الفجر الكاذب بصيغ ليبرالية للديموقراطية


المنصور جعفر
2023 / 9 / 2 - 16:03     

يقدم هذا النص السوداني صيغ تتحكم بها النخب في موارد ووسائل معيشة الناس قوامها صون وادامة ليبرالية التجارة والسوق، مع إشارة إلى مجافاتها صيغة الديموقراطية الشعبية.



1- موات الدولة:
لعل إنهيار دولة الحداثة في السودان بدأ في تخوم عام 1924 بقيام الإستعمار البريطاني بتخريب السودان بـ:
(أ) زيادة تفرقة الوجود السوداني والمصري على علاته، ومحاربة الكفاح المشترك،
(ب) زيادة الطائفية،
(ج) تزكية القبيلية،
(د) زيادة سيطرة الاستعمار على الموارد الطبيعية المشاعة أو المجتمعية،
(هـ) دعم التملك التجاري الفردي وتسيير الشركات الرأسمالية ذات التمويل أو الميل الاجنبي،
(و) زيادة التثقيف الأجنبي الأسلوب والأهداف واللغة،
(ز) تزكية البيروقراطية والمركزية في أمور الإدارة العامة وتخفيض النشاط الأهلي/ المدني،
(ح) محاربة الأفكار والأنشطة النقابية والثورية المعادية للاستعمار،
(ط) تزكية الأفكار والثقافة والحلول الجزئية الصغيرة وابعاد الناس عن الأمور الإستراتجية.
(ك) تبرير الازمات وإحالة أسبابها إلى خارج قدرات المجتمع والدولة إما بنسبتها إلى الطبيعة أو بنسبتها إلى القدر والله، وأحياناً ينسبونها إلى شرور شخصيات أو إلي نقص في المال!


زادت هذه التطفيفات العشرة حالات التمايز في المجتمع وبها ظلم العدل في نشاط الدولة -والعدل أساس الملك- ومن إضعاف العدل زاد التفكك والتناحر المعيشي والمجتمعي والثقافي والسياسي في وبين المجتمعات وصارت الدولة محركة للموات والإنهيار بدلاً لأن تكون محركة للنشاط والحياة والتنمية.


صارت غالبية هيئات التحكم تشتكي من ظلم بعضها ومثال هذا ن هيئة الزراعة تشتكي من ظلم هيئة الري وهذه تشتكي من ظلم الكهرباء والكهرباء تشكو ظلم الضرائب والكل يشتكي ظلم وزارة المالية وهي تشتكي من ظلم الاقتصاد والكل يشتكي من سيطرة ومركزية صندوق النقد الدولي هز يوجه بإصلاح كل شيء عبر إجراءات تخرب كل شيء وهكذا دوليك خراب وموات وانهيار اشده وجعاً ألماً في الطرف والهامش الضعيف البعيد عن المركز حيث يتم تجميع الخيرات المكونة بالام الناس في الأطراف وهوامش المدن.



2- الحلول الليبرالية المميتة:

في زوبعات الشحن والتفريغ الامبريالي الأمريكي والغرب الأوروبي لشؤون المنطقة مع وبعد الربيع العربي وما سبقه وتبعه من جبروت وسقوط التحكم الاسلاميين الطويل في السودان وقد كانت أطول فترات هذا التحكم منذ عام 1977 إلى عام 2019 بل إلى عام 2023 وقبلها فترة تحكم من تحت ستار الطائفية امتدت منذ عام 1965 إلى 25 مايو عام 1969 وقبلها تحت ستار حكم الجنرالات ومكافحة الخطر الشيوعي فترة امتدت منذ عام 1958 الى عام 1964.


في جملة أقصاها سبعون عاماً وأفلها ستة وستون عاما من نفوذ الاسلام السياسي الطائفي ثم الإخواني في الحياة الليبرالية السودانية في فتراتها الحزبية الرئاسة وفتراتها العسكرية الرئاسة زاد تفاقم الوضع المعيشي لمجتمعات وزاد الضعف الاداري والسياسي للدولة.


