رواية -الحياة لحظة- الفصل الخامس -ليرميها بحجر


سلام إبراهيم
2023 / 8 / 2 - 16:47     

الفصل الخامس..

فليرْمِها بحجر


تمدد «إبراهيم» مسترخيًا على الأريكة يحدق في الصباح. لبث إزاء النافذة ساعات.. ينصت بسكينة تامة إلى الأصوات الخافتة القادمة من الخارج.. ينصت مستمتعًا بالوحدة، وهو يستعيد أصغر تفصيل منذ طيرانها مع طفليهما إلى اللحظة التي خرج فيها «شيركو» مع المرأتين.
أقل من شهر، انفتح له عالم عجيب كان يفور في الخارج.. بينما يقبع هو في زاوية منسية مملة معتمة، تثقل زمنه القصير بتفاصيل شديدة التفاهة عن لعب دور الزوج الوفيّ والأب الصالح، وتقنين الحياة في مواعيد محسوبة : النوم والأكل والجنس.. ولولا تجربة كردستان التي جعلته يتصارع مع المحيط، في مواجهة الخطر الكامن بقصف الطائرات اليومي، شبح الموت الحائم مع كل مفرزة يعبر فيها كمائن، التجمد في قمم الجبال في عز الشتاء، ومقاومة رجال العصابات المحرومين، وهم يحاولون الإيقاع بها.. لما ظل قابعًا في تلك الزاوية، التي سرعان ما اكتشف عاديتها وثقل قيودها في دمشق؛ إذ تحولت فيه الزوجة إلى رقيب يحسب عليه كل خطواته وتصرفاته..
سنة واحدة أطل منها على بؤس المؤسسة.. لكنه كان محاصرًا بعيون طفليه وتاريخ تعلقها المجنون به وغموض مصيرهم.. لكن بعد طيرانها ووصولها إلى الدنمارك بكل ما يحمله ذلك من أمان وجد نفسه مهيأً لخوض غمار هذا العالم الذي ظل ثاويًا في أعماق نفسه يتوق إليه، توقه القديم عندما كان يحلم في صباه ، وهو يتدله بالقراءة ، بالعيش في أمكنة بعيدة غريبة وسط أقوام آخرين..
هاهو حلم يقظته الذي رافقه منذ الطفولة والصبا يتحقق بالضبط.. وسط الروس في شقة بطرف موسكو وحيدًا، يتسكع في الأمكنة والزوايا والأسواق شاردًا حالمًا دون أن تثقله الهموم، يدور دون أوراق تثبت شخصيته، لا يدري، ولا يهمه ما تخبئ له الأيام.. يتجول مستعيدًا لحظات حلمه الشارد القديم، وهو يعانق الوجوه الغريبة، الملفوفة بالأسرار، الراطنة بلغتها المبهمة.. يبادل كل من تلتقي به عيناه البسمة..الشيوخ والعجائز، الشابات والأطفال، ويروح في لعبة ممتعة متخيلًا قصص حياتهم المختلفة، مرتبًا حكايته الخيالية حسب انفعال الوجوه وما تشي به القسمات من تكوين..
لعبة ممتعة يمر فيها الزمن خفيفًا جميلا.. ممتعًا مع البيرة وكؤوس الفودكا، التي يتناولها بشكل متقطع طوال الليل والنهار.. يساعده في غزارة الأخيلة الكم الهائل من الروايات، والتي قرأها عن حياة الروس منذ «ديستويفسكي» حتى «إتيماتوف».. قصص المناضلين الشيوعيين الأوائل في «أم» «مكسيم غوركي»، قصص الأنصار الروس في الحرب العالمية الثانية، التي كانت تملأ مكتبات قواعد الأنصار في كردستان، كان يشعر أنه يفهم ما يقولونه رغم معرفته القليلة جدًّا بالروسية، يتجول بنشوة الحالم.. ثم دخوله العاصف من قاعها المنسي.. المتشردة السكيرة ثم الشاعر وبائعتي الخضرة..
- مدد.. مدددددددددددد!
