(سوسن أحمد) على خُطى (سميرة موسى)


فاطمة ناعوت
2023 / 8 / 6 - 12:29     

"سوسن أحمد" على خُطى "سميرة موسى"

كنتُ في الطريق إلى "حي الأسمرات" بالمقطّم، وفيما أتطلّعُ إلى لافتات الطرق لأختار وجهتي، شاهدتُ لافتةً مكتوبًا عليها "محور سميرة موسى"! غمر قلبي الفرحُ أن تذكّرنا هذه العالمة المصرية الجميلة التي تحلُّ ذكرى اغتيالها بعد غد يوم ٥ أغسطس من عام ١٩٥٢؛ لأن عقلها المشرق هدّد عروشَ دول استعمارية تودّ الانفراد بالسلاح النووي لتكون لها الكلمةُ العليا في صناعة القرار العالمي، وهدد كذلك سدنة تجار السلاح الذين يثرون من دماء البشر.
بروفيسور "سميرة موسى" شابةٌ مصرية من أعظم عقول التاريخ في مجال الذَّرّة؛ أوشكت أبحاثُها العلمية وتجاربها المعملية على ابتكار قنبلة ذرية من مخلفات المعادن الرخيصة، لتكون حصن أمان لمصر، ومنطلقًا راسخًا لنشر السلام من منطق القوة وامتلاك أداة الدفاع عن النفس. عاصرت الحرب العالمية الثانية وشاهدت ما حدث لليابان من قصفٍ نوويّ دكّ مدينتي هيروشيما وناكازاكي عام ١٩٤٥، وشاهدت قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨ وإصرارها على الانفراد بالتسلّح النووي في المنطقة العربية، فخافت على مصر! كان حُلمها أن تدخل مصرُ حقل التسلّح النووي ليكون لمصر والعرب مكانٌ على خريطة التقدم العلمي، حيث الكلمةُ العليا للأقوى عتادًا وسلاحًا والأكثر تفوقًا علميًّا وصناعيًّا. كانت الفتاة الذكيةُ تدرك أن امتلاك السلاح النووي هو الأرضية الأصلح لتحقيق السلام، لأن السلام، في عالم متوحش، لا يخرج إلا من عباءة القوة، لا الضعف، خصوصًا في زمن يعجُّ بحروب كونية دمرت شطرًا من العالم. حلمت الصبيةُ الجميلة "سميرة موسى" أن يكون لمصر ظهيرٌ نووي هي الأخرى من أجل الذود عن الوطن وعن المنطقة العربية بأسرها. لهذا، أسّست هيئة الطاقة الذرية، بعد ثلاثة شهور فقط من إعلان قيام دولة إسرائيل المحتلة على أرض فلسطين عام ١٩٤٨، ونظمت وفودًا مصرية للسفر في بعثات علمية للتخصص في علوم الذرّة، ولم تتوقف دعواتها للمناداة بوجوب التسلح النووي ليس فقط لمجاراة المد العلمي المتنامي في العالم آنذاك، ولكن أيضًا لحماية الوطن من خطر الكيان الصهيوني الاستعماري الآخذ في الاستقواء آنذاك بقوة السلاح النووي والدعم الأمريكي. ثم نظّمت، في كلية العلوم بجامعة القاهرة، مؤتمرًا عالميًّا شارك فيه عددٌ من علماء العالم، أطلقت عليه اسم: “مؤتمر الذرّة من أجل السلام"، حتى تنشر فكرتها أمام العالم وهي: "طلب التسلح النووي من أجل ترسيخ فكرة السلام القائم على النديّة والمساواة والعدالة.” كانت تحلم بأن تُستخدم الذرّة لا لقتل الإنسان، بل لعلاجه من أشرس الأمراض: السرطان. أحلامُها كانت أكبر من أن يتحملها عالَمٌ متوحش، فتقرّر تصفيتُها، ووقع الاغتيال في أمريكا في ٥ أغسطس ١٩٥٢، قبل بلوغها الخامسة والثلاثين من عمرها.
المدهشُ في تلك الشخصية الاستثنائية أنها كما تعمّقت في دراسة الفيزياء كانت بارعة في قراءة النوتة الموسيقية والعزف على العود، كما برعت في التصوير الفوتوغرافي، وخصصت ركنًا من بيتها لتحميض أفلام الصور وطباعتها. وكانت تُصمّم وتحيك ملابسها بنفسها، وبرعت في نسج التريكو. وكانت تقود القوافل الشعبية لمحو الأمية في الريف المصري، وإنقاذ الطفولة المشرّدة وجمع التبرعات للأسر الفقيرة في القُطر المصري. وقادت ثورات ضد المحتلّ الإنجليزي آنذاك.
وكان لابد للعدو من وضع نهاية لتلك الحياة القصيرة الحافلة بالعلم والوطنية والنضال والامتياز العقلي. استجابت د. "سميرة موسى" لدعوة من أمريكا عام ١٩٥٢، لإجراء أبحاثها في معامل جامعة سان لويس بولاية ميسوري الأمريكية. وحاولوا استقطابها للبقاء هناك للتدريس، ولكنها رفضت وأصرت على العودة لمصر التي لا تعرف لها وطنًا سواها. وقبل عودتها بأيام بعد زيارة معامل نووية في ضواحي كاليفورينا، دهم سيارتها لوري ضخم فسقطت مهشّمة في واد عميق. حدث هذا بعد تصريح خطير لها قالت فيه: “لو كان بمصر معاملُ مثل هذه لاستطعت عمل الشيء الكثير في بلادي. وحين أعود إلى مصر سأقدم للوطن خدمات جليلة في مجال الطاقة النووية لأخدم قضية السلام من منطلق القوة.” وأُجهض حلمها في إنشاء معامل في منطقة الهرم بالجيزة. تحية احترام لروح الوطنية الخالدة العسراء "سميرة موسى" ابنة مصر البارة.
لكن مصرَ أمَّ النجباء لم تتوقف يومًا عن منح العالم عقولا مشرقة في مجالات العلوم والفنون. أحدثُ نجيباتها نبتةٌ مصرية صغيرة لم تغادر بعد فستانَ الطفولة، اسمها "سوسن أحمد"، عمرها اليوم ١٣ عامًا. حصلت العام الماضي على لقب: “أصغر طالبة تتخرج في كلية "بروارد" في تخصص العلوم البيولوجية بولاية فلوريدا الأمريكية طوال تاريخ الكلية البالغ ٦١ عامًا.” وهي كريمة د. "وسام أحمد" الطبيب المصري في مركز السرطان في "كليفلاند كلينك" أبوظبي. وتستكمل الطفلةُ المصرية العبقرية مسيرتها العلمية في جامعة فلوريدا الأمريكية، وتخطط لدراسة برمجة الكمبيوتر والكيمياء وعلم الأحياء. تحية احترام لكل عقل مصري عظيم يرفعُ اسمَ مصر في أعالي الدنيا، وتحيا مصرُ صانعة الحضارة والمجد.
***