زاد التردي المجتمعي والسياسي بمواشجة لتعزيز وتدجين ليبرالية التملك والتجارة والسيطرة الراسمالية على معيشة غالبية الناس بسرعات زائدة بدأت منذ عام 1924 حين نشطت تراخيص وتمويلات الاستعمار الراسمالية الطائفية ثم عززتها في 30 مارس عام 1925 بقانون الشركات الذي جعلت نتائجه غالبية موارد الاقتصاد والمعيشة في يد أقل من عشرة أسماء أكبرها من الخواجات إلى يوم 25 مايو 1970 حين صدرت قرارات التأميم قبل ان تقوم نفس السلطة بعد ثمانية أعوام بفتح اقتصاد البلاد لشبكة من البنوك الإسلامية سيطرت على مقاليده الداخلية بينما سيطر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على أبوابه الخارجية وكينونته الدولية.


من ثم زاد التردي في المعيشة وتفككت أحوال المجتمع وتنازعت قواه رأسياً وأفقياً وضعفت السياسة واستحالت إلى أكاذيب واضطرابات حتى جاءت انتفاضة 2018 2019 وكسرت جبروت التحكم الاسلامي وأزالت رأسهم ولم تزل أسس واشكال النظام الذي أنتجهم والذي عززوه بمختلف أشكال التعزيز إلى عام 2023.


في هذا الاتون أو في هذا المستنقع وفي صور متفرقة عبر وفي وبعد أزمات أو اتفاقات أو مبادرات شتى تقدمت القوى العسكرية والحزبية النخبوية الداخلة منذ صيف 2019 في "شراكة الدم" بمشروعين متشابهين لبناء الدولة عروتهما الديموقراطية الليبرالية التي تحترم حرية النشاط التجاري الانفرادي وتملك أصحابه الأقلية لموارد مهمة لمعيشة غالبية المجتمع لكن بينما تزعم كل من القوتين ارتباط مشروعها بقيم العدل والمساواة فإن مشروع ايهما لم يمس أسس وآليات التفاوت المعيشي الطبقي والإقليمي والتمييز الاداري!



يعمد المشروع الأول إلى إصلاحات في جهاز الحكم وإدارات الدولة تعقبها إنتخابات ويستطيب المشروع الثاني إصلاحات (عميقة) في طبيعة الدولة الإدارية الاقتصادية تتلوها إنتخابات (تبدو نصف ليبرالية نصف شعبية)، ثم انقسم كل مشروع حول أوضاع القوات العسكرية وتوقيت إصلاح قيادة الجيش أو القيادة المشتركة لكل القوات!؟ كما شمل الاختلاف وضع وقراءة وضع بعض الاسلاميين داخل أو خارج ، ضد أو مع الإصلاحات!؟


بالانقسامات الإجرائية الشكلية أو بالانقسامات الإنتهازية صار أو أصبح لكل حزب وجودين ولسانين أي وجود ولسان في كل مشروع! وفي هذا الخضم ارتفعت أسهم ومدافع مشروع قوات الدعم السريع كما ارتفعت مسألة كيفية ضم/محاربة الفلول/الكيزان وما يلزم لكل من ضم ومحاربة من إجراءات قبل أو بعد الانتخابات الموعودة التي لم يحدد أي طرف نوعها آو ملامحها بصورة قاطعة، كما لم يحسم أي طرف مسألة الدستور ولم يتناول بقوة عقد المؤتمر الدستوري.


