من أجل ثقافة روحية عالمية خالية من حروب التكفير


حسن خليل غريب
2023 / 9 / 5 - 16:31     

منذ التاريخ القديم، والذي ابتدأ فيه الإنسان بالسؤال عن مصيره بعد الموت، لم يهدأ بال العالم من حروب التكفير الدموية، ولا تزال. وشهدت القرون الأخيرة خاصة السبعة منها أقسى تلك الحروب وأكثرها دموية واضطهاداً. وليس من الغريب، بل من المؤسف، أن يقوم بها أتباع الأديان التي تُعدُّ من الأديان السماوية.
ابتدأت تلك الحروب منذ الحكم على السيد المسيح بالصلب حتى الموت نتيجة وشاية أحبار اليهود به للسلطات الرومانية. وبعد أن استتبَّ الأمر لاعتناق الرومان للديانة المسيحية، أخذ الاقتتال بين التيارات المسيحية يذرُّ قرنه بينها، إلى أن استتب الأمر لسيطرة الكنيسة الغربية في روما فاعتبرت نفسها ممثِّلة لله على الأرض على الرغم مما ارتكبته من جرائم بحق أتباعها. وما برح بال بابا روما يهدأ حتى ابتدأ الخلاف بين تيارات كنيسته، فانقسم مسيحيوها إلى مجموعة من المذاهب المتناحرة التي لم يستقر لها قرار سوى بعد مرحلة عصر الأنوار في أوروبا.
وفي عصر الأنوار كان للفلاسفة والمفكرين والمثقفين دور كبير في إنتاج مخزون كبير من الثقافة الانقلابية ضد حكم الكنيسة، والتي أنتجت تغييراً جذرياً في بنية النظام السياسي الأوروبي، ومن أشدها تأثيراً كان إنتاج قواعد الدولة السياسية الحديثة التي وضعت حداً لدور رجل الدين، وأسرته داخل دور العبادة، حيث اعتبرت أن دوره يجب أن لا يتعدى تلك الدور.
لقد ابتدأ عصر الأنوار الأوروبي من حيث انتهى عصر الأنوار العربي والإسلامي وراح التخلف ينتشر بعد أن انتصر الفقهاء (النقل) على الفلاسفة (العقل) منذ أكثر من ثمانية قرون من الزمن. وبين هذين الحدين، كانت الحضارة الفكرية العربية قد تدهورت باستيلاء فقهاء النقل تحت حماية سلاطين الإمبراطورية العربية الإسلامية، وفيها حُكم على عصر النهضة الفكرية العربية بالإعدام. وبينهما أيضاً، لاذت أوروبا بنعيم الأنوار، بينما غرقت المنطقة العربية والإسلامية في عتمة الظلمات.
لم يهدأ بال المسلمين، العرب وغيرهم، من نيران الاضطهاد وقرون التخلف، ولا يزال يعاني منها، وكانت مذبحته الكبرى قد حصلت في العشرينية الثانية من القرن الواحد والعشرين، أي منذ أن قرَّر الغرب الرأسمالي بالتحالف مع الصهيونية العالمية التي تخطط لسيطرة الثقافة التلمودية اليهودية، استغلال الأمراض الطائفية المنتشرة في ثقافة عامة المسلمين، والأحلام الغيبية المسيطرة على مخيلات تيارات الإسلام السياسي.
في هذه المرحلة، وبتخطيط مسبق، عملت تيارات الإسلام السياسي على استعادة التجربة المسيحية الفاشلة وتقليدها، وذلك من خلال استعادة حلم بناء دولة دينية بعد إسقاط الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولكنها عبثاً كانت تفعل، وعلى الرغم من هذه العبثية لا تزال تحلم، وهي وإن فشلت في تحقيق أهدافها، وسوف تفشل في تحقيقها لأنها مجرد أحلام غيبية رجعية، فهي لن ترتدع طالما أن هناك من يغذيها مستفيداً من أعمالها التخريبية في بنية المجتمع الإسلامي بشكل عام، والمجتمع العربي بشكل خاص.
وقوفاً أمام هذه المعضلة نتساءل: هل يمكن للحالمين الإسلاميين ببناء دولة دينية أن يعيدوا دراسة تجربة الكنيسة المسيحية، ويتَّعظوا منها؟
حتى وإن كان الجواب على تساؤلنا سلبياً وعصياً على الحل، لكننا لا نعتبره مستحيلاً، لأن البشرية واجهت مثله ووصلت إلى حلول لمعضلات أكثر منها صعوبة؛ وهذا ما يعطينا الحافز على أن لا نسمح لحلمنا أن يتم دفنه. وأما كيف نرى الحلول في المستقبل البعيد؟

