رواية -الحياة لحظة- الفصل الثالث عشر - الحالمون الثلاثة -


سلام إبراهيم
2023 / 9 / 3 - 16:20     

الحالمون الثلاثة


أجلس جوار نافذة القطار العريضة في طريقي إلى مطار كوبنهاجن.. أجلس كمن لتوه ظهر من أعماق بحر كاد يفقد النَّفَسَ فيه.
- من غطسني في يمّ المنفى والضياع؟!.
أسأل نفسي المرة تلو المرة، منذ أول لحظة وجدت نفسي فيها أسقط في فسحة بئر سلم البناية، ورفيقة عمري ترمقني بغضب واشمئزاز، من خلال باب الشقة نصف الموارب.
- من جعلني أعيش حياتي مثل وهمٍ؟!. هل هو المصور الفوتوغرافي «شاكر ميم» وجوف فقاعته، أم نفسي، أم العراق؟!.
- لا أدري!.
لكن ما بتّ واثقا منه هو أني لم أكن طوال عمري، سوى حالمٍ يعتقد أن باستطاعته تغيير الدنيا.. هذا الحلم الذي لم ينكسر لا في حياتي في العراق وأنا أعمل سرًّا ضد الدكتاتور، ولا بين الثوار في الجبل حينما حملت سلاحا متخيلا لحظة دخولي مدينتي، ظافرًا جالبًا الخبز للفقراء والحرية للإنسان.. لم ينكسر هذا الحلم أبدًا حتى في موسكو والشيوعية تتهاوى مثل بناءٍ هش تحت ناظري.. كنت لم أزل أعتقد بالإنسان في معادلة غير قابلة للنقض، هي التي أفضت بي إلى هذا المآل؛ حيثُ صرت متشردا في بلدٍ، لا مكان فيه لأحلام الثورة، فكل مشكلة لها حل في نظام متماسك قليل الثغرات.
وجدتُ نفسي عاريا في قارعة المنفى دون حلمي.
كل شيء بدا واضحا هنا..
لم أستوعب الجديد!.
وجدت نفسي كمن نقلته مركبة الزمن إلى حضارة، لم يكن حتى يحلم بها!. لم أرتبك فحسب بل وجدتُ أن الحياة فعلا ما هي إلا جوف فقاعة.. فما كنت أحلم به كنظام يكفل عدالة معقولة وجدته هنا، وليس فيما كنت أظنه منذ صباي. وما المسار الذي قطعته عنيفا قاسيا إلا ظل خط في لوحة منسية.. فما قيمة مقتل أخي وأعز أحبائي تحت التعذيب، من أجل حلم نظام تبدى في آخر المطاف، لا يختلف عن الدكتاتورية إلا بالاسم..
هبطت على أرض الدنمارك قادما من موسكو، مفعمًا بعطن غبار الشقة التي تركتني فيها.. غبار مخلوط برائحة الفودكا والحلم، الذي تلاشى تحت ناظريّ، وتركني مذهولا أسكن الخمرة متشبثا بلحظتي الحاضرة.
هبطت لأجدُ نفسي عائما، بلا أي قيمة، فكل شيء مرتب هنا.. لم أجد مكانًا للحظتي، التي كنت أمكث فيها لمقاومة الكل.. وجدتُ الحياة هنا تسحبني خارج فقاعتي، التي أسست وجودي في العراق وفعلا فقدتها، فصرت ضائعًا وسط الجميع، فلا قدرة لدي على تعلم اللغة والانسجام مع المحيط الجديد، ولا قدرة لديّ على مجاراة رفيقتي وزوجتي، التي تمتلك ذهنًا عمليًّا، ساعدها على الانسجام مع المحيط الجديد.
لم أجد غيرها.. فقاعتي..لحظتي، فبقيتُ متشبثا بها.. الدنيا محض لحظة.. بقيت في ناصية هذه الفكرة، وكأنني أعيش اللحظة التي كنت أنفرد معها في الفراش.. كنت أبدي فيه كل ما بوسعي من تدله وجنون، لا سيما بعد تجارب موسكو ونسائها العابرات، ولكنها كانت تنأى بعيدًا عني قليلًا.. قليلًا.. تنأى بمعقولية من الصعب وضعها موضع نقاش، حتى وجدت أن فراش الزوجية في وضع كهذا لا معنى له، فكففت عنه لاجئًا إلى الخمرة، التي تأخذني إلى مسافة الخدر والأحلام، فأعيش حبور اللحظة في غبطةٍ، صارت بديلا لنكد اليوم وعزلتي.. مما حدا بها آخر الأمر إلى دفعي وأنا سكران بعنف خارج الباب إلى فسحة بئر السلم.
سقطت على البلاط البارد نائيًا عنها وعن المؤسسة الزوجية.
لتبدأ رحلة التشرد الطويلة!.
لم أكن أظن قطّ أنني سأصل إلى هذا الوضع البائس، لم أعد أتذكر بالضبط كيف تصرفت وماذا حدث بعد ذلك.. فأحيانًا أتخيل أنها ندمت ولم تسد الباب دوني.. لكني نزلت السلم وتركتها حزينة وأحيانا أتخيل.. لا لم أعد أتخيل، بل أشاهد مشهدًا أعنف، وهو الأقوى والذي ظل يلازمني حتى الآن، فما أن نهضت من بلاط الفسحة مشدوهًا، يرن في صمتي صراخها وصفقة الباب العنيفة حتى وجدت نفسي ضائعا بالتمام والكمال، وكأن الباب ليس باب شقة بل باب الدنيا.. كدت أطرقه وأتوسل؛ لها كي تدعني أخلد إلى فراشي وأنفاسها وأنفاس أطفالي، لكن كفي تصلبت متحجرة على مسافة سنتيمتر واحد من جسد الباب الخشبي الصلد.. قائلا لنفسي:
- ولك تصير خرگه!.
رجعت خطوتين يجول في رأسي فراغ دوّار، لا مأوى، لا معارف، لا أقرباء، فكل منفي يحرز بصمتٍ عذابه كشأني لما ألتقي مع أبناء جلدتي، فأضحك وأنكت والكل لا يعرف ما بي.