قفز من الأريكة صارخًا وهو يشعر بغبطة طير يجوب الأعالي. وركض مثل مجنون نحو المطبخ.. تلقف قنينة الفودكا وصب كأسًا.. أفرغها في جوفه دفعة واحدة وصب الثانية والثالثة.. ظل يعب ويصرخ، يعب ويهذي من غبطة لم يسعها قلبه الصغير.. استعر صراخه، صار مبهمًا وكأنه يصدر من حيوان بري لحظة تساقط ندف الثلج بكثافة من جديد.. يصرخ ويهذي ناطقًا بأسماء أشجار ..بشر.. سواقي ماء.. بساتين.. يهذي ويصرخ إلى أن سقط على السرير، وراح في نومٍ عميق.. ليفز عند منتصف الليل محدقًا حواليه في أشياء الغرفة الغارقة في عتمةٍ باهتةٍ .. في السقف.. في النافذة.. في كفيه المتيبستين متسائلًا:
- أين أنا؟!
وقليلا.. قليلا عادت به أشياء الغرفة والنافذة، وندف الثلج التي لم تنقطع وبقايا بخار السكر ؛ إلى غبطته التي ما زالت قوية، فنهض نشطًا يصرخ من جديد وهو في طريقه إلى المطبخ لملء كأس أخرى من الفودكا صبها في جوفه، ثم انطلق يدور بين المطبخ والممر والغرفة يغني بصوته الأجش.. يغني ويشرب.. يصرخ ويشرب.. يضحك قائلا:
- مرة واحدة.. مرة واحدة خلصت من الحرب بالجبهة والخوف من كلاب السلطة.. ومن الحزب ورجال العصابات والموت بالجبل.. ومن العائلة.. مرة واحدة.. مدددد.. مرة واحدة.. ولكم صرت طير.. والله طير.. شوفوا راح أطير.
وراح يدور بأرجاء الغرفة رافًّا بذراعيه.
كان أحيانا يصحو قليلًا من دوار الغبطة والسكر، فيجد نفسه وحيدًا وسط الشقة التي عاد الغبار يتراكم على الأرض والأريكة والسرير والمكتبة والحيطان وكل شيء.. يقترب من الهاتف الميت المغبر متسائلًا:
- وين صار «شيركو»؟!
فمنذ هبوطه بئر السلم في ذلك الصباح لم يظهر، ولم يتصل.. وكأن كل ما جري لـ «إبراهيم» كان حلمًا أو أخيلة سكر، رواية قرأها منذ زمن بعيد، يفزعه الصحو والغبار، صمت الشقة والنافذة المطلة على سكون أشجار الغابة الشاهقة الواقفة بسكون لابسةً ثوبها الأبيض الناصع وكأنها نذير موت.. تفتح بابًا إلى تفاصيل عمره العنيف.. في دوامة الدم بجبهات قتال الحرب مع إيران وفي الجبل.. في المعتقلات حيث فقد أخاه وأعز الأحبة.. دوامة جعلته يغامر في محاولة للحفاظ على كينونته، التي كان أو ظن أنها تكمن في العائلة؛ ليكتشف هنا في موسكو أنها كانت وهمًا آخر من أوهام العمر الفقاعة.. يتلفت في الخواء المحيط به، في الصمت، في وضعه البشري شديد الاضطراب، يصرخ بغتة:
- الصحو جحيم.. جحييييييييييييييييم!
يصرخ في طريقه إلى المطبخ والقنينة ليحيي دورة الغبطة؛ كي يستعيد جناحيه.. لا يدري كم من الزمن مرَّ عليه.. بين الصحو الطارئ.. وغبطة السكر العاجِّ بأحلام اليقظة. اختصر أوقات خروجه إلى محل بيع الخمور القريب. وذات ليلة طُرِق الباب طرقًا شديدًا جعله يستيقظ من غفوته.. انتظر قليلا ليتأكد.. فعاود الطرق أكثر شدةً. قرر أول الأمر عدم فتح الباب، فالوقت أول المساء وهو الموعد الذي تأتي فيه عادةً المتشردة الروسية. أراح ظهره على مسند الأريكة متجاهلا القرع؛ الذي تواصل مما جعله يغادر جلسته مقتربًا بحذر من الباب، فسمع صوت بالعربية يقول للآخر:
- خاف مات صاحبنا ياول .
عرف به صوت «أسعد» التكريتي.. فتح الباب فوجد أكثر من ستة رفاق يقفون خلف «أسعد» ضجوا حالما رأوه، حضنوه واحدًا.. واحدًا، ودخلوا.
