نكبة فلسطينية جديدة؟ لمَ لا

محمود الصباغ
2023 / 8 / 21 - 22:18     

بيتر بينارت
ترجمة محمود الصباغ
"إن رغبتُ بهدم منازل الإرهابيين، فمن يقف في طريقي.. من يمنعني من إلغاء حقوق عائلات الإرهابيين"؟ هكذا صرخت تالي غوتليب عضو الكنيست عن حزب الليكود، في تجمع مؤيد للحكومة يوم 27 آذار [الماضي]؛ وعند كل سؤال منها كان يردد الحشد بصوت عالٍ "المحكمة العليا". وعندما اعتلى إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي) كرر صرخة مشابهة : "عندما جئنا لنقدم قانون عقوبة الإعدام بحق الإرهابيين، من وقف ضدنا.. عندما قدمنا مشروع قانون منح الحصانة لجنودنا، من وقف ضده؟" لتأتيه أيضاً ردوداً مماثلة من الجمهور: "المحكمة العليا".
تمثل هذه الاقتباسات غيضاً من فيض ما يستشهد به المسؤولون الإسرائيليون في حكومة بنيامين نتنياهو، من قيود تضعها المحكمة العليا الإسرائيلية لشل قدرتهم على معاقبة الفلسطينيين، وذلك في سعيهم الحثيث على إضعاف المحكمة.
في المقابل، يصف الكثير من الفلسطينيين، في سياق توصيفهم لأجندة الحكومة الحالية، دعوات غوتليب وبن غفير كجزء من استراتيجية أكبر تتمثل في الطرد الجماعي لهم من البلاد. وكان الناشط الفلسطيني المناهض للاحتلال، فادي قرعان، قد أخبرني في أوائل آذار [الماضي] عن شعوره "كما لو أننا على أعتاب نكبة أخرى" -والنكبة مصطلح يشير إلى طرد ما يقرب من 750.000 فلسطيني عند قيام إسرائيل. وقد قام الباحث خليل الشقاقي، في كانون الأول الماضي، بطلب من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وضع تصوراتهم عن "طموحات إسرائيل على المدى الطويل"، كانت إجابة 65٪ من المستطلعين تؤكد على سياسات "توسيع حدود إسرائيل لتشمل كل المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. البحر وطرد سكانها العرب ”(التشديد مضاف من الكاتب).
من ناحية أخرى، يبدو مثل هذا الاحتمال غير وارد في الخطاب السياسي الأمريكي السائد، فالعديد من المسؤولين في الحكومة الأمريكية لا يقرون بحقيقة مخاوف الفلسطينيين من وقوع نكبة جديدة. بل إنهم يتعاملون، في أحيان كثيرة، مع الفلسطينيين كشعب سوف يسير في طريق استقلاله في حال تخلوا عن الأفعال "غير المفيدة" -مثل المطالبة بالضغط الدولي على إسرائيل- فمثل هذه الأشياء "تبعدهم خطوات كثيرة عن حل الدولتين". ولكن عندما يزعم الفلسطينيون أن هدف إسرائيل على المدى الطويل ليس إقامة دولة فلسطينية بل طردهم، فهذا ليس نوعاً من الهلوسة. لأن دينامية الطرد متجذرة بعمق في التاريخ الصهيوني، وفي المشاعر السائدة في إسرائيل اليوم، بما فيها مشاعر وسياسات ورغبات وتصريحات السياسيين، والمعلقين الذين يُنظر إليهم في العموم كرموز وسطية. لقد ألمح كلاَ من وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، ومستشار الأمن القومي، ووزير الزراعة -وجميعهم أعضاء في حزب الليكود المحافظ وهو حزب رئيس الحكومة أيضاً؛ بنيامين نتنياهو المحافظ ويصنف في خانة أحزاب يمين الوسط في إسرائيل- إلى أفكار تؤدي إلى إخراج الفلسطينيين من البلاد. ورغم خفوت وتائر طرد الفلسطينيين خلال 75 عاماً منذ [حرب استقلال إسرائيل]، فما زال هناك أسباب وجيهة تستوجب القلق من أن تطرف الحكومة الحالية، إلى جانب ارتفاع وتيرة العنف في الضفة الغربية، يمكن أن يحوّل هذا التدفق البطيء الحالي لسياسات الطرد إلى فيضان كبير يذكر بما حصل في العام 1948 .
