قراءة في كتاب -حزب الله من التحرير إلى الردع (1982-2006)-


صلاح الدين ياسين
2023 / 9 / 3 - 16:16     

كتاب من تأليف الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2006 بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي على لبنان. تتوزع الدراسة على خمسة فصول تندرج تحت قسمين رئيسيين. وفيما يتصل بالإطار الموضوعي للكتاب، يتناول الأخير بالدراسة والبحث حركة المقاومة اللبنانية "حزب الله"، من خلال إضاءة استراتيجية الحزب القتالية ونشاطه العسكري بدءا من نجاحه في معركة تحرير الجنوب اللبناني المحتل، والتي تُوجت بالانسحاب المخزي لقوات العدو من المناطق المحتلة سنة 2000، وصولا إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان (2006) وما أسفرت عنه من معادلة ردع عسكرية جديدة. كما لم يذهل الباحث عن تناول العقيدة الفكرية للحزب ومصادر قوته الأخرى غير العسكرية (السياسية، الإعلامية، الاجتماعية... إلخ).
أولا: كيف نجحت المقاومة اللبنانية في تثبيت معادلة توازن الردع؟
يشدد الكاتب على تقدير تَكَون لدى الحزب مفاده أن كسب معركة تحرير الجنوب في العام 2000 لا يعني أن الحرب وضعت أوزارها، الشيء الذي حدا به إلى بناء استراتيجية دفاعية مثمرة تحسبا لأية حرب مستقبلية، بحيث انبنت تلك الاستراتيجية على جملة من المقومات الصلبة، ومن بينها التركيز على تسليح المقاومة في مجال الصواريخ قصيرة المدى ومتوسطة المدى، تمرين المقاتلين على أسلوب حرب العصابات، تطوير البنية التحتية العسكرية (التحصينات الدفاعية، الأنفاق تحت الأرض، مخازن الأسلحة... إلخ). وهكذا، وضع العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006 نصب عينيه تقويض عناصر القوة العسكرية المتعاظمة لدى المقاومة اللبنانية.
وفي معرض تحليل الباحث أداء المقاومة في حرب 2006، انصرف بلقزيز إلى رصد الأداء السياسي والإعلامي للحزب اللذين اتصفا بالنجاعة والفعالية - في تقديره - إذ حرص قادة وأعضاء الحزب على التواصل المكثف والمنتظم مع الرأي العام من خلال منابره الإعلامية، فضلا عن التعاطي الإيجابي مع سائر القوى والتشكيلات السياسية الأخرى. أما فيما يخص الأداء العسكري للمقاومة، فقد مزجت الأخيرة بين أساليب الحرب غير النظامية (كحرب العصابات) وأساليب الحرب النظامية (القصف بالصواريخ)، كما أبانت عن كفاءة عالية من ناحية شل القدرات الاستخبارية للعدو واختراق أنظمة اتصالاته، بالإضافة إلى إجادة أساليب الحرب النفسية عبر بث حالة من الذعر والهلع في معسكر الخصم. وعليه، نجحت حركة المقاومة في تثبيت معادلة الردع الجديدة التي ستجعل الكيان الصهيوني يحسب ألف حساب عند التفكير في خوض أية مقامرة عسكرية في المستقبل المنظور.