لم يعد وحيدًا.. تحولت الشقة إلى ملجأ حقيقي لكل من يجد نفسه دون سكن في موسكو من «البيشمركه» القدماء؛ خصوصًا من تلك الوجبات التي كان الحزب الشيوعي يرسلها في بعثات إلى الاتحاد السوفيتي الموشك على التفتت وقتها.. عشرات من النساء والرجال ممن قاتلوا في الجبل وتعبوا كانوا يتخلصون منهم في بعثة لغرض الدراسة.. وآخرها كان أثناء وجوده في الشام، قبيل حرب الخليج الثانية أي عام 1990؛ حيث بعثوا أعدادًا كبيرة جدًّا من أولئك المقاتلين كبار السن كي يواصلوا دراسة كانوا قد قطعوها قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة..
سيكتشف لاحقًا أن قبولهم لم يتم بسبب كونهم رفاق نضال.. بل إن منظمة الحزب في موسكو رشت الموظفين الروس ممن كانوا في لجان القبول.. عشرات منتشرون في مدن وجمهوريات بعيدة لم يستطيعوا إكمال دراستهم.. كانوا متعبين.. أعداد منهم جرحوا أو أصيبوا بغازات سامة في «الأنفال».. أعداد أخرى خرجت بوقت أبكر.. أنهكها القتال بين الثوار أنفسهم، والذي كان يحتدم بين الحين والآخر طوال الثمانينيات قبل «الأنفال» بين «الطالباني» من جهة و«البرزاني» والشيوعيين من جهة أخرى..
أولئك المساكين وجدوا بالشقة مكانًا يبيتون فيه ليلتهم، وهم يقابلون لجانًا من الأمم المتحدة؛ كي يحصلوا على توطين في بلد آخر. عادت الأيام التي يبيت فيها وحيدًا نادرة. أسعده ذلك وأحزنه في الوقت نفسه.. فقد تخلص من وحشة الصحو المرعب، ولكنه خسر غبطة الأجنحة في السكر وأحلام اليقظة.. في المقابل انغمر في حوارات عنيفة مع المقاتلين القدماء، الذين وجدوا بالشقة منتدىً للحوار، أوجد مناخًا جعلهم يصارحون بعضهم عن همومهم وما كان يثقل كاهلهم في التجربة العنيفة..
كانوا لا يستطيعون التعبير عن تلك الأفكار والأحاسيس هنالك في الجبل خوفًا من السجن كما حدث لعددٍ من المقاتلين الشبان في أعقاب مذبحة «بشتاشان» ممن وجدوا في توريط المقاتلين بقتال داخلي جريمة، جهروا مطالبين بإجراء انتخابات علنية لاختيار قيادة جديدة، فكان مصيرهم السجن والتعذيب حتى أن أحدهم، ويدعى «منتصر»، مات تحت التعذيب بيد رفاقه. أما البقية فقد تشتتت بين متمرد تطرف وانسل إلى إيران، مكونًا تجمعًا شيوعيًّا صغيرًا شديد التطرف، ومن أُذِلَ فبقى في المقرات يعاني هستيريا تشبه الصرع بين الحين والحين، عرف إبراهيم بعضًا منهم، كان أحدهم في الموقع الذي كان فيه.. حاول مرات عدة جره إلى الكلام عن تلك التجربة، فكان يلتفت حواليه مذعورًا.. قبل أن يحدق نحوه بعينين فزعتين قائلا:
- الله يخليك غيَّر هذا الموضوع!.
ثم يلوذ بصمته، وقسم أُبعِدَ إلى الخارج.. التقى «إبراهيم» بأحدهم لاحقًا، وسمع منه تفاصيل ذلك الرعب الذي عاناه في فترة التحقيق، في سجن غرفة من الطين والحجر بموقع على الحدود الإيرانية بقاطع «أربيل». كان سقوط التجربة السوفيتية ووضع الروس، الذي أحتك به المقاتلون محرضًا على إعادة النظر فيما كان يجري من تفاصيل في تجربة الجبل.. يضاف إلى ذلك الفودكا وما تمنحه الخمرة للإنسان من شجاعة .. زائدًا بوح إبراهيم وأسعد وشيركو الذين، كل حسب تجربته، شجع الآخرين على البوح. في جلسة، حدثهم «إبراهيم» عن كيفية تعامل البشمركة مع المعتقلين.. عن ذلك الإذلال المريع لهم بسلوك يشبه سلوك سجانيه في المعتقل:
ردّ أحدهم:
- لكننا نعاملهم بالمثل!
- وتلك الخطيئة الكبرى!
جاوب «إبراهيم»، وأردف:
- قد أوافقك في تبرير العنف المقابل رغم عدم إنسانيته وشرعيته.. لكن اسمع ما سوف أحكيه لك. في ليلة من الليالي حصلنا على قنينة خمر وتعرف أن الشرب ممنوع.. لكن كان مكتب فصيل هم من دعوني. وبعد عدة كؤوس شربناها في البستان المجاور، قال مسؤول المكتب لي:
- أتريد يا «إبراهيم» تنفس شوية عن نفسك!.
