الفاجعة والتكوين (قصة حقيقية)

محمود الصباغ
2023 / 8 / 25 - 00:49     

رولد دال
ترجمة محمود الصباغ
استهلال
"الفاجعة والتكوين" من قصص الكاتب البريطاني رولد دال (1916-1990) ضمن مجوعته Kiss Kiss (1960).
تحكي عن اللحظات الأولى" لحظات متخيلة يعتبرها الكاتب حقيقية" التي تلت ولادة أدولف هتلر؛ وتعرف القصة باسم آخر هو الابن الجميل A Fine Son.
تبدأ الحكاية من غرفة في مشفى كما يبدو -وهو المكان الوحيد في القصة- حين تضع سيدة نمساوية تدعى "كلارا" طفلها الرابع، وقد سبقه ثلاثة ماتوا جميعاً خلال أقل من عامين، وهكذا كانت تعاني كلارا من سرساب قهري قوي، لذلك لا تصدق كلام الطبيب حين أخبرها أن وليدها بصحة جيدة وسليم، لاعتقادها أنه سيموت مثل بقية إخوته، وهو ما ينفيه الطبيب ، بل حتى يسألها -بشكل عرضي- عن الاسم الذي اختارته له، فتجيبه "أدولف" فتلك هي رغبة زوجها الفظ "ألويس هتلر" الموظف في الجمارك والمدمن على الشراب.
يحضر الزوج لرؤية زوجته وطفله ويستغرب من حجم الوليد، يحاول الطبيب إقناعه أنه سليم معافى، دون جدوى، حتى ينجح أخيراً تحت إلحاح الأم وتوسلها*.
لا تخرج القصة عن أسلوب دال، غير أن ما يميزها كمية الحوار التي تكاد تغلب الوصف والسرد، بالإضافة إلى الزمان والمكان الدراميين، فالقصة تدور في غرفة لا تخرج منها، وهو مكان غير مهم في سياق القصة. والزمن يستغرق بضع دقائق لا يتعداها وهو زمن موضوعي نتقبله كما هو نظراً لمعرفتنا بالنتائج المستقبلية لتلك اللحظة.
يتحرك النص إذن ضمن هذا الفضاء المحدود الضيق، بطريقة قلقة، وكأنه مقدمة تنذر بقادم الأيام. وهو فضاء حقيقي على كل حال، سوف تعاني البشرية لاحقاً من تبعات وقائعه، ولعل هذا ما يجعله فضاءَ ثابت غير ديناميكي، وهو فرصة لتفكيك رموزه بأقل جهد نظراً لعددها المحدود. يقوم المعمار الحكائي على شخصية كلارا كأهم شخصية في القصة؛ وهي رقيقة وحزينة ومتدينة، وسنعرف عن طريقها جميع تفاصيل الأحداث.
لا يلعب الراوي دوراً مهماً نظراً لمحدودية الأحداث واللقطات التي تحتاج إلى سرد؛ وتم تعويض ذاك بزيادة نسبة الحوار بين الشخصيات، وسوف نكتشف دون عناء كيف يقوم الحوار بتنظيم زمان ومكان بيئة القصة. وكيف يعمل هذا التنظيم على تقليص أدوار بعض الشخصيات الثانوية مثل زوجة صاحب الفندق التي تظهر في لقطات قليلة لتعريفنا بالزوجين في البداية ثم للاعتناء بالمولود الجديد، حتى أن الزوج لا يظهر إلا في آخر القصة، يبقى الطبيب الذي ربما يمثل "التاريخ"؛ بمعنى الوعاء الذي يستقبل جميع المعلومات ليقوم بتصديرها بعد تقليبها وترتيبها.
يمتاز الطبيب عن "التاريخ" في أنه شخصية محايدة يقف على مسافة واحدة من الجميع بصرف النظر عن صفاتهم وشأنهم فهو قلق على كلارا وعلى الطفل وهذا ما يدفعه لأن يطلب من الزوج الاهتمام بهما.