غموض المختلف عليه وغموض المتفق عليه غموض كثيف في هذه المشروعات وتعديلاتها وتأجيلاتها وانقساماتها وحتى في حربها ويواشج الغموض الصيغ المتكلم بها والمكتوب بها كل شأن في هذه المشروعات بتاُثير ثلاثة عوامل:
(أ) مصالح تجارية ومناصب حكومية القوى الليبرالية السودانية،
(ب) تأثير المصالح الإمبريالية لغرب أوروبا والولايات المتحدة،
(ج) تأثير اختلاف المصالح الإقليمية: فبعض الدول العربية تخشى خطر الإنفراد الافريقي بالسودان بينما تخشى دول إفريقية على تماسك مجتمعاتها من نفوذ ثقافة النخب السودان العروبية والحركية الاسلامية.

في فترة هذا الغموض وحربه الظاهرة المستمرة منذ 15 أبريل 2023 والتي زادت حتى سفر الرئيس البرهان إلى القاهرة وجدة تقدم في الاعلام مشروع جديد لقوات الدعم السريع قدمته في خضم حربها المتعددة الأشكال ضد الاسلاميين ونخبتهم في الجيش والقوات التابعة لهم أو للجيش تحاول به تقييم وتنمية الموقف السياسي! وتقديم صورة واهية عن مستقبل ديموقراطي للبلاد ! وفي نفس الفترة استعرت في كثير من نقاشات الحرب نقاشات جانبية حول المواطنة وانواع ومصير كل نوع من الاسلاميين؟ ونوع وشروط التعامل مع كل نوع منهم ؟ وتوقيت التعامل معهم؟ وإزاء الاثنين ثمة رأي أبينه بهذا النص قد يفيد المتعاملين مع القضايا المواشجة لهم:



3- حول برنامج قوات الدعم السريع لبناء الدولة الجديدة ومافيه من نقاط قوة/ضعف:

(أ) أتى تلخيص البرنامج شبه كل الكلام الليبرالي النخبوي المكرور في السودان منذ عام 1924 حيث يريد برنامج قوات الدعم السريع إقامة دولة شبه مثالية للعدل والسلام بدون إجراء تغيير جذري -شعبي الترتيب- في نظام تملك وإدارة موارد المعيشة والتنمية!

(ب) الكلام جاء مشرق المحيا ومظلم الدواخل لكنه بوضوح كبير يكرر الإعتماد على نفس أساليب الديموقراطية النخبوية التي تجافي السيطرة المباشرة الواضحة والشمولية لفئات الكادحين ومجتمعات العمل العام على عملية التشريع وإدارة الموارد والتنمية بداية من الوحدات الأساسية للمنظمات الفئوية والجماهيرية وللحكم الشعبي في مناطق السكن ومجالات العمل. (الكادحين = الرعاة، الزراع، العمال، الحرفيين، المهنيين) . (مجتمعات العمل العام = المجتمع الأكاديمي، مجتمع الجمعيات التعاونية، المجتمع النقابي، المجتمع العسكري، المجتمع التجاري، إلخ)

(ج) في بلاد مزدحمة بمختلف أشكال التفاوت والفروق الطبقية والاقليمية والعنصرية الخ تكلم البرنامج بشكل جميل عن "العدل" وعن "المساواة" لكنه ضد كلامه عنهما يحافظ نفس البرنامج على حرية التملك التجاري الإنفرادي لموارد المجتمع، وهي نفس الحرية التي تخلق وتزيد وتفاقم عدم المساواة بتغذيتها التفاوت الطبقي والتفاوت الاقليمي، وثقافاتهما وما تؤديان إليه من نخبوية ومركزة وتهميش وعنصرية وتوترات وتمايزات وتفكك وتناقض ونزاعات!

(د) كاي برنامج ليبرالي يركز برنامج الدعم السريع على إبعاد فوقي عسكري وحزبي وبوليسي لأولياء الشيطان واخراجهم من سدة الحكم ومقاليد ادارة الدولة لكنه ضد هدفه في تطهير وتنمية الحياة السياسية فإنه بسماحه بحرية التجارة والتملك التجاري الهبتلي يجدد نظام انتاج التفاوت الذي بدوره يعيد خلق وانتاج أولياء الشيطان وينتج معهم الأفكار والممارسات المتطرفة!



