رواية -الحياة لحظة- الفصل الثامن -اليهودية الجميلة -


سلام إبراهيم
2023 / 8 / 11 - 20:50     

اليهودية الجميلة


وقف «إبراهيم» على رصيف المحطة الطويل وسط الحشود.. تحسس حقيبته الصغيرة المعلقة على كتفه، فاطمأن لوجود قنينة الفودكا، وراح يتملى المسافرين المنهمكين بسحب حقائبهم، الصاعدين والنازلين من وإلى عربات القطارات المنتظرة على الأرصفة.. أكثر من خمسة أرصفة عدها.. وجوه.. ووجوه تخطف.. بعض منها يرمقه بفضول، وهو يرتدي بيريه جندي زرقاء من ذلك النوع الذي كان يرتديه في جبهة الحرب العراقية الإيرانية، ويتطلع بوجه كل مارٍ مبتسمًا.. أول يوم يكون فيه صاحيًا إلى هذا الحد. اتفقا على عدم البدء بالشرب قبل صعود العربة.
في باحة المحطة المسقوفة، الرخامية الجدران، العالية الفسيحة المكتظة، قال له «عزيز»:
- شوف هذا الأوجرد ( طابور الانتظار بالروسية ) .. أحسن لك تخرج إلى الأرصفة وتتفرج على الناس!
شخص إلى حيث يشير.. الصفوف تمتد من شبابيك التذاكر حتى بوابات المحطة، مرصوصة.. يكاد الواقفون يلتصقون ببعضهم البعض.
- يعني ساعة!
- زين إذا طلعت بساعة!.. لكن لا تضيّع نفسك.. قطارنا على الرصيف الأول.. إذا ما رجعت يعني أنت هناك!.
الغروب بدأ يهبط بهدوء قادمًا من أفق الرصيف.. كفَّ عن التملي بوجوه الرجال الروس.. فأغلبها متجهمة واجمة مهمومة.. تزيدها السماء المدفونة بالغيم قتامةً.. خلف سقيفة الرصيف العالية، بدأت ندف الثلج تتساقط بصمت.
- كل شيء يغري بكأسٍ من الفودكا!.
هتف مع نفسه ببهجة، لكنه سرح منشغلا بملاحقة وجوه النساء وجهًا.. وجهًا.. متخيلًا شأنها، فهذه عاشقة، وتلك هجرها حبيبها.. هذه مستثارة تصلح للفراش فقط، وتلك الناعمة للجلوس في مقهى منعزل، هذه صاحبة العينين الواسعتين اللعوب المتطايرة النظرات غير المستقرة تصلح للمضاجعة مرة واحدة.. لا.. لليلة.. لا.. لأسبوع.. ويبتسم من أخيلته منتشيًا.. ومتطلعًا إلى الرحلة التي ستستمر طوال الليل.. فبعد أسبوع قضاه «عزيز» في الشقة على أمل الحصول على موعد لمقابلة بعثة جنيف، التي قدمت خصيصًا؛ لمقابلة العراقيين المحاصرين في روسيا، عرض عليه السفر بصحبته إلى «كييف»؛ حيث يدرس ويسكن.. فعلق:
- لكن ما عندي أي وثيقة تثبت شخصيتي!
- ما عليك.. أهم شيء تسكت لما نصعد، وإذا سألك المفتش فظل ساكت، أنا راح أجاوب وأرتب الأمر!.
رأى في الأمر مغامرة جديدة، يضاف أنه ملّ الشقة التي أصبحت يومًا بعد آخر، وكأنها شقة الوزيرية في بغداد وقت الحملة على اليسار أواخر السبعينيات، ملاذًا لعراقيين لا يعرفهم قادمين من محافظات الجنوب والشمال، متكدسين فيها خوفًا من الاعتقال..
في موسكو أيضا تحولت شقته إلى ملاذ لعراقيين في طريقهم إلى بلدان اللجوء قادمين من ليبيا، الجزائر، أوزبكستان. سوريا.. إيران.. ومن شتى البقاع.. طباخون. عمال.. موظفون.. مهندسون.. معلمون.. مقاولون.. غالبيتهم من اليسار نصابون وشرفاء.. كبار وصغار.. بعضهم متطرف.. والبعض معتدل.. يناقشون كل شيء.. ينتقدون كل شيء.. يعبون الفودكا.. يتخاصمون.. يتعانقون.. يصرخون.. ساردين قصصهم في محطات المنافي الأولى، ويذهبون ملهوفين إلى المواخير ليضاجعوا عاهرات روسيات مراهقات من جيل «جورباتشوف».. لا يتعاملن بالروبل.. بل بالدولار فقط.. كان يستحيل عليه طردهم.. فالشقة محطة أولى إلى أن يعثروا على سكن. وافق فورًا، تاركًا «شيركو» يقيم فيها بعد أن أوصاه:
- لا تطرد أحد!
فردّ فورًا:
- قابل أنا مثلك!.
ملمحًا بخبث إلى موقفه من المتشردة الروسية.. شرد مع كل هذه التفاصيل في وقفته جوار جدار الرصيف العالي المنتهي بسقيفة مقوسة، مضاءة بمصابيح مدلاة منتشرة، وكأنها أقمار من نار بدأت تتلألأ مع هبوط المساء.. عاود ملاحقة وجوه المسافرين.. نظر إلى ساعته، وفكر في التسكع بأرجاء المحطة.. جاب القاعة.. مرَّ جنب عزيز.. لم يتقدم سوى أمتار في الصف.. طمأنه بأن لديهم وقتًا. وحذره من فتح القنينة، فأيقظ رغبته بكأسٍ، والتي نسيها في خضم ملاحقته لوجوه الروسيات الباسمة الأليفة.. تركه متجها نحو البوابة الكبيرة، عازما البحث عن عجوز لمحها عند دخولهما تبيع الفودكا والبيرة قرب خطوط العبور.. وجدها في المكان نفسه والمعروض قرب قدميها على حاله.اشترى ثلاث علب بيرة أجنبية، وانسل عائدًا إلى باحة المحطة المزدادة اكتظاظا..
توجه نحو بوابة الرصيف الأول.. انتقى مصطبة ذات مساند تشرف على الخارجين والداخلين، أرصفة القطارات المجاورة، يستطيع من عليها رؤية نهاية السقيفة، وندف الثلج المتكاثفة في هبوطها البطيء. فتح سدادة القنينة الأولى وعبها.. انتشرت في أوصاله النشوة معيدة مجد ليالي السكر السابقة.. اتكأ مسترخيا يتأمل بعينين حالمتين المارة، الجدران، عربات القطار، السقف المقوس، نتف الثلج، المصابيح المدلاة، وجوه المخيلة، الشقق، بشرها المذعورين الخائفين الحائرين في بغداد وموسكو.. فتح سدادة قنينة البيرة الثانية ساخرًا من «عزيز» المصلوب في «أوجرد» روسيا العظيم؛ حتى يحصل على تذكرتين.. قبل أن يطبق على فم العلبة ردد:
- بصحتك.. حبيبي «عزيز» وبصحة «بوشكين» و«جايكوفسكي» و«تشيخوف»!، و«بلغاكوف»، و«ديستويفسكي»، و«تولستوي»، و«مايكوفسكي»، و«تروتسكي»، و«لينين»، و«ستالين» و«خروشوف»، و«بريجينيف»، وعزيزنا «جورباتشوف»... يا «عزيز»!.. أش لون صاير حمار وتتحمل كل هذا الانتظار.. وين تريد بيّ الليلة؟!.
وكأن الشق الأخير من الكلام ضربه عميقًا:
- حقًّا إلى أين؟!.
وحملق في أفق الرصيف المعتم.. مسح بعينيه الحزينتين عربات القطار المنتظر.. عائدًا إلى مشاهد مرت به تتجلى هذه اللحظة في نشوة التأمل، فالقطار منذ تلك التجربة صار سرًّا يلف طفولته البعيدة.. شيئًا شفافًا وكأنه حلم مرّ في النوم مرة واحدة.. لكن حُفِرَ في الروح.. سرح بعيدًا.. بعيدًا.. رأى فيها جسده الصغير وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره، محشورًا في عربة قطار حديدية عارية محشودة بأجساد الركاب المتلاصقة.. العربة متجهةً من الديوانية إلى بغداد في فجر يوم صيفي، ثم وجه امرأة نحيف ترتدي فوطة سوداء.. بيضاء الوجه.. نشطة.. تحمله على كتفها وسط حشود هائلة تملأ ساحة واسعة.. عرف لاحقا أنها الجدة ـ «أم حمد الله» - أخت جدته أم أبيه، يتذكر شدة الحر.. والمتطوعين بقمصانهم البيض، ذوي العلامات الحمر المشدودة حول أعلى الأذرع..
- هل ما يتذكره جرى حقا، أم أنه أخيلة تشكلت مما سمعه من كلام في محافل العائلة؟!..
ما يحسم الأمر.. شدة وضوح المشاهد.. العربات الحديدية المحتشدة بالركاب.. تزاحم الناس على الصعود.. التوقف في كل محطة لحمل المزيد.. بهجة الوجوه رجالا ونساءً.. ثم.. اللحظة التي رفعته فيها أخت جدته وسط الحشد البشري الهائل، طالبة منه أن يرى الزعيم «
عبد الكريم قاسم»، الذي تقول إنه ظهر في شرفة عالية بعيدة.. فشخص صوب ما تشير إليه، ولكنه لم يرَ شيئًا سوى كتلة بشرية هائلة بدت كقطعة واحدة، تهتف بحياة الزعيم في صراخ هستيري!.
يستعيد تجربة ركوب قطار أول مرةٍ مثل حلم فزّ منه للتو في جلسته الشاردة وهو يحملق بالعربات المضيئة.. وبحركة الرؤوس الكثيفة بأردية الركاب الثقيلة وقبعات رؤوسهم المنفوشة الفرو.. يحملق بهم وكأنهم ظلال.. أخيلة.. سارحًا مع جموع البشر الهادرة، التي من المستحيل نسيان الوجوه السمراء المرحة الحيوية.. وفوران الحماس والتصفيق والهتافات التي سوف يعيها لاحقًا.. وسَتُسْرَدْ له تفاصيل ذلك التجمع الهائل، عندما ينضج ويتدله في السياسة.. فيعرف أنها كانت وفود أنصار السلام في تجمعها ببغداد عام 1959، فترسخ صورة تلك الذكري بكل أبعادها..
سيظل يفكر بالعربة العجيبة التي أقلته مع تلك الحشود..
سيظل يحلم بتكرار تلك الرحلة التي لم تتكرر أبدا..
سيتسلل في صباه مساء كل يوم من دكان عمه الحلاق في شارع «فكتور أبو العرق» إلى محطة القطار.. يقف على رصيف المحطة منتظرًا اللحظة، التي يتعالى فيها صفيره قبل الظهور في أفق السكة.. سيحملق حالما بالسفر فيه.. لكن لا يدري إلى أين؟!.. فكل عائلته وفروعها متكدسة في مدينة الديوانية، لم يسكن أحد منها لا في الريف ولا في مدن أخرى كما هو حال زملائه في المدرسة.. سيقف رامقا العربات.. وجوه بشرها.. الصاعدين والنازلين.. حتى يبدأ القطار بالتململ، وتنتظم ضربات محركه الرتيبة.. سيهب وكأنه سوف يفقد شيئا.. يلاحق العربات المتحركة ببطء أول الخطوات، ثم مهرولًا جوارها على الرصيف، يلوح للمسافرين الجالسين خلف نوافذه المضاءة.. يطير من الفرح عندما يلوحون له باسمين..
سيركض عندما تزداد سرعته؛ ليقف عند حافة الرصيف الأخيرة مخذول العينين، يتابع ذيل القطار المتلاشي في أفق الغروب.. قبل أن يستدير ميممًا شطر باب المحطة، شاعرًا بحزن غامض عميق، يجعله يسير ساهيًا طوال طريق عودته إلى دكان عمه، الذي سيضربه لغيابه المتكرر كل مساء.. ولزومه الصمت عند سؤاله:
- وين كنت؟!.
لم يكف عن التسلل وقت قدوم القطار والعودة الكسيرة.
انفصل عن مسند المصطبة.. منتشلًا نفسه من رذاذ حزن أول المساء المتساقط منذ طفولته، وهو يؤوب من المحطة القديمة المجاورة وقتها للجندي المجهول، ليمرَّ بمدرسة الإرشاد الابتدائية، بيت «فارس العصامي»، مكتبة الجندي وصاحبها «سيد نعمة» الغاط وسط أردية الجنود والكتب المجلات القديمة، صيدلية البيرماني، الشفاء.. متسائلًا:
- هل كان ذلك الطقس بشيرًا بضياعي بين المنافي؟!.
- هذا ما بت الآن واثقًا منه!.
ردّ على سؤال نفسه، وخاطبها بصمت:
- هأنذا أجلس بانتظار جاري وصديق طفولتي؛ كي أركب القطار، الذي سوف يسير في الظلام ليفضي بي إلى مدينة لم أرها.. هأنذا أتطابق مع ذاك الطفل الحالم الذي كنته.. وحيدًا على مصطبة رصيف.. وحيدًا أقرض الوقت بالأخيلة والأحلام.. وحيدًا أشرد إلى طفولتي البعيدة. وحيدا أحتسي البيرة وأضيع بوجوه صبايا روسيا المرحة..