طيب وماذا بعد؟
نحن أمام قصة تقرأ لمرة واحدة فقط؛ ففي المرة الثانية سنقد الزخم والترقب.. وربما المتعة، نظراً لأننا سنكون قد أشبعنا تماماً بجميع ما نعرفه عن الطفل الوليد من خارج القصة، وسوف تطغى جميع الصور النمطية عنه، وهكذا تفقد القصة متعتها وحتى وظيفتها، ولعل هذا ما جعل دال يكتبها بأسلوب حواري رشيق وعدد قليل من الكلمات. وسوف ينجو بنفسه من الأسئلة الكثيرة حين لا يتقدم بالقصة باتجاه أي إشارة لجوانب تختلف كما نعرفه عن مستقبل الطفل. ويبدو دال هنا يتعامل باحترافية وصرامة مع موضوع قصته، ويمتلك ناصية اللغة بأسلوب بديع (أنصح بقراءتها باللغة الأصلية فهناك الكثير من اللمحات اللغوية والرمزية الجميلة، ( شارب الأب**، وثيابه الخضراء التي تشبه اللباس العسكري،) ويوظف التقنيات التي بين يديه بما يخدم أفكاره لاستكشاف الجوانب المختلفة من الواقع أو توجيه رؤية نقدية نحو شخصية ما، مثلما تستحضر كلارا كلام زوجها القاسي عن أطفالها ".. لماذا لا يولد لي أطفال من أفضل العينات"***

سننتهي من قراءة القصة، ونعترف مع دال بأن كل أم سعيدة بمولودها دون الاعتبار للمستقبل الغامض، إذ يمكن لامرأة جميلة ورقيقة أن تلد الشر..
كيف؟ يكفي أن ننظر حولنا لنتأكد
......
*ولد أدولف هتلر في شهر نيسان من العام 1889 بعد وفاة أخوة ثلاثة له. وفي العام 1900 توفي أخيه الأصغر إدموند ليعيش وحيداً في أسرته
**يشتهر الإمبراطور فرانز جوزيف بشاربه الكث والغليظ والملتف، وهذا في تناقض مع شارب هتلر الصغير الذي أطلقه أثناء علاجه في ألمانيا ودعاه "شارب فرشاة الأسنان"، علماً ن هتلر كان يحمل كرهاً شديداً للإمبراطور فرانز جوزيف ولجميع أفراد أسرة هابسبورغ.
***لعل هذا إشارة إلى ما قام به هتلر لاحقا عندما اصبح زعيم ألمانيا الأوحدـ فعمل أول الأمر على التخلص من جميع الأطفال المعاقين عقلياً وجسدياً، ثم قام لاحقاً بقتل حتى البالغين منهم مبرراً ذلك بأنه "يريد أمة موفورة الصحة ومعافاة"، فطلب "أفضل العينات" يعني "العرق الآري" القوي.. أحفاد الجرمان القدماء. ثمة رمزية أخرى بالغة الدلالة حين يصف الطبيب الطفل للأم بأنه سليم ومعافى وسوف يثير جنونها بفضل "ثرثرته" كإشارة إلى شهوة هتلر للخطابة والحديث مع الحشود.
.....
أتى صوت الطبيب كما لو أنه يصرخ من بعيد: " استرخي لو سمحتِ.. لو تريحي نفسك؛ كل شيء طبيعي.. لا تقلقي.. إنه مولود ذكر.. طفل جميل ورائع، هل تدركين ذلك؟ وهو بصحة جيدة.. ألم تسمعيه يصرخ؟"
-هل هو بخير يا دكتور؟
-بالطبع هو بخير
-دعني أراه أرجوك
-حالاً
-متأكد أنه بخير؟
-إلا متأكد.. طبعاً هو بخير
-هل مازال يبكي؟
-لا تجهدي نفسكِ أكثر.. أرجوكِ، حاولي أن ترتاحي، لا مبرر لكل هذا القلق
-لماذا توقف عن البكاء يا دكتور؟ ماذا حدث؟
-من فضلك؛ لا تقلقي ولا تتوتري فكل شيء طبيعي
-أريد رؤيته.. أرجوك دعني أراه..
