ليبرالية الحكم العسكري والحزبي في دولتي الحداثة والإسلام


المنصور جعفر
2023 / 9 / 1 - 09:13     

هذا راي ضد ربط قوة الدولة بتغيير مسميات هيئاتها دون تغيير نظام معيشة الناس والتنمية فيها.


عروة قول الترابي عن سيطرة الإسلاميين على الجيش أنها سيطرة تؤمن تحكيم الاسلام وتمكنه وترسخه وهو كلام مخالف لتاريخ طويل قدره 1400 عام من التمردات والانشقاقات و والانقلابات في جيوش الخلافات الاسلامية.


في معسكر الاراء الليبرالية الحداثوية والاسلامية فات على الإسلاميين وعلى الحداثيين منذ ما قبل أيام الترابي وإلى مستقبل قريب ان الجيوش في الدول الليبرالية تعمل بأمر قادتها لتحقيق مصالحهم الظاهرة والباطنة مع قوى النفوذ والهيمنة التجارية والسياسية. من ثم لا يوجد في دولة ليبرالية جيش رسمي أو جيش يتبعه يعمل لـ"مصلحة الشعب والوطن،" كما يقال، وذلك بحكم أن ليبرالية التجارة تقسم المجتمع إلى طبقات وبالتالي تخفض تماسك المجتمعات والدولة وتغيب الكينونة الشعبية للدولة والكينونة السياسية للشعب، والكينونة الديموقراطية للوطن الذي تتم خصخصته، كذلك تغيب في الدول الليبرالية الكينونة الوطنية والشعبية للديموقراطية بفعل الأحزاب النخبوية التجارية التوجيه وبفعل الجيوش ذات القيادات المواشجة للسوق.، ففي مختلف حالات الليبرالية تنطفيء المعاني التي تلقنها للناس منظومة التعليم والتثقيف والأدلجة للمفردات الكبيرة مثل مفردات: "الشعب" و"الوطن" و"الجيش" و"الحرية" و"الدين"، والديموقراطية،..إلخ.


في غالبية دول العالم يتحكم السوق وكبراء السوق في مجريات الحياة العامة، يتبعه قادة العمل السياسي وقادة المخابرات والجيش الخ. فإن كانت الدولة الليبرالية الاقتصاد والتجارة ذات رئاسة عسكرية كغالبية الدول والرئاسات المألوفة في العالم الثالث خفتت نجومية الأحزاب وكان تحكم قيادة الجيش في بقية فئات المجتمع - عدا الشريحة الراسمالية الكبيرة العلاقات- تحكماً ظاهراً برئاسة نابليونية، وهي رئاسة تزعم لتبرير سيطرتها ان وجود البلاد أو قيمها يواجه خطراً وجودياً يهدد وحدتها الشعبية أو وحدتها الوطنية أو يهدد من الخارج "سيادة الدولة" أو يهدد الوحدة والسيادة معاً.


في حالتي الخطر يصون الجيش بصورة نسبية أجزاء من حرية بعض الأفراد في تملك موارد المجتمع تملكاً انفراديا محوره الإستغلال التجاري لبعض حاجات الناس أو الإستغلال الرأسمالي لحاجاتهم وجهودهم.

أي ان تحكم الجيش في أمن وفاعلية الدولة الليبرالية سواء كان علمانياً أو اسلامياً هو جزء أصيل من تحكم النظام التجاري الرأسمالي الكينونة وليس تحكم عابر لمجموعة حزبية أو ربع حزبية في مجموعة عسكرية، أو تحكم طارئي لنخبة عسكرية في مجموعة أو منظومة سياسية، بل الحقيقة الموضوعية هي وجود ونشاط الجيش في الدولة كأداة تحكم طبقي.


كذلك فات على الاسلاميين وكثير من خصومهم ان الجيوش في الدول الليبرالية الامبريالية ذات الرئاسة الحزبية جيوش تتحكم في كثير من أمور الأحزاب والحكم والاقتصاد والعلاقات الخارجية تحكماً دقيقاً عبر أربعة منظومات هي:

(أ) المنظومة القانونية:
هي منظومة مكونة من مواثيق وقوانين وبرامج وسياسات متنكرة في عبارات "الأمن القومي" و"المحافظة على المصالح الحيوية للدولة" (بمعنى المحافظة على هيمنة البنوك والشركات على أعمال المجتمع والنشاط الإمبريالي) و"المحافظة على السلم الإجتماعي" (بمعنى المحافظة على نظام الاستغلال الطبقي) و"حماية التملك الخاص" أي التملك الرأسمالي لموارد المجتمع)، و"عدم إثارة الكراهية" (بمعنى دم اثارة ضد الطبقة المتحكمة) و"عدم التآمر لفرض سيطرة أو لإعاقة حرية تجارية" (اضرابات عمالية غير مأذونة، أو كارتيلات ربح غير مأذونة) و"عدم اصطناع أو نشر مواد تهدد الأمن والنظام" بتحريض مباشر او غير مباشر على "العنف أو تؤدي إليه"!، وكلها أمور ضابطة تأبد التحكم الرأسمالي وتحمي استبداده بميثاق سياسي يسمونه "الدستور" ونصوص واجراءات جنائية يسمونها "القانون" وضباع لها يسمونها "اللوائح" وموجهات تسمى "البرامج" إضافة إلى إنفاذها بواسطة أنواع من العقود والموجهات والأوامر مع متابعة صارمة وتسهر على تمكينها وتنفيذها وتقويتها كل هيئات الدولة خاصة هيئات الأمن والمخابرات وكتائب الظلام العاملة بأمرها بكل الأساليب.