التظاهر بعدم إمكانية وقوع نكبة أخرى تجنب المسؤولين الأمريكيين من طرح سؤال مثير للقلق، لكنه حيوي: ماذا باستطاعتهم فعله لتجنبها؟
ومن الضرورة فهم مدى انتشار فكرة التطهير الإثني للفلسطينيين في تاريخ الصهيونية كي نفهم مدى انتشارها في المجتمع الإسرائيلي المعاصر، من الضروري فهم مدى انتشارها في تاريخ الصهيونية. لم تكن نكبة العام 1948 مصادفة فُرضت على الحركة الصهيونية بفعل الرفض الفلسطيني والغزو العربي. بل مثلت إجابة على معضلة راودت الساسة الصهاينة منذ ولادة الحركة؛ وتمثلت المشكلة في كيفية تأسيس دولة يهودية في منطقة تسكنها أغلبية عربية. ففي بداية العام 1895، أسرّ ثيودور هرتزل في مذكراته: "سنحاول نقل السكان [الأصليين] الفقراء عبر الحدود دون ضجة بتوفير فرص عمل لهم في بلدان العبور"(1). وأشار المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في كتابه المؤثر: مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited"، إلى "تشكل إجماع؛ أو شبه إجماع بين القادة الصهاينة حول فكرة الترانسفير/ الترحيل transfer كحل طبيعي وفعّال وحتى أخلاقي للمعضلة الديمغرافية"؛ وذلك عندما اتضح لهم مقاومة العرب للسيادة اليهودية، وتقييد البريطانيين لليهودية عاجلاً أم آجلاً، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وفي العام 1938، أعلن دافيد بن غوريون، الذي سيصبح أول رئيس وزراء لإسرائيل، "أنا أؤيد الترحيل الإجباري". وفي العام التالي، وافق منافسه الرئيسي، الزعيم التنقيحي زئيف جابوتنسكي، على أنه "يجب على العرب إفساح المجال لليهود في أرض إسرائيل Eretz Israel. وإذا كان ممكناً تهجير شعوب البلطيق فمن الممكن أيضاً نقل العرب الفلسطينيين ".
وعندما تقوم الجماعات اليهودية الأمريكية بتوجيه اللوم نحو القادة العرب والفلسطينيين بأنهم السبب في النكبة لرفضهم مقترح التقسيم الذي قدمته الأمم المتحدة في العام 1947، فهم يتجاهلون حقيقة أن العرب [حتى لو قبلوا في التقسيم] فهم يشكلون ما يقرب من ثلثي سكان فلسطين الانتدابية، وهذا يعني ما يقرب نصف سكان الأراضي المخصصة للدولة اليهودية. لقد كان من الضروري ضمان وجود أغلبية يهودية كبيرة، ولتحقيق هذا كان ينبغي ببساطة طرد العرب - وهي عملية بدأت، على كل حال، قبل أشهر من إعلان الحكومات العربية الحرب. ولهذا السبب، حتى بيني موريس نفسه، الذي لا يعتقد -بخلاف بعض المؤرخين الآخرين- أن القيادة الصهيونية صاغت خطة طرد محددة، قد اعترف بأن "بن غوريون كان مؤيداً للترانسفير؛ لقد أدرك بعدم إمكانية وجود دولة يهودية تعيش في وسطها أقلية عربية كبيرة ومعادية ".
لم يتوقف هذا المنطق الأساسي -أي يجب على الدولة اليهودية أن تشمل أكبر قدراَ ممكناً من الأراضي وأقل عدد ممكن من الفلسطينيين- مع قيام إسرائيل في العام 1948. ويستشهد بيني موريس في كتابه "حروب الحدود الإسرائيلية Israel’s Border Wars"، بتقرير لوزارة الخارجية الإسرائيلية يؤكد أن الدولة اليهودية طردت ما يقرب من 17000 بدوي بين عامي 1949 و 1953، إما لاتهامهم بمهاجمتهم القوات الإسرائيلية؛ أو لتسللهم إلى أراضٍ ومنابع مياه يطمع بها اليهود. وعندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية في العام 1967، طردت مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الأردن. كان قادة إسرائيل عازمين بشكل خاص على إبعاد الفلسطينيين من المناطق التي اعتبروها ذات أهمية استراتيجية أو سياسية مثل القدس الشرقية، واللطرون (قطاع ضيق من الأرض إلى الجنوب من مدينة موديعين الإسرائيلية حيث تمتد الضفة الغربية إلى داخل إسرائيل)، ووادي الأردن الذي شكل بعد الحرب حدود إسرائيل الجديدة مع الأردن، كما أوضح ذلك تفصيلاً منير نسيبة من جامعة القدس. وكما اعترف أرييل شارون، الذي قاد القوات الإسرائيلية في العام 1967 قبل دخوله معترك السياسة: " لطالما قدمنا مساعدة لمن يرغب من العرب الهجرة من هنا على مدى سنوات عديدة بعد حرب الأيام الستة".