اقترب منها الطبيب وبدأ يسمح يدها برفق ثم قال
-يا سيدتي العزيزة، لديك طفل جميل وقوي وصحته عال العال.. ألا تصدقيني؟
-وماذا تفعل له تلك المرأة هناك له؟
-أوووه.. لا شيء.. لا شيء؛ نقوم بتنظيفه.. هذا جزء من عملنا هنا.. نحمّمه ليبدو جميلاً ولائقاً.. دقائق ويكون في حضنك.
-طيب احلف أنه بخير؟"
-أقسم لك.. والآن استلقِ واسترخِ وأغلقي عينيك.. هيا أغلقي عينيك.. تمام هكذا.. نعم.. يا لك من فتاة جيدة.
-لو تعلم كم صليت لأجل أن يعيش
-بالطبع سَيَعِيش، لماذا تقولي هذا؟"
-لم يعش الآخرون
-ماذا؟
-لم يعش أحد من أطفالي الآخرين
ظل الطبيب واقفاً بجانب السرير ينظر إلى وجهها الشاحب المنهك. لا يذكر أنه يعرفها أو رآها من قبل هي أو زوجها؛ لقد سكنا حديثاً في البلدة، وقد أخبرته زوجة صاحب الفندق التي أتت بها إلى هنا أن الزوج يعمل في إدارة الجمارك المحلية على الحدود، وقد وصلا بشكل مفاجئ تماماً، وليس معهما سوى صندوق واحد وحقيبة واحدة، كان ذلك قبل حوالي ثلاثة أشهر. وأكّدت زوجة صاحب الفندق، "أن الزوج مدمن على الكحول ومتسلطاً ولا يخلو من الغطرسة، وهو سكّير تافه، ولكن زوجته الشابة؛ كم هي لطيفة ومتدينة، ويعلو قسمات وجهها ملامح حزن ثابتة، فلم أرها تبتسم منذ أن وصلت البلدة. وحتى بعد أسابيع قليلة من وصولها لم يرها أحداً تبتسم ولو ابتسامة واحدة"؛ تقسم بذلك زوجة صاحب الفندق، وانتشرت شائعة تقول إن هذا الزواج الثالث للرجل موظف الجمارك، فزوجته الأولى توفيت، والثانية طلقته لأسباب بغيضة. لكن هذا مجرد إشاعات.
انحنى الطبيب وسحب الملاءة لأعلى قليل فوق صدر الشابة وقال بلطف بالغ:
-ليس هناك ما يستوجب القلق؛ مولودك طبيعي تماماً
-هذا ما قاله الآخرون تماماً؛ ولكني فقدتهم جميعاً يا دكتور.. جميعهم، الثلاثة، بأقل من عامين، فلا تلومني لو شعرت بالقلق الآن".
-ثلاثة؟
-أجل، فهذا وليدي الرابع في أربع سنوات.. وتابعت تقول بينما كان الطبيب ينقل قدميه بتوتر على أرضية الغرفة العارية
-لا أظنك تعرف ما يعنيه لي، هل تعلم؟ هل تعلم ماذا يعني فقدان ثلاثة أولادك؛ هكذا؛ ببطء؟ وعلى دفعات؟ واحد تلو الآخر. ما زلت أراهم وأتذكر وجوههم؛ أستطيع رؤية وجه غوستاف بوضوح الآن؛ كما لو أنه مستلقٍ هنا بجانبي في السرير.. أووه يا له من غوستاف! كم كان ولداً رائعاً يا دكتور، لكنه كان دائم المرض.. أليس مريعاً أن يكونوا دائمي المرض وأنا لا حول لي ولا قوة لفعل ما يلزم لمساعدتهم".