لم أفهم فقلت له:
- ماذا تقصد؟!
قال:
- أنت معتقل أكثر من مرة وذقت ضربهم.. تعال بوقت حراستي بعد ساعة، واضرب مثل ما تريد وأش لون ما تريد. أختره واحدا من العملاء، أتريد تدخل جوه لو تريد أطلعه وتأخذه على التل وتموته ضرب!.
رفضت عرضه، مدركًا أي ذلٍ يومي يمارسه هذا الرفيق وأمثاله من تلك الكائنات المسكينة القابعة في عتمة غرفة معتمة، شباكها الوحيد فتحة دائرية بحجم مرآة مدورة صغيرة، حتى أن لون بشرتهم صار بلون الزعفران.. الضرب هنا ليس له علاقة بالتحقيق.. بل ممارسة سادية كان يضحك لها بعض الرفاق.. لا يضحكون فقط، بل كانوا يتندرون بها ملتذين.. أليس كذلك؟!
- ...
- لم تسكت؟!
- ..
- كنت واحدا منهم؟!
سيشاهد «إبراهيم» بعد أكثر من عشرة أعوام، وهو في المصحّ ذلك الشخص نفسه، الذي دعاه إلى وليمة التعذيب، يعود بطائرة خاصة في برنامج بثته قناة «العربية» الفضائية عقب سقوط «صدام» على يد الأمريكان؛ حيث اصطحبته من مطار الأردن إلى مطار بغداد إلى مدينة الثورة، وكان يذرف الدموع قبيل اللقاء بإخوته في بيت فقير بمدينة الثورة ببغداد. وسوف يشاهده لاحقًا أمام عدسات التلفزة يقف خلف «عدنان الباججي»، قياديًّا في حزب ديمقراطي عراقي.. شاهده صدفة في المصحّ فعفط عفطةً عظيمة على ديمقراطية الأحزاب الجديدة؛ مما جعل الممرضة تهرع إليه متسائلة:
- ماذا أصابك؟!.
- لاشيء.. لاشيء!.
ردد متمالكًا أعصابه.
تحولت شقة موسكو إلى منصة للتطهر.. جعلت كل من يحلّ فيها يعترف بما اقترف أو عانى من فظائع، عندما كان يقاتل من أجل مدينة العدل والفضيلة. قال «أسعد»:
- اسمعوا يا جماعة.. تدرون بماذا اعترف لي «أبو سنية» في الأوردكاه بإيران.. قال لي : والله ظلمناكم.. يقصد أنا وابن عمي. ما سَلَحْناكم.. ولما انسحبنا بالأنفال خليناكم تمشون بالمقدمة خاف توقعونه بكمين!.
يبدي الجالسون امتعاضهم.. فالأمر جريمة بحق «أسعد» وابن عمه. فالصدف وحدها جعلتهم ينجون من نار الجنود العراقيين المهاجمين، وبنادق الرفاق المصوبة نحوهما من الخلف.. قال «نادر» الذي كان صامتًا طوال الجلسة:
- احمد رَبَّكْ.. فكل ما جرى لك ما يساوي شيء، قياسا بما جرى معي قبل خمس سنين عند التحاقي!.
شخصت العيون نحو «نادر» منتظرة.. تضرج وجهه وابتدأ ينضح، بدا أنه تورط في الكلام. لما طال صمته حثه «أسعد»:
- ما تحكي؟ بعد منين خايف.. كلها شهر شهرين، وراح نتفرق بين الدول!.