استدرت وهبطت السلالم، في الفسحة التالية، وقبل أن يغيب باب عمري التفتُّ، وكأنني أودع «عزيز» ملقىً على دكة الغسل بمقبرة.. ولم يكذب شعوري، فقد حرمتني تماما من رؤية أطفالي، مستغلة عدم معرفتي باللغة والقوانين وبؤس وضعي؛ حيث لم أستطع العثور على سكن لفترة طويلة، مضاف إلى أنني صرت أعاقر الخمرة منذ بكرة الصباح وحتى غياب الوعي. وهذا الوضع مناسب لحرماني من رؤيتهم.. لا أتذكر بوضوح تلك الأيام التي تبدو لي الآن كأن من عاشها شخص غيري.
- هل كنت عنيفا وحاولت ضربها مرات عدة؟!.
- هل كنت أتصل بها وأهددها؟!.
- هل كنت عازما على قتلها وقتل أطفالي، كما أسمعوني تسجيلا صوتيًّا لي في مركز الشرطة سجلته هي؟!.
لا أدري أو الأصح أنني عشت منذ اللحظة، التي نزلت فيها سلالم البناية، وَضِعْتُ في ذلك الليل الشتوي القارس.. لا أتذكر بوضوح سوى اللحظة، التي وقعت فيها أصابعي على كارت قاعة غسيل الملابس المشتركة لسكان البناية في جيب معطفي الصوف، ومبلغ فرحي.. أسرعت صوبها حالـمًا بالنوم، فعندما ألقت بي خارج الشقة، كنت متأرجحا على حافة الغفوة على أريكة الصالة. ولجت قاعة المغسل.. وكأنني دخلتُ الجنة.. على منضدة خشبية طويلة، يرتب عليها الساكنون ملابسهم المغسولة.. نمت بعدما شغلتُ التدفئة، وحلمت حلمًا ظل يعاشر تشردي حتى هذه اللحظة، وأنا أجلس في القطار المتوجه نحو مطار كوبنهاجن.. أغفو في ظلال نخلة تطل على رمل شط الديوانية الصغير، حالـًما بأبي يحضنني، ناسيًا قسوته مرة واحدة فقط، لحظة ظلت حسرة في نفسي إلى الأبد.. صرت منذ ليلة طردي ذاك الطفل المسكين، الذي ظن بالزوجة والأسرة رحمًا.. لكنه لُفظ من دفئه، وهو يقترب من رذيل العمر.
لم أحاول العودة إليها ظانًّا أنها ستبحث عني.. ستشتاق.. ستحنّ.. في اللحظة التي سيمسك بها الشوق، وسطوع أيام حبنا القديمة زمن الصبا، وعنفه في الجبل بين رجال العصابات، لكنني فوجئت في ليلة قارسة، وأنا أؤوب إلى ملجئي بعد منتصف الليل بتعطل الكارت، الذي يفتح غرفة الغسالات.. فأدركت أنها غيرته. تجننتُ في وقفتي في الظلام الباهت بلون الثلج المغطي الأرض والأسقف.. لا أتذكر سوى اللحظة التي هرعت فيها نحو البناية.. تسلقت السلالم.. ركضت نحو بابها المسدود، رحت أطرق بكفيّ بابها شاتما مهددا.. أطرق وأستريح.. أستريح وأطرق.. أطرق وأعبُّ من فم قنينة فودكا.. يتأجج غضبي، فأعود إلى الطرق والعبّ إلى أن غبت عن الوعي؛ لأجد نفسي في زنزانة ضيقة عارية.. وعبر بابها الحديدي لمحت شرطيا دنمركيا يبتسم لي بود.
من يومها ضيعوا عنوانها عليّ؛ إذ نقلوها إلى مكانٍ مجهول، وفشلت كل محاولاتي في البحث عنها.. لم يعد يمضي الشوق إليها، فقد صارت جزءًا من ماضٍ، أتحاشاه بالإمعان في السكر والضياع.. ظلت قسماتها المشمئزة الغاضبة الحاقدة المطلة على ذهولي، وهي تغيب خلف باب الشقة.. فرشاة مسحت تفاصيل العلاقة وألقتها في النسيان، لكن شوقي كان يحتدم ويشتعل كل لحظة لأطفالي.. يشتعل ويذيقني الويل.. فأجد نفسي مترسبًا في قعر البؤس متسائلًا:
- هل يبلغ الإنسان هذا المدى من القسوة؟!
يجوز ذلك للأغراب.. لكنني عشت معها حبًّا عنيفًّا سنين طوالًا، وهي جارتي، وتعرف أدق ما يجيش بنفسي منذ الشباب.. حتى عتبة الشيخوخة!.
- هل؟!.
ووصلت إلى قناعة بأن الأكثر قربًا وحبًّا يصبح الأكثر بعدًا وحقدًا حال تغيّر الأحوال!. لم أر أطفالي منذ أربع سنوات.
- أية أربع!.
رأيت الويل خلالها، ولولا وهمي بفقاعة العمر.. لمتُ من القهر.. لولاك يا «شاكر ميم» زادي في فيافي التشرد لَسَكَتَ قلبي..
عشت في أكثر الأماكن بؤسًا، سكن المتشردون في أمكنة ترعاها الكنائس، وجدت فيها مأوىً في الشتاء.. أتحاشى الصحو، الذي يأخذني إليها وأطفالي والواقع الجديد المتجلي بعجزي التام عن التواصل مع المحيط.. أعبُّ من الخمرة ما أن أستيقظ من غفوة سكرٍ.. كيف أدبر غلة يومي من البيرة والكحول.. فتلك قصة طويلة.. فلديّ خبرة في السرقة الشريفة..
مثلي الأعلى «أرسين لوبين»، الذي سحرني في صباي أول تدلهي بالقراءة.. تعلمت منه السرقة الشريفة، وبدايتها الكتب حيث وجدت غالبية كتاب ومثقفي العراق يمارسونها منذ أواخر الستينيات والسبعينيات؛ إذ يبررونها بضيق الحال وعدم القدرة.. وكان هذا الأمر صحيحًا.. فكنا نسرق من المكتبات.. فبدلا من الشعور بالذنب، كنا نحس بالفرح والغبطة لما ينتظرنا من عوالم تكمن في صفحات الكتاب المسروق.. لذا كنا نجدها مشروعة؛ إذ لا نستطيع كطلبة جامعة بالمطلق شراء تلك الكتب.. وأبدعت في هذا المضمار.. كنت أشهر وأدق سارق كتب، لم أضبط مرة واحدة قط في العراق.