-نعم أعلم كم هو صعب فعلاً
فتحت المرأة عينيها، ونظرت إلى الطبيب لبضع ثوان، ثم أغلقتهما مرة أخرى. وهمست
-كانت ابنتي الصغيرة تدعى إيدا، ماتت قبل أيام قليلة من عيد الميلاد الأخير؛ قبل شهور أربعة بالضبط، آه لو كنت رأيتها يا دكتور
-ها هو الآن لديك طفل جديد
-لكن إيدا كانت جميلة جداً
-أجل.. نعم أعلم
-وكيف تعرف؟ صرخت المرأة بدهشة. فأجاب الطبيب: "لابد أنها كانت طفلة جميلة. لكن هذا المولود الجديد جميل أيضاً". ابتعد الطبيب عن السرير ومضى نحو النافذة ووقف هناك ينظر إلى الخارج. كان يوم ظهيرة من أيام نيسان المبللة والمليئة بالغيوم؛ وكان يستطيع أن يلمح عبر الشارع أسطح المنازل الحمراء وقطرات المطر الضخمة تتدفق متناثرة على البلاط.
-كان عمر إيدا سنتين... وكانت جميلة جداً حتى أني لم أستطع رفع بصري عنها؛ منذ الصباح وحتى موعد نومها ليلاً. كنت أعيش في رعب هائل خوف من أي مكروه ثد يحصل لها، إذ كان غوستاف قد رحل وكذلك أوتو أيضاً، وكانت هي كل ما تبقى لي، كنت استيقظ في عز الليل، أحياناً، وأزحف إلى مهدها وأضع أذني قرب من فمها لأتأكد أنها تتنفس.
-حاولي أن ترتاحي.. أرجوك حاولي. قال الطبيب واقترب منها مجدداً، وبدا وجه المرأة أبيضاً وخالياً من الدم، وثمة مسحة رمادية مزرقة باهتة حول فتحتي أنفها وفمها، ويتدلى على جبهتها بضع خصل من شعرها تلتصق ببشرتها من رطوبتها.
-هل تعلم إني كنتُ حاملاً عندما ماتت إيدا؟ كان هذا الطفل في بطني قبل موتها بأربعة أشهر، وأذكر كيف صرختُ بعد جنازتها "لا أريده.. لا أريد هذا الجنين، لن أسمح للأمر أن يتكرر! لقد دفنت الكثير منهم، وكان زوجي يتجول بين الحضور ويحمل في يده كوب شراب طافح، ثم التفت نحوي بغتةً وقال "أحمل أخباراً لك يا كلارا.. لدي أخبار جيدة"؛ هل يمكنك تخيل ذلك يا دكتور؟ لقد دفننا للتو ابننا الثالث وهو يقف هناك وبيده كوب شراب كبير ويقول لديه أخبار جيدة!. ليس هذا فحسب، بل كات يصرخ ويقول " "لقد تم تعييني اليوم في براوناو.. لذا يمكنك البدء في توضيب أغراضنا حالاً. ستكون بداية جديدة لكِ يا كلارا. سيكون مكاناً جديداً ويمكنك الحصول على طبيب جديد.. أهدئي الآن أرجوك.. لا تكثري الكلام
-أنت الطبيب الجديد، أليس كذلك يا دكتور؟
-أجل هذا صحيح
-ونحن هنا في براوناو
-نعم
-أنا خائفة يا دكتور
-حاولي ألا تخافي
-ما هي فرصة بقاء مولودي الرابع حياً؟
-يجب التوقف عن التفكير بهذه الطريقة
-لا أستطيع منع نفسي. متأكدة أن في الأمر قصة وراثية.. وإلا لماذا يموت صغاري هكذا، لا بد للأمر علاقة بالوراثة
-هذا محض هراء
-هل تعلم ماذا قال لي زوجي عندما ولد أوتو؟ لقد دخل الغرفة ونظر إلى المهد حيث كان الطفل ممداً وقال: "لماذا كل أطفالي صغار وضعفاء؟"
-أنا متأكد أنه لم يقل ذلك.
