أهالي كربلاء اسمه «ميثم جواد» .. سيعدم والثاني ما زال حيًّا، أروك الويل.. لكنك صمدتَ منكرا علاقتك بالمختفي، فأطلقوا سراحك بعد أشهر لعدم ثبوت الأدلة.. تلك التجربة أمدتك بثقة بالنفس، وجعلتك تخوض المخاض الشرس..
- هل حقا أزيلت سطوتهم الماحقة؟!.
تسأل نفسك، والسيارة تخوض في عباب الصحراء، مقتربة من رحمك الحميم.
- لا أصدق!.
أجبت بصمت، لكنك تستقل الآن المركبة، التي ستضعك قبل مساء الغد في باطن مدينتك، التي حملتها معك أينما حللت في المنافي.. ستضعك على عتبة دار أهلك، التي يعرف السائق مكانها؛ إذ أخبرك بأنه لا يبعد عن بيت أهله سوى شوارع معدودة.
ستدخلها إذن آمنا..
- هل سيحدث ذلك؟!.
كانت النشوة، بمجرد تخيل لحظة دخولك، تشبُّ بك إلى السماء مثل طيرٍ تعلم الطيران للتو، وغادر عش أمه، فتنتبه إلى وجود السائق الجاد، وهو يمسك بالمقود، ويحملق أمامه في مسافة الطريق التي تضيئها مصابيح السيارة، وإلى «أحمد» الغافي، وكأنه في بيت أهله غفوة عميقة استعصت عليك!.
سترجع يا «إبراهيم» إلى رحمك الحميم.. سترجع إلى مدينتك بلا «البعث» اللعنة.. وهذا ما لم تصدقه حتى الآن، رغم أنك تقترب لحظة بعد لحظة من الفجر والحدود.. لم تصدق.. وكيف تصدق بعد عناء التشرد أنك ستجد عائلتك الكبيرة، تستقبلك رمزًا قاوم الطاغية وعاد بعد زواله؟!. كيف؟!.. لكن صدق.. صدق يا «إبراهيم» أن حلم أحلامك سيتحقق هذا اليوم.. رؤية المدينة قبيل الموت الذي غيب عديدًا من رفاقك، الذين غادروا بحسرات.. ستجد أمانًا خاصا وأنت تسير على تراب السنين في المدينة التي تحرز طفولتك وصباك وشبابك دون سلطة رعب.
- أنت راجع يا «إبراهيم»!.
- راجع!.
كاد يصرخ.. لكنه كبح جماح نفسه رائيا بقعة ضوء، بدت خافتة في الظلام الذي بدأ يشحب رويدا.. رويدا.. والسائق يقول بصوت واضح:
- الضوء الذي تراه نقطة العبور السورية!.
* * *
بانت خطوط الضوء وانتشرت، وهم يعبرون نقطة الحدود السورية باتجاه النقطة العراقية.. كان الفجر ساطعًا لاهث الفضة، يغور في النفس.. أحس «إبراهيم» بكل هذا و «أحمد» يسقط في النوم من جديد، والسائق يخلد إلى الصمت ماسكًا بالمقود بعينين مفتوحتين، يردد بين فسحة صمت وأخرى آيات شكر للقادر الواحد القهار بصوت شديد الخفوت، يسمع في الصمت، والفجر يشعشع في الأفق العراقي.. حيث يتجهون. كانوا يقتربون من بقعة ضوء، بدأ يخفت مع تزايد سطوع الفجر.. وبغتةً انتابته رعدة قديمة غابت ردحًا من الزمن.. لكنها عاودته في المنفى في اليوم التالي، الذي وجد نفسه فيه يستيقظ فجرًا، وهو يتوسد منضدة غرفة الغسيل التابع لشركة السكن، متذكرًا اللحظة التي رمته فيه جوار بئر السلم وصفقت الباب، فتساءل كما هو حاله دائما في قصة عمره العنيف:
- لم أنا هنا يا إلهي؟!.
رعدة خاصة فريدة سرية كانت تنتابه في الأفجار الشبيهة بهذا الفجر.. رعدة تهزُّ جسده هزًّا، حينما كان يستيقظ في ملجأ بجبهة الحرب العراقية ـ الإيرانية باكرًا على صوت جنود الحضيرة، وهم يتمتمون الأدعية بعد صلاة الفجر.. فيتساءل:
- لم أنا هنا يا إلهي؟!.
أو حينما يستيقظ فجرًا ليجد نفسه محشورا في سجن، يحدق عبر النافذة إلى الباحة الوسطية رائيًا شرطيًا، يتم طقوس الوضوء ويقف على حافة السجادة المفروشة في فضة الفجر، ويبدأ بالتمتمة والركوع والسجود فيتساءل:
- لم أنا هنا يا إلهي؟!.
أو حينما يوقظه رفيق عند حافة الفجر؛ ليستلم نوبة حراسته، وهو يستلقي في باحة مسجد جامع، في قرية من قرى الله الضائعة في مجاهل جبال العراق، فيجد حشدًا من الفلاحين يجلسون مستندين على ركبهم، في صفين صغيرين أمام المحراب، يرددون:
- الله حي.. الله حي!.
فيردد هذه التميمة مخدرًا بسلام إيقاعها، نائدًا بجذعه الأعلى في هيام غريب، جعل رفيقه المناوب يعود ثانية ليعنفه هذه المرة بصوت فظ غليظ، فيقوم متثاقلًا متسائلًا السؤال المرافق نفسه للرعدة السرية:
- لم أنا هنا يا إلهي؟!.