لم يعد مبلغ المساعدة الاجتماعية يكفي لمتطلبات اليوم.. لم أعد أستطيع دفع إيجار غرفة، وفرتها لي البلدية بسعرٍ بخس لغلاء الخمرة، التي صارت لصيقة لحظتي، ودونها أصير في ضياع صحو يكاد يفجر رأسي في المرات التي لا أجدها فيها.. وجدت حلين: الأول: المعقول لكنه متعب وبطيء، هو تجميع قناني البيرة الفارغة من الأماكن العامة واستبدالها بقنانٍ مليئة.. والثاني: السريع والعملي، ولا يحتاج إلى جهد هو شفط ما أستطيعه من قناني داخل السوبر ماركت، مغافلا كاميرات المراقبة والعاملين، أو دس عددٍ من قناني الكحول في جيوب معطفي الثقيل وقت الشتاء. لم أُمْسَك مرة واحدة كشأني حينما كنت أسرق الكتب من مكتبات شارع «المتنبي» و«السعدون» في بغداد طوال سبعينيات القرن الماضي، وذلك ساعد في تدهور حالي، فصرت شبه ضائعٍ، أجوب أزقة وشوارع كوبنهاجن، لاجئًا مع حلول الليل إلى حديقة في الصيف، وغرفة إيواء المتشردين في الشتاء..
لم أكن أشعر بالمحيط، بما يجري.. إلى أن استيقظتُ يومًا؛ لأجد نفسي راقدًا في سرير نظيف داخل غرفة بيضاء، تطل على حديقة خضراء تتصل بغابة تسد أفق النافذة.. وحدي في الغرفة التي تسع لسريرين.. كان السرير مرتفعًا جهة رأسي.. حاولت التحرك، ولكنني شعرت بألم في ذراعي اليسرى. حركت رأسي ببطء نحوها.. وجدتها مثبتةً برباط إلى حافة السرير، وإبرة المغذي مغروزة بوريدي، ومتصلة بقنينة تقطر سائلا أصفر يتساقط ببطء شديد قطرة.. قطرة..
لم أستطع تذكر كيف وصلت إلى تلك الغرفة النظيفة لا وقتها ولا في الأيام التالية، وحتى الآن وأنا في طريقي إلى المطار.. تخيلتهم يحملونني في سيارة إسعاف من زقاق من أزقة كوبنهاجن القديمة؛ حيث يطيب لي السكر بين بناياتها القديمة..
لكن كم بقيت غائبا عن الوعي؟!..
لا أدري.. فقد كنتُ لا أكترث بالوقت، فعلاقتي بالزمن ماتت منذ اللحظة، التي رُميت فيها إلى قارعة الشارع في المنفى، فيومي سكر وخيال وأحلام يقظة ونوم، فسكر ونوم، فسكر ونوم، فما أهمية السؤال وقتها عن الفترة، التي قضيتها على سرير تلك الغرفة اللاهثة البياض.
أجلس شاردًا على مقعد في عربة قطار لصق النافذة.
أجلس مكتظًّا بضجيجي متسائلا:
- هل حقًّا أنا في طريقي إلى العراق، أم أنني في وهم من أوهام سكري؟!.
رمقت الحقول الخضراء الشاسعة، وهي تتباطأ مع اقتراب القطار من محطة بالطريق معيدا السؤال مرات، مثل تعويذة بصوتٍ مسموع بالعربية بطبيعة الحال، إلى أن انتبهت إلى امرأة جالسة على المقعد المقابل، ترمقني بعينين ودودتين، أحسستها تطل على نفسي الغارقة في لجة قصتي المضطربة.
من المؤكد أنها صعدت من محطة ما حينما كنت مبحرًا.. كانت صاعقة الجمال صافية، جعلت قلبي يتوجع حال حلول قسماتها في عيني.. كدت أنهد نحوها، وأصلي جوار قدميها الصغيرتين، اللتين هربت من بهجة ملامحها إليهما لما أطرقتُ النظر، كدتُ كما هو حالي كلما وقع بصري على وجه امرأة فاتنة.. لكنها قامت حال توقف القطار في المحطة..
غادرت وتركتني مع نظرة باسمة لتغيب في سلالم القطار الهابطة إلى الرصيف، فأعادتني إلى «شاكر ميم»، وفقاعته الموشكة على الانفجار ( النهل من اللحظة البارقة ليس إلا ).. هذه الحكمة هي وحدها التي ساعدتني على تحمل عناء التشرد والبؤس، فالغور في مطلقها جعلني أجد بكل ما يصيبني مجرد لحظة ستمضي؛ لذا لا داعي للأحزان ولا داعي للندم أو الأسف.. كلما ضاق حالي في الدنيا، كنت أصرخ بصمت في أتون جبهة الحرب العراقية الإيرانية حينما كنت جنديًّا، أو وسط رجال العصابات في العراق وسط غابة في الجبل، وهنا في الدانمارك حينما حاصرتني من كنت أظنها رحمي الأبدي.. كنت أصرخ:
- طزززززززززززززززز بك يا دنيا يا عاهرة!.
وأعب الكأس تلو الكأس حتى لذة التلاشي، التي لا يشعر بها ويستطيع تخيل مدى غبطتها سوى السكير العارف مثلي.
تحركت البيوت الناصية راكضة؛ لتغيب عند حافة نافذتي الزجاجية، التي رمتني إلى حقول خضراء، تمتد حتى الأفق تركض لاهثةً بمراعي حصنها وأغنامها وأبقارها وغاباتها المتناثرة.. لم يبق سوى محطة واحدة وسيصل قطاري إلى المطار.
- هل حقًّا أنا في طريقي إلى وطني؟!.
شعرتُ بغبطةٍ لم أشعر بمثيلها، حينما استيقظت في المصحّ المختص بعلاج الإدمان على صوت طبيب عراقي، زف لي التهاني بسقوط «صدام» على أيدي القوات الأمريكية قائلا:
- «إبراهيم» مبروك علينا.. ولو أن الأمريكان ليس لهم أمان.. لكن خلصنا من الطاغية!
