رواية الحياة لحظة الفصل الحادي عشر - أخي الزنجي -


سلام إبراهيم
2023 / 8 / 23 - 15:53     

أخي الزنجي


حينما دفع الباب وأطل بقامته القصيرة وقسماته الوديعة.. اهتزَّ كياني، لكنني لبثتُ ساكنًا أتتبع خطاه الخفيفة المتجهة صوبنا.. هو الآخر لم تفارق عيناه وجهي، رغم قيام «جلال التونسي» بقامته الفارعة للترحيب به.. قلت مع نفسي:
- ماسة سوداء حيّة تسعى أمامي في الغرفة!.
في المسافة بين باب الغرفة البعيد وجلستنا، لم ينحرف ناظره عني.. عيناه الوديعتان تعانقان وجهي بشغف، وكأنهما تحدقان في معشوق.. أنا الآخر أسرتني عيناه، ووداعة النظرة والبسمة الخفيفة الهابطة من حواف العينين إلى القسمات الفحمية اللامعة، تحت ضوء المصباح المتدلي من السقف الخفيض.. كنت أطيل النظر إليه شاعرًا بألفة شديدة.. حط كفه الصغيرة النحيفة بباطن كف جلال الضخمة وتمتم بالفرنسية كلمات، وعيناه تتنقل خطفًا بيني وبين «جلال» وكأنه يريد أن يفرغ منه ليتفرغ لوجهي.. هكذا أحسست، فقلت مع نفسي:
- الليلة لن تكون كما خططت!.
فلقد تعبت من جو الطلبة اليساريين المحتدم وقت سقوط الاشتراكية المدوي بنموذجها السوﭬييتي، فقلت لعزيز وجلال: أنا تعبان أصلا، وجئت إلى «كييﭫ» كي أخلد للراحة، لكنكما أدخلتماني في لجة أنا هارب منها أصلًا، كنت في لجة الكفاح المسلح والحوارات والقتل والهرب ومعسكرات اللجوء والتشرد والحيرة. ورجوتهم أن تكون هذه الليلة هادئة، أخلد فيها إلى نفسي، وجلسة لا احتدام فيها، ولا حوار، ولا ضجيج.. نزلوا عند رغبتي، واقترح «عزيز» أن يوصلني مع «جلال» إلى الغرفة، ويتركنا وحيدين نشرب على مهل ونتحدث.. وجدت الفكرة حسنة، وفعلًا تسللنا خلسة إلى الغرفة، وودعنا «عزيز» عائدًا إلى زوجته وطفلته، فرحنا في حديث شفاف، تكاشفنا فيه عن مسار حياتنا: هو في تونس وأنا في العراق. تعمدت عدم شراء المزيد من الخمرة؛ كي لا أصل إلى أقصى السكر، فتنبعث الشجون، وتتحول الجلسة إلى صخب وصراخ.
- الليلة تبشر بعاصفة أخرى!.
قلت مع نفسي ذلك، ولكنني لم أخمن مدى عنفها.. فالنفق السري الذي جعلنا نتمعن بعيني بعضٍ بتلك الطريقة الغريبة كان لا يشي بما سيفضي إليه!.
التفت نحوي «جلال» قائلا:
- «إبراهيم» أقدم لك تلميذي «صموئيل»!.
تذكرت أن «جلال» أخبرني بأنه يقدم محاضرات عن الثقافة الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي في «كييﭫ»، الذي فتح صفًّا للأفارقة الناطقين بالفرنسية.
رحت أجوس في قسماته وقامته صامتًا، فتضرج خجلًا ونظر إلى الأرض، وكأنه أحس بوجوده المحرج، أو يكون «جلال» قد أخبره بوضعي في حوارهم، الذي امتد ربع ساعة.. أردف «جلال»:
- هو خجلان.. يترجى أن يشاركنا الجلسة!.