-أولاً: في تجربة الدولة الغربية إيجابيات، ولا تزال تحمل بضعاً من السلبيات.
من إيجابياتها أنها ألغت (المقدسات الإلهية) من القاموس السياسي، وأنه لا يحق لأحد أن يزعم بأنه يمثل الله على الأرض، لا بل أصبح الشعب هو الذي يختار ممثليه.
وأما من سلبياتها فإنها أبقت مهمة التربية الروحية بين أيدي رجال الدين الذين لا يزالوا يستغلون السطحية الدينية لمئات الملايين من المؤمنين بالغيبيات، وقد استغلت الصهيونية الحرية في ممارسة رجال الدين المسيحيين مهمة التربية الروحية من أجل الترويج لأ ساطيرها في إعادة بناء الهيكل في القدس التي ستتم بعد انتصار الخير على الشر في معركة هرمجدون.
وإذا كنا ممن يرفضون تقييد حرية الاعتقاد ومنها حرية الاعتقاد الديني، إلاَّ أننا نرفض أن يتم تحويل الدين إلى وسيلة لزعزعة استقرار الأمن الاجتماعي والسياسي للمجتمع. فكيف به لو تحوَّل إلى مصدر أساسي لتفسيخ المجتمع الوطني الواحد، وإغراقه بحروب طائفية لن تعرف نهاية لها، حتى ولو كانت تلك الحروب لا تتعدى الاستقرار النفسي للمواطنين؟

-ثانياً: في تجربة الدولة الإسلامية:
-بعد انتشار الدعوة الإسلامية، نشأ عنها إيجابيات على العرب لا تتعدى بناء دولة دينية توسَّعت، بفائض من قوة الجيوش وفائض من قوة المال، كما فعلت غيرها من الإمبراطوريات السابقة. وعلى الرغم من أنها استندت إلى مبادئ تأسيس الإمبراطوريات التي سبقتها، وفيها الكثير الكثير من التناقضات مع بناء الدولة الحديثة، إلاَّ أنها أسهمت في تكوين القومية العربية، والمجتمع العربي الواحد. ولكن هذا لا يعني أن العامل الروحي الإسلامي الذي أسهم في تكوين القومية العربية يمكنه أن يشكِّل أساساً لإعادة بناء دولة حديثة؛ كما لا يعني القبول بإعادة بناء دولة دينية إسلامية.
-سلبياتها أنها غلَّبت مصلحة المذهب الحاكم، ومصلحة العرق الذي انحدرت منه الطبقة الحاكمة، على حقوق المذاهب الإسلاميةالأخرى وكذلك على حقوق الأديان الأخرى من سماوية وغير سماوية.
بين تلك الإيجابيات والسلبيات، أصبح إعادة تجربة بناء دولة دينية مرة أخرى مما يتناقض مع قوانين العصر. فقوانين العصر لا تتحمَّل نظاماً يعطي امتيازات لمذهب ديني وعرق عربي أو غير عربي، ويحرم المذاهب والأعراق الأخرى منها.
ولهذه الأسباب، ومن أجل الانتماء إلى روح العصر، التي يرفضها تيارا الإسلام السياسي -السني والشيعي- على الحالمين ببناء دولة دينية إسلامية أن ينتظروا تحولين اثنين مفترضين إلزاميين أو طوعيين، وهما:
-دراسة تأثير عصر الأنوار الأوروبي على سلطة الكنيسة الذي أقصى رجال الدين عن السلطة، وألزمهم بالعودة إلى دور العبادة. وعلماً أن بناء الدولة الحديثة في أوروبا كان نتيجة ما نقله الفلاسفة الأوروبيون من نتاج الفلاسفة العرب، على جميع الحالمين من أصحاب تيارات الإسلام السياسي أن يقلعوا عن أحلام إعادة بناء دولة دينية، والتنازل طوعاً عن تلك الأحلام، والاعتراف بدور وأهلية الشرائح المدنية من طاقات فكرية وعلماء اقتصاد وسياسية، لبناء دولة على الأسس الحديثة.