قال لي ذلك، وفتح التلفاز المعلق على الجدار أمامي بشاشته المسطحة فظهرت الجموع بصحبة الأمريكان، وهي تسقط تمثال «صدام» وسط ساحة الفردوس.. استمتعت بالمشهد وساعدني على تمالك قواي، فأحسست في تلك اللحظة أن صديقي الطبيب فتح لي بابًا قد يكون فيه خلاصي من ورطة المنفى، الذي شردني وجعلني مجرد سكير تائه في أزقة عاصمة غربية غريبة.. رغم عدم محبتي، أو بعبارة أدق كرهي لأمريكا، المرتكز على أسس ثقافية بعيدة الغور، ليس لها علاقة بالأيديولوجيات المتصارعة.. كره يعود إلى معرفة استقيتها من مطالعتي الأدبية لظروف تكون أمريكا وحروبها الأهلية، يضاف إليها شدة التصاقي بالإنسان كقيمة مطلقة تهملها الأيديولوجيات، رغم أن أس قيامها وتكوينها عليه وبتعبير أدق أنها تجعل منه معبرًا لسيادة أفكارها، ومن يقف خلف تلك الأفكار من مقاصد ومصالح ومنافع..
رغم كل هذا الوعي.. ورغم الغصّة.. وجدت بهذا التحول الدرامي.. احتلال العراق من قبل الأمريكان فسحة قد تكون شخصية لي.. أن أرى أمكنة طفولتي وصباي مرة أخرى، بعد أكثر من عشرين عامًا من النفي.. ليس النفي فحسب، بل من البؤس الذي وسم تجربتي العنيفة؛ لذا أذهلني مشهد تحطيم التمثال وسحله على قارعة طريق وأطفال ملحان يوسعون رأس «صدام» الحجري ضربا بالنعال والكل مبتهج.. أذهلني وساعدني على تجاوز محنة الإدمان.. قلت للطبيب العراقي المشرف على علاجي وهو رفيق كان معي في حرب العصابات:
- «قاسم» أستطيع الوقوف على قدمي الآن!.
سألني:
- أش لون يا «إبراهيم»؟!.
قلت:
- سأعود إليه.. قد أجد حلا لوضعي!.
- إلى العراق؟!
قلت فورا:
- أي!.
- وأنت بهذا الوضع الصحي!.
- نعم يا «قاسم» أنت تعرف كل شيء عني منذ حرب الجبل حتى مخيمات اللجوء في تركيا وإيران وموسكو وظروف الخراب في الدنمارك.. وضعك مختلف، فأنت وجدت مسارك المهني، وأنا ضعت في المنفى.. بلا عائلة.. بلا كيان.. بلا معنى.. بلا قدرة على فعل شيء.. كما ترى لست سوى نزيلٍ في مشفى متخصص في علاج الإدمان وأنت تشرف عليَّ.. قد أجد ذاتي في وطني، الذي تشردت من أجل حلم تحويله إلى جنة؛ ففيه من الثروات التي تجعل منه جنةً في الأرضِ أكثر دنوا من كل أوطان الخليقة.
- وهل تدعك أمريكا؟!.
ردّ بسخرية، وغرق بضحكة عاصفة، لكن لابد من مغامرة العودة.. ذاك أفضل لي من هذا الدوران والتشرد في بيئة كل شيء مرتبٌ فيها ما عداي.
- هل أنا متجه نحو وطني أم نحو المجهول؟!.
سألت نفسي والأبقار الدنمركية الوديعة التي توزع الجبن على العالم ترعى في حقولها، تحت ناظري عبر نافذة القطار الزجاجية.. قلت لنفسي بصوت مسموع، مستعيدًا كلام قاسم:
- أسمع «إبراهيم».. لم أجد بلدًا مثل الدانمارك، يحترمني كإنسان وطبيب؛ لذا قررت أن حياتي ومستقبلي هنا، فجماعتك في الجبل مسحوا بي الأرض وشككوا بمهنية عملي، وقالوا عني لست بطبيب بل مجرد مضمد.. مما جعلني أتركهم وأغادر إلى إيران والمجهول.. اسمع «إبراهيم».. لا تعد إلى العراق.. سوف يقتلونك، فأنا أعرفك عن قرب.. أنت لا تصلح للعيش إلا هنا حتى لو تعيش كمتشرد!.
- لا.. لا يا «قاسم».. إنها البقعة التي رأيت الضوء فيها وسمعت أول صوت ورأيت أول شكل فيها، إنها نفسي يا صديقي.. لا بد أنها ستكون خلاصي من وضعي البائس!.
لم يرد مباشرة بل سرح ناظرا عبر نافذة غرفة المصح المشرفة من طابقها الرابع على غابة شاسعة، تنتهي بساحل بحر الشمال الكابي.. كنت مهتمًّا جدًّا بما سيقوله.. عاد بعينيه نحوي قائلا:
- إذا كان لابد لك من ذلك.. فجرب.. سافر لكنك ستخيب وستتذكرني!.
لم أتوان.. طلبت موعدا مع مشرفتي الاجتماعية في الكومون.. أخبرتها بعزمي على السفر حال تماثلي للشفاء إلى العراق، فرحبت وساعدتني بتغطية تكاليف رحلتي ماديًّا بالكامل.. التذكرة في جيبي والقطار يوشك بلوغ المطار، وسأكون بعد ساعات في ناصية زمن آخر قديم لي فيه ذكريات.. دمشق..
قلت لمشرفتي الاجتماعية:
- هل أستطيع رؤية طفليّ وأمهم قبل السفر؟!.
- سأحاول!.
لكنها أخبرتني برفض طليقتي.. قلت لها حسنًا.. وقلت لنفسي حال خروجي من بناية الكومون:
- طززززززززززززز!.
لكنني مع الحرف الأخير، شعرت بوجع في قلبي.. غصصت بالحرف الثقيل، ووجدتني أركض مثل مجنون صارخا مستنجدا بالسماء وبالهواء بالشمس بالناس من قسوة جارتي ورفيقة عمري لأنهد باكيا غامدًا رأسي بعشب الحديقة المقابلة لمبنى بلدية المدينة متيقنا بأنني حقا وحيد لا في المنفى بل في الدنيا..
- كيف لي التخلص من الماضي، الذي نجحت في المنفى في الخلاص منه بفضل معلمي «شاكر ميم».. كيف لي وأنا أتجه نحوه ككيان تراب وهواء وماء وبشر وبيئة صيرتني؟!.
- يا إلهي؟!.