-بلى، قال ذلك.. فعلاً.. ووضع رأسه في مهده كما لو كان يفحص حشرة صغيرة وقال "لست أدري لماذا لا يولد لي أطفالي من أفضل العينات؟ هذا كل ما عندي، وبعد ثلاثة أيام من ذلك مات أوتو. عمّدناه على عجل في اليوم الثالث؛ ومات في المساء، ثم توفي غوستاف. ثم إيدا، جميعهم ماتوا يا دكتور؛ وفجأة أصبح المنزل فارغاً، لا داعي للتفكير الآن بصنف جيد أو غير جيد.. لقد مضوا جميعهم بلا عودة. والآن قل لي :هل طفلي الجيد صغير الحجم؟
-إنه طفل عادي
-ولكنه صغير؟
- ربما صغير قليلاً.. ربما. لكن الصغار غالباً ما يكونون أقوى من الكبار.. تخيلي معي يا "فراو هتلر"، كيف سيكون شكله وحجمه بعد عام من الآن؟ سيكون يتعلم المشي، أليست هذه فكرة جميلة؟.. لكنها لم تجب، فتابع الطبيب بحماس "وبعد عامين ربما يكون قد تعلم الحكي، وسوف لن تحتملي ثرثرته، بل لعل كلامه سيصيبك بالصداع والجنون. والآن أخبريني هل فكرت في اسم له؟"
-اسم؟
-نعم
-لا أعرف. لست متأكدة؛ أعتقد أن زوجي قال إذا كان ولد سنسميه أدولفوس
-هذا يعني أدولف!
-نعم. زوجي يحب اسم أدولف لأنه يشبه ألويس بعض الشيء.. زوجي اسمه ألويس
-ممتاز
-أوه لا! وبدأت المرأة بالبكاء، وكأن وجهها سيقفز من الوسادة: "نفس السؤال سئلت عندما ولد أوتو! هذا يعني أنه سيموت، لابد من أن نعمّده في الحال!
-في الحال، يعني الآن! تساءل الطبيب، وأخذها بلطف من كتفيها وقال "أنت مخطئة تماماً في هذا. سترين كم أنت مخطئة، لا تهتمي كثيراً لأسئلتي فلست سوى شخص فضولي لا أكثر، فأنا أحب الحديث عن الأسماء وأعتقد أن أدولفوس اسم رائع، إنه أحد الأسماء المفضلة عندي، وانظري الآن من هو قادم.. انظري.. ها هو الآن هنا. وفي تلك الأثناء دخلت زوجة صاحب الفندق والطفل بين يديها تضمه إلى صدرها الضخم؛ ورمحت عبر الغرفة نحو السرير، وهي تقول بمرح وإشراق "ها هو الجميل الصغير!.. هل ترغبين في حمله يا عزيزتي؟ هل أضعه بجانبك هنا؟. فسألها الطبيب
-هل هو ملفوف جيداً فالجو بارد جداً هنا؟
-بالتأكيد ملفوف بشكل جيد.
كان الطفل ملفوفاً بإحكام في شال من الصوف الأبيض، لا يبرز منه سوى رأسه الوردي الصغير. ووضعته زوجة صاحب الفندق بلطف على السرير بجانب والدته وقالت: "ها أنتَ هنا. والتفتت صوب الأم: تأمليه كما يحلو لك بما يروي شغفك ويشبع قلبك". وردد الطبيب مبتسماً "أعتقد أنك ستحبينه.. إنه طفل صغير لطيف"، فأثنت زوجة صاحب الفندق: " لديه أجمل يدين رأيتهما.. يا لهذه الأصابع الطويلة الحساسة".
ولكن الأم لم تلتفت حتى لرؤيته، فعادت زوجة صاحبة الفندق لتقول:
-هيا.. تقدمي نحوه.. انظري إليه، لن يعضك
-أخاف النظر إليه. لا أريد أن أصدق هذا. فنهرتها زوجة صاحب الفندق "دعك من هذه الحماقات".
أدارت الأم رأسها نحو الصغير ببطء ونظرت إلى الوجه الهادئ والرائع على الوسادة بجانبها غير مصدقة ما ترى
-هل هذا طفلي؟
-بالطبع
-ولكنّه جميل
انفتل الطبيب بعيداً باتجاه الطاولة وبدأ يضع أشياءه في حقيبته، وكانت الأم ما زالت مستلقية تحدق في الطفل وتبتسم وتلمسه وتصدر أصوات صغيرة من المتعة وتغمغم بما يشبه القول "مرحبا، أدولفوس.. مرحباً يا أدولفي الصغير" فقاطعها صوت زوجة صاحب الفندق
-شششش.. اسمعي.. اسمعي! أعتقد أن زوجك قادم. فقام الطبيب واتجه نحو الباب وفتحه ونظر إلى الممر، وأتى صوته
-"هر" هتلر
-نعم
-تفضل، ادخل أرجوك
دخل إلى الغرفة رجل صغير الحجم تسبقه رائحة شرابه ويرتدي زياً أخضراً داكناً ويحمل شارباً ضخمة يعتني به بدقة فريدة فيبدو مثل شارب الإمبراطور فرانز جوزيف.
