مجزرة الطنطورة

محمود الصباغ
2023 / 8 / 31 - 08:01     

"هناك مقبرة جماعية للفلسطينيين.. هناك على شاطئ إسرائيلي شهير"
"إذا كنت لم أتحدث عما حصل في ذلك الوقت، فلا يوجد سبب يجعلني أتحدث عنها اليوم"
"لقد تكتموا على الأمر.. باختصار شديد ؛لا ينبغي الحديث عما جرى؛ فقد يتسبب بفضيحة.. لا أرغب في الحديث عن الأمر، لا أريد.. لكنه حصل؛ فماذا يمكنك أن تفعل، لن تغير من الأمر.. لقد حدث ما حدث"
"نعم.. كنت قاتلا. لم آخذ سجناء.. لم أحسب كم عدد العرب الذين قتلتهم بعد المعركة... كان معي مدفع رشاش به 250 رصاصة. لا يمكنني معرفة كم عددهم".
""لقد حرصوا على إخفاء القبر الجماعي، بطريقة تجعل الأجيال القادمة تسير هناك دون معرفة ما تطأه أقدامهم".
هذا بعض ما قاله محاربون إسرائيليون عن بعض معارك العام 1948، وتحديداً عن مجزرة الطنطورة، القريبة الصغير التي تبعد عن حيفا نحو 25 كلم إلى الجنوب.، يعترف هؤلاء بدورهم في عمليات القتل الجماعي لأهالي القرية من العرب الفلسطينيين العرب بعد سقوط البلدة واستسلام أهلها..
مرت 23 عاماً منذ الضجة التي أثيرت حول ما حدث أثناء احتلال القوات الإسرائيلية لقرية الطنطورة، شمال قيسارية على ساحل البحر، خلال حرب العام 1948. وأثير سجال ونقاش واسع وساخن في أعقاب أطروحة ماجستير كتبها طالب دراسات عليا إسرائيلي يدعى ثيودور كاتس ، والتي تضمنت شهادات حول الفظائع التي ارتكبها لواء ألكسندروني ضد أسرى الحرب العرب. أدت الأطروحة إلى نشر مقال في صحيفة معاريف بعنوان "مذبحة الطنطورة". غير أن كاتس اضطر للتراجع عن سرديته حول المجزرة بعدما رفعت ضده دعوى تشهير رفعها قدامى المحاربين من لواء ألكسندروني.
بعد حادثة الدعوى ضد كاتس، ألقيت نتائج بحثه في الأدراج وبقيت قيد الأرشفة ، ودارت نقاشات عديدة اتخذ شكل مناظرات بين المؤرخين؛ وما زالت مفاعيل أطروحة كاتس حية ويتم نقاشها بين العديد ممن أعمارهم 90 عاماً وما فوق، وقد اعترف العديد من جنود لواء ألكسندروني بوقوع مذبحة في الطنطورة في العام 1948؛ حيث يقع الآن شاطئ دور الشهير، المجاور لكيبوتس نحشوليم. ويصف هؤلاء مشاهد ما حصل بطرق مختلفة، ولا يمكن تحديد عدد الفلاحين من سكان القرية الذين قتلوا بالرصاص. وتتراوح الأرقام الملتقطة من الشهادات بين عدد قليل إلى عدة عشرات من القتلى، ووفقاً لإحدى الشهادات، التي قدمها أحد سكان زخرون يعقوب الذي ساعد في دفن الضحايا، تجاوز عدد القتلى 200 قتيل، على الرغم من عدم وجود ما يؤكد دقة هذا الرقم المرتفع.