صرخت مع نفسي والقطار يلج في نفق المطار.. ترجلت مع حقيبتي الظهرية الخفيفة وكأنني ثائر في الجبل، فهي لا تحوي سوى متطلبات اليوم، ملابس داخلية وغيار ثياب وفرشاة أسنان ليس غير:
- عاريًا بلا رتوش.. عاريا كـ «إبراهيم» السلامي.. كأنني في أقصى السكر حيث يكون الصحو صلبًا.. طفلا يفتح عينيه على الدنيا للتو .. سأعود مغسولا من أوهام العائلة، الأيديولوجيات.. حلم مدينة «ماركس» الفاضلة.. سأعود من رحلة الضياع إلى رحمي الأول.. إلى مدينتي الصغيرة ونهرها الصغير، وما تبقى من معارف ظلوا سالمين من المطحنة.. عاريًا أتوجه نحو الطائرة التي ستنقلني إلى دمشق، ومن هناك سأتوجه نحو سري الدامي:«العراق».
حالما وضعتُ قدميَّ على أول درجة من سلم الطائرة، قلت لنفسي:
- وداعا للمنفى.. وداعا للبؤس!.
هتفت بذلك، وجلست على مقعدي المجاور لنافذة مدورة صغيرة، جعلتني أشرف على الأرض، والطائرة ترتفع في السماء فوق غيوم الله..
- هأنذا أحلق فوق الغيوم.. حلم عاشر طفولتي، حينما كنت أسقط في غفوة بظلال نخلة، تطل على شط الديوانية في ظهائر الصيف.. هاأنذا أعوم في الفضاء، جالسًا على كرسي وثير، أحتسي البيرة وأغازل المضيفة الشقراء، التي تبتسم كلما طلبتُ كأسا دون كل المسافرين.
الفضاء.. ووجه اسكندناﭬﻲ فاتن، فوق الغيوم، وبقعة «هاملت» التي شهدت بؤسي غابت تماما وصارت بغتة، مثل ذكرى عابرة..
- سأراك يا «شاكر ميم»!.
هتف صوت في أعماقي، والشمس الساطعة بدت قرصًا متوهجًا، يصاحب نافذتي، ويطل عليَّ بسكون، وكأن الطائرة ساكنة في الأعالي.
- «إبراهيم».. يا «إبراهيم» أنت في الأعالي في لحظةِ نشوة، لا يدركها إلا من عاش في جوف فقاعة.. أنت الآن طلقة ضائعة في الكون لو سها الطيّار لحظةً.. ستنفجر الفقاعة فترسو حالا في رحاب العالم الآخر..
قهقهت بصوت أجفل المسافر الجالس جواري.. لم أهتم.. عدت إلى نفسي:
- «إبراهيم» جدك «إبراهيم».. صنع قصة بيت الله، وأنت ضائع الآن بسماء الله على مقعد وثير، تحتسي الجعة كأسا بعد كأسٍ.
كان الإمعان في الشرب في رحاب السماء وتوتر لحظات الطيران ينأى بي عن تفاصيل مأزقي الواقعي، بين بؤس المنفى الدنمركي، وأمل قيامي من جديد في أمكنتي الحميمة بعد زوال الدكتاتور.. نفضت رأسي قائلا بصوت مسموع، لكنه خافت:
- «إبراهيم»اترك كل شيء وفكر في القادم.. في العراق.. في أمكنة الطفولة، التي ستراها.. في الأعمام والأخوال والأجيال.. في التراب وهواء المكان.. «إبراهيم» احْمِد الرب على سلامتك.. ستزور أمكنة الطفولة، التي مات بحسرتها عديد من رفاقك، ممن قضوا في المعتقلات والجبل والمنفى؟!.
* * *

مع الإعلان عن قرب هبوط الطائرة ونهاية الرحلة شعرت بشيء ما يتماسك في نفسي.. فكل رحلتي رتبتها بمساعدة صديق ورفيق قديم من مدينتي، زار العراق قبلي وزودني بكل التفاصيل.. مكاتب النقل في الزينبية بدمشق، أسماء الأسواق، لا بل رتب لي الرحلة في صحبة «أحمد» ، مهندس كهرباء من أبناء مدينتي، شديد الذكاء، وسياسي يعيش في ألمانيا، التقيت به مرة واحدة في بيته، في مدينة تدعى «هلماستاد» في السويد صيف 1995، وكان وضعي لم يتدهور بعدُ فكانت الرحلة عائلية.. وجدته في ذلك اللقاء الوحيد، عراقيًّا معتدا بالعراق وحضارته.. أتذكر إجابته عن سؤالي عن اسم ابنه من زوجته الألمانية، بصوتٍ قويٍ ناصعٍ، كجسد المسمى في الأسطورة:
- أنكيدو!.
عرفت لاحقًا من مجرى الحديث أنه يعمل من سنين طوال، وحال إيابه من تجربة الالتحاق بالثوار في الجبل بعد مذبحة بيشتاشان، في شركة ألمانية تعتز بقدراته وتمنى وقتها لو يرحل الدكتاتور؛ كي نرجع ونقدم لمدينتنا شيئًا من المعارف التي اكتسبناها في المنفى.. كان شديد الثقة بنفسه وبالحياة وبالمستقبل عكسي تماما.. كنت وقتها على حافة الهاوية، وعلاقتي بزوجتي والعائلة والعالم في تدهور، لم ينفع معها مراجعتي لطبيب نفسي، طوال ثلاثة أعوام، وذلك ما جعلني أُذهَل عجبًا من حيويته وفعاليته، وكل وضعه وهو ابن راعي جاموس.. ينظرون إليه في المدينة نظرة دونية بحكم عرف مدننا المتخلفة شبه البدوية.. من المفترض أن يكون في انتظاري في فندق قريب من شركة النقل؛ فطائرته وصلت في ساعة متأخرة من الليلة السابقة.. بينما طائرتي وصلت في منتصف ظهيرة اليوم التالي.. كنت متشوفا لرؤيته مرة ثانية، فقد مرّ على لقائنا الأول قرابة تسعة أعوام.. ركبت سيارة أجرة من المطار حتى عنوان الفندق في الزينبية:
- خرج في جولة!.
أخبرني الشخص الجالس في استعلامات الفندق.. وضعت حقيبتي الصغيرة في غرفتي، وخرجت إلى ضجيج الشارع.. إلى فضاء «دمشق»، حبي الثاني في حياتي بعد مدينتي «الديوانية». مكانان أشعراني في حياتي بالأمان.. عببتُ من الهواء الدافئ أنفاسًا عميقة، شاعرا بلذة لا يشعر بها أحدٌ إلا من تشرد في المنفى صعلوكًا سكيرا.. قلت لأذهب إلى المكتب وأضبط الحجز، وفعلا ذهبت إلى المكتب الصغير في شارع فرعي، فوجدت سائقين شبانًا أخبروني أنهم من أبناء مدينتي.. وبينما كنت أجلس محاورا أولئك الشبان.. دخل «عليٌّ» ابن محلتي ورفيقي في الجبل، يحمل ساقه الاصطناعية حملًا ليعبر عتبة المكتب.. «علي» الذي عشت تفاصيل عملية بتر ساقه بعد إصابته في معركة قرب قصبة «بامرني» شتاء 1987 وهذه قصة أخرى. هببت من كرسيَّ صارخا فرفع رأسه وصاح:
- «إبراهيم» حبيبي!.