(ب) منظومة التحكم في أشخاص ومهمات مناصب الهيئات السياسية والحزبية والإدارية والتجارية والإعلامية عبر أساليب المخابرات ذات الإغراء والتهديد وأحياناً القتل.

(ج) منظومة التحكم المعرفي والثقافي والإعلامي المزينة أنشطة التحكم والسيطرة الرأسمالية وامتداداتها الامبريالية، بان تقدمها إلى الأذهان كأنشطة منطقية وضرورية لحياة المجتمع وانها قابلة للإصلاح والتحسين بنفس الأدوات السامة والمدمرة التي كونتها وكرست مظالمها!

(د) منظومة العلاقات الخارجية المؤسسة بشكل كبير على التعاون العسكري ذو التبعية والخضوع سواء بتبعية غرب أوروبا لأمريكا أو بتبعية غالبية دول العالم الثالث لمراكز الإمبريالية في غرب أوروبا والولايات المتحدة، تبعية القن للسيد.


في النظام الليبرالي ذو الرئاسة الحزبية تقوم مؤسسات الأمن والاستخبارات من خلال ضبطها المنظومات الأربعة بدور حاسم في توجيه وضبط النشاط السياسي والاقتصادي والثقافي والدولي للهيئات والأفراد رغم انها مؤسسات غير منتخبة لكن اضبطها أمور الحكم جزء عضوي من منظومة التحكم الرأسمالي منذ تكوينه الجيوش والحكومات الحديثة في القرن السابع عشر.


إذن في حالتي الدولة الليبرالية حالة الرئاسة الحزبية أو حالة الرئاسة العسكرية فإن سيطرة الجيش والمخابرات والميليشيا على تفاصيل الدولة أمر معلوم نسبياً وله اما انقلابات ظاهرة كما في دول العالم الثالث أو انقلابات ذات أشكال مدنية ناعمة في العالم الإمبريالي. وفي الحالتين تضاد الدولة الليبرالية أسس واشكال "الديمقراطية الشعبية".


نعم أكثر ما فات على غالبية الاسلاميين وما لن يدركوه بسهولة ان أسلمة الجيش لا تعني رسوخ واستقرار تحكمهم فما أكثر التمردات والانقلابات التي نفذتها قيادات الجيوش الاسلامية خلال ألف وأربعمائة عام من التحكم الاسلامي السياسي في شؤون البلاد ومجتمعاتها، كما إن أسلمة الدولة لا تعني نهاية سيطرة السوق وتماسيح السوق على تفاصيل المعيشة والمجتمع والدولة بل إن الأسلمة كانت هي بداية توحش السوق وتماسيحه بحكم تقديسها اعمال الدولة.


أما الليبراليين الحداثويين فلم يزلوا في الوهم التليد ان تكوين حكم وجيش من الموسمين بأنهم "كفاءات وطنية" سينقل البلاد من حال الموات إلى حال النشاط وما دروا أن تناقضات النظام الليبرالي هي التي دمرت مأ كانت تحاول كل كفاءة ان تنجزه.


الخلاصة: إن إعلان أسلمة الجيش أو الحكم أو إعلان وطنية الجيش أو الحكم هو مجرد إجراء شكلي لتبرير تحكم سياسي لكنه لا يلغي استبداية السوق والجيش في النظم الليبرالية ولا يخفي كينونتهم التجارية الطفيلية كجزء عضوي في ليبرالية السوق، سواء كانت دولة السوق هذه دولة حزبية الرئاسة أو دولة عسكرية الرئاسة، علمانية أو إسلامية.

وهكذا كانت الدولة التي ماتت في السودان بمختلف مسمياتها إذ كانت ولم تزل بقاياها مثل غالبية دول العالم الليبرالية مجرد دولة عنف تجاري التعامل والهدف تتحكم في أمورها شؤون العرض والطلب والنظم اللازمة لربح النخبة الرأسمالية من حاجات وجهود وآمال فئات الطبقة الكادحة، من ثم فإن تغيير مسميات هيئاتها لم يغير طبيعة هذه الهيئات. بل صارت الأمور تحتاج إلى إعادة بناء متكامل للنظم الاقتصادية والثقافية والإجتماعية والسياسية في كل المنطقة وليس في جزء واحد منها.

انتهى