كنت أستمتع بنطق «جلال»، الذي رجوته مخاطبتي بالفصحى، لأن لهجته التونسية تضيع عليّ الكثير من مدلولات الحديث.
قلت له:
ـ ليجلس!.
سحب كرسيا من طرف الغرفة البعيد.. أدناه من السرير وجلس بهدوء على بعد مترين مني.. كان «جلال» قبل دخول «صموئيل» يسرد قصة نضاله، حينما أصبح في المرحلة الأولى بالجامعة، وكيف عمل بصفوف تنظيم «تروتسكي» صغير، فألقي القبض عليه حينما اعترف أحد أعضاء الخلية.. أسهب في وصف الليلة التي قضاها في الزنزانة دون فراش وفي البرد وحيدا.
قبل أن يستمر في السرد سألته:
- ليلة واحدة فقط!.
- نعم واحدة فقط.. لكن رأيت الجحيم فيها!.
- ماذا فعلوا بك؟!.
سألته بصوت خافتٍ متخيلا قامته الطويلة، مخذولة بين يدي الجلاد.
- تركوني بملابسي الخفيفة على البلاط البارد حتى الصباح!.
- وماذا بعد؟!.
- في الصباح فتح الحارس باب الزنزانة، وقادني إلى الضابط، وهنالك وجدت أبي منتظرًا.. في الطريق إلى البيت أخبرني أنه اتصل بـ «الحبيب بو رقيبة» رفيقه بمرحلة النضال الوطني، فأوعز بإطلاق سراحي. وخلال أسبوع رتّبَ لي كل شيء، الجواز، ومقعد الدرس، وتذكرة السفر.. وحملني إلى المطار ليبعدني إلى هنا!.
- ...!.
لا أدري لماذا شعرت بالحنق الذي تبدد ليحل محله شعور بالسخرية من هذه الحكاية، التي يعتبرها «جلال» جحيمًا.. انتبهتُ إلى عيني الزنجي، تنتقل بعمق بين وجهي ووجه «جلال» الذي أردف:
- تخيل حرموني من تونس الخضراء!.
- ...!.
رفعنا الكؤوس.. دلقت كل ما فيها في جوفي مغمضًا عينيّ رائيًا ذاك الجحيم الحقيقي، الذي أروني إياه في المرات التي حللت فيها داخل زنزانات أمن الديوانية والأمن العامة في بغداد.. رأيتني عاريا معصوب العينين معلقًا على كرسي الفلقة بالمقلوب، مختنقًا مشدود الجسد بانتظار الضربة القادمة المصحوبة بالشتائم.
حينما فتحت عيني، ملأت كأسًا أخرى على عجل، ودلقتها في جوفي مطبقًا أجفاني من جديد؛ ليتجسد ذلك المشهد الذي عمَّق شطر طفولتي القديم، حينما أحسست وأنا معلقُ بشيء لين ناعمٍ يعبث ما بين ردفي، فشددت جسدي بكل ما لدي من طاقة، فنب صوت أنثوي:
- خِفِتْ!.
قالها وسحب ذلك الشيء ليلسع ظهري المتأرجح بضربة موجعة آمرًا شخصًا أخرَ، كما لو كنت امرأة تغتصب:
- اشتغله!!
أي شعور بالسحق والتبدد، لما تحس بجسدك ينتهكك ويطبق عليك من الخلف كائن لا تراه، بل تسمع لهاثه، وهو يحزُّ في أحشائك حزًّا وأنت مربوطٌ عارٍ، يضج حولك جمع يتفرج على المشهد مقهقهًا، معلقًا ببذاءة تخص لحظة سحقك.. فتحت عيني.. تفرست في وجه «جلال» و«صموئيل»، الذي وجدته يتوسد الأرض متكئًا على حافة الكرسي، محملقا في قسماتي المشوهة، وهي تستعيد شعور السحق ذاك وكأنه حدث قبل لحظة.
قال «جلال» بدهشة:
- «إبراهيم» ماذا بك؟!.