فتح سدادة القنينة الثالثة ورشفها بهدوء قطرة.. قطرة وكأنه ظامئ في بحر رمل.. وهو يتابع بسرور ندف الثلج، التي صار هبوطها في مخاريط الضوء المنحدرة من مصابيح السقف مجسمًا بفعل ظلام الأفق.. صعدت به النشوة، فمدّ يده في الحقيبة؛ ليفتح سدادة قنينة الفودكا ويرتشف قليلا:
- أول مرة أنتظر السفر غير قلقٍ!.. موعودًا برؤية أمكنة جميلة وبشر مختلفين.. قال لي «عزيز» في محاولة إقناعي بالسفر بصحبته: أسمع سلامي.. أخذك لجو راح تتذكره كل عمرك.. مثقفين عرب من تونس، المغرب، عرب 1948 إسرائيليي الجنسية.. دروز من الجولان.. لبنانيين.. أنواع وأشكال من شتى بقاع العرب.. ومن مختلف المشارب والانتماءات.. شيوعيين.. يساريين متطرفين.. قوميين.. يمينيين.. «إبراهيم» راح يتجننون لما يشوفوك.. تكتب قصة.. مناضل متعرض للتعذيب.. قاتلت بجبهة الحرب العراقية الإيرانية هربت لكردستان وقاتلت سنوات طويلة.. سيرون بك «جيفارا» بهذا الزمن الجايف.. فتعال معي.. وراح ما تندم أبد!.
أرتشف رشفة ثانية من فم القنينة.. أحكم سدادتها ودسها في الحقيبة منتشيًا بسريان خدر خفيف بأوصاله، ومن شتائم «عزيز» التي ستنهال عليه حال رؤية القنينة مفتوحة.. ومن نشوة الحياة.. نشوة، لم يكن يعيها في كلام أمه المردد كل يوم، عندما ترى أباه يمعن في الشرب من الصباح إلى المساء، قائلة في تعليقها على شرب أبيه اليومي للعرق:
- شوف يمه.. هذا الهوا ماكو أطيب منه
- ...
- أبوك ما يعرف قيمته!.
على مصطبة، في محطة قطارات بموسكو لا يعرف حتى اسمها، وفي انتظار السفر إلى مدينة لا يعرفها.. وفي بلدٍ لا يعرف لغة قومه، في هذه اللحظة أدرك بوضوح عمق كلام أمه.. إنها تعني نشوة الحياة التي يحس بها هذه اللحظة.. نشوة فريدة.. مطلقة..
- هل عاشت أمه تجربة تشبه تجربته حتى أدركت لذة الهواء؟!.
لا يدري.. لكنه بعد كل ذلك العنف الذي وسم حياته يمسك بمغزى أن يعب الإنسان نَفَسه بأمان:
- هأنذا اجلس حرًّا.. لا أحد يسأل عن هويتي.. سائبًا كندف الثلج التي أراها تهبط ببطء في مخروط الضوء الناري.. حر.. ومتشهٍ كالطبيعة كما هتف «والت ويتمان» قبل قرن .. أرنو إلى عمري العنيف باسمًا.. ساخرًا.. لسلامتي من ميتات أكيدة كانت عربات قطار العراق تضمرها لي..
أرنو إلى ذلك الماضي فرحًا هازئًا من «كيريغارد» الذي وسم أفعال الحياة وكل شيء بالندم.. فإن تتزوج تندم وأن لا تتزوج تندم .. وان كذا تندم وإن عكسه تندم، في معادلة أجدها سخيفة جدًّا في جلستي الحالمة على مصطبة الرصيف الأول بانتظار «عزيز»، الذي سوف يتيح لي الوصول إلى مدينة قد أكون حلمت بها..
لدي فلسفة أخرى معنية بنشوة الحياة.. الهواء الطيب الذي يفتقده الراحل إلى عالم الظلام.. أنا أسعد البشر هذه اللحظة.. أنتظر سافلًا جميلًا على مصطبة وأحلم.. أنتظر بنشوة لخلاصي من موت، كان أكيدًا في بقعة العراق الدامية.. أحملق في عربات القطار المضيئة المنتظرة أمامي على سكتها بانتظار الركاب..
مرتين أخذني مثل هذا القطار نحو المجهول.. والمرتان فيهما فزع حقيقي.. الأولى حينما اعتقلوني عام 1980 وكنت جنديا احتياطيًّا من حديقة بار على «أبي نواس».. وقضيت ردحًا في أقبية الأمن العام ومن ثم الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع بباب المعظم ببغداد، والتي قررت بعد التحقيق أن تطلق سراحي.. لكن ما أثار استغرابي أنهم أرسلوني إلى الفرقة الخامسة عشرة في عين زالة غرب الموصل، بدلا من الفرقة التي أخدم بها وهي الأولى ومقرها في مدينتي الديوانية.. ما يحز بنفسي حتى اللحظة هو ملبسي الرث الممزق ويداي المكبلتان.. والمأموران المكلفان بإيصالي.. كانا يصغراني بعشر سنين.. كنت أخجل، حينما تسقط عينا شابة مسافرة عليَّ مقيدًا ..
الثانية تكررت مرات عديدة .. حينما ساقوني جنديًّا عام 1982 إلى جبهة البصرة.. نصحني زملائي الجنود في الوحدة بالفوز بنهار مضاف، عن طريق السفر ليلا بالقطار النازل إلى البصرة، حيث أقضي الليل نائمًا.. أتذكر ذلك الزحام العجيب الكراسي مليئة، الممرات توسدها الجنود المتعبون.. أرفف الحقائب ينطرح فيها الجنود.. أتذكر الآن بوضوح كيف كنت أحشر جسدي على أرض الممر، بين صفي الكراسي متكورًا في الأمتار غير المشغولة، متحملا الأذرع والسيقان التي توقظني بين الحين والحين.. وكل ذلك العذاب من أجل الالتحاق كي أقاتل وأموت.. ثم الهروب وكردستان.. الكمائن.. والصدف.. طزززززززززززززززززززز..
أنا في انتظار السفر هذه المرة دون الشعور بالخطر.. أنا نشوان بلذة الدنيا.. والفقاعة التي لم تنفجر بي بعدُ!.. وعدني صاحبي بالنوم طوال الليل على أسرة في القطار، وعندما سألته كيف؟.. أسهب في وصف عربة النوم والأسرة الأربعة المتكونة من طابقين متقابلين وفسحة ضيقة بينهما.. ذلك شحذ مخيلتي، وجعلني أشد تَوَقًا إلى الوصول إلى لحظة النوم في قطار، يشق عباب الليل إلى مدينة مجهولة بالنسبة لي.. أنا الخارج من معمعة العراق سالمًا، أتحسس بلذة الآن نسمة هواء تتسلل إلى رئتيّ.. ألمس بها نشوة الدنيا.. وأحتدم برغبتي في خوض مجهول مدينة صاحبي «عزيز».
أقبل باسمًا يلوّح بالتذكرتين، ورمى بجسده الذي بدا عليه الإنهاك جوار إبراهيم قائلا:
- ماتت رجليّ!.
ناوله «إبراهيم» علبة بيرة، فبهت أول الأمر، ثم تلقفها بلهفة قائلا:
- وكأنك تقرأ ما براسي!
فتح سدادتها وعبها دفعة واحدة.. سحب نفسًا عميقًا وحملق بـ «إبراهيم» متعجبًا ليقول:
- منين جبت البيرة؟!
فأخبره.. فتملى قسمات «إبراهيم» النشوانة المرحة وصرخ:
- أخ.. فتحت الفودكا!. قلت وأنا بنص الأوجرد «ودّع البزون شحمة»!.
وهجم على الحقيبة ليتأكد.. أخرج القنينة ورفعها عاليًا إزاء الضوء قائلا:
- زين ما خلصتها!.
ردها قائلا:
- أسمع بقى ثلث ساعة.. والشرب ما يكفينا.. وأش لون لو عوزنا بنص الليل.. غير نتجنن.. راح أشتري قنينة ثانية احتياط من العجوز!
ونهض بنشاط ليغيب في الزحام، ويظهر بعد دقائق ملوحًا بالقنينة العارية، فرحًا قبل أن يدسها في الحقيبة قائلا:
- تأمن الوضع.. قم لنصعد!.
نهض «إبراهيم» مغمورًا بالنشوة.. وتطلع نحو العربات المضاءة الممتدة حتى أول السقيفة.. وخطا خلف «عزيز» مفعمًا بشعور مبهم، جعله يشم عبق مغامرات يضمرها القطار، الذي ظل يحلم بالسفر فيه كل العمر.. مغامرات لا يدرك ماهيتها، وكأن حلم الطفولة بالسفر نحو مجهول.. نحو عالم جديد مختلف.. سيتحقق، وسيلمس بعضًا من تلك الأحلام المدفونة في النفس..
- مجرد حدس.. قد تكذبه التجربة..
هتف بنفسه السارحة وحث الخطى.. عند باب يصل إليه المرء بأربع سلالم حديدية، التفت «عزيز» قبل أن يضع قدمه على أول السلم، ليتأكد من وجود «إبراهيم» قائلا:
- هذه عربتنا!
وتسلق السلالم.. لحقه واستدار يمينًا عابرًا الباب الذي فتحه؛ ليجد نفسه في ممرٍ ضيقٍ تحده من اليمين نوافذ عريضة تطل على الرصيف، ومن اليسار أبواب غرفٍ ضيقة كعلبة.. كان عزيز قد وصفها.. أبواب تفتح بالسحب إلى الجانب.. تفضي إلى باطن العلبة الضيقة؛ حيث تتقابل فيها أربعة أسرة: كل اثنين راكبين على بعضهما.. لم يجدا أحدًا.. أبدى «عزيز» ارتياحه لخلو الكابينة من مسافر قد يكون مزعجًا.. نزع معطفه الثقيل.. ألقاه على السرير.. وفتح منضدة صغيرة كانت مصفوفة بجدار العربة قبالة الباب.. رفع حامل التثبيت ليبسط عليه سطحها، ودس كفه في حقيبة «إبراهيم» فورًا ليخرج قنينة الفودكا المفتوحة ويرتب الأشياء.. واضعًا كأسين من البلاستك على دائرتين محفورتين على سطح المنضدة الصغيرة.. كيس الزيتون.. قطعة خبز أسود.. شرائح لحم مدخن.. وعلبة كوكاكولا هاتفًا:
- هسه نبدي!.
وصب مالئًا الكأسين حتى الحافة.. ورفع كأسه هاتفًا:
- بصحتك يا أكبر صعلوك شفته بحياتي!.
تريث «إبراهيم» في الرشف لامسًا حافة الكأس والسائل الأبيض لمسًا طفيفًا.. كان لا يريد أن يسكر ويغيب في هذي الغرفة، التي يحل بها أول مرة متوجهًا إلى مدينة سوف يحل فيها أول مرة أيضًا.. لم يفت ذلك على «عزيز» الخبيث، فقال:
- اشرب حتى ننام وما نفز إلا بكييف!
- والطريق؟..
سأل «إبراهيم».
- ما راح اتشوف شيء غير الظلمة بالشباك للصبح.. يعني حتى نوصل!. فأحسن شيء نشرب بسرعة وننسطر!.
سرح «إبراهيم» إلى ليل قطار الجنوب؛ حيث كان يخبئ في جيب بدلته العسكرية نصف لترٍ من العرق المسيّح العراقي.. يعبه سريعا ليحشر جسده بين الأجساد المكتظة على الممر بين الكراسي، وينام مثل قتيل متحملا وطْءَ أقدام الجنود القاصدين دورة المياه.. لكنه لا يريد النوم بل العبَّ من الحياة بكل تفاصيلها التافهة والعظيمة.. من الهواء الطيب.. من لحظة يكون فيها مجرد التنفس متعة مطلقة..
- المهم ألّا أسكر في القطار؛ لأرى الفرق بين ذاك القطار وهذا!.
فكر مع نفسه قبل أن يعلق على كلام «عزيز»:
- دعني براحتي شربت قبلك..!
- مخادع كبير وأصيل وخصوصًا بالشرب والنسوان!.
وعبَّ ما بكأسه من خمرة، ليسرح «عزيز» مع كائنات المدينة.. وكأنه عاش فيها ولم يغادرها أبدًا.. راويًا طرائف «حنتوش سلام».. السكير الساهي الحشاش.. عن يومٍ عثروا عليه جالسًا جوار أورزدي باك وسط المدينة على ركبتيه، ينتظر لحظة صحو أخي «عزيز» السكير المنبطح على بطنه، والمعانق فتحة المجاري .. كان «إبراهيم» أثناء سرد «عزيز» يتخيل شكل «حنتوش»، بقامته القصيرة، وشرود عينيه، وجديته فيما يتعلق بعمله، وهو يعد حلوياته الشهيرة كل يوم في شارع «العلاوي» .. يتخيل هيئته.. شكل جلسته.. قرفصته جوار الغافي، لصق رائحة المجاري.. وعندما سأله الناس: ليش صارلك أكثر من أربع ساعات قاعد؟ قال لهم:
- منتظر أش وگت يگعد هذا الحبَيب حتى أعرف منين أشترى العرق اللي شربه!.