وفقا لموشيه ديامانت -المقاتل السابق في لواء ألكسندروني – تم قتل الفلاحين رمياً بالرصاص على يد شخص "متوحش" مستخدماً مدفعاً رشاشاً ، وذلك بعد أن كانت المعركة قد انتهت.. وبخصوص دعوى التشهير ضد كاتس في العام 2000، يقول ديامانت إن جنود اللواء السابقون فهموا ضمنيا أن عليهم التظاهر بعدم حدوث ما هو غير عادي بعد الاستيلاء على القرية؛ "لم نعرف.. لم نسمع.. ولكن، بالطبع، الجميع يعرف.. كلهم يعرفون". ويقول حاييم ليفين وهو مقاتل آخر من اللواء أن أحد أفراد الوحدة أخذ مجموعة من الأسرى عددهم 15 أو 20 أسيراً "وقتلهم جميعا"، ويشرح ليفين كيف شعر بالفزع بسبب ذلك ، وتحدث إلى رفاقه في محاولة لمعرفة ما يجري فقيل له: " أنت لا تعلم كم من [رجالنا] قتلوا أعداداً منهم" . ويقول ميخا فيتكون، وهو مقاتل آخر في اللواء، عن ضابط "صار فيما بعد مسؤولاً كبيراً في وزارة الدفاع. كان يقتل بمسدسه عربياً تلو الآخر. لقد كان منزعجا بعض الشيء ، وكان ذلك أحد أعراض اضطرابه ". ووفقا لفيتكون، فعل الجندي ما فعله لأن السجناء رفضوا الكشف عن مكان إخفائهم للأسلحة المتبقية في القرية. ووصف مقاتل آخر حادثة مختلفة وقعت هناك: "ليس ظريفاً الحديث عن الأمر، لكني سأقول.. لقد وضعوهم [ أي العرب] في برميل وأطلقوا عليهم النار وهم بداخله . ما زلت أذكر كيف سال الدم في البرميل". ولخص أحد الجنود بالقول إن رفاقه في السلاح ببساطة لم يتصرفوا كبشر في القرية - ثم عاد لصمته .
تظهر هذه الشهادات وغيرها في مشروع توثيق للمخرج ألون شوارتس بعنوان "Tantura"، [ عرض على الأنترنت في مطلع العام 2020؛ كجزء من مهرجان سانداس السينمائي في يوتا/ الولايات المتحدة]، يحاول في المخرج دحض نسخة سردية المجزرة التي انتشرت بعد دعوى التشهير واعتذار كاتس. وبرغم أن شهادات الجنود في الفيلم (بعضها سجله كاتس ، والبعض الآخر سجله شوارتس) ظهرت في الفيلم بشكل جمل متقطعة، وشظايا اعترافات، إلا أن الصورة العامة التي يحاول الفيلم إظهارها تبدو واضحة: لقد قام جنود في لواء ألكسندروني فعلاً بذبح رجال عزل بعد انتهاء المعركة. وفي الواقع، لم يعرض الفيلم الشهادة التي جمعها كاتس إلى المحكمة خلال محاكمة التشهير، التي تمت تسويتها في منتصف الطريق خلال الإجراءات وجمع الحيثيات. ويشير سماع التسجيلات إلى أنه لو كانت المحكمة قد استجوبت أصحاب الشهادات تلك، في ذلك الوقت، لما اضطر كاتس إلى الاعتذار. لقد حمل كلام الجنود، الكثير من التلميحات في أحيان عديدة.. لقد كان حديثهم مقتضباً ومجتزئً، لكن حتى هذا التلميح والاقتضاب أضافا معاً لبنة في سلم الوصول إلى الحقيقة الناصعة. فها هو شلومو عمبار الذي صار عميداً الآن ورئيس الدفاع المدني الذي كات سابقاً " السلف لقيادة الجبهة الداخلية اليوم" .. ها هو يقول رأيه فيما حدث : "ماذا تريد مني أن أقول؟.. أن أتحول إلى شخص بمشاعر رهيفة و وأكون روحاً رقيقة وحساسة وأتحدث شعراً؟ هل تريد ذلك؟ لن يحصل هذا.. ، كل ما في الأمر أن الأمور انحرفت قليلاً؛ وأوضح عمبار، متحدثاً في الفيلم، أنه لم يرتاح لما حصل في الطنطورة: "ولكن لأنني لم أتحدث في ذلك الوقت، فلا يوجد سبب يجعلني أتحدث عنها اليوم". ولكن إحدى أقسى شهادات فيلم شفارتس تلك التي قدمها عميتسور كوهين ، الذي تحدث عن فترة خدمته الأولى كجندي مقاتل في الحرب: "كنت قاتلاً. لم آخذ سجناء". ويذكر أنه لو كان أمامه فرقة من الجنود العرب مستسلمين وأيديهم مرفوعة، كنت سأطلق النار عليهم جميعاً، ويعترف كوهين بأنه لم يحصِ عدد من قتلهم من العرب بعد انتهاء المعارك، هو لا يعرف عدد من قتلهم، كان بحوزته مدفع رشاش مذخر بـ 250 طلقة .
