عمر خيرت ... يعزفُ صمتًا


فاطمة ناعوت
2023 / 8 / 27 - 10:21     

“عمر خيرت" … يعزفُ صمتًا!

عام ١٩٠١، فرش الإيطاليون الطرقاتِ في وسط مدينة ميلانو بالقش، حول منزل الموسيقار العظيم "جوزيبيه فيردي"، مؤلف أوبرا "عايدة"، حتى لا يُزعجه ضجيجُ حوافر الخيول وعجلات العربات الخشبية. أولئك قومٌ مثقفون يدركون أن الموسيقار له طبيعة خاصة تختلفُ عن البشر العاديين؛ فـ أذناه تلتقطان أدقَّ نغمةٍ مما قد تمرُّ على آذاننا دون انتباه؛ لهذا كانوا حريصين على ألا تخدشَ أذنيه أصواتٌ نشازٌ جارحة، قد تعكّر صفو روحِه المبدعة.
تذكرتُ تلك الواقعة أمس الأول وأنا جالسة مع ابني "عمر" في مسرح أحد فنادق التجمع الخامس، أمام الأوركسترا ننتظرُّ بشغفٍ أن يدخل علينا الموسيقار "عمر خيرت" ليجلس إلى البيانو الشاغر، ويبدأ هديرُ العذوبة. كانت القاعة مكتظة بالجماهير الكثيفة، تعجُّ بالضجيج والشجار العنيف بين بعض الحضور والشركة المنظمة للحفل، إذ أخطأت الشركة وباعت بعض التذاكر مرتين! فكان هناك مئات من الحضور لا يجدون أماكنَ للجلوس! رحتُ أتساءل: "كيف للموسيقار الكبير أن يعزفَ بعد كل هذا الصخب والتطاول الذي لا يليقُ بمتذوّقي الموسيقى الراقية؟!! كان المفترض أن يبدأ الحفلُ في الثامنة مساءً، وزحفت عقاربُ الساعة نحو العاشرة ليلا ولم ينته الصخبُ والشجارُ؛ حتى أعلن الموسيقارُ على صفحته انسحابَه من الحفل احترامًا لجمهوره، بسبب سوء تنظيم الحفل.
خرجنا من الفندق والناسُ حزانى. لكنني كنتُ أعرفُ أنهم يفعلون ما فعلتُ أنا وابني "عمر”. كانت موسيقى "عمر خيرت" تُعزفُ في عقولنا بكامل عَتادها وعازفيها ونغماتها. ذاك أن مقطوعات "عمر خيرت" محفورة في ذاكرتنا الجمعية ومضفورة بأرواحنا. لكننا نذهب إلى حفلاته لكي تمتزجَ النغمةُ بالصورة، فتسعدُ قلوبُنا برؤياه جالسًا إلى البيانو كما ملك يجلسُ على عرشه. وبين الحين والحين ينظرُ إلينا ليمنحنا بضع كلمات قليلة من معجمه الطيب. فالموسيقيُّ لا يتكلمُ إلا موسيقى، ولغتُه للتواصل البشري، ليس الحكي، مثلنا، بل بالنغم الماسِّ الشجيّ.
شيءٌ ما أخبرني قبل الحفل بأن هناك خطأ ما! في طريقي إلى الحفل، كان الطريق الدائري في حالة طوارئ، ومداخل القاهرة الجديدة حاشدةٌ بالبشر والسيارات التي باتت تتحرك بمعدل مليمترًا في الدقيقة. حدسُ المهندس المعماري داخلي قال لي: “أيُّ مسرحٍ مغلق في العالم سوف يتسع لهذا العدد الهائل من البشر؟! وكيف سيدخل الموسيقارُ أصلا إلى الحفل في هذا الزحام؟! لابد أن يستقل هليوكوبتر تهبط مباشرة به في كواليس المسرح!" ثم انكشف اللغزُ حين علمتُ أن كثيرًا من المقاعد قد بيعت مرتين، ولهذا لم تتسع قاعةُ المسرح للجماهير الكثيفة. خطأ هائل ارتكبته الشركة المنظمة سهوًا، تسبب في كل هذا الضجيج والشجار، ما أدّى إلى انزعاج الموسيقار الكبير وانسحابه! ولم أستطع أن أمنع نفسي من المقارنة بين حفلات الموسيقار الكبير في "دار الأوبرا المصرية" بتنظيمها الدقيق وهدوء روادها كونهم في "حَرَم الجمال"، وبين ما أرى في حفلة الفندق. لا شيء يشبه "دولة الأوبرا"! ولكن ما حيلتنا والجماهيرُ المصرية والعربية تتوق إلى سماع "عمر خيرت" كلَّ يوم!
لكنْ، رغم كل هذا لم يخلُ الحفلُ من جمال. أثناء كل هذا الصخب ونحن نُمنّي النفسَ بأن يهدأ الحالُ ويدخل علينا الموسيقارُ الكبير، إذا بطفل جميل يصعدُ إلى خشبة المسرح، ويجلس إلى البيانو ويعزف ببراعة بعض مقطوعات "عمر خيرت". خفّ الصخبُ وبدأ الناسُ ينصتون إلى الصبي الموهوب، وكم كنتُ أتمنى أن يسمعه الموسيقارُ الكبير ليفرح بما غرس من زهور في أطفالنا. علمتُ بعد هذا أن الطفل اسمه "يوسف أحمد" في مدرسة "هارودز" وأن اليوم عيد ميلاده ال ١١، وحضوره الحفلَ كان هدية والدته له.
قبل عشرين عامًا كنتُ أقودُ سيارتي وأثناء إشارة مرورة طويلة كالدهر ومن حولي ضجيج الكلاكسات والبشر، كنتُ أضع كفيّ على أذني لأخفف وقع الضجيج على عقلي، فأنا لديّ فوبيا الضجيج. وإذا بزجاج السيارة المجاورة يُفتح، ويطلبُ مني قائدها أن أفتح نافذة سيارتي، ففعلتُ؛ وأنا أظنه يسألني عن شيء. لكنه ابتسم وألقى لي شريط تسجيل قائلا: “اسمعي ده!” نظرتُ إلى الكاسيت لأجد صورة "عمر خيرت"، وضعته الكاسيت في مسجل السيارة، وأدرت الصوت على الأعلى؛ لكي أنقذ نفسي من تروما الضجيج.
صمتُ "عمر خيرت" عن العزف بالأمس كان عزفًا فلسفيًّا وأخلاقيا راقيًا. فكما يقوم إيقاعُ الموسيقى على الموازنة بين النغمة والسكتة، ويقوم الإيقاعُ الشعريّ على الحركة والسكون، ويقوم إيقاعُ العمارة على اللعب بالكتلة والفراغ. فإن الصمتَ كذلك هو الجوهرُ النشطُ للفنون الراقية في لحظات الضجيج والمشاحنات. فطوبى للصمت حين يعلّمنا جمالَ القول وخفوت الصخب، وشكرًا للصامتين حين يتشاجرُ البشر. شكرًا يا مايسترو "عمر خيرت"، على درس الأمس الذي علمتنا إياه.
***