وما زالت إسرائيل، رغم عمليات الطرد هذه، تسيطر على حياة ملايين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل. وعلى مدى نصف القرن المنصرم، كررت شخصيات يهودية في إسرائيل وفي الشتات اقتراح ترسيخ أمن وتماسك الدولة اليهودية بإقناع الفلسطينيين بالمغادرة. ورغم ربط الصحفيين، أحياناً كثيرة، هذه الدعوات بأركان اليمين المتطرف مثل الحاخام مئير كهانا، فقد أيد هذه الفكرة أيضاَ العديد من الشخصيات الرئيسية. فقد ورد على لسان الحاخام مناحيم مندلسون قوله لبعض المقربين، في بداية العام 1968 "كان على إسرائيل الطلب من العرب [في حرب 1967] المغادرة والانتقال للعيش وراء الحدود في الأردن". وفي العام 2004، أعلن بيني موريس، المؤرخ نفسه الذي اشتهر بتوثيق عمليات الطرد الإسرائيلية عام 1948، عن حاجة إسرائيل، ربما، لإنهاء المهمة؛ وكان قد وصف للصحفي آري شافيت عرب إسرائيل " قنبلة موقوتة لأنهم، ديموغرافياً وأمنياً، قادرين على إضعاف وتقويض الدولة. لذلك إذا وجدت إسرائيل نفسها مرة أخرى في حالة تهديد وجودي، كما حدث في عام 1948، فقد تضطر إلى التصرف كما فعلت حينها". وبعد ذلك بعامين، كان إيفي إيتام، الجنرال المتقاعد الذي شغل منصب وزير البنية التحتية الوطنية ثم وزير الإسكان والبناء في عهد رئيس الوزراء أرييل شارون، أكثر وضوحاً بقوله: "سيتعين علينا طرد الأغلبية الساحقة من عرب الضفة الغربية من هنا وإزالة عرب إسرائيل من النظام السياسي". وفي العام 2009، اقترح دانييل غوردس، أحد أبرز المعلقين باللغة الإنجليزية في إسرائيل، في كتابه "إنقاذ إسرائيل Saving Israel" بإمكانية "التوصل إلى تسوية مع الدول المجاورة لإسرائيل (مصر، والأردن، وسوريا، وفي النهاية فلسطين) لاستيعاب عرب إسرائيل [لديهم]". وفي لعام ذاته، ترشح السياسي أفيغدور ليبرمان للكنيست على أساس برنامج يطرح تجريد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل من جنسيتهم ما لم يتعهدوا بالولاء للدولة اليهودية. ليبرمان، الذي يُعتبر الآن سياسياً معتدلاً على نطاق واسع لمعارضته لخطط بنيامين نتنياهو للإصلاحات القضائية، كان قد تقلد مناصب وزارتي الخارجية والدفاع.
لا يبدو هؤلاء النقاد والمحللون والسياسيون استثناءات إيديولوجية متطرفة بطريقة ما، بل تحظى وجهات نظرهم تلك بتأييد شعبي واسع. ففي العام 2017، سأل الشقاقي اليهود الإسرائيليين عما إذا كان يجب "طرد العرب الإسرائيليين والفلسطينيين في يهودا والسامرة أو نقلهم من إسرائيل". أجاب 40 ٪ بنعم. وفي ثلاثة استطلاعات أخرى طرحت أسئلة مماثلة بين عامي 2015 و 2016، تراوحت نسب تأييد الطرد بين 32٪ و 58٪.