- ...!.
صببت كأسا أخرى.. أصابني الخرس.. جمدت لحظة شاخصا نحو النافذة والسماء المظلمة. رجعت إلى المنضدة الصغيرة، وتناولت كأسي.. عببتها دفعة واحدة. حينما فتحت عيني، ملأتني قسماته الفحمية المحملقة من تحت بعاطفة دافقة.. عيناه المخضلتان بالدمع امتزجتا بخفايا روحي، وكأنهما أدركتا سر ألمي. انفجرت بغتةً في نحيب مذبوح، وتكومتُ جواره على الأرض.. أحاطني بجسده مرددًا بلغة غريبة، وضم رأسي المعروق إلى صدره.. كنتُ لينا مستسلما.. هدأ بصدره الحار روعي، فتحول نحيبي إلى بكاء راح يتخافت قليلا.. قليلا إلى أن كفَّ.. أبعد رأسي.. رفع حافة قميصه الأزرق المفتوح، ومسّحِ عينيَّ من الدمع وجبهتي من النضح. كان يمسكني بحنان وكأنه نفسي.. ساعدني على النهوض والعودة إلى الجلوس على حافة السرير.. في حومة النحيب، نسيت المكان وما كنا فيه.. انتبهت إلى «جلال» الجامد على كرسيه، وهو يحملق نحونا بذهول، قبل أن يقول:
- لم أعد أفهم شيئًا!.
- ما الذي يجري؟!.
-...!.
قال له «صموئيل» شيئًا بالفرنسية، فالتفت نحوي قائلا:
- طلب مني الكف عن الأسئلة!.
- ...
عاود الجلوس على الأرض جواري، وكفاه الصغيرتان مثل كفي طفلٍ، ما زالتا تمسكان بذراعيَّ الواهنتين أسفل الكوع بقليل.. التبس عليَّ المكان والدنيا، وشطح بي الشجن إلى أمكنة ووجوه فقدتها إلى الأبد.. سيل من الروائح والقامات والعيون يحيط بي، قادما من عينيْ هذا الزنجي المتشبث بذراعي تشبث أمي، حينما أكون يائسا مسكينا وحيدا. كان يؤشر طالبا من « جلال» الصمت كلما هم بالكلام، مكتفيا بالتحديق من جلسته قرب قدمي، في وجهي السادر بعيدا وكأنه ينتظر شيئا ما.
احتدمتُ بحنان كفيه الممسكتين بذراعي.. احتدمتُ مركزًا على قسماته الناعمة، ولمعان سوداها الكريم، متشاغلا عن عينيه المحملقتين نحوي بدفق فريد.
صمدت متأرجحا على حافة موج عينيه.. إلى أن سقطت فيهما، فهجمتْ عليَّ نفسي بكل عنفوانها.. حشد من الأحباب.. أصدقاء ورفاق قتلوا في المعتقلات وبين الجبال.. أخي «كفاح» ضاع في الأقبية إلى الأبد.. «صلاح» حبيبي و«علي» الوديع أبناء عمتي ضاعا أيضًا إلى الأبد. حشد قادم من عيني هذا الكائن الوديع الممسك بذراعي والمنتظر على بابي.. هجمت عليَّ روحي، وكل ما شكل كياني.. نأى عني البيت والأهل والأصدقاء والتراب والخريطة فوجدتني ضائعا في غرفة مغبرة بسكنٍ جامعي في طرف - «كييﭫ» - مستسلمًا لذراعين سوداوين غريبين حنونين، وكأنهما يعرفان كل عذابي وقصتي دون كلام.
هجمتْ عليَّ نفسي قادمةًً من عمقِ هذا السواد العظيم الماسك بي وكأنه سحر.. صرخت بغتة:
- أريد الرقص.. أريد الرقص!.
