ضياع


خالد بطراوي
2023 / 8 / 12 - 22:01     

يشهد العالم وبوتيرة متسارعة نسبيا عما كانت عليه في الحقبة المنصرمة، تجاذبات وصراعات إقتصادية عبر تجلياتها السياسية والعسكرية تهدف الى خلق معادلات عالمية جديدة على أرض الواقع وكسر حدّة نظام القطب الواحد العالمي.
نبدا بالدب الروسي الذي إستفاق بعد سبات عميق وذلك عندما وصل سيف الإمبريالية عنقه بالإقتراب من حدوده بعد أن صمت طويلا على المشاريع الأمريكية والآوروبية في أوكرانيا، وعندما بلغت غطرسة الغرب الدرجة القصوى لتهديد الأمن القومي الروسي، نفض الدب الروسي الغبار عن أسماله – كما قال الكاتب مكسيم غوركي- وتحرك عسكريا دونما أي اعتبار لعلاقات المصاهرة مع الأوكران ولا للقانون الدولي الذي كان قادته أباطرة وأدمغة من وضعه بعد الإنتصار في الحرب العالمية الثانية ودحر النازية وكذلك ضرب بعرض الحائط بالقانون الإنساني الدولي وحتى بالقانون العرفي وشرعة حقوق الإنسان، فالمثل يقول " يا روح ما بعدك روح" و " مليون ام تبكي ... ولا تبكي أمي".
ورأينا الدب الروسي لا يقف ويتحوصل عند هذا الحد، بل يحاول ويطبق على أرض الواقع بعض الأستراتيجيات الجديدة الهادفة الى إعادة القطبية في العالم، ولا يخفي مطلقا تدخلاته المباشرة في هذه القارة أو تلك، وما قاعدة "حميم" الروسية العسكرية على الأرض السورية إلا خير دليل على ذلك.
وفي هذا الصدد، ففي الثاني والعشرين من آب الحالي ستعقد في جنوب إفريقيا القمة الخامسة عشر لمجموعة البركس، والتي لم نسمع عنها كثيرا في السابق حيث كانت تعمل ببطء شديد غير ملحوظ.
مجموعة البركس هذه تضم كل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا حيث سيكون على جدول أعمال هذه القمة مسألة " وقف غطرسة وهيمنة الدولار" بالسعي تدريجيا الى إستخدام عملة جديدة ترتبط بالذهب الخالص، تمردا على ما فعله الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1971 بتحرير الدولار من إسناده بالذهب، وسيشكل التعامل بعملة البركس ضربة للدولار واليورو معا، مع الإخذ بعين الإعتبار مباشرة بعض دول البركس التنفيذ الفعلي للتخلص من الدولار حيث وقعت في آذار العام الحالي كل من البرازيل والصين إتفاقا بينهما يحررهما من التعامل بالدولار الأمريكي.
وكما يقول المثل "يا شاري الخبر بفلوسه ... إستنى لما يجيك ببلاش"، فأيام قليلة تفصلنا عن قمة البركس وسيرشح بعدها هذا الكم الهائل من المعلومات حول نتائج القمة، وسنعرف أيضا إذا كان الرئيس الروسي بوتين سيحضر هذه القمة أم لا، أم أنه سيرسل "لأسباب أمنية" من ينوب عنه لحضورها.
وفي ذات الوقت، يزداد نشاط الدب الروسي في القارة الإفريقية حيث تدعم روسيا القيادة الجديدة في كل من النيجر وبوركينا فاسو، وأضحى القائد العسكري الشاب (34 عاما) إبراهيم ترتوري رئيسا لبوركينا فاسو رقما صعبا في المنطقة حيث صدرت عنه تصريحات تتعلق برغبة الجيل الإفريقي الشاب التخلص من التبعية للغرب وتكريس كل مقدرات القارة الإفريقية لصالح شعوبها، فلا يعقل أن تكون إفريقيا – على حد قوله – من أكبر مصادر توليد الطاقة في العالم في الوقت الذي يسود بعض المناطق فيها حيث التجمعات السكانية ظلام دامس.