هذا السؤال الطفل المرافق لرحلة عمره يعقب مباشرة الرعدة المباغتة، التي تجعل من وجوده في الدنيا سؤالًا..
هاهو في حومة الرعدة، وجواره السائق الشاب الملتحي المردد أدعية السلامة، التي يحفظها عن ظهر قلب!.
رعدة ما انفكت تنتابه لحظة بعد لحظة هذه المرة، والسيارة تقترب من حدود العراق.. الفجر أمعن في السطوع بسماءٍ صافية عرّاها وهج الشمس الموشكة على الشروق، والرعدة مستمرة تتناوب في دفعات ترعش جسده بأجمعه حتى نقطة السيطرة الأولى.. حيث الشارع يضيق بعوارض متعرجة، تجبر المركبات على السير ببطء.. حتى مرتفعٍ مصطنع، تربض فوقه دبابة أمريكية.. وتحتها يقف جندي بكامل عدته العسكرية يخفى عينيه تحت نظارة عسكرية غامقة عريضة، يؤشر بلا اهتمام، سامحًا لهم بالدخول إلى تراب أسلافه.
وجد نفسه يتساءل السؤال المصاحب نفسه للرعدة:
- لم أنا هنا يا إلهي؟!.
وأحس بغصة ما أن خَلف وراءه نقطة السيطرة الأمريكية الأولى.. غصة من يُنْتَهَك.. شعور مباغت، لم يكن يتصور بأنه سينتابه حال رؤيته لجندي أمريكي.. شعور اختلف تمامًا عن لحظات الفرح العابرة، التي انتابته لحظة مشاهدته سقوط تمثال الطاغية في ساحة الفردوس، وهو نزيل مشفى الإدمان في الدنمرك.
انتابه شعور لا يوصف.. لكنه وجد نفسه يقول بصوت مسموع غاضب، أيقظ «أحمد» وأدهش السائق:
- مثل ما واحد غريب تجده في غرفة نومك، يتصرف وكأنه أنت!.
انتبه على حملقة عيون السائق وأحمد المندهشة من انفجاره المباغت، فأردف موضحًا:
- هذا الجندي الأمريكي يتصرف، وكأنه هو ابن البلد، ونحن الغرباء!.
- تف.. ابن العاهرة.. تف..
تف وشتم فجرًا بعد لحظات من وطئه تراب الحلم.. تف متضايقًا؛ مما جعل السائق الشاب يحاول تهدئة روعه قائلا:
- أستاذ إذ تفكر بهذه الطريقة، راح ما تقدر تعيش يوم بالعراق!.
- هل استبهم عليه الوطن؟!.
سأل نفسه بصمت متأملًا قول السائق البسيط في المسافة الفاصلة، بين أول مدخل وبناية النقطة الحدودية الرسمية العاجّة بالناس الخارجين والداخلين، قائلا لنفسه:
- تجّمل يا «إبراهيم» بالصبر.. تجمّل وإلا ستضيع ضياعك في المنفى!.
عبروها والشمس تلألأت في سماء البادية المفتوحة.. أفق مفتوح وشارع مبلط عريض، وعلى الجانبين أعمدة كهرباء مكسرة منهوبة، علق السائق حولها قائلا:
- حال سقوط النظام هب الناس وخربوا كل شيء!.
لم يكن ذلك غريبا على «إبراهيم»، فرغم أن العراقيين من أعرق الشعوب، لكنهم أكثرها وحشية حال غياب سلطة دولة مركزية.. هذا الأمر مشهود ومكرر في التاريخ العراقي، منذ ضعف الدولة الإسلامية المركزية حال اغتيال «عثمان بن عفان»، ثالث خليفة بعد «محمد» .. سيتحول إلى مرتع لكل صنوف المعارضات للدول القائمة.. سواء تلك أقامها الأمويون في الشام أو العباسيون في بغداد..
يتذكر «إبراهيم» الدهشة التي تمسك بكيانه، وهو يبحر في التاريخ العراقي القديم والمعاصر مكتشفًا دموية وصعوبة هذه البقعة الأخصب أرضًا من بين كل بقاع الأرض، قبل اكتشاف النفط؛ لتحل لعنة تعمق لعنة الخصوبة والموقع والماء وتنوع الأعراق والقرب من صرة الأرض، ومنبع فكرة الدين..
«إبراهيم» يدرك كل هذا ويعرف لم يهب العراقيون مثل مجانين محطمين كل شيء وحتى أنفسهم أحيانا.. لكن هذا الكلام يستنكره الجميع، رغم سطوعه وكثرة الشواهد في كتب التاريخ القديم والمعاصر.. وهنا يكمن تفسير بربرية وبدوية الهجوم على أعمدة كهرباء، كانت تمد قراهم ومدنهم بالنور.. هذه الفكرة راسخة لدى «إبراهيم»..
اقترح السائق التوقف عند مطعمٍ في الطريق؛ لتناول وجبة الفطور.. فوافقاه على الفور.
رغم فوضى مشاعره واضطرابها، كانت لدى «إبراهيم» رغبة عنيفة في معانقة الجميع في باحة المطعم الكبيرة المكتظة بالسواق والمسافرين.. فهو في العراق.. العراق الذي صار حلمًا منذُ عشرين عامًا مضت.
- هؤلاء أولاد جلدتي مهما اختلفت معهم!.
قال لنفسه متأملًا «أحمد»، وهو يتذوق شوربة العدس، التي طلبها مرددًا:
- الله يا «إبراهيم» .. العدس العراقي!.