قالوا له: ليش؟!
صرخ: كل عمري أشرب بس ما فد مرة خلاني أنتعش مثل ما هو منتعش هسه!. أريده يَدلْيني امنين اشتراه!.
ضجا بالضحك.. فالقابع لصق فتحة المجاري هو من قاد «عزيز» إلى أول مضاجعة في خان الخيول بالگرفت. سكت «عزيز» مفكرًا.. وتلفت متمنيًا ألّا يأتي مسافر معهما في الكابينة؛ كي يأخذا راحتيهما.. جهر بأمنيته في صوت عالٍ، وعندما وجد «إبراهيم» يلزم الصمت سأله:
- أش تقول أنت؟!.
- ...
- أش بيك سارح؟!
كان «إبراهيم» يعيش أخيلة قديمة استفاقت من جديد في هذي الأمكنة الغريبة.. مستعيدًا توهجه في المراهقة كلما خلا بيت أهله الضاجّ بعشرة أنفار.. حالما بتسلل جارة كان يحبها، فيظل كامنًا خلف الباب نصف المردود، يشير لها حيث تقف خلف ستائر شباكهم المطل على الشارع كي تفهم دون جدوى.. ومع مرور الوقت واقتراب موعد عودة أهله، يتمنى مجيء أي بنت لينغمر فيها ويذوب..
- أش يصير لو هسة تدخل علينا واحدة جميلة دون رابع!.
- تبقى أنت تتخيل.. كل عمرك قضيته بالخيال.. اترك.. اترك.. معقول والقطار راح يتحرك بعد دقيقتين، تجيء واحدة على مزاجك.. إذا صار يعني العالم راح ينقلب!.. بلا خيال عزيزي.. بلا!.
وما أن أتم جملته، حتى سدت باب الكابينة فتاة لبثت في مكانها خلف الإطار، تحملق عبر نظارتين معتمتين بغضب ممسحة وجهيهما.. المنضدة الصغيرة..قنينة الفودكا.. الكؤوس.. الزيتون.. الخبز.. الحقائب.. قسماتهما المذهولة الشاخصة نحو وقفتها الرامحة.. وكأنها على وشك الهجوم..
- عسى أن تكون لوحدها!.
هتف «إبراهيم» مع نفسه بصمت.. والتفت نحو «عزيز»، الجامد بعينيه الشاخصتين دون أن ترمشا نحو الفتاة، المنتصبة في إطار الباب. بالغت في سكونها وتحديقها الغاضب بقنينة الفودكا..بوجهيهما.. بالأسرة.. بالنافذة، موحية بشراستها فبدت مثل لبؤة وحشية على وشك الانقضاض .. وبحركة محسوبة خطت خطوتين محررةً باب الكابينة من ذراعيها فانغلق بصخب.. أفردت تذكرتها وراحت تدقق بالرقم.. أسرع «عزيز» بالنهوض ليندس جوار «إبراهيم»؛ مفسحًا لها المجال كي تضع حقيبتها على السرير الأرضي الكائن إلى اليمين.. ساد الارتباك بينهما. حشرا جسديهما عميقًا على السرير كل في زاوية، وكأنهما يختفيان تحت سقف السرير الأعلى.. رتبت وضع حقيبتها، وجلست على حافة سريرها غير آبهة بهما، وانشغلت بترتيب أردية في كيس من النايلون. تزحزحا مدليين أرجلهما من حافة السرير المقابل.. ألمت بـ «إبراهيم» غبطة لحظة تعالي صوت محرك القطار.. «هاهو حلمي يتحقق» هتف بصمت محملقًا في وجه «عزيز» المبتسم، الذي تمالك نفسه من جديد قائلا:
- أش لون محنة هذي الليلة!
- ..
ضحك «إبراهيم» ولم يعلق:
- خصوصا إذا ما دخل رابع علينا!.
تفرست فيهما فأطرقا.. كان ضيق الكابينة يجعل التحديق في وجهها شيئًا مربكًا، ولكن «إبراهيم» يتذوق، وهو يتحاشى كتلتها الدانية، الانطباع الأول لحظة ظهورها عند الباب.. كانت بيضاء ذلك البياض المشع بكتلةٍ متناسقةٍ مرصوصةٍ، بانت حال نزعها المعطف بعد عبور العتبة. أنشأ «إبراهيم» يحدق في الباب الزجاجي ونافذة الممر الزجاجية العريضة متابعًا الأضواء الخاطفة الراكضة صوب الاتجاه المعاكس؛ مخمنًا ما قد يجري من أحداث في الساعات العشر القادمة.. تلاشت غبطته حينما حلل الموقف:
- أنا لا أعرف اللغة الروسية، أي سأعتمد على «عزيز» في الأحاديث المحتملة، هذا اللئيم بلا ضمير حينما يتعلق الأمر بالنساء.. سيرتب الأمر معها ويطردني بأدب من الكابينة ليخلف في قلبي حسرة أخرى، مثل تلك التي خلفها قبل أكثر من عشرة أعوام في شقة الوزيرية. لكن.. ليكن.. فإن تكن معنا واحدة بهذا الجمال أحسن من لا شيء..
كانت تجلس على السرير المقابل جوار النافذة لا يفصل بينه وبينها سوى مترين.. سقط نظره على ساقيها العاريين حد الركبة فارتعش.. كانتا شديدتي البياض.. ممتلئتين.. ناصعتين.. لامعتين.. ملساوين.. تهزهما هزًّا سريعًا رتيبًا، يفصح عن توترٍ وقلق.. رفع رأسه نحو «عزيز» الجالس مظاهرًا الباب، وكاد يقول «إنها خائفة».. لكن صمت على جسد رجل ضخم وقف بمواجهته حاجزًا سلسلة المصابيح المرصعة ظلام النافذة.. كان ينقل نظره بين رقم الكابينة وتذكرته، ثم سحب الباب عابرًا العتبة، وألقى التحية بالروسية.. أحس بكيانه يتحطم بغتةً، وكأن قدوم هذا المسافر نهاية العالم. فحملق بحقدٍ ظل يستغربه من نفسه، كلما عادت به الذكرى إلى ذلك الموقف.. حقد أسود بلغ حد الرغبة في طعن الرجل بمدية ورميه من نافذة القطار.. جمد بمكانه ينصت فائرًا للحوار الدائر بين الثلاثة. وأخيرًا حمل الرجل حقيبته، وغاب خلف الباب.
بادر «عزيز» قائلًا:
- الله يستر من هذي الليلة
- ..
ورمق «إبراهيم» بعينين لامعتين:
- لا تخاف مكانه بغير كابينة
- يعني!..
قاطعه قائلًا
- يعني الليلة يمكن وحدنه ويه هذي المصيبة!
توازن «إبراهيم» من جديد.. استرخت أوصاله، وغط بفيض ناعمٍ أنعش روحه متخيلا مباهج غامضة ستكتنف هذه الليلة. ورغب في الحملقة بساقيها العاريتين.. وجدهما تهتزان هذه المرة بجنون.. ثم سمعها تقول بصوت ناعم مثير، ولكنه متوتر يتصنع القوة، مشيرةً صوب الباب، تبسم «عزيز» والتفت إليه قائلًا:
- قوم نطلع تريد تبدل ملابسها!.
أصبحا في الممر.. وابتعدا قليلا عن باب الكابينة.. وقفا بعد عدة خطوات. رمى «إبراهيم» بصره عبر زجاج الواجهة في عمق الظلام، فتراءت في الأفق نقاط ضوء بدت كنجوم باهتة تترجرج مع اهتزاز عربات القطار الضاجة في صمت الليل.. وبغتة مرّتْ - كطيفٍ - وجوه زوجته وطفليه، لكن سرعان ما تلاشت و«عزيز» يقول:
- اسمع الوضع هنا مختلف عن شقة بغداد.. هنا كل شيء بالاتفاق!.
- ...
كان يومئ إلى المسيحية الهاربة من زوجها، التي حاولوا مضاجعتها رغم أنفها.
وأضاف مؤكدًا:
- والشرطة الروسية قاسية وقذرة!.
قال «إبراهيم» مع نفسه:
- «اللئيم بدأ يقدم.. سيكرر ما فعله معي في شقة الوزيرية.. سيرتب كل شيء، وأنا بالضبط مثل الأطرش بالزفة، فهو اللي يعرف الروسية.. وأكيد يعرف مزاج النساء بالسفر!.»
قال مستفسرًا بصوت عال:
- أش تقصد.. بعدين البنت متوترة؟!.
- ما عليك.. خافت من وجوهنا ونظراتنا.. أكلناها بعيونّه زائد بطل الفودكا.. وصوتنا العالي.. اسمع.. أول شيء راح ما نهتم بها وننشغل بحديثنا مثل ما وحدنا.. وثانيا إذا استرخت وتقربت وشاركت بالحديث، راح يبين كل شيء .. إذا تريد فراح نعيش ليلة بالجنة وإذا ما تريد خلص.. ننكتم وانام !.
فتحت باب الكابينة ونادت عليهما.. قطع «إبراهيم» الخطوات القليلة، وهو يفكر بكلام «عزيز» عن الحديث والقبول وليلة الجنة التي من المؤكد ستكون من نصيبه إذا حدث مثلما توقع، «أنا خارج المشهد بكل تأكيد»، قال مع نفسه، وتمنى لو تبقى على توترها ولا تقترب منهم كي يموت «عزيز» بغيظه.. حشرا جسديهما على السرير الأرضي الأيسر بموقع جلستهما نفسه، قبل أن تطلب منهما الخروج، بينما توسطت في جلستها على سريرها المقابل.. تصرفا، وكأنها لم تكن، غارقين بحديث عن شخصيات الديوانية العجيبة مجانينها، ومتشرديها، وسكيريها الشهيرين، ومنكتيها، ينفجران ضحكًا عاصفًا تزيده وهجًا الفودكا التي يعبانها عبًّا. مع كل ذلك الانشغال، لم ينس «إبراهيم» خطة نده الحميم «عزيز»، فكان يختلس النظر بين الحين والحين إلى حيث تجلس.. فتلم بجسده رعشةٌ حين يجدها تحملق فيه بتركيز شديد، وهي تضم ساقيها المحشورين في سروال ضيق إلى صدرها شابكةً ذراعيها العاريتين حولهما، واضعة حنكها على ملتقى الركبتين، مما أتاح لها التوازن في وضع جلستها..
يرتعش معاودًا التحديق في وجه «عزيز»، المنزوي في ركنه المعتم على طرف السرير، والمنهمك في دوره أبرع من ممثلٍ محترف عاملا بدأب لما خطط له.. حدس بأنه يقترب من هدفه خطوة.. خطوة دون أن يسرق نظرة نحوها.. كانت تلاحق حركة «إبراهيم» وهو يصب كأسًا لـ «عزيز» ويناوله، فيضطر «عزيز» إلى عبِّه دفعة واحدة، فليس لديه مكان يضع فيه الكأس. تجرى الحركة في ضيق الكابينة بحذر شديد كي لا تنزعج.. ذلك جعلها تقول شيئًا بالروسية وهج قسمات «عزيز»، الذي التفت نحو «إبراهيم»، وشرح له ما اقترحته موضحًا أنها مثل ما توقع.. لانت لأنها تقول اخذوا راحتكم.. اجلسا حول المنضدة وسأجلس بعيدًا.
في خضم الحركة في ضيق المساحة، سنح لـ «إبراهيم»، الثابت بمكانه جوار النافذة والمنضدة الصغيرة التركيز على حركتها، وهي تفل ذراعيها وتدلي ساقيها المتينتين في ضيق السروال لتطأ أرض الكابينة، وتنحني للتخلص من سقف السرير العلوي، وتستقيم مستديرة نحو الباب وموضع جلوس «عزيز»، الذي زحف على السرير مقتربًا من «إبراهيم»، متحاشيًا مسها عند المرور..
اغرز ناظريه في قوامها الدابر في ضيق الخصر واستقامة الظهر، وانحدار الشعر، وبروز الكفل المرصوص تحت السروال الضيق. خطوة.. خطوتان.. ثلاث.. أربع.. لحظات مرقت في ضوء الكابينة الكابي.. لكن «إبراهيم» أحس بأن هذا الكيان الحار الغريب المدبر في ربكة الحيز الضيق هو الدنيا كلها دون أسئلةٍ.. ولا تفسير، فحرز تفاصيل لويها لجسدها، وهي تجلس مكان «عزيز» الذي طفر نحو حافة السرير، ليجلس بمواجهته مسرورًا:
- اللئيم يجري الأمر كما خطط وحلم!.
هتف «إبراهيم» مع نفسه.. وصار يحدق بقسمات «عزيز» الجالس في مواجهته؛ حيث تعذر عليه في الترتيب الجديد اختلاس النظرات إلى كتلتها المنزوية على سريره نفسه إلى الشمال، مظاهرة باب الكابينة.
- من المؤكد إننا أثرنا فضولها..