تنضم شهادات جنود لواء ألكسندروني إلى الشهادات المكتوبة السابقة التي قدمها يوسف بن إليعازر قبل نحو عقدين : "كنت أحد الجنود الذين شاركوا في احتلال الطنطورة.. كنت على علم بجريمة القتل في القرية. بعض الجنود نفذوا عملية القتل بمبادرة ذاتية من تلقاء أنفسهم". وتشير الشهادات والوثائق التي جمعها شفارتس لفيلمه إلى دفن الضحايا بعد المذبحة في مقبرة جماعية تقع الآن تحت موقف سيارات شاطئ دور. وقد حفر القبر خصيصاً لهذا الغرض ، واستمرت عملية الدفن لأكثر من أسبوع. في نهاية أيار 1948، بعد أسبوع من احتلال القرية، وبعد أسبوعين من إعلان الدولة، تم توبيخ أحد القادة الذي كان متواجداً في الموقع لعدم تعامله بشكل صحيح ومناسب في مهمة دفن جثث العرب. وفي 9 حزيران، أفاد قائد القاعدة المجاورة: "بالأمس تفقدت المقبرة الجماعية في مقبرة الطنطورة. وجدت كل شيء على ما يرام."
بالإضافة إلى الشهادات والوثائق، يقدم الفيلم استنتاجات بعض الخبراء الذين قارنوا الصور الجوية للقرية قبل وبعد احتلالها حيث تظهر هذه المقارنة وكذلك استخدام التصوير ثلاثي الأبعاد باستخدام أدوات جديدة ، من الممكن ليس فقط تحديد الموقع الدقيق للقبر ولكن أيضا تقدير أبعاده: بطول 35 متراً وعرض 4 أمتار. يقول كاتس في الفيلم: "لقد حرصوا على إخفائه، بطريقة تجعل الأجيال القادمة تسير هناك دون معرفة ما الذي كانوا يخطون عليه".
يلقي اعتراف عناصر لواء ألكسندروني ضوءً جديداً على المحاولة البائسة لإسكات تيدي كاتس.
في آذار 1998، بينما كان كاتس طالب دراسات عليا في جامعة حيفا، قدم أطروحة ماجستير إلى قسم تاريخ الشرق الأوسط. عنوانها: "خروج العرب من القرى عند سفح جبل الكرمل الجنوبي في العام 1948". حصل كاتس، الذي كان في الخمسينيات من عمره، على درجة 97. وفقاً للعرف، تم إيداع الأطروحة في مكتبة الجامعة، وكان المؤلف ينوي المضي قدماً في دراسات الدكتوراه. لكن خطته تعثرت. وفي كانون الثاني 2000، استعار الصحفي أمير جيلات الدراسة من المكتبة ونشر مقالاً عن المجزرة في صحيفة معاريف، مما أثار عاصفة من الجدل؛ إلى جانب دعوى التشهير التي بدأتها جمعية قدامى المحاربين من كتيبة ألكسندروني ، ودخلت الجامعة أيضاً في حالة من الفوضى والاضطراب، وقررت تشكيل لجنة لإعادة فحص أطروحة الماجستير. على الرغم من أن المراجعين الأصليين وجدوا أن كاتس قد أكمل الأطروحة بامتياز، وعلى الرغم من أن الرسالة استندت إلى عشرات الشهادات الموثقة -لجنود يهود ولاجئين عرب من الطنطورة – فقد قررت اللجنة الجديدة إلغاء الأطروحة.
لا تخلو ورقة كاتس من الأخطاء والعيوب، بطبيعة الحال، ولكن ربما يكون الهدف الأساسي للانتقادات ليس رسالة كاتس بعينها بل جامعة حيفا، التي مشت مع البحث والكتابة بطريقة غير مكتملة، وبعد الموافقة عليها عادت وتبرأت من طالبها. وقد مكّن هذا السلوك من إسكات وقمع الحديث عن الأحداث الدامية في الطنطورة على مدى سنوات. وبالنسبة لكاتس، لم يتطلب منه الأمر أكثر من جلسة استماع واحدة في المحكمة للتوقيع على رسالة اعتذار يعلن فيها عدم وجود مجزرة في القرية؛ وأن أطروحته كانت ناقصة وغير مكتملة الأركان . وفي حقيقة الأمر، تراجع كاتس عن اعتذاره بعد ساعات قليلة فقط من خروجه من المحكمة، كما أن محاميه، أفيغدور فيلدمان، لم يكن حاضراً في الاجتماع الليلي الذي تعرض فيه كاتس للضغوط التي أدت إلى تراجعه عن أطروحته.