ونهضت بغتةً فالتا من ذراعيه متلويا بقامتي الفارعة في فراغ الغرفة المغبر، قافزًا وكأنني أود الصعود إلى السماء.. سمعت «صموئيل» يصرخ صرخة طويلة، أثناء هبوبه من جلسته ليصل إلى مدى قفزتي ويعانق عيني في الهواء.. حينما هبطنا أسرع ليخرج كاسيت من جيبه ويضعه في المسجل، فتعالى صوت طبول قادمة من عمق غابة، من عمق عيني «صموئيل»، من غور نفسي المنسية، من ماضٍ يحنُّ البشر إليه، ماضٍ لم يزل ناصعًا غير ملوث بالقتل.. بدأنا نتلوى ونرتجف ونتمايل: أنا بقامتي الفارعة وجسدي الضخم، وهو بقامته القصيرة وجسده الناحل. نرقص وجها لوجه محدقين بعيني بعضنا، مطلقين الصراخ المبهم المتقطع وسط ذهول جلال الذي لمحته في نوبة الرقص يسترخي على كرسيه، متطلعًا بذهول نحونا.. رحنا ندور في البقعة الضيقة، نكاد نتلاصق بجسدينا اللذين جُنّا على إيقاع الطبول المتلونة.. نشبك أصابعنا ونفلتها.. نقرفص قافزين إلى الجانب، نهب نحو سماء الغرفة ونهبط متبادلين الصرخات، وكأننا نلج في أرواح بعضٍ، بدأت أثناء الرقص بفك أزار قميصي زرا.. زرا، وفي حركة عنيفة نزعته ورميته إلى زاوية الغرفة البعيدة صارخا:
- مدد يا رب الكون.. مددددددددددددد.. حييييييييييييييييي!.
هو الآخر فك أزار قميصه وتركه يرف مع رجفة جسده. لا أدري كم بقينا.. لكنني أحسست بجسدي العاري يبتل. وبغتة صمت الشريط، فألمت بي رغبة جارفة في عناق هذا الكائن اللاهث السواد المتجاوب مع لوعة روحي وحركة جسدي وصراخي، فعانقته لدقيقة بصمت وسحبته؛ ليجلس جواري على حافة السرير.
صبّ لنا «جلال» كأسين.. رفع كأسه إلى شفتيه وعيناه تتملى بوجهي بشغف وحنان.. لم أشعر بوجود «جلال»، إلا عندما أخذتني رغبة جارفة في الإفضاء بما كان يزحم لحظتي من عناء أشواق مستحيلة، فطلبت منه أن يترجم كلامي لـ «صموئيل».. رحت أقص عليه مقتل أخي الصغير.. كان يصغي لكلامي بالعربية ولا ينظر صوب «جلال» لما يقوم بالترجمة.. كان يصغي إليه وعيناه تغوران بوجهي.. أحسسته يفهم ما أقول، وأنا أسهب في تصوير خيالاتي عن لحظته الأخيرة، أثناء إجهاز الجلاد عليه في زنزانة ما أتخيلها تحت الأرض. وصفت قسماته المتكسرة لحظة الطعن، شوقه المستحيل لأصل إلى ذروة وجدي، فنشجت بحرقة ولطمت وجهي. هب نحوي.. أمسك بذراعيّ، ولفني بذراعيه إلى أن هدأت.. فنهض ووقف أمامي وأنشد شيئا بالفرنسية، ترجمه جلال فورا.. مع الجملة الأخيرة، طلبت بسرعة قلمًا وورقة وسجلت ما ترجمه «جلال» في دفتر:
( أنت عظيم
لا تتحدث عن أخيك المقتول
فلديّ ثلاثة إخوة ماتوا
لأنني أمثل روحهم
وأنت تمثل روح أخيك
أنت جميل
وعندما تموت
لن تدفن في الأرض
بل... ستذهب إلى السماء ).