قال «إبراهيم» مع نفسه، وأضاف بنشوة:
- تجاهلنا لها واندماجنا في حديث بلغة لا تفهمها، جعلها تود لو تبادلنا الحديث لتعرف ما يضحكنا طوال الوقت، شأنها شأن ذاك الروسي الأنيق صاحب الحقيبة الدبلوماسية، الذي ظل يرمقني بعينين ودودتين باسمتين مندهشتين طوال وقت المترو، والذي جهر برغبته في الجلوس معي.
خاطبه «عزيز»:
- أش بٍك.. وين رحت.. طيرنا وكر.. شوية ويدخل البرج!.
علق «إبراهيم» بغيظ:
- برجك.. لو برجي!
- ما كو فرق.. برجك برجي
وتبسَّم بخبث شاخصًا إلى حيث تكورت متخذة وضع جلستها السابقة نفسه في زاوية، تتيح لها مراقبتهما دون الحاجة إلى الالتفات إلى اليمين والشمال.. التفت «إبراهيم» ناظرًا إليها، فوجدها تحدق نحوه بعينين لامعتين في طرفهما بسمة.. هتف به «عزيز»:
- كافي.. راح تأكلها!
رد بعناء وجهه المجذوب نحوها صوب «عزيز»، الذي أضاف:
- لا تلح بعيونك.. طلع البطل الثاني، واسمع هذي الطريفة عن «صاحب سلام»!
انبثق وجه صاحب الوديع بقامته القصيرة المفتولة، وهو يلف جسده ببطانية منقوعة بالنفط ويشعلها وسط الحشد أمام دكانه بشارع «علاوي الحنطة»؛ ليتحول إلى رماد.. كان ذلك عام1985.. نفض رأسه طاردًا مشهد الحرق، وعاود الإنصات إلى «عزيز»:
-كنا شلة يأخذنا «مجيد حرز» الله يرحمه بسيارته الـom : «قاسم لفتة»، «صاحب سلام»، «سعد كتان»، «علي مني»، «ناظم جاري»، «ربيع عواد»، «ناظم كتان»، «نصير عواد»، «هاشم لفتة»، «عجمي»، «حامد كاظم».. نفتر بالسيارة ونشرب الليل كله.. في يوم كنا على الطريق السياحي قرب الحلة وعوزنا.. فنزل «صاحب سلام» ليشتري العرق من نادٍ سياحي على طريق حلة بغداد.. وبعد دقائق سمعنا دربكة وصياحًا من جهة الباب.. وما شفنه إلا واحد بكبر الفيل يدفع ويلكم ويشتم صاحب.. فركضنا وحجزناهم. سألناه: ليش؟!. قال بصوت عال: صاحبكم استفزني!.. ووجه كلامه إلى «صاحب» مهددًا: والله بعد إذا أشوفك تدخل النادي!. تبين أن الفيل صاحب النادي، ولما سألنا «صاحب»: ولك أش سويت له؟!. قال وعلى طرف فمه ابتسامة خُبث: والله كل شي ما سويت له.. قلنا له: زين أحكي أش صار.. فعرفنا القصة:
« دخل صاحب واتجه إلى البار، أتكأ بذراعة على حافته، التفت فشاف الفيل جالس على ميز عريض عليه أنواع المزات، حمص بطحينة وباقلاء مسلوقة، وزلاطة، وشرائح لحم مشوي، ولبن، وخيار، وخبز. ووسط كل هذا نص ربع عرق. فقارن بين حجمه والمزة والنص ربع فحصرته الضحكة.. وسأل صاحب البار: عيني العرق مو مغشوش؟. فجاوبه: لا عيني، فقال: زين أعطيني نص ربع مسيَّح. أخذ النص ربع، ونظر للفيل بسخرية وجره جرة وحدة، رجّع الربعية لصاحب البار، وقال: زين ما مغشوش، خلينه ثلاث، وطلب نص ربع عصرية، ونظر إلى الفيل والمزات ونص ربعه بالطريقة نفسها، وجره جرة وحدة، وقال: زين ما مغشوش خلينه أربعة، ونظر بطرف عينه هازئًا إلى الفيل اللي احتقن، وراح يدخن بعنف، وينفخ الدخان نحو صاحب المبتسم، وعندما سأل صاحب عن عرق الزحلة وطلب نص ربع للذوق، قام الفيل وهجم على «صاحب سلام»!.
كانا ينفجران بالضحك العاصف بعد كل طرفة من هذا النوع ممعنين في تجاهلها، وكأنها لم تكن في الكابينة حتى نفد صبرها.. فتنحنحت قبل أن تقول شيئًا بصوت ناعمٍ ودود هذي المرة موجهة الكلام إلى «إبراهيم»، الذي بهت محدقًا في وجه صاحبه، الذي بادر بالكلام بقسماتٍ بدأت فورًا بالتوهج.. أخذت تنصت لما يقوله ناقلة نظراتها بينهما بدهشةٍ، دفعت «إبراهيم» إلى القول بغضب:
- اسمع «عزيز» لا تخليني مثل الأطرش بالزفة!.
ابتسم بطرف فمه، وقال:
- صاحبتنه دخلت البرج.. كانت تظن أنت تعرف الروسية.. اسكت.. لا تخرب.. خليني.. انسق!.
نطق جملته على عجل وانغمر في حديثٍ معها لا يفقه «إبراهيم» منه شيئًا.. بعد دقائق طلب «عزيز» منه مبادلة المكان؛ كي يجلس على السرير نفسه، ويصير معها وجها لوجهٍ.. قام فورًا وارتكن في طرف الطاولة الصغيرة المقابل؛ حيث يستطيع من مكانه الجديد رصد كل صغيرة وكبيرة في وجه «عزيز» والروسية البيضاء، التي لم تكف عن رميه بين الحين والحين بعينين لامعتين، في عمقهما أسىً شفيف.. أسى لم يدرك سره..
تحت الضوء الناري الباهت للكابينة.. أنصت «إبراهيم» بشرود لصوتها الرقيق، لأزيز القاطرة الصاخب، لصوت «عزيز» المختلف، لعويل القطار المنطلق في بحر من الظلام، لصدى لهاثِ أنفاسه، لوجيب قلبه الرتيب، وقليلا.. قليلا راح يهبط إلى عمق اللحظة الحاضرة، مستمتعًا بنشوتها غير مكترثٍ بغيرها.. إنه الآن في قطار، ينهب أرضًا لا يعرفها.. سيأخذه إلى بشرٍ وأمكنة لم يرها من قبل.. جالس في كابينة مع صديقٍ سافل جميل وفتاة جاوزت العشرين بقليل.. مستمتعًا بكل التفاصيل والانفعالات.. الغيرة، الحسد، التنافس، غزل العيون، عدم فهمه للروسية، وحتى بما ينهمك به صديقه الآن كي يفوز بليلة معها دونه، مستمتعًا بكل شيء.. ذاهبًا إلى أقصى لحظته، مكتشفًا قيمة مختلفة للحياة، التي كاد يفقدها أكثر من مرة في الزنزانة.. في جبهة الحرب وفي الجبل وقتها.. كان لا يدرك هذا المعني فجازف ونجا بمحض الصدفة. وبغتة وجد نفسه يصرخ:
- أخ أش قد حلوة الحياة.
أصمتت صرخته المتحاورين، فساد صمت ضاج بصوت مرور العجلة على السكة. فاء إلى نفسه وحدق بهما.. كانا يحملقان به.. هي بدهشة وتوهج، هو بغضب وانزعاج ترجمه في سؤال:
- «إبراهيم» أش بيك؟..
بهت.. كيف يشرح لحظته، ود لو يقوم يعانقه ويعانقها.. يذوبهما في أحشائه.. ويذوب بهما..
- ما بي شيّ.. سرحت!.
وحط في مكانه مرتبكًا.. سارع في صب كأس جديدة وازنه، فجعل يحدق بهما بتركيز منصتًا لحوارٍ أحسه يتعلق به، إذ كانت الفتاة تتكلم بانفعال، وهي ترد على كلام «عزيز» وتؤشر نحوه بإلحاح.
- «عزيز» ما الموضوع تحكون عني؟!.
فخجل السافل قائلًا:
- أي تريد تعرف كل شيء عنك!.
- وأنت ما تريد تحكي لها؟!.
- لا.. لا..
- لا تصير خبيث.. أش يضرك لو أشارك بالحديث!.
قال جملته برجاء وشخص بعينيه إليها.. وجدها منفعلة تنصت لحوارهما بالعربية، وكأنها فهمت فحواه، فقالت شيئًا لـ «عزيز» الذي لانَ، فابتسم معلقًا:
- ولك هذي عجيبة كأنها عرفت ما نحكي بهِ!.
- ...
لم يجب «إبراهيم» منتظرًا المزيد من الإيضاح:
- هل أحكي كل شيء عنك!
أجاب «إبراهيم» فورًا:
- أي.. كل شيء!
- هل أقول إنك متزوج؟!
- أي .. قل كل شيء!
أستنتج أن «عزيز» رسم عن نفسه أمامها شخصية ثانية، فقد وجده هنا بارعًا في تضخيم الأشياء والنفخ والادعاء، ولا يدري من أين علقت به كل هذي الصفات.. لم يكن كذلك قبل أن يُبعث للدراسة في الاتحاد السوﭬﻴﻴﺘﻲ من قبل الحزب الشيوعي، لم يكن.. بل كان شديد البساطة صعلوكًا حقيقيًّا، يناسب نشأته وسط عائلة كبيرة، بالكاد توفر لقمة اليوم، كونها مهاجرة أصلا من أرياف الكوت، التي جف نهر فيها، إلى الديوانية لتحل في طرفها الجنوبي غير المسكون وقتها.
وأضاف:
- لكن اسألها قبل كل شي ليش تريد تعرف عني؟!.
وركّز متتبعًا انفعالاتهما أثناء الكلام، فلا سبيل أمامه غير الحدس لمعرفة مسار الأمور؛ فصاحبه لا يؤتمن أصلا في موضوع النساء. فكيف إذن وهو يقوم بدور الترجمة، التي من المؤكد أنه سوف يسقط منها كل ما لا يتناسب مع مخططه. تابع قسماته المؤدية دور الرقيق اللطيف الشفاف بعينين متوسلتين، وصوتٍ اختفت خشونته فعاد ناعمًا يوحي بالنعومة.. أشرقت ملامحها وراحت تتملى فيه فترة وجيزة، قبل أن تقول شيئًا جعله يجفل ويلوذ بالصمت، ويتلكأ في الترجمة مرتبكًا كمن ضبط متلبسًا. عادت تقول له بلهجة أمر، وكأنها استشفت ما يدور في ذهنه، مما جعله يلتفت أخيرًا ناحيته قائلا:
- العاهرة تقول أنت تشبه صاحبها القديم!.
أحس «إبراهيم» وكأنه يتسلق الهواء، ويشف مرفرفًا في فضاء الكابينة، ورمق صاحبه بنظرة تشف.. لكن ما كان ينقصه شيء جوهري.. اللغة.. « سيبذل اللئيم كل ما بوسعه لاستمالتها» فكر بغيظ.. لكن حتى لو تمكن من ذلك وهذا الاحتمال الأقرب.. فإنه سجل نقطة تكفيه للتمتع والتملي ولو لدقائق.
- ..
لزم الصمت منتظرًا، وأنشأ يلامس قسماتها بعينيه غائرًا في تفاصيل وجهها.. الجبهة عريضة يكسبها الشعر الأسود الناعم الغزير السائح من الجانبين حتى الحضن مزيدًا من السطوع في ضوء الكابينة الكابي.. قوس الحاجبين الأسود الجميل، التناسق التام لمنحنى الوجه المستدير مع وساعة العينين بأهدابها الكثيفة الطويلة، ودقة بروز الأنف المنسجم تمامًا وسط كتلة الوجه وفمها بشفتيه المكتنزتين.. والعنق الطويل المتين العاري والهابط نحو النحر.. وثدياها الصلبان المكوران، ورشاقة قامتها المنطوية في الزاوية.. لم تغادره عيناها الواسعتان.. غمرته بهما طويلًا..
في الصمت رأى وجه «عزيز» يحتقن غضبًا ، وينقل نظراته المضطربة بينه وبينها. كان الموقف مربكًا فهو لا يدري بماذا يعلق على كلامها الواضح الدلالة.. وحتى إذا أراد التعليق، فسوف يحرّف عزيز ما يقوله ويوظفه عند الترجمة لصالحه ؛ لذا فضل الصمت والاستمتاع في التملي المتبادل بينهما.. طال الصمت. يبدو أنها هي الأخرى تستمتع به، وبهذا التحديق العميق المتركز في عيونهما المبحرة في غور بعضها البعض.
تعطف «إبراهيم» في خضم نشوته بتقليب شعورٍ راوده، بغتة في أمكنة شتى: في حافلة، في قطار، وسط سوق، في حفلة، في الجبل حينما يتوزعون لتناول وجبة في بيوت القرى، في حضرة ضريح مقدس، في الشارع، في نادي الكلية، في المترو.. شعور عاصف مباغت، يجذبه إلى أنثى معينة يحس بها قريبة إلى نبضه، فيود ضمها في أحشائه.. ويتلاشى الشعور ذاك مع غياب ذلك الوجه كأن تنزل من الحافلة، أو يحين موعد مغادرة البيت في القرية، أو تغيب البنت خلف باب الدار ولا يراها ثانية..
