هذا أبي ...


فاطمة ناعوت
2023 / 8 / 16 - 12:24     

هذا أبي الذي فقدتُه مثل يوم ١٣ أغسطس. منذ طفولتي غرس فيّ أبي المثقفُ المتصوفُ أن أحبَّ جميع الناس دون تمييز ودون سبب. لأن كراهية أيّ إنسان مختلفٍ عني في الدين أو الطبقة أو العِرق غباءٌ وانحطاطٌ أخلاقيّ وضعفُ إيمان بالله. علّمني أبي أن أختصمَ، ولا أكره. أن أختلفَ في الرأي، ولا ألعن. أن أُساجلَ خصومي فكريًّا، ولا أدعو على أحد بالموت والويل والعذاب. علّمني أبي أن أدعو بالشفاء لخصيمي إن مرِض، وأن أدعو بشفاء كل مرضى الدنيا. وإن رحل شخصٌ كنتُ أسمع أبي يقول: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم ارحمه وارحمْ موتى العالمين.” علمني أبي ألا أتمنى الشرَّ لأي كائنٍ حيّ، ولو آذاني. لأن القوة في العُلوّ والنبل والغفران، لا في التصاغر والخسّة والانتقام. علمني أن أقولَ: "سلامًا" لمن لا يستحقُّ المجادلة، لكي أكون من "عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". علمني أن أساجل الأقوياء، لا الضعفاء والموتى. فالضِعافُ لهم المساعدة، والموتى لهم المغفرة. علّمني أبي أن حبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله. وأن الانتصارَ لحقّ المظلوم آيةٌ من آياتِ الله العليا، لأن الله تعالى حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بيننا محرّمًا كما في الحديث القدسي: “يا عبادي إنّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظالموا.” علمني أبي أن من يكره لا يحبُّ. ولهذا أفخرُ دائمًا بأن "جهاز الكراهية" في داخلي مُعَطلٌ منذ ميلادي، ولا أسعى إلى إصلاحه. وأشكرُ الله أنني لم أقبض علي نفسي أبدًا مُتلبّسةً بجرم الدعاء على أحد بالشر، مهما ظُلمت؛ وكم ظُلمتُ طوال حياتي! فقط أدعو اللهَ بأن يفصلَ بيني وبين الظالمين وأن يكشف كيدَ الكَذبة المفترين. هذا أبي الذي غرسَ في قلبي وعقلي قيمَ المحبة والعدل والجمال، وعلّمني أل أبغض، لأن البغض خسّة وصغر.
هذا هو أبي المتصوف الجميل الذي حفظ القرآن كاملا، وكان يؤذنُ للصلاة في المسجد بصوته الجميل، واحترمَ وعلّمني أن أحترمَ جميع العقائد؛ لأنها سعيٌ إنسانيٌّ نبيل لمعرفة الله وبحثٌ دؤوبٌ عن الخالق العظيم. أحسن اللهُ مُقامَك يا أبي في فردوس الله الأعلى، وشكرًا لكل ما علمتنيه من قيم نبيلة جعلتني أحيا في حال سلام روحي، رغم أن فاتورة محبة "جميع الناس" باهظةٌ ومُرّة. فأنْ تُحبَّ "جميعَ" الناس، يعني أنْ يحاربَكَ "معظمُ" الناس! لكنني سأظلُّ في درب المحبة غير المشروطة؛ لأن رضا الله خيرٌ من رضا البشر، وسلامَ الإنسان الداخلي، أهمُّ من حُكم الناس على الناس وهم لا يعلمون. ولهذا قال الإمام "عليّ بن أبي طالب": “لا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلّة سالكيه.” ومحبةُ الناس حقٌّ، لأن الله أحبَّ جميع خلقه، وهو الحق.
كان أبي الجميل يُجلسني على ركبتيه ويقرأ لي قصص الأنبياء. وعلّمني القرآنَ وضبطَ مخارج الكلمات. وكان أبي يعشقُ الطربَ الأصيل فيُدير جهاز تسجيل جروندج Grundig  فيُشيعُ في أرجاء البيت صوتُ "أم كلثوم" و"عبد الوهاب" و"فهد بلان" و"صباح"، أولئك عشقهم أبي وأورثني عشقهم. وكان أبي وأمي يعشقان القرآن بصوت العظيمين: "المنشاوي" و”عبد الباسط"؛ فورثتُ عنهما عشقَهما. وكان أبي يحبُّ "فؤاد المهندس، وشويكار"، ويتباهى بما لديه من ثروة قيّمة من مسرحياتهما مسجّلة على اسطوانات. وكان دائمًا يقول إنني أشبه “شويكار”. وذات يوم قامت أمي بمسح جميع ما سجّل أبي من مسرحيات وأغان من الاسطوانات لكي تسجّل عليها دروس الإنجليزية الذي كان "مستر وليم" يعطيها لي وشقيقي! وحين اكتشف أبي تلك "الجريمة" حزن كثيرًا، وخاصمها. لكن خصام أبي كان يذوبُ بابتسامة. وكان خفيف الظل؛ حين تشتري أمي فستانًا جديدًا وتسأله عن رأيه؛ كان يقولُ ضاحكًا: “الحكاية مش السَّدّ، الحكاية القصة اللي ورا السد!” وحين اكتشفتُ أنني عسراء "شولة" أي أكتبُ وآكل بيدي اليسرى، وبدأ زملائي في المدرسة يضحكون لأنني عاجزة عن الكتابة مثلهم بيدي اليمنى، ركضتُ إليه باكيةً، فضمّني إلى صدري وقال: “هذا تميّز، وليس عجزًا. كثيرٌ من العباقرة كانوا عُسرًا يكتبون باليسرى. “آينشتين، أرسطو، بيتهوڤن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندي، نيوتن، ماري كوري، داڤنشي، مايكل-آنجلو، بيكاسو، كاسترو، آرم سترونج، وغيرهم، كانوا من العُسر. وأعلنت منظمةُ Mensa، التي تضمُّ أذكياءَ العالم، أن معظمَ العُسر ذوو نسبة ذكاء مرتفعة.” ويقولُ العِلمُ إن چين LRRTM1 في المخ هو المسؤول عن العَسَر؛ لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم في نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينةُ الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر، رسّامين ونحّاتين وأدباء وفيزيائيين وعلماء رياضيات. رحمك الله يا أبي الجميل وأحسن مُقامك في عِلّيين.
                                               ***