وفتح ذراعيه الناحلتين ليضمني. عانقته بشدة كان يلهث مرددا:
- حبيبي «إبراهيم».. حبيبي!.
ولما فللنا أذرعنا رأيت الدموع تصب من عينيه.. كان اللقاء مفاجئًا حقًّا، فأنا لم أره منذ قرية «زيوة» الإيرانية، التي وصلنا إليها عبر تركيا، حينما حملتنا شاحنات لنقل التراب من مخيم ( كفر ) التركي حتى الحدود الإيرانية، وكان معنا في الرحلة بقدمه المقطوعة وزوجته المكافحة، التي ولدت طفلة قبل الانسحاب بشهرٍ.. تكفلتُ بحملها خلال طريق الانسحاب الطويل بين الوديان والقمم؛ كي تتفرغ زوجته للعناية به، وهو يركب بغلًا، ويجد صعوبة في التوازن بسبب اختلال تكوينه بعد بتر ساقه اليُمنى، حتى أنه سقط في ظلام ليلة دامسة من فوق البغل؛ إذ سمعت في منحدرٍ حاد صوت ارتطام جسده بصخور المنحدر، مصحوبًا بصرخة فزع قصيرة!.
جلس على كرسيّ في مواجهتي وخلفة واجهة المكتب الزجاجية، وراح يقص على سواق المكتب العراقيين، عما يكنه لي من مشاعر لمواقفي منه في الظروف الحرجة.. فأخبرهم كيف كنت أحمله على كتفي، حينما تباغتنا الطائرات العراقية بالقصف؛ فيهرب الجميع ويتركونه على سطح قاعة موقع «بندري» في وادٍ من أودية حوض ـ زيوة ـ خلف مدينة «العمادية»..
أعادني رويه إلى «إبراهيم» وقت عزّه، فاستعدت قليلًا.. قليلًا شيئًا من كياني، الذي تبدد في المنفى في اللحظة، التي كان يروي فيها للسائق والعاملين في مكتب السفر من أبناء مدينتي ينصتون بذهول.. أحسست بجسده المكسور على كتفي لينا لاهثا مستسلمًا، وفوقنا الطائرات المغيرة تنقض، والقذائف تنفجر على مقربةٍ.. كنتُ عمليًّا سريع الحركة، وأنا أنحدر به نحو ملجأ تحت صخرة في الوادي الصغير وأدسه فيه، وأحشر جسدي في الفتحة حيث لا يسع الملجأ إلا لواحد.. لا أنسى ما حييت قسماته الوديعة الممتنة.
قلتُ في نفسي:
- هو لا يدري كيف صيرني المنفي!.. لا يدري!.
سألني عن أحوالها ونعتها بالشجاعة.. موجهًا جملته للجميع:
- أنتم لا تعرفونها.. هي امرأة من مدينتكم.. لكنها من أشجع نساء العالم!.
أشعرني قوله بالفخر، ولكنه يحكي عن تجربة مضى عليها أكثر من أربعة عشر عامًا. . لا يعرف كيف عاث بنا المنفى وقسّى القلوب، فجعلها ترميني إلى قارعته، وتحرّم عليَّ رؤية فلذات كبدي.. هو لا يعرف أنني تدهورت إلى حدود الضياع والتشرد والإدمان، وما رجوعي إلا محاولة أخيرة للعثور على نفسي وكيانها!..
لكنني اكتشفت بعد ساعات ماذا فعل به المنفى، وهو يخبرني عن إدمانه الكحول، وبرر لي محنته بساقه وابنه الذي ولد منغوليًّا، وهو الثاني بعد بنته التي ولدتها أمها في الجبل.. صحيح أنه يعمل لكن زوجته لم تلقِه إلى قارعة المنفى رغم كل شيء.. رغم إعاقته.. رغم إدمانه.. رغم كل شيء ظلت معه قريبة، تحاول وتناضل من أجل توازنه الروحي، الذي صار شبه مستحيل، فالابن المعاق شطره شطرًا مثل الطلقة التي أفقدته الساق اليُمنى من فوق الركبة.
أخبرني أنه لتوه عائد من مدينتي محبطًا، فالكل يعتقد به ثريا، عاد ليوزع على العائلة ما كنزه في المنفى.. حتى أن أخاه الأكبر أهانه كونه عاد بأشواقه فقط.. ونصحني بإخفاء كل ما يتعلق بالدولار كون الأهل مدلهين به، وبكل ما يمت له من قول.
قلت مع نفسي:
- يا للمحنة.. فأنا أصلًا أود الخلاص بالعودة.. لكن «علي» عَتّمَ المشهد، فهل سأواجه ما أرمد صاحبي.. لا أدري.. لكنني كنت عازما على العودة بلا مخاوف.. فحلم رؤية مدينتي وأمكنة الطفولة والصبا لا يعوقه كل ما يستجد من القصص والحكايات.
قال مؤكدا:
- يجب التعامل من الجميع بالعملة المحلية!.
أربكتني الفكرة.. كنا في طريقنا إلى الفندق الذي ينزل فيه «أحمد»
قلت له:

- «علي» هو أنا عندي فلوس حتى أضمها!.
توقف ونظر نحوي بدهشة. فأردفتُ:
- وبعدين أنا راجع لأستقر هناك!.
- صحيح!.
أكدت له ذلك دون تبيان ما صار إليه حالي.. حدثني عن تبدل أحوال الناس والمجتمع في غيابنا، وقد لا يكون بمقدوري تحمّل الوضع الجديد، بعد أن عشت في مجتمع اسكندناﭬﻲ يوفر كل شيء.. كنت أصغي إليه، وأقول في نفسي:
- حقك عليّ يا «عليّ» ما دريت بالمنفى أش صار؟!.