على ضوء النتائج النقدية: رؤية في ثقافة روحية عالمية
لأن كلاً من الأديان السماوية الثلاث أنهى عجلة تاريخه الأيديولوجي الديني عند حدود مسلماته. واعتبر كل منها أنه الوحيد المكلف إلهياً بنشر رسالة الله على الكرة الأرضية، واعتبر أن غيره من الأديان إما كافر أو مشرك بالله. وحذا حذوهم كل فرقة من فرق الأديان السماوية. وبذلك عجَّت الكرة الأرضية بتيارات التكفير والتكفير المضاد، ولن يهدأ بال العالم من الحروب الدينية طالما لم تتوصل البشرية إلى رؤية أيديولوجية روحية موحدة تتوافق عليها شعوب الأرض قاطبة.
ولأن الحقيقة لن تكون مطلقة إذا لم تُجمع على القبول بها شتى المكونات في المجتمع الواحد، وشتى المجتمعات البشرية على اختلاف معتقداتها.
ولأن العالم أصبح قرية صغيرة من حيث العلاقات البينية بين تلك المجتمعات، علمياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وغيرها من الحقول الأخرى،
أصبح بحاجة أيضاً إلى تربية روحية واحدة، ومنها التربية الروحية الدينية، لكي تجتثَّث دابر الحروب والصراعات الدينية.
إن هذا الأمر ليس بالعسير بلوغه، خاصة وأن العالم بأكمله قد ضمن أمنه الداخلي، برفضه الحروب الطائفية، وتعاون الجميع على منعها، بل قمعها. وقد شملت نعمة الخلاص من الحروب الدينية المجتمعات التي لا تؤمن بالأديان السماوية وخاصة في الصين والهند، ومعظم دول جنوب آسيا. وفي هذا ما يماثله في المجتمعات ذات الأكثرية المسيحية.
وإذا أخذنا استثناء من كل ذلك ظاهرة (التيار المسيحي المتصهين) في الولايات المتحدة الأميركية، فهذا بتقديرنا لا يُقاس عليه لأن الصهيونية التلمودية هي التي تقف وراء تأسيسه خاصة -وإن وُجد- فلا فعالية له في المجتمعات المسيحية الأخرى، خاصة المجتمعات الأوروبية لتاريخية العلاقات السلبية مع اليهود. وجل ما يمكننا أن نقوله عن تلك الظاهرة في أميركا أنه ولد بسبب من الدور المغيَّب لدور الدولة المدنية في التربية الروحية في المجتمع المسيحي من جهة، وللهيمنة الصهيونية على المؤسسات الدينية والسياسية الأميركية من جهة أخرى.
وما أعمال الإساءة إلى مقدسات الدين الإسلامي التي تقوم بها بعض الجماعات المحدودة في المجتمع الغربي، أو بعض الأفراد، بأكثر من وسائل مخابراتية تستخدمها المخابرات الصهيونية من أجل إدامة عوامل التوتر والتعصب في المجتمعات الإسلامية لإبقائها مشدودة إلى العصبيات الطائفية كونها تشكل العامل الأساسي في تفتيت مجتمعاتها من الداخل، ليبقى سلاح الحروب الدينية البينية جاهزاً لاستخدامه كلما احتاجت الصهيونية والرأسمالية الغربية إليه في مشاريعها المعادية لتفتيت المجتمع الإسلامي بشكل عام، والمجتمع العربي بشكل خاص.
ولهذا، وانطلاقاً من تسليم الأنظمة المدنية مهمة التربية الروحية لرجال الدين من دون أي تدخل من قبل الدولة، سنعمل على طرح رؤيتنا لحلها.
كما هو سائد الآن، وإذا كانت الدولة الحديثة قد فصلت بين حقليْ الدين والسياسة، وفوَّضت رجال الدين بمهمة التبشير الديني -وإن بضوابط خاصة- من أهمها منع ثقافة التعصب والتكفير، فإنها في المقابل -وخاصة في الدول ذوات المناهج الرأسمالية- لم تؤسس لثقافة مدنية تهتم بالاستفادة من أهمية القيم المثلى في العدالة والمساواة ليس بين أفراد المجتمع الواحد فحسب بل أيضاً بين المجتمعات البشرية كلها، ورفض العدوان على الدول الأخرى، والحثِّ على تمتين علاقات السلام بين الشعوب.
من أجل ذلك كله، ولأن دور الدين -كما هو متعارف عليه- له علاقة وثيقة بالشؤون الغيبية، لا يمكن للسياسيين الخوض فيه لأكثر من سبب وسبب، لكن القوانين الرأسمالية استغلَّت هذا الجانب من أجل السيطرة على الشعوب الضعيفة بنشر ثقافة التعصب الديني وتسليم جزء من مؤسسات القرار السياسي لرجال الدين، أو إلى نخب من السياسيين الذين يحيطون أنفسهم برجال دين يتقنون فنون نشر التعصب، من أجل إضعاف الوحدة المجتمعية بين المواطنين في المجتمع الواحد.
ولأن للعامل الروحي الغيبي تأثير شبه تام على معظم الكائنات البشرية، أمية كانت أم مثقفة، متحضِّرة كانت أم متخلفة، وكلها تنشد خلاص النفس في مرحلة ما بعد الموت، نرى ما يلي:
-أولاً: يمكن لأية برامج تربوية، ترعاها الدولة منفردة، أو بالتعاون مع المؤسسات الدينية، أن تقوم بتأهيل الفرد لاستيعاب أهمية فهم القيم العليا وممارستها بخلاص الأنفس في الآخرة. وتتمُّ العملية التربوية بعيداً عن التخويف والترهيب بالعذاب من نيران جهنم وأفاعيها.
-وثانياً: بعيداً عن التربية الرأسمالية، التي تقوم على ثقافة إنتاج السلعة واستهلاكها، والترويج لمفاهيم شاذة كعلاقات الزواج المثلية، على كل الأنظمة في العالم بجانب العناية بالعلوم التقنية، أن تخصص في برامجها التربوية، وقتاً كافياً للعلوم الإنسانية في الفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس، من أجل تنمية الشخصية الإنسانية المُشبعة بالأخلاق والإيمان بالقيم العليا التي يتوافق عليها المجتمع البشري ويعتبرها عامل توحيد بين البشر، لا عامل تفتيت وتفضيل بين شتى مكوناته.