يغور في الكابينة والصمت الخاطف، وفي غمرة ذلك الشعور المتبادل الذي حرضها على تشبيهه بصاحبها القديم، واجدًا في نسق وجهها وانفعاله وغور عينيها المتشهيتين كل نساء عمره، اللواتي رغب بهنّ وظل في عطشٍ لا سبيل إلى إروائه أبدًا.. بدأت بالكلام من جديد، دون أن تغادر عيناها عينيه وعند تلكؤ «عزيز» في الترجمة.. رمقته جانبًا وصرخت به، فارتبك كأنه تلميذ يقف أمام معلمٍ قاسٍ، وقال:
- تقول إنها طالبة في كلية الآثار ومختصة بدراسة التاريخ اليهودي واللغة العبرية. بالوقت بنفسه، تعمل معلمة تُدَرّس العبرية في مدرسة من المدارس اليهودية، التي نشأت أيام حكم «جورباتشوف» في «ﻛﻴﻴﭫ»!. وتسأل من أي بلد قدمنا؟!. أقول لها من أمريكا اللاتينية!. أحسن.. «إبراهيم».. أحسن الروسيات يخربن عليهم!.. أش تقول؟!.
قال «إبراهيم» بحزم:
- لا.. قل لها عرب من العراق!
دفعت بظهرها إلى جدار العربة قليلا حال سماعها ما قاله «عزيز»، الذي رمق «إبراهيم» بنظرة لوم وغضب، تجاهلها قائلا بصوت متماسك مرح:
- قل لها هل هي يهودية؟!.
ما أن سمعت السؤال حتى ازدادت ارتباكًا.. تململت في جلستها، ورفعت رأسها محدقة في سقف الكابينة الخفيض.. لبثت دقائق في وضعها المضطرب، وعادت تنقل نظراتها القوية بين وجهيهما، ثم قالت شيئًا.
- تقول: نعم!
وتطلعت بعينين قويتين في وجه «إبراهيم» باحثة عن رد فعلٍ ما.. ثوانٍ من الحملقة بقسمات «إبراهيم» وتلاشى ارتباكها.. فحركت ساقيها وبان الاسترخاء على ملامحها، وأنشأت تتابع بعينين حالمتين «إبراهيم»، الذي هبط به جوابها إلى ذلك التاريخ الملتبس المختلط بالتاريخ المكتوب والأكيد.. التاريخ الروحي للبشرية التي رست على أديان سماوية ثلاثة، تلاحقت وتصارعت وتتصارع بنفس بالبقعة.. هذه الجنية الجميلة، قادمة من ذاك العمق، الجالسة تحت سقف السرير العلوي، في ضيق كابينة عربة قطار، يشق الليل نحو مدينة يجهلها.
هتف مسرورًا مع نفسه:
- أنا نبيك الضائع في سيناء!
وأبحر متأملًا تلك القصص، التي طالما تدله بها في طفولته وتخيلها، وهو يتابع الراوي من على منبر جامع حي العصري، يروي قصص الأنبياء .. يتأمل، بلذة، في العربة الهادرة أخيلة الطفولة وهي تعيش مع أرواح الأنبياء، متطهرًا من ذلك الحماس، الذي دفن تلك الأخيلة، والقادم من لغو خطاب اليسار المتطرف من القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وأساطير ثورتها المسلحة في الأهوار أواخر الستينيات إلى الخطاب القومي العربي، وخطابات «نايف حواتمة»، و«جورج حبش» الطويلة في مجلتي «الحرية» و«الهدف»، وسيل أغانٍ ثورية تمجد الحرب والمقاومة، عقب أحداث أيلول الأسود عام 1970 في الأردن، والتي كانت تبث طوال اليوم من إذاعة بغداد.. وقتها تصور أن اليهودي ماردٌ جبار، ينبغي مقاومته.. لتأتي قراءة «غسان كنفاني» معمقة شعور العداء لليهود في قصصه، سيختبر كل ذلك الليلة في هذي الكابينة، إذا كان لدى «عزيز» بقايا من ضمير، وينسى حيوانية شهوته الأنانية وينصح في الترجمة.
- مرحى بالتاريخ!
صرخ «إبراهيم» فاردًا ذراعيه إلى الجانبين موشكًا على ضمها.. لم تفهم أول وهلة فعاودها الارتباك.. جمدت في تكورها؛ فعلق «عزيز»:
- ولك أش بيك أنت على المسرح.. خوفتها!.
- ما عليك ترجم ما قلته بالضبط!
عندما عرفت فحوى صراخه بانت البهجة على ملامحها، ففلت ذراعيها لتدلي ساقيها من حافة السرير.. ولولا «عزيز» لهبت نحوه واختبأت في صدره المفتوح.. خمن «إبراهيم» المشهد هكذا.. أو تخيله وتمناه.. شخصت نحوه، وكأنها تجرده من ملابسه، وقالت شيئًا قصيرًا وحادًّا جعل «عزيز» يترجم فورًا:
- تقول: ما ملتك؟!.
- قل لها.. مسلم .. شيعي.. شيوعي.. وجودي.. مخبل.. شبه سكير.. صعلوك حقيقي.. يعشق الحب والوضوء، والماء والهواء..
لم يقل النساء فهو واثق أن صاحبه لن يترجمها؛ لذا كان ينتقي ما هو عمومي.. يعتقد «عزيز» أن في ترجمته كسبًا يقربه منها.. انخرطت في ضحكة صاخبة حال فراغ «عزيز» من الترجمة، وجعلت تتفرس في عينيه بوجدٍ ورغبة بانت واضحة في عينيها المخضلتين الصارختين، في انحدارهما العنيف في عمقِ عيني «إبراهيم» المنتظر في ركنه جوار النافذة والمنضدة الصغيرة.. عندما تمالكت نفسها قالت شيئًا بالروسية، ترجمه «عزيز» فورًا بنشوة وشماتة:
- تقول: صاحبك غجري!.
ألمت بـ «إبراهيم» غبطة، فتوردت وجنتاه، وهب من ركنه قافزًا صارخًا:
- يا ريت.. ياريت كنت ضايع وياهم!.
- ...
لاحقته عيونهما وهو يفتل قامته الطويلة الممشوقة، ملتفًا على نفسه، ثم يسكن محركًا رقبته إلى اليمين والشمال ست مرات، ويعود إلى ركنه صامتًا؛ ليحملق عبرها في واجهة القاطرة الزجاجية وأفق العتمة المنثور في أحشائها بقع أنوار تمرق مثل برقٍ. استنكف «عزيز» ترجمة ما فاه به، فلزم الصمت.. ظلت تحملق منتظرةً. لكن يبدو أنه فتح موضوعًا آخر؛ إذ بدت منفعلة تهدر بصوتها المثير عند علو نبرته، وهي تقول شيئًا وتؤشر صوبه.. فقال :
- «إبراهيم» أترجم بالضبط ما قلته!.
- أي!.
تألقت وفاحت على «إبراهيم» ما أن فهمت ما صرخ به، وهو يهب واقفًا متشنجا، وكأنه يوشك على الطيران من نافذة الكابينة.. وبحركة رشيقة مغزلية فتلت جسدها من تحت سقف السرير العلوي، وقالت شيئًا موجهة كلامها هذه المرة بشكلٍ مباشر إلى «إبراهيم» الذي لم يفهم منه شيئًا.. فالتفت نحو صاحبه «عزيز» منتظرًا ترجمة ما لهذا السيل من الروسية التي غمرته بها.. كانت تردد عبارة حفظها وعرفها لاحقًا:
- يني ما كو.. يني ما كو!
لم يترجمها قط بل جعل يسخف الموقف المتصاعد برمته معلقًا كونها عاهرة ليس إلاّ.. فلا تأخذ كلامها بجد، فردَّ «إبراهيم»:
- مع ذلك ترجم ما تقول!.
تجاهل الأمر برمته، لكن «إبراهيم» سيعرف ما كانت تعنيه لاحقًا، وهو يتعلم لغة التعامل اليومي.. كانت الجميلة تهتف دهشةً:
- يا إلهي .. لا أستطيع.. لا أستطيع!
صحيح أنه ليلتها لم يفهم من قولها، وهي تفتل قامتها في ضيق الكابينة شيئًا.. لكنه أحس أنها انبهرت بجوابه، فعاودته نشوة الانتصار، وجعل يحدق نحوه بعينين ساخرتين متشفيتين فيما كان مستغرقًا في التفكير.. يحك قفا رأسه ويحملق فيها شاردًا، وهي تتملى فيه بشغف:
- بم يفكر هذا الخبيث؟!.
تساءل «إبراهيم»، ولم تكن خشيته بعيدة عما سيجري في الدقائق التالية؛ إذ إن «عزيز» استحوذ على اهتمامها بالكامل، فاندمج معها في حديثٍ طويل متواصل، حتى بدا أنهما نسيا وجوده.
قاوم «إبراهيم» رغبة شديدة في عبِّ مزيدٍ من الفودكا؛ في محاولة للتخلص من وطأة شعورٍ بالوحدة سكنه فجأة، فتدلى في ماضيه العاجّ بالعنف والدم والقسوة واللهاث، سعيًا وراء المحافظة على الكينونة من هوة الموت الفاغرة في كل ما حوله.. قاوم مدفوعًا بالرغبة في معرفة ما سوف يجري الليلة في الكابينة.. هل ستتكرر ليلة الوزيرية، فيظل طوال الليل يتقلب على فراشه وآهات اليهودية تختلط بهذيان «عزيز» الداعر.. بدا ذلك شبه مؤكد، وهما ينفعلان في الحوار فيصرخان بغضب تارة، ويهمسان برقة في أخرى.
- اللئيم ركلني بكعب قدميه!
صرخ بصمت وعيناه تلاحق وجه «عزيز» أثناء الحديث.. كيف يتلّون.. تارة يصبح قويًا خشنا يوحي بفحولة طافحة، وتارة تصبح ملامحه الصخرية منسابة كانحدار نهر خفيف، وفي أخرى يضعف بنظراته المتوسلة.. حتى يكاد يخرّ على يديها ويقبلها لولا وجوده.. تماسك «إبراهيم»، وقرر التوقف عن الشرب تماما لرؤية فصول الليلة، التي أصبحت شديدة الإثارة، وهو يتنحى في ركنه جوار النافذة والطاولة الصغيرة، مشاهدًا بعدما كان طرفًا.
- من أين جاء بهذه القدرة على التلون وهو العنيف، صلب الموقف في السياسة والعلاقات؟!.. أهي النساء والرغبة في المضاجعة، التي يرفعها فوق كل شيء أم أنه تغير في سنوات الدراسة بعد تجربة القتال مع الثوار في الجبل؟!.
تساءل، وهو يصب لـ «عزيز» كأسًا طلبه على عجل في حمى حديثه المحتدم.. حدس أنه في موقفٍ حرج؛ إذ إنه كان يطلب كأسًا في حالتين: إما أن يكون منتشيًا أو يكون محرجًا يبغي التوازن.. هاهي ملامحه تقول إنه مزنوق.. كانت طوال انشغالها بالحديث ترمي «إبراهيم» بين الفينة والأخرى بعينيها الضاحكتين خطفًا، وكأنها تبغي التأكد من وجوده.. مدّ ذراعه بالكأس فتناولها دون أن يتوقف عن الحديث.. شمت «إبراهيم» ملاحظًا بوادر هزيمة تلوح في نبرة صوته وقسماته، وتمنى بكل كيانه فشل مسعاه في نيلها.. جمد بنظره لا يفارق ملامح وجهيهما، متابعًا أصغر انفعال، ولاقطًا تبدل نبرات الصوت، فتمكن من النفاذ عميقًا في عالم صاحبه لم يعرفه فيه من قبل.. تنغيم صوته وتنعيمه، نظراتٌ حالمة بعينين موشكتين على البكاء، حركة يديه وجسده المدروسة أثناء الحديث، التي أظهر فيها قدرة مذهلة على التحول من ذلك الكائن الخشن إلى كائن ناعمٍ حالمٍ، يوشك على الذوبان:
- يا أخو العاهرة!.
صاح به «إبراهيم» وانفجر بقهقهةٍ صاخبة مفسدًا لحظة تألقه، فالتفت نحوه غاضبًا، لم يعلق بشيء.. شخص نحوها، وعاود الحديث، لكنه بدا مفتعلًا؛ إذ إن ملامحها التي كانت متوهجةً قبل صراخه عادت إلى حيادها قبل بدء الحوار.. تنفس عميقًا، وأسند ظهره إلى جدار الكابينة مسترخيًا مستمتعًا بعودة «عزيز» إلى نقطة الصفر، ومحاولته دون جدوى بث النيران فيها، واصلًا إلى الذروة، حينما بدأت تتململ ولا ترد على ما يقوله، وتتثاءب في محاولة لإنهاء الحديث.