نفذت إسرائيل في العقود الأخيرة عمليات طرد صغيرة لا تقارن بما حصل عامي1948 أو 1967. ووفقاً لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية هَموكيد HaMoked، تسببت السياسات الإسرائيلية التي منعت الفلسطينيين الذين غادروا الضفة العربية وغزة، بين بدء الاحتلال في العام 1967 وحتى اتفاقات أوسلو في العام 1994، من العودة مما أجبر نحو9000 فلسطيني على العيش في منفى دائم على مدار العام. واستمرت سياسات مماثلة منذ أوسلو في القدس الشرقية، حيث ألغت إسرائيل -وفقاً لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية بتسيلم B’Tselem- إقامة حوالي 14000 فلسطيني منذ العام 1967. لكن هناك أسباب للخوف من احتمال ارتفاع هذه الأرقام بشكل كبير. ففي آذار الماضي، لاحظ مايكل بارنيت، أستاذ الشؤون الدولية والعلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، إدراج الأمم المتحدة سلسلة من "عوامل الخطر" تحدد بموجبها دلالات ومؤشرات الإبادة الجماعية وأشكال "أقل" من العنف المنظم في بلد معين. ومن بين عوامل الخطر هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتمييز المنهجي ضد جماعة مستضعفة، والهجمات الواسعة على المدنيين، والدافع والقدرة على ارتكاب فظائع أوسع نطاقاً. ولاحظ بارنيت أن "إسرائيل تحقق جميع هذه العوامل". كما أشار إلى أن أحد عوامل الخطر الرئيسية هو "حالات النزاع المسلح". وليس من قبيل المصادفة حدوث أكبر عمليتي طرد قامت بهما إسرائيل، في عامي 1948 و 1967، أثناء الحرب. حيث تتيح الحرب تنفيذ سياسات التطهير الإثني؛ سواء في إسرائيل وفلسطين، أو في يوغوسلافيا السابقة في التسعينيات، أو في شمال إثيوبيا اليوم، بما يمكن للحرب من تأمين ذريعة لترحيل المدنيين ومنع وصول الصحفيين والمراقبين الدوليين الذين قد يوثقون ما يحدث على الأرض.
تؤدي الحرب أيضاً إلى جعل السكان اكثر تطرفاً. كما لاحظ الباحثان إيفات ماعوز وروي إيدلسون، فقد ارتفعت نسي الدعم اليهودي الإسرائيلي للطرد خلال الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات، وانخفضت بعد انتهائها، ثم ارتفعت مرة أخرى مع الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
تبدو فرص اندلاع انتفاضة ثالثة اليوم، أكبر مما كانت عليه منذ ما يقرب من عقدين. ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة، قتلت إسرائيل عدداً أكبر من الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية في العام 2022 أكثر من أي عاماً منذ 2006، عندما كانت الانتفاضة الثانية على وشك الانتهاء. وهذا العام، سيكون عدد القتلى الفلسطينيين في طريقه للوصول إلى أعلى من ذلك. وكان مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز قد حذر، بعد زيارة إسرائيل في شباط الماضي، من احتمال اندلاع انتفاضة أخرى قريباً.
نعلم كيف ردت إسرائيل بوحشية على الانتفاضات السابقة، في ظل حكومات لم تضم مثل هذا العدد الكبير من المسؤولين الذين يتغزلون علناً بفكرة الطرد الجماعي. فعلى سبيل المثال تعتبر عملية هجرة الفلسطينيين بالنسبة لوزير المالية الحالي بتسلئيل سموطريتش، والذي يشرف أيضاً على الإدارة المدنية في الضفة الغربية، ضرورية لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وقد وضع في العام 2017، ما أسماه "الخطة الحاسمة" يُعرض فيها خيار على فلسطينيي الضفة الغربية؛ فأولئك الذين يوافقون على "التخلي عن تطلعاتهم الوطنية" -بعبارة أخرى، التخلي عن المطالبة بدولة فلسطينية أو جنسية إسرائيلية- سيُسمح لهم البقاء في الضفة الغربية بصفتهم مواطنين عديمي الجنسية. أما أولئك الذين يصرون على تللك المطالب فسيتم منحهم "مساعدة للهجرة". ورغم أن الخطة لا تشمل سوى فلسطينيي الضفة الغربية، فقد أكد سموطريتش عدة مرات أن الفلسطينيين مواطنو إسرائيل الذين يتحدون السيادة اليهودية عليهم أن يلقوا مصيراً مماثلاً. وفي نيسان 2021، أعلن سموطريتش، في تغريدة موجهة إلى عضو الكنيست الفلسطيني أحمد الطيبي، أن "المسلم الحقيقي يجب أن يعرف أن أرض إسرائيل ملك لشعب إسرائيل، ومع مرور الوقت لن يبقى هنا عرب مثلك لا يعترفون بذلك"؛ وفي خريف العام 2021 اعتبر سموطريتش وجود عرب في الكنيست أمر خاطئ؛ لأن بن غوريون "لم ينه المهمة ويطردكم خارجاً في العام 1948".