4- حول الاسلاميين الكيزان:
كان ولم يزل بالإمكان على قيادة قوات الدعم السريع النظر الى حقيقة متعددة في حياة الاسلاميين هي:

(أ) ان كثير منهم إما مجاهدين للخروج من الفقر ب"البركة" أو مجاهدين للمحافظة على الثراء والغنى على حساب الفقراء بنفس "البركة"!

(ب) إن فقراءهم وأغنياءهم يريدون تحقيق هذه البركة عبر شبكة انتظامات وتنظيمات تقربهم لبعضهم وإلى لله والبركة بدولة يعتقدونها "اسلامية"!

(ج) ان دولتهم ليست دولة كل الناس ((كما آمن السفهاء)) بل هي الدولة التي تمكنهم من السيطرة المعيشية والثقافية والسياسية والعسكرية على المجتمع وتخرجهم وحدهم من الضغط الإقتصادي والسياسي لنظام السوق بسيطرتهم على مفاتيحه!

واقعياً، بدون تأسيس هذه الدولة يعاني فقراء الاسلاميين من ويلات الاستغلال الطبقي والتهميش الإقليمي، بينما يظنون انهم بهذه الدولة الظالمة سينجون من الاستغلال والتهميش بتغيير وضعهم الشخصي في النظام الطبقي تاركين غالبية الناس الكادحين يرسفون في البؤس والمعاناة وبهذه المخارجة الشخصية يحسبون ان دولتهم هي العدل!

أما طفيلية الاسلاميين المالية الثرية عابدة المال وكانزة مختلف أنواع الذهب والأرصدة التي تزيد قيمتها وفاعليتها على قيمة وقدرة الذهب فطفيلية تجارية ورأسمالية تؤلمها الحريات التي تكشف جرائمها وتسمح للنقابات بالاحتجاج ضدهم، لذا فان هذه الطفيلية تريد دولة الاسلام رأسمالية واحدية وقمعية.

الطرفان الإسلاميان الفقير والغني يرفضان الدولة العلمانية الليبرالية لأسباب من اهمها في التحليل الإقتصادي انها دولة لا تحميهم من الفقر ولاتؤمن الثراء فيهم بل تزيد مضاربات السوق بكل تقلباته وخسائرها. من ثم يجتمع الطرفان الفقير والغني تحت راية الاسلام السياسي وأفق دولته الخلافية ضد العلمانية التي لا تحقق لهم الأمان المعيشي. لكن باجتماع وتحزب نخب الضدين لا تفعل نخبتهم الحزبية بقوتيها المجتمعية والعسكرية سوى ان تبدل ليبرالية سوق نخبة العلمان بليبرالية سوق نخبة المنظومات التمولية المنتسبة إلى الإسلام، وبالتالي تستمر سيطرة النخب التقليدية والحديثة على أمور الدولة وعلى معيشة وقرار غالبية الناس، وبنفس الروح والنظم النخبوية في الدولة والمجتمع يستمر نشاط طبقة الفئات الرأسمالية في استغلال طبقة الفئات الكادحة. تغيرت الرايات والأسماء السياسية وموات المعيشة واحد بالنسبة لغالبية الناس الكادحين.


الهزيمة البنيوية لهذا المشروع البركاوي تتطلب وقف كل المحركات الاقتصادية التي تنتجه، وأكبرها نظام حرية التملك والنشاط التجاري الهبتلي، أما الكلام الجميل عن إنهاء ظاهرة سياسية اقتصادية وثقافية وترك الأسباب التي تنتجها فقد تم تجريب فشله مراراً وتكراراً. كذلك فان التعويل الكثيف على الإجراءات الاحترازية والأساليب الضبطية يؤدي إلى نموء سلبيات الدولة البوليسية والمشاعر الظلامية التي تعزز نموء الافكار والأنشطة غير العقلانية وغير الإجتماعية.

إنتهى