لم يكف عن الكلام بحماس، وبدلًا من الإنصات راحت ترمق «إبراهيم» بعينين ودودتين؛ مما جعله يمتلئ غيظًا. لا يدري ماذا قال لها؛ إذ إنها حملقت به بغضب وهزت رأسها ويديها رافضةً.. كرر جملته متوسلًا حتى كاد يهوي على قدميها.. لكنها ردت بعنف هذه المرة، فخلد صامتًا يحملق في حضنه مكسورًا.
- لم تفدك لغتك وتذللك يا لئيم!.
تلذذ شامتًا بصاحبه الخارج من المعركة مخذولًا، وإغرز ناظريه بوجهها المتبسم.. كانت تنقل نظراتها الذكية بين «إبراهيم» المنتشي وقسمات «عزيز» التي شوهها الفشل.. قالت شيئًا أمحى بغتة الخذلان من وجه «عزيز»، فالتفت نحوه قائلا، وعلى ملامحه دهشة:
- العاهرة .. العاهرة تتدلل علينا!!
- أش لون؟!.
- تريد واحد منا يحكي لها قصة حتى تنام!.
- أحكي لها!.
- ولك أقدر أحكي وأنا كلي صاير عير واقف!.
انفجر «إبراهيم» ضاحكًا من شدة الغيظ بكلمات «عزيز».. هدأ قليلًا، وأنصت إلى صوتها الذي ترخمه، وهي تلح بالكلام متحولة إلى طفلة.
استعاد «عزيز» شيئًا من رواء بشرته التي جفت قبل الطلب، وحدق نحوها بطرف عينيه بطريقة مسرحية، ثم وجه كلامه إلى «إبراهيم»:
- سمعت تلح.. العاهر تريد قصة بدل العير!.
رد «إبراهيم» فورًا:
- زين أقص أنا.. وأنت تترجم!.
تهللت ملامحه للمقترح، وأدار رأسه ناحيتها ليعرضه عليها. أنصتت بعمق، ثم تبسمت وقالت شيئًا بصوت مبتهج، وشخصت بعينين مرحتين، حيث يجلس «إبراهيم» على السرير المقابل.
قال «عزيز»:
- تقول لنبدأ!.
أحاط بهما بعينيه.. حدق طويلًا في الصمت الضاجّ بأزيز عجلات العربة وصفير القطار المتعالي، معلنًا قرب الوصول إلى محطة على الطريق. أمعن في التملي ملتذًّا بعودته إلى المشهد طرفًا رئيسيًّا ينتظران العالم الذي سوف يتخلق من كلماته. غار فيها عميقًا تحت بشرتها.. في أحشائها، في اللب منها وهو يقلب الحكايات التي يعرفها..
نب «عزيز» فارغ الصبر:
- ما تبدي!.
أشر له واضعا كفه المفتوح أمام شفتيه مطلقًا صوته الهامس:
- أششششششششش!
دون أن تغادر عينيه الحالمتين كتلتها المضيئة.
- ماذا أحكي.. أية حكاية ؟
تساءل مع نفسه واضطربت الحكايات التي يختزنها.. عدد لا يحصى من قصص الطفولة وتجاربها، القصص التي سمعها من الجدات، قصص الحب العنيفة التي عاشها في مراهقته وصباه، قصص بطون الكتب التي عاش مع شخوصها ألذّ الأوقات، اضطربت في صمته في لحظات قبل أن تنط واحدة:
- كان يا ما كان في قديم الزمان ملك من ملوك حي العصري اسمه «مرجان». وكان لديه ولدان.. الكبير اسمه «نعمان» كان بطلًا حكم مملكة حي العصري بالعدل بين العباد وأحبه الناس.. والصغير واسمه «شرهان» ملك حي الجمهوري المملكة المجاورة.
أثناء الترجمة، انخرط «عزيز» بالضحك.. فقال له «إبراهيم»:
- ترجم دون ضحك ولا تعليق!.
كان يضحك لأن الحيّين هما حيّان متجاوران في طرف مدينة الديوانية الجنوبي.
- ولم يزل الأمر مستقيمًا في بلادهما وهم في غاية الفرح والسرور.. إلى أن اشتاق في يوم من الأيام الأخ الكبير إلى أخيه الصغير، فأمر وزيره بالسفر ليحضره، فقال سمعا وطاعة وسافر حتى وصل بالسلامة بعد شهرين إلى الحي الجمهوري، ودخل على أخيه وبلغه السلام وأخبره أن أخاه مشتاق إليه ويريد أن يوافيه، فقال «شرهان» سمعا وطاعة وتجهز وأخرج خيامه وبغاله وحرسه وخدمه، وأقام وزيره حاكمًا وخرج طالبًا بلاد أخيه.. سار مسافة ساعات فتذكر شيئًا نسيه في القصر، فعاد ودخل القصر.. وجد كل شيء ساكنًا. ومن غرف نومه سمع صوت آهات وزئير.. اقترب على مهل سائرًا على رؤوس أصابعه، ومن فتحة الباب الضيقة رأى زوجته عارية مع عبد أسود من الخدم.. طار عقله وظل كامنًا يحملق متعجبًا في الوقت نفسه بما تبديه زوجته من فنون في الفراش لم يرها منها أبدا.. تلذذ للحظات خاطفة في التلصص على تقلبهما وهذيانها وتقبيلها ومصها لشيء العبد، وقال في نفسه: إذا وقع هذا الأمر وأنا لم أغادر المدينة، فكيف إذا بقيت عند أخي مدة، وانتظر حتى اللحظة التي تعالى فيها صراخهما مالئًا أرجاء القصر، فاقتحم الغرفة سالًّا سيفه، وقتلهما في الفراش، ورجع فورًا إلى قافلته وسار حتى وصل إلى أخيه.
وصمت كي يتيح لـ «عزيز» ترجمة ما قصهُ.
كانت تركز طوال الوقت على قسمات وجهه، وحركة يديه، ونبرة صوته المتناسب حسب المشهد.. خفوته عند التلصص.. علوه عند الاقتحام.. عادية نبرته عند سرد فعلٍ عادي. تأملها «إبراهيم»، وهي تنصت بلهفةٍ إلى «عزيز» متتبعًا الدهشة، وهي تتسع لتكسو ملامحها بعذوبة لا تنسى، فأخذته غبطة مضافة إلى غبطة حلوله بعربة نوم بصحبة سافل وجميلة طوال الليل.. إلى غبطة كونها يهودية.. إلى غبطة الراوي الـمُوهِم سامعه بواقعية كائناته.. إلى غبطة شعوره بالتحرر من كابوس العائلة.. غبطةٌ في غبطةٍ في غبطة. كانت تنقل نظراتها المندهشة بين فم «عزيز» الراوي بالروسية وبينه.. دفع بالكأس المملوءة عازمًا على عدم وضع قطرة ليستمتع كامل المتعة بهذه الليلة، وتابع قسمات وحركات صاحبه المنهمك في الترجمة بكل كيانه، وبصوت مرح استحثه:
- واصل..
- فرح أخوه بقدومه وزين له المدينة، وجلس يتحدث معه بانبساط أول الأمر، ثم تذكر «شرهان» ما كان من أمر زوجته فاغتمّ وشحب لونه ونحل جسمه يوما بعد يوم، فلما رآه أخوه عزا ذلك إلى شوقه لحي الجمهوري، فتركه ولم يسأل عن سبب ذلك. ثم قال له في ذات يومٍ: يا أخي أنا مجروح، ولم يخبره بما رأى من زوجته.. فقال «نعمان»: لماذا لا تخرج معي إلى الصيد لتروّح عن نفسك قليلًا، فاعتذر، وسافر أخوه وحده إلى الصيد. وكان في القصر شبابيك تطل على بستان أخيه فوقف وجعل ينظر، وإذا بباب القصر يفتح وتخرج منه عشرون جارية وعشرون عبدًا وامرأة أخيه تتمايل وسطهم فاتنة الجمال، حتى وصلوا إلى فسحة تحت الشباك الذي يكمن خلفه «شرهان». وسط الفسحة نافورة ماء وبركة، فخلعوا ثيابهم ربي كما خلقتني ونزلوا الماء سابحين متضاحكين، ثم خرجوا وإذا بامرأة الملك تنادي: يا «مسعود».. فبرز مقتربًا عبد أسود طويل مفتول العضلات، طول قضيبه نصف ذراع وهو نائم. فسجد لها وقبَّلَ قدميها وصعد حتى وسطها ومكث فيه ضامًّا رأسها وهي تتلوى. بينما انتشر العبيد والجواري اثنين.. اثنين دائرة حول موقع امرأة أخيه و«مسعود».. يضطجعون صارخين لاهثين.. ضج القصر والبستان بالآهات والصراخ.. فوقف «شرهان» محملقًا بعينين مفتوحتين لاتطرفان.. حتى كاد يرمي نفسه من النافذة، ولم يكبح نفسه إلاّ بعد جهد. لبث يستمتع بالتلصص والعبيد والجواري ما يزالون في بوس وعناق وشد وجذب وصراخ وضحك حتى غياب الشمس.. فلما دخلوا القصر، تمدد على سريره، وقال مع نفسه:
- والله.. بليتي أخف من بلية أخي!.
هان ما عنده من قهر.. زال الغم، فأقبل على الطعام والشراب.
وتوقف عن القص، ليتكئ إلى جدار العربة، منتشيًا بنظراتها التي أصبحت صارخة، قوية، صريحة كلما تقدم «عزيز» في نقل ما حكاه لها.. اللهب القادم من عينيها بدأ يحرقهما كليهما.. فَطَنَ «إبراهيم» إلى أن صاحبه بدأ بالزحف مليمًا.. مليمًا، مقلصًا المسافة الفاصلة بينه وبينها.. لم تلحظ ذلك إذ كانت طوال الوقت تحملق بـ «إبراهيم»، سواء أكان يقص أم أثناء الترجمة مع نظرات جانبية خاطفة إلى «عزيز»، وهو يترجم بوجهه المتوسل المستثار. ران صمت حال فراغه من الترجمة.. فشخصا نحو «إبراهيم» الشارد النظرات.. المستغرق في متعة خالصة بما يجري هذه اللحظات.. بالأسرّة.. وحديد الجدران والمنضدة الصغيرة.. والنافذة المطلة على حلكة أشد من الفحم.. أنفاس الثلاثة.. وكأنه خارج المشهد.. يتفرج في عتمة صالة في عمق الشاشة المضيئة.. يحملق في تضاريسها المضيئة، وكأنها ملاك يرف بالضوء متمنيًا لو يضيع في اللحظة، فلا تصل العربة أبدًا، بل تبقى جارية على سكتها إلى الأبد.
- يلّله أكمل!.
نبر «عزيز» فأعاده إلى واقعية اللحظة.. تبسم وسأله إلى أين وصلنا، فذكره بإقبال «شرهان» على الطعام والشراب بعد صومٍ.
عاد أخوه من رحلة الصيد فتعجب لما وجدَ أخاه متورد الوجه.. يأكل بشهية، فقال له: يا أخي، كنت مصفر الوجه والآن ردّ إليك لونك فأخبرني بحالك، فقال له: ما غيّر لوني سأخبرك به، وعن رد لوني فاعذرني.. فقال «نعمان» بلهفة: أخبرني أولا بسبب تغير لونك وضعفك، فأخبره بما جرى له مع زوجته، كيف خرج من المدينة وكيف نسى خرزة كان يريد أن يهديها له، وكيف وجدها مع عبده وما فعله بهما خاتمًا قوله: هذا سبب شحوبي وذهاب شهيتي للزاد، أما عن رد لوني فلا أريد ذكره خوفًا عليك. ازداد فضول أخيه وحلف عليه برابطة الدم أن يحكي له.. فأخبره بما رآه، فقال له: أريد أن أرى بعيني!.. فنصحه أخوه بالتسلل عند الخروج في رحلة قنص أخرى إلى القصر والاختفاء عنده، ففعل ذلك؛ إذ عاد متنكرًا إلى القصر وجلس جوار أخيه خلف الشباك. ولم تمض ساعة إلاّ وخرجت الجواري والعبيد وزوجته، فاعلين ما فعلوا في المرة السابقة.. فطار عقله من رأسه وقال لأخيه: قم لنسافر، ليس لنا حاجة للملك حتى ننظر هل جرى لغيرنا ما جرى لنا.. وإذا لم نجد.. فموتنا أفضل من حياتنا.
سحب «إبراهيم» نفسًا عميقًا.. لاذَ بالصمت. نبّ «عزيز» ضاحكًا:
- هذا مدخل ألف ليلة وليلة.. مو صحيح؟!
لولا وجود هذه الجنية اليهودية لعفطَ له.. رد بسخرية:
- بعد وقت!.