ليس صعباً تخيل سموطريتش كسف يفسر انتفاضة فلسطينية أخرى بصفتها دليلاً على أن آلافاً إن لم يكن ملايين الفلسطينيين يحتفظون فعلياً بـ "تطلعات وطنية"، وبالتالي يجب تقديم المساعدة لهم في مغادرة البلاد. وكما اعترف زعيم المعارضة بيني غانتس في شباط الماضي "يريد سموطريتش التسبب في نكبة فلسطينية أخرى - فالتصعيد، بالنسبة له، أمر مرغوب فيه". ومن المفترض أيضاً أن يكون مرغوباً لدى بن غفير، الذي اقترح في العام الماضي إنشاء وزارة "لتشجيع الهجرة" بين الفلسطينيين "الذين يريدون القضاء على الدولة اليهودية". ومثل سموطريتش، لا يقصر بن غفير هذه الرؤية على الفلسطينيين في الضفة الغربية. فخلال حملة 2022، نصبت حملته لوحات إعلانية أسفل صور أعضاء الكنيست من الأحزاب الفلسطينية كُتب عليها "ليُطرد أعداؤنا". وسوف يكون مريحاً الاعتقاد بأن سموطريتش وبن غفير يمثلان حالات شاذة لا تتمتع وجهات نظرهما إلا بقدر ضئيل من الاهتمام في حكومة يقودها أعضاء من حزب الليكود الأكثر اعتدالًا بزعامة بنيامين نتنياهو. لكن العديد من كبار وزراء الليكود في الحكومة أبدوا انفتاحهم على الطرد الجماعي أيضاً. فها هو آفي ديختر، وزير الزراعة والتنمية الريفية الحالي في إسرائيل، وأحد أعمدة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وقاد على مدى العقدين الماضيين جهاز الشاباك، الأمن الداخلي الإسرائيلي، وشغل منصب وزير الأمن العام في عهد رئيس الوزراء الوسطي إيهود أولمرت، وأكمل زمالة في معهد بروكينغز المرموق في واشنطن. في العام 2007، يحذر، رداً على الأخبار التي تفيد بمقاطعة المواطنين الفلسطينيين للاحتفالات بالذكرى الستين لتأسيس إسرائيل، من أنه "كل من يبكي على النكبة عاماً بعد عام، لا ينبغي له أن يتفاجأ إذا حدثت نكبة [جديدة] بالفعل في نهاية المطاف".
ويوجد، من بين زملاء ديختر في الليكود ، من لا يمانع من إجراءات الطرد، مثل تساحي هنغبي، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، والذي نشط ليس فقط في الائتلافات اليمينية بل حتى في الائتلافات الوسطية نسبياً مثل تحالفات شارون، التي فككت المستوطنات الإسرائيلية في غزة. ويعتبر هنغبي، وعلى العكس من سموطريتش، الذي رفض مسؤولو إدارة بايدن مقابلته، محاوراً محترماً في واشنطن. التقى بوزير الخارجية أنطوني بلينكين في آذار الماضي. هدد هنغبي باستخدام سياسات الطرد الجماعي عندما كتب على حسابه في موقع فيسبوك بعد أن قتل فلسطينيون ثلاثة مدنيين إسرائيليين في الضفة الغربية في العام 2017: "هكذا تبدأ (النكبة).. تماماً مثل هذا.. تذكروا العام 48.. تذكروا العام 67.. عندما تريد إيقاف ذلك كله، سيكون كل شيء قد انتهى بالفعل، سيكون ذلك بعد (النكبة) الثالثة". ثم هناك يوآف غالانت، الذي أقاله بنيامين نتنياهو مؤخراً ثم أعيد تنصيبه وزيراً للدفاع الذي قال موجهاً كلامه للفلسطينيين في خطاب له العام الماضي: "قبل أربعة وسبعين عاماً، جرّكم قادتكم داخل دولة إسرائيل إلى حرب أدت إلى نزوح جماعي من إسرائيل"، ثم حذّرهم من الثمن الباهظ الذي سيدفعونه لو فكروا في تجاوز الخطوط الحمراء".
