محمد نوح ... مدد مدد


فاطمة ناعوت
2023 / 8 / 20 - 12:02     

“محمد نوح" … مدد مدد

هذا شهر أغسطس الذي يخاصمُه قلبي؛ لأنني فقدتُ فيه آباءً يظلُّ رحيلُهم يخزُ قلبي بشوكة الوجع، كلّما تصوّرتُ كيف للحياة أن تكون أجملَ وأرحم لو كانوا حولي، أنعمُ بظلال وجودهم. أبي المتصوفُ المثقف سافر إلى فردوس الله في أغسطس قبل سنوات بعيدة، وأبي الروحي المتصوفُ الفنان "سمير الإسكندراني" سافر إلى السماء في نفس يوم سفر أبي الحقيقي ١٣ أغسطس قبل أعوام ثلاثة، وكذلك أبي الروحي المتصوف الفنان "محمد نوح" غدرني وغادر كذلك في أغسطس عام ٢٠١٢ وهو في أوج حزنه على ضياع مصر في عباءة الإخوان، ولم يقوَ قلبُه على الانتظار قليلا؛ حتى يرى وطنَه العظيم ينتفضُ ويمزّق عن جسده دثارَ العار، ويتحرر في ٣٠ يونيو ٢٠١٣. رحل الفنان الجميل "محمد نوح" ولسانُه يلهجُ بنجوى الله وعشق الوطن: “مدد مدد مدد مدد، شدي حيلك يا بلد!”
ما أعجبَ تلك الأغنية الخالدة! تشعُّ الفرحَ، والحزنَ، في آن! أُسمّيها قطعةً مُشعّة من الأحجار الكريمة تلمعُ بالضوء واللون وفق كمية وزاوية الضوء الساقط عليها. تسمعُها في وقت الانكسار، فتشدُّ ظهرك وتقوّيك. تسمعُها في وقت الانتصار، فتُحلّق بك فرحًا وفخرًا.
"مدد مدد مدد مدد/ وشدّى حيلك يا بلد/ إن كان في أرضك مات شهيد/ فيه ألف غيره بيتولَد." غّناها عصفورُ الوطن "محمد نوح" بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، من موسيقاه وكلمات الشاعر "إبراهيم رضوان". لكن القرار السياسي آنذاك لم يشأ أن يَقرَّ في وجدان الناس الشعورُ بالهزيمة، فأُطلِق عليها "نكسة"، ورفضت الإذاعة المصرية بثَّ الأغنية وقتها، وظلّت حبيسة الأدراج سنواتٍ حتى أشرق أكتوبرُ بالفرح وحقق جيشُنا العظيم انتصار ١٩٧٣، فبحثوا عن "الفتى نوح"، وفتّشوا عن أغنيته الجميلة، وحُرّرت من محبسها وصدح صداها في جميع أرجاء الوطن. وكنّا نسمعها ونغنيها في طفولتنا حين نزور "معرض الغنائم" في رحلاتنا المدرسية، فتشتعلُ قلوبُنا الصغيرة وطنيةً وحماسةً. ألم أخبركم أنها أغنية "مشعّة" تحمل وخز الانكسار، وزهو النصر! وبعد الانتصار كوّن "نوح" فرقته الموسيقية "النهار" التي اشتهرت بالأغاني الوطنية، واختار اسمها تيمّنًا بالنهار الذي يشقُّ ظلام الليل، متوسّلا "الموسيقى" سلاحًا للنضال الوطني. وكان يعزفُ على البيانو والعود والكمان والناي. بعد دراسته التأليف الموسيقي في المعهد العالي للموسيقى العربية، أكمل دراسته في جامعة ستانفورد الأمريكية، وعاد أستاذًا زائرًا في معهدي الموسيقى العربية والسينما. بدأ حياته في المسرح الغنائي المصري مطربًا وممثل. وعطفًا على تلحينه أغان وموشحات لمطربين مصريين وعرب كثيرين، كتب الموسيقى التصويرية لعدد كبير من الأفلام والمسرحيات منها موسيقى فيلم "المهاجر" الساحرة. وأخرج فيلمًا عن رحلة العائلة المقدسة لمصر. ولا ننسى دوره الجميل في فيلم "الزوجة الثانية" حيث كان هو صوت الضمير اليقظ في عائلة العمدة الإقطاعي الظالم "عتمان".
وربما شخصيته في هذا الفيلم الخالد هي الأقرب لشخصيته الحقيقة فهو المناضلُ النبيل الثائر في وجه الظلم. وشأنُه شأن أي إصلاحي لم ينجُ من سهام خصوم الحياة. اتهمه الإخوانُ بأنه "شيوعيٌّ"؛ إذ يَحضُّ على النضال والثورة! واتهمه الشيوعيون بأنه "إخواني" مادام يقول: "مدد"، مخاصمًا المادية الجدلية! لم يدرك الفريقان أنه عصفورٌ شادٍ يغني لوطن جريح. يشدو لكي يشحنَ الناسَ بالطاقة لتشييد وطن حرٍّ لا ظلم فيه ولا ظلام. هذا العصفورُ الذي عاش أحلام مصر وصافح وجهها المشرق، انسحب عن الحياة العامة مع عبوس وجهها، فعزف عن اللقاءات التليفزيونية والصحفية، وأغمض عينيه عن زيف النور الصناعي ليفتحهما على نصوع النور الإلهي، لتنطلق طاقتُه الصوفية من إسارها. عاش سنواته الأخيرة راهبًا معتكفًا في "مِقلاة" سطح بيته بحي النزهة مصر الجديدة. يسمع الموسيقى، يقرأ الكتب، يتابع الجرائد. ويقيم صالونه الفكري الجميل، الذي تشرفتُ بحضوره مع نخبة من مثقفي مصر، هاربًا من ضجيج الزمن المشروخ بالتردّي الفكري والثقافي.
كان لا يبخل عليّ بمكالمة هاتفية كل أسبوع يأتيني خلالها صوتُه العميق هامسًا: "شاطرة يا بنت!" إن صادفَ لي مقالا أعجبه. ويعاتبني إذا فاتني صالونه الأسبوعي الثريّ. خسرتُ هذا الصوتَ المثقف المُشجّع الذي كان صخرةً قوية في حياتي. ولكن ذاك الصوتَ خالدٌ في قلبي وقلوب المصريين لا يذوي ولا يخفتُ نغمه. وكلما ضربني الشوقُ لصوته أبحثُ عنه في صوت شقيقه الفنان التشكيلي والأديب المثقف"حسين نوح"، صديقي الجميل الذي حصد البصمة الصوتية لشقيقه "نوح" كاملةً غير منقوصة. وأبحث عنه كذلك في صومعة صديقتي وشقيقة قلبي "سحر نوح" كريمته الجميلة. رحمة الله على الصوت الشجي الوطني القادر على نقر قلبك بزخّات النصر، وعلى وخزه بأشواك الوجع، ثم تضميده برحمات الرجاء واليقين بغدٍ أجمل. "ومدد مدد، بُكره الوليد، جاي من بعيد، راكب خيول فجره الجديد، يا بلدنا قومي واحضنيه، ده معاه بشاير ألف عيد.”
***