كنتُ أحمل عنه كيس فاكهة اشتراها في الطريق، وأساعده أحيانا عند عبور الشارع، أو صعود رصيفٍ عالٍ.. صرنا أمام واجهة الفندق مخلفين الضجيج وروائح المطاعم المكتظة والمقاهي خلفنا في الشارع العام.. حملته من تحت إبطيه، وأصعدته إلى الرصيف العالي، مختصرًا المسافة إلى السلالم البعيدة عن بوابة الفندق، كان يلهث وتفوح منه رائحة الخمرة، التي لم أنتبه إليها عند العناق، على الرصيف خطا لوحده، وقال :
- «أحمد» يسكن في غرفة مجاورة.. لدي عرق «ريان» وحمص مسلوگ، ولبن.. نشرب ثلاثتنا كاس كاسين!.
انخرطت في ضحكة عاصفة مكملا:
- ثلاثة.. أربعة.. عشرين.. يعني ما راح انسافر اليوم!.
- لا.. «إبراهيم».. كأس كاسين وبس!.
ترجى بصوت خافت حاله حال أي سكير، يبحث عن نديم.. عبرنا عتبة الباب. صرنا في صالة واسعة.. بدا البناء حديثًا مزينًا بصور أئمة الشيعة الشهداء، وثريات ثلاث تتدلى من السقف، موزعة بشكل يناسب شكل الباحة غير المنتظم.
- أكيد «أحمد» بغرفته!.
أخذنا المصعد إلى الطابق الثالث، قادني في ممر فيه غرف متقابلة.. أشار إلى ثاني باب قائلا:
- هذه غرفتي!.
واستمر في السير نحو الباب الثالث.. قرعه مناديًا:
- «أحمد».. «أحمد»!.
وقفت متوترًا مشدودًا أنصت منتظرا ذاك الصوت المشدود الواثق، الذي بعث في نفسي أملًا قبل أربعة عشر عاما في مدينة بجنوب السويد المتيقن، والحالم بالعودة إلى مدينتنا حال زوال الطاغية لإقامة مشاريع لاستغلال الطاقة الشمسية، التي تخصص بالعمل فيها في شركة ألمانية، وذاك ما جعله يعيش في وضع مادي رفيع، يسافر كل عام إلى بلدٍ بصحبة زوجته وطفليه.
- «إبراهيم» أترك النفط.. أحنه عدنه الشمس.. أفضل مصدر للطاقة بالكون والصيف تسع شهور بالعراق!.
- «أحمد».. «أحمد»!.
كرر «علي» نداءه.. وصمت مصغيًا معي.. بعد لحظات جاء صوت خافت كهمهمة قادمة من عالم النسيان، لم نفهم منه شيئًا.. أعقبه صرير مقبض الباب، وهو يدور مصحوبًا بصوتٍ بدا واضحا:
- أي «علي».. كنت نايم!.
لكن المفردات خرجت بلفظ متعسر، وكأن الناطق بها يعاني صعوبة في الكلام.. قلت مع نفسي:
- هذا الصوت مختلف عن ذاك، فيه ضعفٌ وانكسار!.
لعنت نفسي والمنفى، فالواحد منا لا يتصل بالآخر إلا حينما يتذكره فيجد أنه قد مرّتْ سنوات طوال، جرى فيها على صاحبه الكثير من خطوب وأحداث.. فتكون المشاعر والمشاركة «بائتة» لا معنى لها، فزمنها انقضى وما أصاب الشخص من مصاب صار واقع حال.. العلاقة في مدينتنا - الديوانية - مختلفةٌ تمامًا حيث كل شيء حار وحميم، والمشاركة تحدث لحظة.. لحظة في الأفراح والأحزان.
تراجع الباب إلى الداخل ببطء.. كانت الغرفة مظلمة.. ومن العتمة، ظهر وجه «أحمد» ببطء يشبه اللقطات البطيئة في السينما. كان يفرك عينيه ويضيقهما؛ لمواجهة ضوء الممر الناري الساطع، فلم ينتبه لوجودي؛ إذ كنت أقف خلف «علي» بخطوتين مذهولا تماما.. أحملق مثل مصعوق بوجه «أحمد»، الذي ظهر إلى الضوء من رحم الغرفة العاطة برائحة الفنادق الغريبة..
الوجه غير ذاك الوجه الذي رأيته في «هلمستاد» السويدية.. الوجه مختلف، شاحب رغم سمرته الفاقعة، أما القسمات فقد اتخذت مظهرا مختلفا.. الفم مقسوم تمامًا حال نطقه في الضوء، بين قسمٍ متحرك والآخر شبه جامد فسر لي صعوبة النطق التي فاجأتني.. حركة الوجه والجسد بدا إيقاعها بطيئا، غير الإيقاع النشط المعاند، الذي رأيته عليها في بيت ذاك الصديق.. إيقاع مستكين مسالم مثل من انصاع لمشيئة الأقدار، وسار مع هواها صاغرًا. يبدو أنه لم يلحظ وجودي، فقد ظل يحادث «عليًّا»، الذي كان يعلق تعليقاته الطريفة المضحكة، ويسمع ما يرد به «أحمد»؛ مما أتاح لي رؤية حركة شفتيه عند الكلام، وهي تناضل لكي تنطق الحرف والكلمة:
- يا إلهي ماذا جرى لصاحبي؟!.. ماذا؟!.
التفت «علي» نحوي قائلا له:
- «إبراهيم»!.
فتح ذراعيه وعانقني غير ذاك العناق القديم في تلك المدينة السويدية؛ حيث كنت أنا الطرف الهش في المعادلة.. أحسسته يستنجد بجسدي الطويل العملاق بقامته المتوسطة وهو يضمها تحت إبطي مرددا:
- حبيبي «إبراهيم» أش لونك؟!.
بطريقة لفظه التي جعلت من اللقاء فسحة عذاب، بدلا من فرحة.. شددته بعنف وكأنني أريد إذابته بجسدي، دفعته قليلا ناظرًا إلى قسماته السمراء الجافة المستكينة وعينيه المحملقتين فيّ، المسالمتين، المتأملتين، فانتابتني رغبة في النحيب.. رغبة طالما نفسّتُ عنها في مواقف مشابهة.. كبحت جماح نفسي وقلت له:
- «أحمد» أش صار بيك؟!.
- راح احكي لك بعدين!.