جعلت تنقل نظراتها المتوهجة بين وجهيهما بسرعة، أثناء حوارهما الذي أنهاه مواصلة «عزيز» في عرض ما سمعه بالروسية.. جرفته رغبة في ارتشاف كأس أخرى. فملأها وراح يرتشفها على مهلٍ جرعة.. جرعة متفرسًا بقوة في «عزيز» المنهمك في الترجمة.. في حركة يديه.. شفتيه أثناء الكلام.. التسول الصارخ في عينيه.. منتبهًا إلى أنه يطيل وقت القص ضعف ما قَصّهُ بالعربية.. فخمن من خلال فهمه لذهن «عزيز» السوقي.. الذي يعتبر كل النساء عاهرات بالسليقة أنه يوسع مضفيًا أخيلته الفاسقة على الحكاية القادمة، من خبرته في العيش في هذه البقاع.. سيؤكد له ذلك في الصباح التالي، وهما في طريقهما إلى مجمع جامعة «ﻛﻴﻴﭫ».. وكان ذلك يزيد من توهج واحتدام غرائزها.. فتتألق وكأنها تحترق بالنار، فتصبها بعيني «إبراهيم» الراشف كأسه ببطء محسوب.
- «إبراهيم» كمل.. صاحبتنا راح تنزع!.
قالها «عزيز» لاهثًا وهو يحملق في جسد اليهودية، الصارخ من تحت السروال الضيق والقميص الفضفاض، في اضطراب جلستها.. تثني ساقيها وتدليهما.. تضمهما إلى صدرها وتبعدهما.. إنها فعلا متوهجة مستثارة ، قدر «إبراهيم» ذلك.. وخشي أن ينجح اللئيم في تكرار ليلة شقة الوزيرية، عندما أرقه حتى مطلع الفجر الصراخ والآهات الصادرة من فراشهما، حيث كان يضطجع مع العاهرة الناعمة «سندس»، وكانت الأصوات لا تخفت إلاّ لدقائق معدودة هي وقت الاستراحة بين مضاجعتين، وكأنهما عصفوران.
- مع حلول الظلام.. قاما ونزلا السلالم قاصدين بابًا سريًّا يفضي إلى البرية. خرجا منها وسارا طوال الليل والنهار التالي والليل التالي والنهار الذي بعده، متحاشيين القرى وقلاع المدن إلى أن وصلا إلى شجرة وسط حقل عند عين ماء بجانب البحر، فشربا من تلك العين وجلسا يستريحان. فأخذتهما غفوة لم تستمر سوى ساعة، إذ قفزا من نومهما على صوت أشدّ من الرعد.. فنظرا مذهولين نحو البحر وقد هاج وطلع من باطنه عمود أسود صاعد نحو السماء، يلتف ويلتف متقدمًا نحو المرج والشجرة. تمالكا نفسيهما وأسرعا في تسلق الشجرة.. العالية، واختبأ بين أغصانها الكثيفة المهتزة على عصف الدوامة المقتربة.. جعلا ينظران مرتعدين ماذا سيكون الخبر، وإذا بجني طويل القامة، عريض الهامة، واسع الصدر على رأسه صندوق خرج من البحر وأتى الشجرة.. انزل الصندوق وجلس في ظلها.. نفخ نفخة كادت تسقطهما من على الأغصان، قبل أن يفتح الصندوق ويدس كفه العظيمة، ليتناول علبة مذهبة مرصعة بالجواهر.. قبلها بشفتيه العظيمتين قبل أن يفتحها.. خرجت منها صبية بهية كأنها الشمس الساطعة.
صمت بغتةً.. ففهم «عزيز» أن دوره قد جاء في الترجمة فشرع فيها، لكن ما أخرس «إبراهيم» هو أمرٌ آخر؛ إذ إنه رأى بها بغتة صبية الحكاية التي ظهرت من صندوق روسيا العظيم لتقف بقامتها الممشوقة وتذهله مع «عزيز»، كما ذهلت تلك «نعمان» و«شرهان» وهما فوق الشجرة.. انتظر ريثما يتم «عزيز» الترجمة ليقول:
- قل لها إنها أحلى من صبية الحكاية!
سارع «عزيز» في الترجمة لاحسًا شفتيه، وكأنه مقبل على وليمة، لا يدري ماذا قالت بالروسية إذ إنها صرخت بكلامٍ ما على أثره انكمشت ملامح اللئيم ورفض الترجمة مسخفًا الأمر، متحججًا بأنه يعرف مزاج العاهرات الروسيات.. لكن «إبراهيم» أيقن من أنه سلب عقلها.. قالت شيئًا آخر على عجل، جعله يقول:
- تقول لك أكمل الحكاية!.
- فلما نظر إليها الجني قال: يا معشوقتي وسيدة نساء الإنس والجن، أريد أن أنام قليلا، قالت له: سمعا وطاعة. ضع رأسك على فخذي ونم!. ففعل. وما أن سقط في النوم حتى رفعت رأسها إلى أعلى الشجرة فرأت الملكين. فرفعت رأس الجني من على فخذها بهدوء ووضعته على الأرض. ونهضت واقفةً نشطةً وقالت لهما بالإشارة: انزلا ولا تخافا من هذا العفريت، فقالا لها: بالله عليك سامحينا من هذا الأمر!. فقالت: إن لم تنزلا فسوف أوقظه فيقتلكما شر قتله، فخافا ونزلا مرتعدين فقالت لهما: أرصعا رصعا عنيفا وإلا أنبه عليكما العفريت.
علق «عزيز» ضاحكًا:
- ولك أش لون أترجم الرصع!.
- تعصي عليك وأنت من كبار السفلة!
ردَّ «إبراهيم» متابعًا نشوة فريدة تلمّ بوجه السافلين من أمثال صاحبه عند الإطراء.. وأردف:
- إنها تقصد مضاجعة حارة عنيفة كمضاجعة العراقي!. يعني مثلك لما تهيج وتصير ثور!.
تفرست في «إبراهيم».. ما أن أتم «عزيز» الترجمة تفرست به وبلّتْ بطرف لسانها شفتيها، ثم عضت على السفلى بأسنانها الصغيرة المشعة خطفا:
- هل كانت في غمرة الحالة، أم أن أخيلة «إبراهيم» تضفي على واقعية حضورها وضعًا ليس فيها؟!.
- تقول ليكمل وإلا سوف أجنّ؟!.
خاطبه «عزيز» بقولها مردفًا:
- كمّل!.. ما بقى بِها شي.. جهزتْ!
ومسد شواربه الكثة بسبابته والإبهام، غارزًا عينيه المحمرتين فيها، بينما هي تغرز عينيها المتوهجتين في «إبراهيم» منتظرة بقية الحكاية:
- من خوفهما قال «نعمان» لأخيه «شرهان»: افعل ما أمرتك به، فردّ «شرهان»: أفعل أنت أولًا!.وأخذا يتغامزان على نكاحها.. فقالت لهما: ما لي أراكما تتغامزان.. فإن لم تتقدما وتفعلا نبهت عليكما العفريت!. فمن خوفهما تقدم نعمان ورصها رصا عنيفا، جعلت تطحن حابسة صراخ لذتها جوار رأس العفريت. وتقدم «شرهان» ليفعل مثل ما فعل أخوه، لكنها أمرته بالنوم على ظهره فلعبت به لعبًا قبل أن تعتليه مفتوحة الفخذين لترفع وسطها وتسقطه، ترفعه وتسقطه بعنف ولوعة.. رصته رصًّا حتى انطحن تحتها. كل ذلك والعفريت يغط في النوم شاخرًا، فلما فرغا حاولا التسلق حيث كانا يختبئان، فقالت لهما : قفا لا تصعدا الشجرة، أريد أن أريكما شيئًا، وأخرجت لهما من جيبها كيسًا مشدودا، فلته ودست كفها الصغيرة فيه لتخرج لهما عقدًا فيه خمسمائة وسبعون خاتمًا، ثم قالت: أتدرون ما هذه؟! فقالا: لا!. فقالت لهما: أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي في غفلة من هذا العفريت، فأعطياني خاتميكما. أعطياها الخاتمين، فأدخلتهما في العقد ودسته في الكيس، ثم خبأت الكيس في جيبها.. تطلعت فيهما.. كانا مخرسين، مذهولين، يحملقان فيها تارة وفي وجهي بعضيهما أخرى.. ضحكت من قلبها.. وقالت: لم تسألا عن قصتي مع هذا العفريت؟!، تلعثما فسارعت إلى القول: حسنا سأخبركما!.
توقف عن القول منتشيًا من قسماتها وما في عينيها من وهج أرعش حواسه، شكلها المستثار، وهو يتسلل إلى دمه.. سكت ليطيل أمد اللحظة فالحكاية شارفت على النهاية.. سكت ولم يفارق عينيها المخضلتين.. سكت ليتعالى في الصمت لهاثها، ولهاث «عزيز» الزاحف دون وعي نحوها، حتى عاد على مسافة كف منها، أنفاسه المتسارعة، دوي عربات القطار في عمق الليل.. قالت بلهفة شيئًا، دون النظر إلى «عزيز» الذي ترجم فورًا:
- تقول : ليسرعْ!.
خفف الكلام من فوران النفوس والأجساد، فانتبه «عزيز» ساحبًا جسده إلى الخلف قليلا.
- فقالت لهما: هذا العفريت عشقني فاختطفني في ليلة عرسي، وخوفًا علي من العيون.. وضعني في علبة، وجعل العلبة داخل هذا الصندوق الذي ترونه، وقفله بسبعة أقفال، ثم خبأهُ في قاع البحر حتى لا يراني أو يلمسني أو أرى وألمس أحدًا.. وكلما اشتاق إليَّ أخرجني كما هو الحال الآن.. فلتعلما أن المرأة منا إذا أرادت أمرًا فلابد أن تناله!. فلما سمعا منها هذا الكلام تعجبا غاية العجب وقالا لبعضيهما: إذا كان هذا جنيًّا له قدرات خارقة، وجرى له أعظم مما جرى لنا!، فكيف بنا نحن البشر الضعفاء!. ثم أنهما قررا العودة فرجعا فورًا إلى مدينة« نعمان» ودخلا قصره.. نادى على زوجته والجواري والعبيد فرمى أعناقهم جميعًا، وصار «نعمان» كلما يدخل ليلا على بنت باكر يقتلها في الصباح.. واستمر على هذا الأمر سنواتٍ ثلاثا. فضجت الناس وهربت ببناتها، ولم يبق في المدينة بنت فصاروا يبحثون عن النساء في المدن والقرى المجاورة إلى أن تطوعت بنت الوزير؛ لتلهي الملك «نعمان» بحكايات ممتعة على أمل أن تجعله يؤجل قتلها إلى اليوم التالي.
سكت «إبراهيم» قليلًا قبل أن يضيف بصوت خفتت نبرته:
- ومن هنا بدأت الحكاية!.
لا يدري «إبراهيم» ماذا كانت تقول عنه.. كانت تؤشر صوبه بذراعها العارية البيضاء وهي تصبُّ سيلًا من الكلام، تجاهل «عزيز» ترجمته رغم إلحاحه عليه كي يترجم ولو فكرة عما تقوله، فخمنَ أنها سُحرتْ بالحكاية وبه، مستدلا من ملامح صاحبه التي أمعنت في اكفهرارها متضايقةً مما كانت تقوله.
- هذا يكفيني يا لئيم!.
هتف «إبراهيم» مع نفسه، مستندًا بظهره إلى جدار العربة، مستمتعا بوقع أنفاسها المسموع، بلهفة كلماتها، بوجه صاحبه المتضور ألـمًا، وكأنه يُطْعن بسكين. ركَّز عليها، وهي تلح على أمرٍ ما، و«عزيز» يُسوّف متهربًا مما كانت تريده.. إلى أن التفت نحوه قائلا بغيظ:
- القحبة تريد تعرف اسمك!.
- ولماذا لا تقول لها؟!.
تململ برما في مكانه، قبل أن يقول لها بصوت خافت:
- «إبراكيم»!.
أفلتت صرخة مباغتة، وقفزت من مكانها صارخة:
- «إبراكيم» يا إلهي.. يا إلهي..!.
لم يفهم «إبراهيم» سبب صراخها إلاّ لاحقًا. تدخل «عزيز» موجهًا الكلام إليها، ثم التفت نحو «إبراهيم» قائلًا:
- لنتحضر.. هذا وقت النوم!. سيطفئون الضوء!.
لم يكن معنا ملابس نوم.. لا نحتاج سوى أن نستلقي على السرير فقط، تنحنح مضيفًا:
- اسمع حبيبي راح أحاول آخر مرة، وإذا وافقت.. تطلع من الكابينة!.
- وين أنام!
- تأخذ بطل الفودكا وتوقف بالممر!.
- تريد تسهرني للصبح يا حقير!.
قهقه وربت على ظهر «إبراهيم» مداعبًا، ثم نظر إلى ساعته. شخص «إبراهيم» إلى حيث تجلس فوجدها تنصت متتبعةً الحوار وكأنها تعرف العربية.. تبسّمت له وأدلت ساقيها قائمة لتنتقل إلى السرير الذي يجلس عليه، فنهض بدوره من سريرها لينتقل إلى طرف الطاولة الصغيرة المقابل.. أصبح بمقدوره الآن مراقبة المشهد في لحظاته الأخيرة.. أخرجت من حقيبتها ملاءة بيضاء وفرشتها على السرير..
