برّاد حامد الشريف


محمود حمدون
2023 / 8 / 3 - 01:04     

"برّاد حامد الشريف"
التخيّل لا يغني عن نُذر التوتر الطبقي الكامنة
قراءة في قصة " برّاد شاي" للقاص : حامد الشريف
----
يقول الدكتور: رمزي زكي, الاقتصادي الشهير رحمه الله, أن الطبقة الوسطى بالمجتمع هي القاطرة التي تقوده للأمام. هي القوة المحرّكة والضامن في آن لاستقرار المجتمع – إلى حين-
تأكيدًا على ذلك تقول أن هذه الطبقة الاجتماعية هي أشبه بتروس ماكينة عملاقة –المجتمع-, على أكتافها ينطلق الاقتصاد للأمام ومن خلفه المجتمع بأسره, غير أن أبناء الطبقة الوسطى يعانون أشد المعاناة, فهم يتأرجحون بشدة بين طبقتين, يفرّون من جذب وشد الطبقة الفقيرة من أسفلهم, يتعلقون بحبال دائبة بمن يعلوهم من طبقة الأغنياء.
حالة التأرجح هذه أوجدت لديهم اضطرابات نفسية لا نهائية, متصاعدة متضخمة, فالحفاظ على المنصب, الثروة, الوجاهة, أفقدهم القدرة على الشعور بطعم الحياة-الرأي عن قسم لا بأس به منهم- , لذلك أوجدوا أو أسّسوا ضوابط حياتية تُريحهم ولو مؤقتًا.
فإيمانهم كبير ببيت الشهر الشهير لنزار قباني " الحب في الأرض بعض من تخيّلنا .. لو لم نجده عليها لاخترعناه", لا غرو أنهم أوجدوا بالتخيّل أو الاصطناع: الحب- السعادة – الوجاهة- المستقبل, أشياء أخرى تقوم عليها حياتهم أو تبرر لهم فلسفتهم المعيشية.
فالسعادة على رغم غموض التفسير والذي لم يتفق عليه البشر حتى الآن ولا أظنهم سيفعلون, هي اللحظة الحلوة , أي هي تلك التي تستقر فيها نفس المرء, يتضاءل التوتر بداخله لأقصى نقطة ممكنة , هي لحظة تتجمّد فيها المشاعر السلبية , تتوقف فيها صراعات النفس, غير أنها كغيرها لحظة أو بعض لحظات أي فترة زمنية محددة ثم ينتقل الإنسان بعدها إلى صراع نفسي أشد وطأة , من معاناة لأخرى بحثَا عن شيء مفقود أو تائه منه !
لجأت إلى التفسير الطبقي الاجتماعي بعد قراءة قصة " براد شاي", بعد الوقوف برهة امام الخاتمة التي تقوم على المفارقة, تلك القفلة التي أودع فيها الراوي كل حنقه وغضبه. في البداية رأيتها نهاية رائعة, تبعث الدهشة في النفس وتثير العقل, غير أنني حينما أعدت قراءة القصة للمرة الثانية على مهل, وجدتني أركن لتفسير جديد لها, يقوم على أساس اجتماعي – طبقي, لا يمكن أن نتجاهله , لا يمكن استبعاده, فالمجتمع الحديث شئنا أو ابينا يقوم على تكتّلات فرعية كثيرة بعضها فقو بعض, بعضها يضغط على الأخرى مانعًا إياها من المرور لأعلى . يجاهد بشدة دون العودة لوضعه القديم.
هو صراع لحظي طبقي نتج عن التقاء راوي القصة, مع صاحب " براد الشاي". صدفة بطريقه. الموقف بسيط: بشيخ يفترش أديم الأرض حتى يصعب على القارئ تبيان الفارق اللوني بين جسديهما- بين لون بشرة الشيخ ولون الطمي-, التصاقه بالثرى حقق له معادلة بسيطة : استمتع بالمتاح لديك أو أمامك, فإن تمرّدت فهذا شأنك وحدك.
"براد الشاي", قصة موجزة غير أنها أوجدت صراعًا مفاجئًا بين متناقضات: معاناة الثروة مقابل الفقر, رفاهية الصراع النفسي لأبناء الطبقة الوسطى الخوف من السقوط في الهاوية , التمسك بأمل الصعود لأعلى, البحث عن فردوس السعادة المفقود وصناعة الحياة المُتَخيَّلة.
الحدث في القصة لم يستغرق فترة زمنية كبيرة , لعله دقيقة أو أكثر قليلًا, غير أنه أشعل بركانًا لم يخمد أبدًا بداخله وأبناء فصيله من قبل. يتصادم عقل الراوي بشدة بين ما يراه من تواضع شمل المشهد أمامه كله , بداية من الشيخ الفقير, براد الشاي الصدئ, المكان- الفقر هنا ينتج مستوى سعادة قائمة على رضائية واقعية. فكثير ما تؤهل قلة الحيلة المادية صاحبها لتقبّل حياته بل والتعايش معها, أحيانا يراها هي كل شيء ولا يرى أبعد منها, فيرضى بالحياة وهذه بدورها ترضى عنه.
يتزايد الصراع النفسي لدى الراوي, معه تنعقد مقارنات لا حصر لها بداخله, يتعاظم التوتر النفسي بشدة لدرجة يُجبر بوعي أو بدون على النزول من عربته الفارهة.. يظنه الشيخ البسيط أنه ضيف فيهشّ له, ينهض مستقبلًا إياه, غير أن وعي صاحبنا الطبقي الذي يئن وقتها من الألم والمعاناة حتى أن الجزم هنا يصل لدرجة اليقين أنه فقد علاقته بالحدث فجأة وربما فقد وعيه الآني وسيطر عليه لاوعي كامن , تغلّبت عليه رغبة الثأر من مصدر سعادة وقتي يفتقده هو بينما ينعم به الشيخ ولا يبالي. قدمان تنطلقان لغاية ,عينان مسلّطتان على البراّد, ثم ركلة قوية تحمل من الغلّ والحنق ما لا يتصور بشر فأطاحت بالبرّاد وما حوى.
الخلاصة : أن تتناول فهوتك أو فنجان شاي في المقاهي العالية القيمة أو الأندية التي نسمع عنها, ربما لا تحقق لك السعادة, قد تمنحك احساسًا زائفًا بها أمام نفسك قبل الآخرين, فتتصنّع أنك سعيد.. لكنك تصطدم بمفهوم آخر للسعادة طبيعي نقيّ, غير مصطنع, لا يخضع لقانون " نزار قباني", حينئذ لا يكون لك سوى أمرين:
أن تتصالح مع نفسك من جديد, تبحث لك عن برّاد يليق بك ولو كان صدئًا.
أو أن تركله بقوه, نافيًا عن الآخرين حقهم في السعادة الطبيعية, مطمئنًا للمتخيّل منها .