وبناء على ما تقدم، يرى الباحث أن إسرائيل منيت بهزيمة فادحة في هذه الحرب، وآية ذلك اتساع الفجوة بين النتائج الميدانية المحدودة التي حققها جيشها والأهداف الرسمية المعلنة والضمنية، والتي كانت في أساس اتخاذ قرار خوض الحرب وهي: استعادة جنديين جرى أَسْرُهما من طرف حزب الله دون قيد أو شرط، تدمير القدرة العسكرية للمقاومة (ولا سيما صواريخها القادرة على النفاذ إلى العمق الإسرائيلي)، نزع سلاح حزب الله. كما سعت إسرائيل من وراء شنها للحرب إلى إحياء سيناريو الفتنة الطائفية الداخلية، وتأليب قوى اجتماعية وسياسية من الداخل اللبناني على المقاومة، عبر تحميلها تبعة الخسائر البشرية والمادية والاقتصادية التي تكبدها لبنان من جراء العدوان الإسرائيلي، وهو الرهان الذي لم تفلح في كسبه، بحيث تَحَقق قدر من الإجماع الداخلي والالتفاف الوطني حول المقاومة اللبنانية. وعطفا على ما سلف، يستدل الكاتب على وجاهة طرحه بالشرخ الذي أحدثته الحرب في الداخل الإسرائيلي، من قبيل النقد الداخلي غير المسبوق لأداء الجيش الإسرائيلي، وهو الذي كثيرا ما ظل بمنأى عن المساءلة والتجاذبات السياسية، بالإضافة إلى النقد اللاذع الذي طال الأداء السياسي للسلطة التنفيذية من قبل الرأي العام الإسرائيلي، مما آذن بحدوث متغيرات في المشهد السياسي الإسرائيلي من حيث صعود نجم قوى اليمين المتطرف.
ثانيا: في عقيدة الحزب وموارد قوته
تعزى الشعبية الكبيرة التي يحظى بها حزب الله في أوساط اللبنانيين، وخاصة في أماكن تواجد الشيعة في لبنان (جنوب لبنان، البقاع، ضاحية بيروت الجنوبية) إلى تأسيسه ما يدعوه الكاتب بشبكة واسعة من المؤسسات الاجتماعية والأهلية، والتي أتاحت له الاتصال المباشر بحاضنته الشعبية، وذلك بفضل ما تقدمه من خدمات اجتماعية (في مجال الصحة والتطبيب، الرعاية الاجتماعية لأسر الشهداء... إلخ) ووظائف أيديولوجية حيوية، بحيث تتوزع تلك المؤسسات على أربعة قطاعات أساسية: تعليمية، دينية، اجتماعية، إعلامية. وفيما يخص نوعية التأهيل التعليمي والتربوي الذي يتلقاه المتعلمون في مدارس الحزب، يؤكد الباحث بأنه ينبني على أساس عقائدي متين قوامه "المثال الحسيني المتعالي، وهو مثال يذهب بعيدا في استرخاص النفس"، إذ ترقى الشهادة إلى ما يشبه "فعلا شرعيا مقدسا"، الشيء الذي رجح كفة التنظيم الشيعي في ميزان الإرادات كما يسميه بلقزيز، برغم التفاوت الصارخ في ميزان القوى العسكري والتكنولوجي والاقتصادي لصالح الكيان الصهيوني.
ومن جهة أخرى، تعد المرونة والواقعية اللتان أظهرهما التنظيم في غير مناسبة من أبرز مصادر قوته، إذ يستدل المؤلف على تلك النزعة البراغماتية بولوجه ساحة العمل السياسي والنيابي، الأمر الذي يتعارض مع حسبانه بنية دوغمائية مغلقة، فتجربة الحزب تقدم مثالا صارخا – في تقدير الكاتب – على ذلك التساكن المميز بين الالتزام العقائدي والواقعية السياسية، فرغم اقتناعه العقائدي بنظرية "ولاية الفقيه" والدولة الإسلامية المؤسسة على الشريعة كما هو الشأن بالنسبة للتجربة الخمينية في إيران، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يصبح جزءا من النظام السياسي القائم، ونسج تحالفات مع قوى سياسية لا تشاطره المرجعية الأيديولوجية والمذهبية ذاتها. كما أن ثنائية المبدئية – البراغماتية نجدها حاضرة أيضا في بعض المواقف المتصلة بالصراع مع إسرائيل، من خلال استحضار سؤال الممكن والمتاح تبعا لطبيعة موازين القوى القائمة، من دون أن يعني ذلك التخلي عن الثوابت والأهداف الاستراتيجية للمقاومة.