تقدم الرجل بلطف خطوة نحو الداخل ونظر حوله، فبادره الطبيب
-تهانينا.. لديك ابن هنا
-ابن؟
-أجل
-وكيف هو
-بخير. إنه بخير؛ وكذلك زوجتك
-هذا جيد، قال الرجل ومشى بخطوات فضولية قافزة نحو سرير زوجته حيث كانت مستلقية، وابتسم لها من خلال شاربيه وقال
- ممتاز يا كلارا، أخبريني كيف جرت الأمور؟ ثم انحنى ليلقي نظرة على الطفل، انحنى أكثر من يمكنه الانحناء؛ في سلسلة من الحركات المتشنجة السريعة، انحنى وانحنى وانحنى حتى كاد وجهه يلتصق برأس الطفل، في حين كانت زوجته تحدق في وجهه بنظرة متوسلة.
قطعت زوجة صاحب الفندق الصمت وقالت
-انظر! لديه أجمل رئتين. جدير بهما.. صح؟، كان عليك سماع صراخه معلناً قدومه إلى هذا العالم
-لكن يا إلهي يا كلارا ما الأمر يا عزيزتي؟
-إنه أصغر من أوتو.
فنقدم الطبيب بخطوات سريعة إلى الأمام وأعلن: لا حرج في ذلك، لا يوجد فيه شيء غير سليم
استقام الزوج ببطء وابتعد عن السرير ونظر إلى الطبيب. بدا محتاراً ومصدوماً وقال
-لا فائدة من الكذب يا دكتور.. أعرف ماذا يعني ذلك. سيكون الأمر كما كان مع غيره من قبل. فقال الطبيب" لا.. بل أنت الآن عليك الاستماع إلي.." فقاطعه الزوج
-ولكن هل تعرف ماذا حدث للآخرين، يا دكتور؟
-يجب أن تنسَ الآخرين يا "هر" هتلر، أعطِ هذا الطفل فرصة.. فرصة واحدة.
-لكنه صغير جداً وضعيف!
-لا تنس أنه ولد للتو
-المعنى؟
فقالت زوجة صاحب الفندق
-ماذا تريد قوله؟ هيا؟ هل تتحدث كما لو أنه سيموت؟
فصرخ فيهما الطبيب بحدة: "كفى.. يكفي هذا الآن" وكانت الأم تبكي بحرقة ويهتز جسدها مع كل حركة. اقترب الطبيب من الزوج ووضع يده على كتفه وهمس له "كن جيداً معها، أرجوك فهذا مهم لها"؛ ثم ضغط على كتفه بقوة وبدأ يدفعه إلى الأمام إلى حافة السرير، تردد الزوج قليلاً، فضغط الطبيب أكثر، وأعطاه إشارة بأصابعه بأن يتحرك نحوها بسرعة.
فاقترب منها أخيراً بتردد، ثم انحنى وقبلها برفق على خده وقال
-لا بأس عليك يا كلارا.. هيا توقفي الآن عن البكاء
-لقد صلّيتُ بجدّ ليعيش يا ألويس
-نعم
-كنت أصلي كل يوم وأتوسل راكعة على ركبتي على أمل أن يعيش
-نعم يا كلارا أعلم
-لقد مات لي ثلاثة أطفال.. لا يمكنني تحمل هذا الأمر، ألا تدرك ذلك؟
-بالطبع
-يجب أن يعيش يا ألويس؛ يجب عليه، كن رحيماً معه الآن يا إلهي، ودعه يعيش