نسي كاتس أمر المحكمة ، ودفن اعتذاره عن النتائج التي كشفت عنها الأطروحة ، ولم تخضع تفاصيل المذبحة بعد ذلك لتدقيق شامل.
توصل المؤرخون الذين تناولوا هذه الحادثة - من يوآف جيلبر إلى بيني موريس وإيلان بابيه - إلى استنتاجات مختلفة ومتناقضة. وأكد جيلبر، الذي لعب دوراً رئيسيا في معركة التشكيك برسالة كاتس، أن بضع عشرات من العرب قتلوا في المعركة نفسها، ولكن لم تحدث مذبحة. ومن جانبه ، اعتقد موريس صعوبة، بل استحالة، تحديد ما حدث بشكل واضح، لكنه يفسر كيف "خرج بشعور عميق بعدم الارتياح" بعد قراءة العديد من الشهادات وإجراء مقابلات مع بعض قدامى المحاربين في كتيبة ألكسندروني. أما إيلان بابيه ، الذي شارك في نقاش حظي بتغطية إعلامية كبيرة مع جيلبر حول أطروحة كاتس، يؤكد أن مذبحة قد ارتكبت في الطنطورة بالمعنى المباشر والصريح للكلمة.
والآن، ومع ظهور الشهادة في فيلم شوارتس، يبدو أن النقاش قد حسم.
في أحد المشاهد الأكثر إثارة في فيلم شوارتس، تظهر قاضية دعوى التشهير ضد كاتس درورا بيلبيل وهي تستمع إلى تسجيل لإحدى مقابلات كاتس؛ وكانت هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها القاضية "المتقاعدة الآن" الشهادات التي جمعها كاتس، والذي أدى اعتذاره المتسرع إلى إنهاء المحاكمة بسرعة. وتقول القاضية بيلبيل بعد ما سمعت الشهادات: "إذا كان هذا صحيحاً، فهذا أمر مؤسف"، تقول القاضية جملتها تلك للمخرج بعد أن رفعت السماعات عن أذنيها وتتابع : "إذا كان بحوزته كل هذه الأشياء، فقد كان عليه الذهاب حتى النهاية.".
تمثل قضية الطنطورة الصعوبة التي واجهها الجنود في حرب 1948 في الاعتراف بالسلوك السيئ الذي ظهر في تلك الحرب: أعمال القتل والعنف ضد السكان العرب والطرد والنهب. ولعل الاستماع إلى شهادة الجنود اليوم، يعبر عن فهم قوة التواطؤ عبر الصمت والإجماع على أن هناك أشياء لا يتحدث عنها المرء، إذا نظرنا إلى الموقف الموحد الذي أظهره الجنود عندما قاموا بمقاضاة كاتس. ومن المأمول، مع مرور الوقت، التعامل مع هذه الموضوعات بسهولة أكبر. ومن العلامات المشجعة المحتملة في هذا الاتجاه حقيقة أن الفيلم عن الطنطورة تلقى تمويلاً من هيئات رسمية مثل Hot cable network و New Fund for Cinema and Television.
لن يتم التحقيق بشكل كامل في الأحداث المروعة التي حصلت في الطنطورة ، ولن تعرف الحقيقة الكاملة. ومع ذلك، هناك شيء واحد يمكن تأكيده بقدر كبير من اليقين: تحت موقف السيارات في أحد أكثر مواقع المنتجعات الإسرائيلية المألوفة والمحبوبة على البحر الأبيض المتوسط، تكمن رفات ضحايا إحدى أبشع مذابح [حرب الاستقلال].
......
المصدر:https://www.haaretz.com/israel-news/2022-01-20/ty-article-magazine/theres-a-mass-palestinian-grave-at-a-popular-israeli-beach-veterans-confess/0000017f-f230-d223-a97f-fffdbd5b0000