من غير الممكن معرفة كيف يمكن أن يحدث الطرد الجماعي. لكن أحد الأدلة يكمن في الاتفاقات الائتلافية التي تحدد أجندة الحكومة الحالية، التي تطالب الحكومة بإطلاق عملية تسجيل الأراضي في الضفة الغربية. في حين يبدو الأمر تقنياً، إلا أن تداعياته المحتملة هائلة. نظراً لامتلاك العديد من الفلسطينيين في الضفة الغربية وثائق من العصور الأردنية أو البريطانية أو حتى العثمانية -والتي لا تفي بالمعايير القانونية الإسرائيلية- ولأنهم يفتقرون إلى الوصول إلى قواعد البيانات التي يمكن أن تؤكد ملكيتهم، فمن المحتمل أن تؤدي عملية تسجيل الأراضي إلى إعلان إسرائيل أن الكثير من الفلسطينيين لا يملكون الأرض التي يعيشون عليها، لتصبح أراضيهم بالتالي ملكاً للدولة، والتي يمكن أن توزعها على المستوطنين. في تحليل مشترك لاتفاقيات الائتلاف، خلصت المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية التقدمية "ييش دين Yesh Din" و "كسر الصمت Breaking the Silence" و "جمعية الحقوق المدنية في إسرائيل Association for Civil Rights in Israel" و "أوفيك Ofek " إلى أن تسجيل الأراضي "من المتوقع أن يجرد الفلسطينيين من حقوق الملكية على نطاق هائل". وبمجرد حدوث ذلك، سيصبح العديد من الفلسطينيين مثل أهالي "مسافر يطا" و"الخان الأحمر"، الذين اعتبروا معتدين على المكان بطريقة غير قانونية، ومن المقرر هدم منازلهم. وعندما سألت محامي حقوق الإنسان الإسرائيلي مايكل سفارد كيف يرى المسارات النهائية لهذه العملية، أكد أن سموطريتش وحلفاؤه يأملوا في فرض ضغوط كافية على الفلسطينيين لإقناع العديد منهم بالمغادرة. وأوضح أن "الفكرة هي وضع تدابير قسرية من شأنها إخراج الناس من البلاد".
كيف سيكون رد فعل إسرائيل لو تبنى الفلسطينيون، بدلاً من ذلك، أسلوب المقاومة الواسعة؟ هل سيتم التراجع عن تلك الإجراءات أم ستلجأ الحكومة إلى المزيد من التدابير القسرية؟ من المستحيل معرفة الجواب. ولكن هناك عاملاً واحداً نهائياً يجعل عملية الطرد الجماعي أكثر احتمالية، ويتمثل في اعتقاد الحكومة الإسرائيلية بأنها تستطيع الإفلات من العقاب. ففي العام 2001، تفاخر نتنياهو، في محادثة سُجِّلت سراً، بأن "أمريكا شيء يمكن تحريكه بسهولة بالغة"*. لم يوجد ما يمنعه، فيما بعد، على إعادة النظر بقوله هذا. وقد تعهد بصفته رئيساً للوزراء بعدم إزالة مستوطنة أخرى، ومنح وزارات عليا لعنصريين فظين مثل سموطريتش وبن غفير، وأشرف على ما وصفه السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل دانيال كيرتزر مؤخراً بأنه "نمط من تراجع إسرائيل عن التزاماتها تجاه الولايات المتحدة، والذي اعتبره "غير عادي". على الرغم من كل هذا، تواصل أمريكا تقديم دعم مالي ودبلوماسي غير مشروط لإسرائيل، ويرفض رؤساء كلا الحزبين تطبيق القوانين التي تحظر استخدام المساعدات الأمريكية في قضايا قد تصل إلى انتهاك حقوق الإنسان، ويعرقلون بلا هوادة جهود التحقيق وإدانة الانتهاكات الإسرائيلية في المحافل الدولية. ولا شيء في سجل جو بايدن يوحي بأنه سيغير هذا الوضع. كمرشح رئاسي، وصف فرض شروط حقوق الإنسان على المساعدات لإسرائيل بأنه "أمر مشين للغاية". ومؤخراً، في 20 آذار الماضي، بعد أسابيع فقط من المذبحة ضد الفلسطينيين في بلدة حوارة بالضفة الغربية، أجاب المتحدث باسمه على سؤال حول اشتراط المساعدات بانتهاكات حقوق الإنسان؛ بتكرار "دعم الإدارة الصلب لأمن إسرائيل". (يدعم موقف بايدن منظمات يهودية أمريكية مثل اتحاد اليهود في أمريكا الشمالية Jewish Federations of North America، والتي وصفت مؤخراً دعمها لإسرائيل بأنه "غير مشروط وأبدي"). ونظراً للسجل الأمريكي على مدى الثلاثين عاماً الماضية لا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن ثمة ما يمكن أن تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين سيجعل الديمقراطيون في الإدارة، وبالأخص الجمهوريون، يعارضون تقديم المساعدات لإسرائيل، أو يدعمون قرارات ضدها في الأمم المتحدة، أو مقاضاة مسؤوليها في المحكمة الجنائية الدولية.