كان «جلال» ينشد الكلام إنشادا، ولما صمت، احتدمتُ، فنهضت موترًا جسدي.. فأسرع «صموئيل» بقلب الكاسيت لينطلق صوت الطبول، وتبدأ دورة أخرى من الرقص.. في حومة الجسد المنتفض كنت أرى حشدًا جديدًا من الوجوه، يستيقظ في رأسي، قادما من الطبول وصراخ الراقصين الذين أتخيلهم عراة.. حشد حميم لم أزل أشم أنفاسه أثناء العناق.. بشر أكن لهم ودا لا يقال، وجوه ضاعت إلى الأبد، وجوه تجسدت بوجه هذا الزنجي الذي لم أره إلا قبل ساعات..
حشد تلألأ من بينه، وجه رفيق طفولتي وصباي، جاري «عادل تركي»، الزنجي الذي علمني الكثير.. القراءة، والحب، والسياسة، أتلوى في البقعة الضيقة بألم، أميل وأستقيم، أتهالك وأشب، أرتجف وأخمد مع الإيقاع متسقًا مع حركة ـ صموئيل ـ الملاحقة والمندمجة بحركتي، وكأننا تدربنا كل العمر على هذه الرقصة..
يتموج وجه جاري القديم، يتجلى لامع السواد من أول القصة، ولِعبَنا كرة القدم في محلة «حي العصري» كل عصر، وبيتهم بغرفه الخمس ووجوه عائلته أمه وخالته وعماته الزنجيات اللواتي كنّ يقدمن لنا الخبز والماء بعد تعب اللعب.. ثم الخبز والماء بعد سنوات قليلة، ونحن نجتمع في غرفة منزوية من غرف البيت نفسه، متورطين في السياسة، متحمسين غارقين في أحلامنا في قلب الأوضاع وصياغتها من جديد بخلق مجتمعٍ عراقي حر، سعيد.. ستفرقنا الجامعة فهو يكبرني بأعوام ثلاثة، سينتقل بعد الجامعة إلى «بغداد» ويتزوج، وأبقى أنا في «الديوانية» وأتزوج..
فضعنا عن بعضنا في اللجة والحروب.
كنت أسمع عنه من صديق، كان معنا أيام الحلم الأولى «عبد الحسين عباس»، فعلمتُ أنه رزق بأطفال وعمل مدرسا في ثانوية ما.. لأباغت بظهوره بعد أكثر من عشر سنوات في كردستان، ملتحقًا بمفارز كرميان البعيدة جدًّا عن أرياف العمادية المكان، الذي كنت فيه. ولما عزمت على الذهاب في مفرزة للقائه جاء خبر مقتله.. أنطوى مبحرا في وجه «صموئيل» المهتز أمامي، المحافظ على مسافة المتر الفاصلة بين جسدينا أثناء الرقص.. أتلوى باركا في أشواقي المعانقة وجه «عادل» المتجلي حيًّا بوجه «صموئيل»، ولحظته الأخيرة و«نصير»؛ مندس يصوب بندقيته نحو رأسه جوار نبعٍ، كان يغرف حفنة ماء ليغسل قسماته المتعبة، بعد وجبه.. غذاء بانتظار تجمع الرفاق الذين توزعوا في بيوت القرية..
أشب مثل من يتلقى رصاصة في غفلة.. أشبُّ بجسدي مرتجا في فضاء الغرفة وماسورة البندقية المصوبة نحو رأس «عادل» المنشغل بالماء والأحلام، صلبة، قاسية، مصوبة نحو رأس «صموئيل» السابح معي في فضاء الغرفة.. وكأننا نضيع في الفراغ، رأيت الرصاصة تنطلق ببطء شديد من الفوهة المظلمة وتسري في المسافة القصيرة نحو الرأس.. ستخرق رأس «صموئيل» الصغير.. ستخرقه يا إلهي.. ستخرقه...هبطت إلى أرض الغرفة.. ارتميت عليه ناحبًا.. أحطته بذراعي.. تكورت حول جسده الصغير، وكأنني أريد حمايته.. أمسك بذراعي بيد، وراح يجفف باليد الأخرى نضحي بطرف قميصه الأزرق.. أجلسني على حافة السرير، رحت أهذي ساردا تلك الرؤى على مسمعه وجلال يترجم.