في غرفة «علي» جلسنا نحن الثلاثة.. كنا في ثمانينيات القرن الماضي نحمل السلاح ضد الدكتاتور في جبال العراق، بعيدًا عن الأهل ومدينتنا الصغيرة جنوب العراق.. واحدٌ من السويد مقطوع الساق سكير، رأى المكان الأول ويئس عائدا إلى مطعمه وكحوله وعائلته بمشاقها في أقصى شمال تلك البلاد، وأنا من الدنمارك معطوب الجسد والروح، أبغي الخلاص في رحم مكاني الأول، بعدما فقدت توازني الإنساني، وكدت أنمحق في الشارع حينما لم أستطع التوافق مع متطلبات العائلة والمجتمع الجديد، الذي وجدته غريبًا عميقًا، حالـمًا بإمساك كياني الضائع في أزقة مدينتي من جديد.. و«أحمد» الذي بعد الكأس الثانية كشف بعد شدة إلحاحي عما جرى له.
قلت:
- حبيبي «أحمد».. أرجوك، خبّرني أش صار بِك عقب لقائنا بالسويد عام 1995؟!.
حدَّق نحوي بعينين ودودتين، قبل أن يبدأ الكلام بطريقة استفزتني جدًّا؛ فمقدار الفاجعة التي ألمت به من زاوية نظري، لا تتناسب مع طريقته الهادئة في الكلام، وهو يقص بالضبط ما حدث له، وغيّر نمط حياته بالكامل.
- ماذا تريد أن أحكي لك؟!. ليس في القصة كلها شيء غريب.. ببساطة أصبت بنزف، قد يحدث ويحدث في عروق البشر كل يوم أكثر من مرة، فالجسد له شأنه في مساره المختلف تماما عما نتصوره. لكن المختلف أين؟!. في أي موضع يحدث ذاك النزف؟!.
هذا يا «إبراهيم» حبيبي جذر المشكلة؟!.
رددت على الفور:
- «أحمد» خبّرني متى حدث وأين؟!.
ارتشف ما بكأسه من خمرة، ملتفتًا نحو «علي» قائلا:
- هذا آخر كأس..
والتفت نحوي معلقا:
- «إبراهيم» كأنك محقق عدلي!.
- يهمني معرفة قصتك جدا!.
وفعلا ما سوف يرويه، سيفسرُ لي الكثير من شؤون هذه الدنيا العجيبة.
- «إبراهيم» اسمع.. لا تحمّل الحياة أكثر من طاقتها.. فهي تقودنا نحو ما تريد، حتى تبدو أمانينا أمام سطوتها كأنها مجرد ريح تمر على شجرة معمرة شاهقة في غابة!.
رمى جملته الطويلة بلغة فصيحة صحيحة.. فهو يكتب الشعر سرًّا، ويفلسف الأشياء منذ شبابه، قلت:
- «أحمد» أعرف كل ما تقصده.. لكنني أريد سماع ما جرى لك بالتفاصيل الحية؟!.
- كنت مع العائلة في زيارة في شتاء 1996 إلى مصيف في تونس.. كنا في أسعد حال مع زوجتي و«أنكيدو» و«عشتار» (اسمْي ولِديه).. كنا نبكر في الصباح إلى الساحل القريب، ونستمتع بالماء والحرارة والرمل والشمس.. وكان ما يجري في مجرى اليوم طبيعيًّا مألوفًا نمارسه منذ سنين العمل والسفر للمتعة. لكن في صباح ما استيقظت ووجع خفيف يشد بشرة وجهي.. ذهبت إلى الحمام، ولما رأيت وجهي في المرآة تسمرت مذهولا، فقد كان نصف وجهي مشلولا لم أنجح في تحريكه.. هُرعت إلى زوجتي وهي تعمل ممرضة كما تعلم، فقطعت الرحلة على الفور.. عدنا إلى ألمانيا وابتدأت مسيرة العلاج الطويل والمستمر، منذ ذاك التاريخ حتى الآن.
- «إبراهيم» أنت تراني الآن في أفضل حال.. فقد كنت غير قادرٍ على النطق قبل خمس سنين!.
سألته عن تأثير ذلك على حياته، فقال:
- «إبراهيم» اختلف كل شيء.. فأنت تعرف أننا نعيش في بلدان رأسمالية لديها الفائدة بوصلة، ولما عجزتُ عن العمل، طردتني الشركة بطريقة مؤدبة.. منحوني التقاعد وذاك يجعلك تعيش بمستوى اجتماعي غير الأول.. ضعف موقعي والحمد لرب الكون، فلدي موهبة الرسم والنحت.. تفرغت لهما ووجدت عونًا من عائلتي..
في آخر جملة، وجدت صوته أخفت، فأدركت أنه لا يقول الحقيقة كاملة بما يتعلق بوضعه داخل البيت.
ثلاثة رجال من المدينة نفسها:
الأول مقطوع الساق..
والثاني مشلول نصفيًّا..
وأنا مشلول بالكامل..
نجلس في غرفة فندق بالست زينب
نرتشف الخمرة بهدوء
ونحلم
متحدثين عن آلامنا
عن أحلامنا
عما لا علاج له
عما رسخ بي حكمة مصور مجهول يدعى «شاكر ميم»
كون الحياة فقاعة!.
هاهو «أحمد» يجعلني بروايته أشد تعلقًا بفكرة كون العيش في الدنيا مجرد فقاعة.. فهو آخر من كنتُ أتوقع أن يتحول وضعه بهذه الطريقة الدرامية من ألمع مهندس كهرباء إلى متقاعدٍ.. من حالم قادرٍ إلى عاجزٍ حالمٍ:
- طزززززززززززززززٌ فيك.
صرخت بغتة، ونحن في قعر السكر، دون بيان، فعلق «عليّ»:
- أدري بكَ مخبول من أيام المدينة والجبل!.
كانت تلك الليلة من أسعد ليالي عمري وأشدها عمقًا.
لم نستمر في الشرب رغم إلحاح «علي».. فقد كان «أحمد» متفقا مع السائق في الساعة الثانية بعد منتصف الليل؛ حيث سنكون عند الفجر على نقطة الحدود العراقية السورية.. ولم يبق أمامنا سوى ساعة.. فقد دخلنا على الساعة الواحدة، ونحن نحتسي الخمرة مقلبين الشجون. قبل الثانية بربع الساعة، حضّرنا حقائبنا الصغيرة، متوقعين رنين التليفون الداخلي في أي لحظة، ونحن نستمع إلى نكات «علي»، الذي أحال ليلتنا ضحكًا متواصلًا، لم أضحك مثله منذ سنوات.