ركَّز «إبراهيم» نظره على كتلة« نادر» التي صغرت تحت وقع العيون المحملقة بفضول.. فهو يعرفه عن قرب.. يشتركان في الاهتمام بالأدب والكتابة، وأسرا لبعضيهما عن أمكنة عيشهما في المدن. فعرف أن «نادر» من البصرة، التحق في أواخر1981. ولكنه لم يخبره عن التجربة التي تبدو مريرة.. لاحظ أن «نادر» يفرك كفًا بكف مثبتًا عينيه القلقتين على المنضدة المكتظة بالكؤوس. امتد الصمت لدقائق أخرى.. قبل أن يرفع بصره نحو «إبراهيم» وكأنه يستنجد به، ابتسم مشجعًا وملأ له كأسًا من الفودكا.. تناولها بأصابع ترتعش ودلق كل ما بالكأس في جوفه.. أغمض عينيه وارتد متكئًا على ظهر الأريكة وكأنه يستجمع قواه، ثم فتح عينيه واعتدل في جلسته قائلًا:
- هربت من الجبهة. وبقيت مختفي أكثر من سنة. ما أعرف وين أروح.. ثقلت وجوه الأخوة والأخوات والأقرباء اللي كنت أتنقل بين بيوتهم.. وكنت أحلم بالوصول إلى كردستان والقتال بصفوف الأنصار اللي كنا نسمع أخبارهم من إذاعة صوت العراق من دمشق.. وصدفة التقيت بزميل دراسة كردي من أيام الجامعة. سألني عن أحوالي فأخبرته، وكان يعرف قربي من الشيوعيين فسألني : لماذا لا تلتحق بهم في كردستان؟ قلت له: هذا حلم.. كيف الوصول إليهم؟ ضحك وقال: أنا أوصلك.. قلت له بلهفة: كيف؟.. قال: يدخلون لقريتنا القريبة من العمادية بالليل.. ويتوزعون ببيوتها، يأكلون وينامون ويطلعون قبل الفجر..
تواعدنا بعد يومين في بغداد.. رتبت كل أموري.. وأخذني إلى قريتهم. ما أريد أطوّل الموضوع كيف عبرنا نقاط التفتيش اللي تيبس دمي مع كل وقفة.. وكيف أخذني إلى أماكن وقرى مختلفة، قبل أن نصل بسلامة إلى تلك القرية. مرت عدة أيام قبل ما تمر المفرزة.. ما تدرون كم فرحت لما شفت الرفاق بأسلحتهم في جامع القرية.. دمعت عيوني وأنا أسلم عليهم.. أخبرهم زميل الدراسة الكردي بقصتي. فأخذوني معهم عند الفجر.
قطعوا بي جبالًا وعرة ووديانًا وسهوبًا إلى أن وصلنا إلى إحدى القواعد.. وبعد يومين استراحة بدأ التحقيق معي. ومن سوء حظي، لم يكن في القاعدة أحد من شيوعيي البصرة يعرفني.. ظللت أشرح بالتفصيل عن الحياة بالبصرة ذاكرًا عشرات الأسماء التي أعرفها، ووصفت كيف جرت حملة 1981 وفصلت كل شيء عن حياتي. لكن لم يصدقني أحد وشككوا في كل ما قلته.
وفي ليلة من الليالي الشديدة الظلمة.. أيقظني رفيقان: يريدوك الرفاق؟!. رابني الأمر وصدق ظني إذ ما أن عبرت عتبة باب القاعة حتى وثقا ذراعي إلى الخلف بالحبال وعصبوا عيني. تساءلت مذعورًا: لماذا؟! لماذا؟!. قال أحدهم بصوت جاف: أسكت ولك بعدين تعرف!. لا أدري إلى أين أخذوني.. فقد ساروا بي مسافة بدت لي وأنا معصوب العينين طويلة، بعدها أمروني بالوقوف. وقفت منصتًا لحفيف الأردية واحتكاك البنادق، للصمت الذي استمر أكثر من خمس دقائق، قبل أن أسمع صوتًا يقول بلهجة تهديد: «اعترف بكل شيء نعفو عنك.. وإلا راح تشوف نجوم الظهر».. جعلني التهديد شديد الغضب، فأكدت بقوة أن كل ما قلته عن نفسي هو الحقيقة. زاد التهديد وبقيت مصرًا إلى أن أحسست بلطمة هائلة أسقطتني أرضًا، كدت أنفجر باكيًا لا من اللطمة بل انهضمت.. فلم يخطر ببالي أبدًا أن رفاقي سوف يضربونني.. لكنني لم أبكِ فقد يفسرونه محاولة لإثارة عطفهم. فلزمت الصمت، متجاهلًا صاحب الصوت الأجش.. يردد مهددًا اعترف.. اعترف.. ليعقبها بكلمات بذيئة.