كنت أسرد من بين نشيجي، قصتي مع «عادل» بتفاصيلها الصغيرة، لما أتيت على المشهد الأخير، وجسده يسقط على حافة النبع مضرجًا بأحلامه، أمسك «صموئيل» طرف قميصه. مسح دمعي ونضحي ونهض.. استقام بجسده الصغير متوترًا وأنشد:
( ما جمعنا هو الحزن
أنا وأنت نبحث عن
وطن ثالث
الذي هو الحزن
ليس لدينا سواه ).
أصابني الجنون فانتفضت من جلستي صارخًا.. أخذته بحضني.. شددتُ جسده الصغير حتى أحسست أن عظامه تكاد تتكسر بين ذراعيّ.. حملته عاليا على كتفي، ورحت أدور به في أنحاء الغرفة راكضًا نحو الزاوية البعيدة، وعائدا إلى حيث يجلس «جلال» يهز بيديه مذهولا مرددا:
- ما الذي يجري؟!. ما الذي يجري؟!.
كنت أصرخ بما لا أتذكر ولا أدري.. الذي أتذكره هو جسده الصغير محمولًا على كتفي، وأنا أهرول به رواحًا ومجيئًا، وكأنني أبحث عن ذلك الوطن الثالث، الذي لا وجود له إلا في نفوسنا. أبحث وأريد أن نلج فيه لنستكين. كم بقيت أركض وأنا حاملًا جسده الخفيف؟!. لا أدري.. لا أدري.. يبدو أنني بقيت إلى أن خارت قواي.. فأنزلته وعانقته بشدة. لما فللت ذراعي، رجع خطوتين وقال شيئًا، واستدار نحو باب الغرفة وغاب.. التفت نحو «جلال» متسائلا بصمت، فقال:
- سيجلب شريط كاسيت.. لحظة ويعود!.
صب لي «جلال» كأسا أخرى من الفودكا.. عببتها دفعة واحدة وحملقت فيه متوجسا، وقلت:
- أخاف ما يرجع!.
تبسم وقال:
- لا.. سيرجع!.
وما أن أتم جملته حتى سمعت وقع خطى تقترب، فالتفتُّ نحو الباب بشغف.. ظهر بقامته الناحلة يحمل كاسيتا وضعه في المسجل فتعالى وقع غريب، جعلني أقفز من جلستي وأندمج فيه، قال شيئا بالفرنسية، فسمعت «جلال» وأنا أتأرجح على حافة الضياع في الإيقاع يقول:
- هذا طقس الولادة!.
فرحنا نمارس فعل الطلق في الرقص.. ننزل منحنيين، ندفع بذراعينا شيئا من وسطنا، كان يصرخ وكنت أصرخ معه:
- أمه.. أمه.. أمه
- هنكو ..هنكو .. هنكو..
ندفع.. وندفع.. وندفع ذلك الشيء، الذي بدا وكأنه مادة صلبة تخرج من وسطنا.. كنت أحملق في ذلك الطلق المرير، في قسماته المتكسرة ألما وكأنها تحتضر، فوجدني أحتضر أنا الآخر.. حتى لحظة الصمت وكأننا جئنا بالمولود إلى الدنيا.. تهالكت على أرض الغرفة سابحا بنضحي.. هو الآخر تهالك مبتلا يلمع سواده تحت ضوء المصباح الناري.. لبثنا لحظات منهكين.. خدرين إلى أن نهض وساعدني كي أقف على قدمي.. مسح من جديد وجهي وصدري بطرف قميصه، ورجع خطوتين، وأنشد شيئا بالفرنسية:
( أنت إله
لابد أن أضيئك ).