في تموز 2015، بعد عدة أسابيع من إعلان دونالد ترامب ترشحه للرئاسة، حذر عضو الكونغرس عن ولاية مينيسوتا آنذاك كيث إليسون من أن ترامب قد يفوز، وقال إليسون في برنامج محطة ABC الحواري "هذا الأسبوع This Week": "أي شخص من الجانب الديمقراطي يخشى من احتمالية فوز ترامب بالرئاسة.. علينا التصويت أكثر وعلينا المشاركة أكثر.. لأن هذا الرجل قد حصل على بعض الزخم". انفجر المشاركون في البرنامج بالضحك، ثم قال مضيفه جورج ستيفانوبولوس "لا أعتقد أنك تصدق هذا.. أعلم أنك لا تصدق" لكن إليسون -الضيف الأسود الوحيد في البرنامج- لم يكن يمزح. وأصر على أن " لقد حدثت أمور غريبة بالفعل". عندما حذر إليسون زملائه من أن الأمريكيين الذين يريدون إيقاف ترامب بحاجة إلى "النشاط"، كان يربط بين الخيال السياسي والمسؤولية السياسية.
إن افتراض استحالة حدوث نكبة أخرى يسمح للمسؤولين الأمريكيين بتجنب سؤال أنفسهم عما سيفعلونه لمحاولة منعها. وهو أمر مناسب، لأن الإجابة على هذا السؤال، بناءً على الأدلة الحالية، هي: ليس لديهم ما يفعلونه.. ليس كثيراً على الإطلاق.
.....
العنوان الأصلي Could Israel Carry Out Another Nakba?
المؤلفPeter Beinart
المصدرhttps://jewishcurrents.org/could-israel-carry-out-another-nakba
....
1.اقترحت نسخة سابقة من هذا المقال أن إدخال مذكرات هرتزل حول نقل السكان الأصليين يشير تحديداً إلى السكان العرب في فلسطين. بينما يفترض المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس أن هرتزل كان يشير إلى العرب، يشير مؤرخون آخرون مثل أنيتا شابيرا إلى أن المقطع لم يكن محدداً، لأن هرتزل "لم يقرر بعد ما إذا كانت الأرض التي سيتم الاستيطان فيها اليهودي في المستقبل هي فلسطين أم الأرجنتين". كما أوضح مؤرخ هارفارد ديريك بنسلار، مؤلف كتاب "هرتزل والعرب الفلسطينيين: الأسطورة والأسطورة المضادة" في مجلة التاريخ الإسرائيلي لبيتر بينارت في رسالة بريد إلكتروني، "في الفقرة المعنية، ليس من الواضح ما إذا كان يشير إلى الأرجنتين أو فلسطين أو أي مكان آخر، لأنه في حزيران 1895 لم يكن قد اتخذ أي قرارات إقليمية. لكن الأمر كان بالتأكيد يتعلق بإبعاد السكان الأصليين". لعكس هذا الغموض، قمنا بتغيير الكلمة الموجودة بين قوسين في الاقتباس من "العرب" إلى "السكان الأصليين".
...
* تصريح سابق ببنيامين نتنياهو في سياق محادثة غير رسمية مسُجلة في العام 2001، والجملة الكاملة هي: "America is something that can easily be moved. Moved to the right -dir-ection." بمعنى (أمريكا شيء يمكن نقله بسهولة، يمكن نقله في الاتجاه الصحيح). وقد أثار جدلاً واسعاً في حبنه وتعرض للعديد من الانتقادات، وفسره البعض بالإشارة إلى زعم نتنياهو القدرة في التأثير على القرارات الأمريكية التي تخدم مصالح إسرائيل. لم يتسبب هذا التصريح في رد فعل رسمي محدد من الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت.- المترجم