كان السروال الذي ترتديه أسود منقطًا بدوائر حمراء وبيضاء، شديد الضيق، فتجسمت تضاريس جسدها وهي تنحني وتتمدد بجذعها العلوي، وتنثني جالسة أثناء تعديلها أطراف الملاءة.. وعندما انحنت وهي قائمة برزت مؤخرتها كتلة متراصة قريبة على بعد شبرين منهما، فحدقا بذهول في وجهي بعضيهما وتابعا نحت الردف القائم الظالم إلى أن استقامت بقامتها، والتفت نحوهما محملقة بعينين ملعونتين في الخرس الناحت قسماتهما، فأطلقت ضحكة خاصة جدًّا، تميز الأنثى حينما تجد نفسها محط رغبة وتنافس.. وعادت لتستدير. أمست تقف بوضع جانبي بالنسبة لجلستهما، فبرز خصرها الضيق ومنخفض بطنها الضامر، أثناء انشغالها بترتب وضع الوسادة.. بادرها «عزيز» بالكلام حال انتصاب قامتها.
- هاهو الحقير سيفاتحها بشكلٍ صريح. وإذا تمكن.. سيجعلني أبات واقفًا أو جالسًا على الممر البارد.. وستصبح الفودكا ماء وأنا أتخيلهما في خضم ضجيج العربات عاريين، مضطجعين مسافة ثلاثة أشبار مني.. لن أسمع شيئًا كما كنت أسمع قبل أكثر من عشرين عامًا على سطح مشتمل الوزيرية، أثناء مضاجعته «سندس». سأتضور بغيرتي في الصباح من نشوة ملامحه المنتصرة، وهو يرمقني من تحت عينيه.. يا إلهي.. لا تدع صديقي الحقير ينجح..أرجوك يا إلهي.. دعه يفشل.. يفشل.. يفشل!..
كان يكلم نفسه وهو ينصت للحوار، الذي بدا هادئًا أول الأمر.. ناقلًا نظراته بينهما في محاولة لاستشفاف ما سيؤول إليه الأمر. كلما رأى انفراجًا في ملامحها احتدم غيظًا، وكلما كانت تتجهم وتتكلم بقوة مشددة على مخارج الحروف أطمئن قليلا.. شحذ كل حواسه مركزًا النظر في وجه «عزيز»، الذي بدأ يتوسل بصوت خافت مكسور، فتشوهت قسماته المستجدية.. أوشك على الركوع لتقبيل يديها متأرجحا على حافة البكاء.. لم يجد «إبراهيم» أمتع من تلك الدقائق الحاسمة، قبيل إطفاء نور الكابينة وهو يتشفى به:
- كم يبدو الإنسان قبيحًا عند التسول!.
قال مع نفسه.. وأنشأ يتابع بقية الحوار بغبطة بلغت ذروتها، حينما صرخت به:
- نلزا!.
مفردة يعرف معناها : «ممنوع».. قالتها رامحة بقامتها، ثم مدت ذراعها اليمنى عاليًا مؤشرة بسبابتها البارزة من كفها المضمومة نحو السرير، الذي يعلو سرير «إبراهيم»، وقالت شيئًا بكلمات قوية حازمة واضحة لاشت كل علامات التسول والضعف من وجهه، فعادت قسماته قويةً حانقةً، فالتفت إليه قائلا:
- القحبة ما تقبل!.
وأطلق حسرة طويلة نزلت بردًا وسلًاما على قلب «إبراهيم». أردف:
- بقى عندنا فودكا؟!.
حمل «إبراهيم» القنينة عاليًا، فوجد فيها أكثر من النصف بقليل.. أراها له، فقال:
- اتركها كلها لي .
- ...!.
رمقته بارتياب دون أن يرد، فأضاف:
- أسمع راح أجرها بسرعة حتى أهبد.. وإلا راح أسوي حماقة الليلة!.
وحملق في قسمات «إبراهيم»، الذي بدا أنه لم يفهم بالضبط:
- أنت ما تدري أش كنا نحكي بالروسية!
- ...!.
- ولك هذي قحبة عجيبة مثقفة وذكية!.
ناوله القنينة.. قبضها قائلا:
- الضوء راح ينطفي، طالع للممر!.
تابعه بسرور وهو يخطو بتثاقل، يسحب الباب، يعبر العتبة ليقف بمواجهة زجاج نافذة الممر العريضة المفتوحة على الفضاء المظلم معطيًا ظهره للكابينة.
حلَّ الصمت والسكون على الباب والنافذة والأسرّة وكتلتيهما المرتبكتين في ضيق المكان.. جلست بمواجهته على سريرها.. تحملق نحوه بشدة، وكأنها تبغي الغور فيه. اضطرب في الصمت المتموج على إيقاع العجلة الحديدية.. قاوم بعناء كي يبقى محدقا فيها، فذاب شيء ما في المسافة الفاصلة بينهما.. كاد يطفو منحدرًا نحوها.. تماسك متشبثًا ببعضه، وتلفت إلى النافذة الصغيرة حيث الليل العميق.. إلى باب الكابينة المردود وخلفه «عزيز» يعب من فم القنينة سائلها.. ويحملق في الظلام، متحولا إلى كتلة لا ملامح لها، ملطوشة على سطح حالك السواد.. عاد يحدق فيها فوجدها تبتسم، وتقول شيئًا بعينيها برموشها بحاجبيها بشفتيها.. شيئًا ذكره بصبايا المحلة في أول العشق، وهنّ لا يستطعن التعبير بالكلام فتتحول ملامحهن إلى رسالة غرام.. وفيما كان يتراسل معها بالعيون، أُطفئ مصباح الكابينة الخافت، فحلتّ عتمة خفيفة ينوّر طرفها القريب من الباب مصابيح الممر الباهتة.. رمى بصره نحو كتلة «عزيز»، التي تجسّمت تحت نور الممر وهو يعبّ المزيد من الفودكا.. رجع إليها بعينيه فرأى وجهها الأبيض يضيء قليلا.. قليلا حتى بدا كمصباح في السماء.
- مصباح حي يضيء فقاعة عمري!.
هتف «إبراهيم» مع نفسه متمنيًا أن يبقى في كون هذه اللحظة حتى الفناء، ووجد نفسه يرنم بصوت هامسٍ:
- يا بنت «موسى» حبيب الله!. يا حبيبتي!.
قالت شيئًا بالعبرية بصوت مثل حفيفٍ خفيف.. فهبطت به إلى بابل وآشور وتلك الأمكنة، التي كان يزورها وحيدًا، يصغي في الصمت إلى حجارتها، سامعًا أنفاس ساكنيها وضجيجهم ينبثق من مسام الحجر.. من غور التراب.. طفا إلى السطح فوجدها تبث لهبًا من كتلتها، فتمنى تلك اللحظة لو يقوم إلى صاحبه ويرمي به من نافذة القطار ليصطلي بنارها.. طال التملي واستمرت التمتمة الهامسة بالعربية والعبرية والروسية، فبلغ «إبراهيم» ذروة لذة مختلفة لا يخفت أوارها.. لذة ناعمة تداعب الحواس، وتهز الكيان بغموض الصمت والعيون والكتلتين المشتعلتين المتقابلتين على السريرين.. لذة يحف بها الخوف من العفريت الشامخ خلف الباب، الذي يتوقعان دخوله بين لحظة وأخرى.. وبغتةً سُحِب باب الكابينة بعنف، جعل «إبراهيم» يقفز من مكانه مرعوبًا:
- أش صار؟!.
ردّ «عزيز» بكلمات متلعثمة يمطها مطًا، فأدرك أنه ثمل جدًّا، تمايل في وقفته وهو يحاول التمسك بحافة السرير العلوي؛ كي يستقيم دون جدوى، فسارع «إبراهيم» باحتضانه مصلبًا جسده المتين حتى يسيطر على كتلته الهشة.. حضنه وخطف نظرة إليها فوجدها مضطربة فزعة، تدس جسدها تحت الغطاء وتهمد.. أعانه في الصعود إلى السرير. نزع حذاءه وجواربه.. فيما كان يشتم ببذاءة العاهرات الأوكرانيات واصفًا أعضاءهن الحميمة بكل ما بقاع حي العصري وأهل الشط من سفالة.. هادرًا بصوته الحقيقي الأجش الغليظ الهادر عالي النبرة، الذي كتمه طوال محاولته الخائبة.
عدل الغطاء عليه وظل يهمس في أذنه إلى أن هدأ واستكان.. فخفت صوته شيئًا فشيئا متحولا إلى أنين حزين. لم يتركه. ظل واقفًا جواره حتى هدأت أنفاسه.. سحب جسده إلى الخلف قليلا.. توسط فسحة الكابينة الفاصلة بين الأسرّة..تأمل كل شيء.. خفوت جسدها الذي كان قبل لحظات مشتعلا ولا البركان.. شخير صاحبه المختلط بضجيج عجلات القطار.. العتمة السادرة خلف النوافذ.. نافذة الكابينة الصغيرة.. نافذة الممر العريضة.. نافذة عمره العجيب.. نافذة الماضي.. نافذة المجهول الكامن في نهاية الرحلة..
تأمل كل ذلك في لحظة خاطفة، قبل أن يلقي بجسده على سريره، لاعنًا «عزيز» الذي خرّب أمتع لحظاته الشاردة، وجعل هذه الجميلة المشعة تنطفئ وتخمد مذعورة على سريرها لافةً بإحكام البطانية الخفيفة حولها.. أخمدها وخمد:
- اللئيم .. خرب كل شي!..
وألقى الغطاء على رأسه غارقًا في حيز العتمة الضيق، يحملق في سقف البطانية المشدود بين ساقيه ويديه، مثلما كان يفعل في طفولته هاربا من توتر البيت.. هدأ قليلا.. قليلا.. وأنصت بخشوع إلى هدير عجلات القطار.. شخير «عزيز».. لهاث أنفاسه المتخافتة.. شدة سكون جسدها على السرير المقابل.. جرفه حنين مفاجئ إلى زوجته وأطفاله، وتمنى لو يستطيع قص ما جرى له عليها حين يراها مرة أخرى.. لكن كيف سيقص هذه التفاصيل؟!.
هبط أعمق في لحظته الحاضرة وهو تحت الغطاء في عربة، تنهب سهوب جنوب غربي روسيا.. هبط كمطر في حلم.. ليغور في ترابها مستمتعًا بلذة هزيمة صاحبه الممدد فوقه على سريره.. هزيمة ستجعله يسخر منه وينتقم من عذاب ليلة سطح مشتمل الوزيرية.. مستمتعًا بالدخول في غور فقاعة الدنيا.. دون وجلٍ من انفجارها الوشيك.. فها هو ينطلق بسرعة العربة نحو مدينة جديدة وبشر جدد وأمكنة، لم يرها، وإلى جواره ترقد يهودية ساطعة البياض.. ضاجعته بالعيون.. ترقد الآن بجلال جسدها المتماسك الرقيق العنيف في شدة تناغم كتلته.. ترقد حالمة به..
من صرة فقاعة اللحظة، تسرب إلى باطن النوم.. مترسبًا في قيعانه البعيدة فرأى نفسه طفلًا لم يتجاوز العاشرة بعد، يتسلل إلى (سيف) اليهودي الطيب «يوسف قجمان» كل يوم وقت القيلولة.. ليغط حد الخصر في أكداس الحنطة الحمراء، التي تكاد تبلغ سقف السقيفة العالي.. يغط منصتًا إلى صمت الظهيرة وضجة العصافير الهابطة للقط الحبوب.. وفيما هو في الغور ذاك سمع حفيفًا، خفيفًا يقترب من مكان غطسه أعلى الكوم. أشرأب بعنقه نحو الفسحة المشمسة أمام سقيفة الكوم.. فوجد اليهودية البيضاء تقترب حافية عارية تمامًا، يلهث جسدها تحت شمس ظهيرة الديوانية الساطعة، تسلقت إليه ودست جسدها لصقه، وسمعها تهمس:
- «إبراكيم» لوبيمي يا «سارة»..
أصغى لحفيف الكلمات متعجبًا وتلمس بأصابعه البشرة العارية المشتعلة، إنه ليس في حلمٍ.. ظهر كل شيء بجلاء.. ضجيج القطار.. اهتزاز العربة.. شخير «عزيز» المدوي فوق رقدتهما.. وصوتها الهامس بمفردات روسية يعرفها تقول «حبيبي «إبراهيم» أنا «سارة». ظلت تهمس، وهي تنزع عنه ملابسه:
- «إبراكيم» لوبيمي يا.. «سارة»!.
شبَّ في نشوة لا علاقة لها بالذروة العظيمة وقت بلوغ الرعشة.. كأنه يلج جذر التاريخ هابطًا إلى أورشليم وبابل وأشور والقصة كلها.
في الصباح نزلوا من القاطرة.. كانت تتلكأ في مشيتها كي تثير معهم حديثا ما.. كان «عزيز» يبطئ الخطوة عن عمد، محدقًا نحوها بحقد. كانت تبتسم ملتفتة بين خطوة وأخرى، فتوقف «عزيز» عن عمد قائلا:
- حتى نخلص من هذي العاهرة!.
تبسم «إبراهيم» وتابع جسد اليهودية وهو يغيب رويدا.. رويدًا في زحمة محطة.. لتضيع في قاع أوكرانيا العظيم، تاركة في روح «إبراهيم» لوعة غامضة ستصاحبه كل العمر.
لم يخبر «عزيز» أبدًا عما جرى!.