هذا على صعيد السعي لفرض حقائق على أرض الواقع بتشكل قطب ثان في العالم، والنشاط المحموم لهذا القطب الجديد في القارة الإفريقية مع عدم الإستهتار بالنشاط الغربي هناك وكذلك الصهيوني من خلال التحكم والسيطرة بإثيوبيا ومسألة "سد النهضة" الذي يشكل تهديدا للأمن القومي المصري بالدرجة والاولى والسوداني بالدرجة الثانية، مع إعلان الأخير التطبيع مع الكيان الصهيوني وما يعصف به من صراعات داخلية مسلحة بين قطبي الجيش بزعامة الرئيس السوداني مرتدي البزة العسكرية "البرهان" وقائد قوات الدعم السريع المرتدي أيضا البزة العسكرية "حمدتي". ومن المفيد الإشارة الى أن المملكة المغربية قد تسلمت قبل أيام الشحنة الأولى من " نظام باراك إم إكس " وهو نظام دفاعي في صفقة بقيمة (500) مليون دولار.
ولكن، ماذا عن الشرق الأوسط وصراع القوى هناك والتوازنات السياسية؟
من الواضح أيضا أن هناك تسارعا للأحداث في محاولة لجذب دول الشرق الأوسط الى أحد هذين القطبين، القطب الأول المتشكل قديما بعد إنهيار منظومة الدول الإشتراكية والإتحاد السوفياتي والقطب الذي يتشكل حاليا والمشار إليه أعلاه.
أول أحد أهم الأخبار " الطازة من الفرن" هو اعلان المملكة العربية السعودية تعينها لسعادة السفير نايف السديري سفيرا مفوضا وفوق العادة لملك المملكة لدى دولة فلسطين وقنصلا عاما للمملكة في القدس، عشية إنعقاد القمة الثلاثية المصرية الآردنية الفلسطينية في مدينة العلمين الجديدة بمصر. في الوقت الذي تجري فيه الولايات المتحدة الترتيبات في الشرق الأوسط لما يسمى بـ " خارطة طريق عامة" تشمل تطبيع السعودية وغيرها من الدول للعلاقات مع كيان الإحتلال، وتقديم تنازلات للفلسطينيين وبعض المعونات لدول في المنطقة. وفي ذات الوقت تسعى تركيا التي تعمل على التعافي من آثار الزلزال المدمر الذي ضربها الى أن تكون رقما في المنطقة، بينما تلتزم إيران الصمت وتراقب هذه الأحداث وهي تقول " لا ينتصر من يبتسم أولا".
خلاصة القول، أن ما يجري في العالم هو محاولة إنشاء قطب مواز للقطب الوحيد القائم حاليا، ولكن هذا القطب لن يكون معاديا للقطب القائم كما كان القطب الشرقي معاديا للقطب الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وإنما سيكون موازيا له، يتحرر نسبيا منه ويحافظ على علاقات معه، ويقوم بتقاسم "الكعكة" وإياه.
وبالنسبة للشعوب، فسوف تتأرجح لشديد الأسف بين هذا القطب وذاك القطب وستكتشف الشعوب أنها في حالة "ضياع" كما قالت الشاعرة الفلسطينية الراحلة منال النجوم
ضياع
أكتشف الآن بأني نصفان
النصف الأول قدمان
قدم فوقَ رصيف الوهم
وقدم فوق الخط الفاصل
بين نسيم البر
وماء البحر
والنصف الآخر ولولة من هذا الأمر!!
ومع ذلك انظر الى السماء
ارى بعض الغيوم
والكثير من ضباب الأسئلة
أظنـها ستمطر
وأظنـك ستأتي..!

فهل سيأتي ربيع الشعوب الحقيقي على العالم برمته؟
قال سبحانه وتعالى في محكم التنزيل " وانتظروا إنا منتظرون"- صدق الله العظيم-.