ترجمها «جلال» وقال شيئا لـ «صموئيل» بالفرنسية، فردَّ بجملةٍ وإصبعه النحيفة مصوبة نحوي.. التفتَ «جلال».. حملق بيَّ بعينين مفتوحتين، وهزَّ ذراعه الطويلة هزّة مذهولٍ وقال:
- أتعرف ماذا يقول؟!.
- ...!
لزمت الصمت منتظرا، فأردف:
- يقول لي أنت تفهم لغتي فقط.. أما هو فيفهم روحي!.
صعدتْ بي نشوةٌ مطلقةٌ جعلتني أقفز مرة أخرى.. لم يتوان، قفز هو الآخر.. وضِعنا في موجة رقص عاصف. كنا نصرخ بمرح هذه المرة.. نتقوس محافظين على مسافة المتر، الذي يفصل بيننا، ونحن ندور على محيط دائرة وهمية حددها إيقاع الطبل.. نتبسّم مقربين وجهينا حتى تكاد قسماتنا تتلاصق، ونتراجع منتصبين، نبعد جذعنا العلوي إلى الخلف، أثناء قفزاتنا الجانبية على المحيط حتى نكاد ننقسم.. نعود ببطء شديد إلى وضع الانتصاب التام، لنتقوس مقتربين رويدا.. رويدا، فتنطلق البسمة من أعماقنا في اللحظة، التي تكاد فيها رموش عيوننا تتلامس.. رحنا نردد مخدَّرين:
- أها.. أها.. أها..
ثم:
- أمه.. أمه.. أمه..
بالتناوب.
ولم يدم ذلك الفرح.. بغتةً انتابني الحزن لحظة انتباهي إلى أن صاحبي الحميم سيكون عابرا مثل طيفٍ.. ومن المحتمل أن لا أراه أبدًا في قادم الأيام.. وهاجسي كان صحيحا، فلم أره بعد ذلك أبدًا.. خَمَدَ جسدي.. توقفت عن الرقص.. تهالكت على السرير مطأطأ الرأس، أحملق في الموكيت بشرود، غير قادرٍ على التحديق في قسمات «صموئيل »، الذي هبطَ متكومًا قرب قدميَّ على الأرضِ. أدلى رأسه بالمقلوب كي يطول عينيَّ.. وجدتني أسقط فيهما، فنشجت بهدوء مثل طفلٍ مكسور الخاطرِ.. كفكفَ دمعي براحتيه، وأمسكني من تحت حنكي.. رفع رأسي بروية حتى صرت بمواجهة عينيه.. قام وأنهضني كي أستقيم بقامتي وأبدو متماسكًا، إذ راح يلم جانبيَّ من الخصر وحتى الكتف.. تماسكتُ بعناءٍ.. رجعَ خطوتين.. وأنشدَ بالفرنسيةِ:
( سوف تذهب بعيدًا
وعندما تتذكرني
سوف تفقد جناحيك)
تلك اللحظة سوف أظل أتذكرها كل العمر.. فما أن أتم جملته حتى تداعيتُ متناثرا على الأرض كبناءٍ منخورٍ، ورحتُ في بكاءٍ خافتٍ يشبه الهمس.. مدركًا أن ما أثقل كياني وأذهب بهجة الرقص، أدركه صاحبي بالضبط مثلما أدركتُه أنا.. بعد مرور أكثر من أربعة عشر عاما سوف تتجلى تلك اللحظة في تشردي.. أتذكره بشدة، حينما فقدت جناحي، ورحت أحبو.. لم أجد له مثيلا.. كائن يدرك سري بصمت ودون بوح.. صرت أمد كفيّ حينما يتخلق أمامي حيًّا، يلهث، فأتلمس كتفيه العاريتين، وأصيح في الأزقة الغريبة:
- أينك يا أخي الزنجي المجهول؟!. أين أنت الآن.. يا ليتك إلى جانبي كي أفضي لك بما آل إليه حالي!؟!.
- لا أحد سواك يا خلّي يفهم ما بي.. لا أحد!
صرت أصرخ في أقصَى الوجد بزاوية دافئة، أقتنصها وحدي:
- «صموئيل» يا صاحبي.. أين أنت؟!.
يتحول الصراخ إلى نشيج خافت يتصاعد قليلًا.. قليلًا، فيستحيل إلى نُواحٍ وهذيان، وسط دهشة المارة على الرصيف:
- فقدت جناحي يا خلِّي..؟!.
أتماسك بعد دقائق لأَضيع في الشارع.
كم حاولت تذكر اللحظة التي أعقبت إنشاد «صموئيل» لقصيدته الأخيرة.. كم حاولت.. دون جدوى! إذ إنها أسقطتني في بحر النسيان، فلم أستطع أبدًا تذكر الكيفية، التي انتهى فيها مشهد تلك الليلة الأخير.. كل ما أتذكره وجه الزنجي الناعم القسمات، يحنو عليّ، وأنا أترسب في قعر الغياب قليلا.. قليلا.. نادبًا حالي لفراق أخي الزنجي الحميم، الذي لم تلده أمي.. كمن يغرق في الماء.. كان وجه «صموئيل» آخر ما تذكرته صبيحة اليوم التالي، لما استيقظتُ على طرق عنيف على الباب.. نهضت كمن يسير في حلمٍ.. دورت المقبض وسحبت الضلفة.. وجدت «عزيز» يقف باسما بوجهه المنحوت، وكأنه من حجر:
- مساء الخير..
فأدركت أن الساعة جاوزت منتصف الظهيرة.. أجبته بخفوت:
- مساء النور!.
هدر بلغته السوقية البذيئة في شريط من الفشار المألوف لنا أولاد الأحياء الفقيرة:
قم يا مجنون .. إيش بيك.. شنو حلمان.. قوم.. لنخرج إلى الشارع.. الدنيا بعد الظهر.. أكيد ارتحت أمس.. مو مثلي گضيته معارك بالفراش!.
لم أنطق بحرف.. كنت في كون، وهو في كونٍ آخر.. ارتديت ملابسي بعناء، وسعيت بقدميّ الواهنين نحو الباب خلف قامة «عزيز» النشط.. التفت نحوي، قبل أن نتجاوز عتبة الباب قائلا:
- ألف مرة گلت لك خفف الشرب خاف توگع وتموت!.
صمت قليلا وأردف:
- شوف تمشي بصعوبة.. والله العرق راح يكتلك.
- ...
كان يتكلم بمرح ومزاج وكنت مثل ميت تمامًا، أفكر في «صموئيل»، الذي لم أودعه؛ إذ سقطت في النوم حتى لحظة قدوم «عزيز».
لم نأخذ المصعد.. نزلنا على السلالم. في الطابق الأول وعلى الفسحة الصغيرة بين ثنيتين، أوقفنا زنجي صغير الحجم، لم أتعرفه تلك اللحظة. سحب «عزيز» جانبًا، وهمس بأذنه شيئا بالروسية، ورمقني بعينين ودودتين باسمتين، قبل أن يواصل صعوده السلالم.. اقترب«عزيز» مني وفي ملامحه دهشة، وقال:
- ولك هذا أمنين لك!.
لما اختفى خلف ثنية السلم تذكرته:
- فماذا أقول لـ «عزيز» كي يفهم؟!.
تبسمت بصمت، فعلق ساخرًا:
- يصير عبد سوادي متزوج زنجية وإحنه ما ندري؟!.
سألته:
- ليش أش گال لك؟!.
قهقه «عزيز» بصخب وقال:
- يگول أوصيك بأخي.. ولك وين لگيته.. البارحة عفتك بالليل ويه «جلال» بالغرفة .. الصبح زنجي يصير أخوك.. ولك والله خبلتني.
لم أجب بشيء.. تبسمت، وقلت مع نفسي:
- هو أخي فعلا!.
قلتها بشجن..
وتأرجحت على حافة الفراغ!.