كنت أردد ما قلته سابقًا بين فترة وأخرى.. مما أثار غضبهم فألقوني أرضًا وشدوا ساقيَّ بعصا وحبل، وراح أحدهم يضربني على راحة قدمي بعد أن جردني من الحذاء.. كنت أتمزق بصمت.. أتألم بصمت.. وبقيت مصرا على أقوالي.. وضعوني في السجن وهو غرفة شديدة العتمة وسط المشبوهين.. جِفِتْ وملأَ جسدي القمِل. لا أدري كم بقيت مسجونًا، فظلمة الغرفة ضيعت الأيام.. كانوا يأخذونني بالليل لأدخل الدورة نفسها.. جرِّبوا معي أشكال التعذيب.. غطسوني بحوض النبع في ِعّزْ برد الشتاء، وحشروا بين فخذيَّ، نباتا أخضر بأوراقه إبر تحرق مثل النار، شطت للسماء.. طفوا السجائر في صدري.. كل ما يخطر أبالكم سووه وياي!.
قاطعه «إبراهيم» متسائلا:
- فيم كنت تفكر.. بماذا كنت تحس؟!.
- ما كنت أفكر بشيء.. عدا أنني سوف أقتل مظلومًا بيد رفاقي. وعندما أخذوني في أحد الأيام ليلا.. ومشوا بيّ مسافة طويلة جدًّا، قال لي السائر خلفي: حُكِم عليك بالإعدام!. ونحن في طريقنا لتنفيذه. تصورته يمزح.. لكن عندما أسندوني إلى جدار صخرة. وابتعدوا.. قلت في نفسي يبدو أن الأمر جّديّ. ثم سمعت نفس صاحب الصوت الأجش يتلو قرار الإعدام كوني عميلا للمخابرات العراقية، حاول الاندساس بصفوف الثوار. سمعت صوتًا يأمر فصيل الإعدام بالتهيؤ، ليضج بعدها صوت سحب البنادق، تلك اللحظة الخاطفة ندمت على التحاقي.. على هروبي من الجيش.. وتأسفت على نهايتي.. ووجدت نفسي أصرخ هاتفًا:
- يعيش الحزب الشيوعي العراقي.. المجد والخلود للشهداء.. المجد والخلود للرفيق الخالد فهد وسلام عادل!.
لم أتوقف عن الهتاف منتظرًا رشق الرصاص، الذي أتوقعه سيخترق جسدي في اللحظة القادمة.. بما يشبه الهستريا ظللت أهتف بصوت مجنون.. إلى أن شعرت بأحدهم يمسك ذراعيّ المتخشبتين ويحل وثاقي.. ظننت أن الأمر سينتهي إلى هذا الحد، لكن الذي فك وثاقي همس بأذني أنهم أجلوا التنفيذ أيامًا عدة. وتكرر المشهد ثلاث مرات.. وفي كل مرةٍ أصاب بهستريا الهتاف. لم يعودوا بي إلى غرفة السجن في المرة الثالثة، بل إلى غرفة القيادة ليقدموا لي الاعتذار . سأله «أسعد»:
- ما سألتهم ليش؟؟!
- نعم سألتهم قالوا : إن السلطة سربت أكثر من خمسين عنصرًا من المخابرات العراقية بالوقت بنفسه الذي التحقت به.. هذا ما اعترف به عدد من الذين انكشفوا!.
سأل «إبراهيم»:
- وبقيت من الواحد وثمانين حتى «الأنفال»؟!.
- طبعًا.. غير نضال.. بعدين حقهم الرفاق بالشك!
علق آخر:
- عِمَتْ عَينَكْ أش لون صَبرْ عِنْدَكْ!
سرح «إبراهيم» بعيدًا وهو يحملق بقسمات «نادر» الشديدة السمرة متخيلا نفسه عاني مثلما عاني في تلك التجربة، مختبرًا درجة إيمانه بالنضال فتوصل إلى.. لو أنهم حجزوه ليوم واحد في السجن لعبر الحدود بوقت مبكر إلى إيران.. أما لو ضربوه كما فعل رجال الأمن العراقي به عند اعتقاله، لظل حاقدًا إلى الأبد، ولكفر بالسياسة والأحزاب.. فاء إلى نفسه ولم يبح بهذا الشعور كي لا يجرح «نادر» المجروح أصلًا.
* * *
سيكتشف مزيدًا من الأسرار التي تتفتح في جلسات الشرب اليومية.. في زحمة الشقة العجيبة، سيختفي الخطاب الحماسي الذي كان سائدًا في الجبل، ليحل خطاب أكثر حيادية وأقرب للإنسان.. سيتحدثون بشجن وأسف على أصدقائهم، الذين قضوا في المعارك.. ويتمنون:
- لو لم يقتل فلان.. لكان معنا الآن!
سيطلع «إبراهيم» على أسرار.. وأسرار.. فأحدهم جاءوا به ليلًا. وقالوا:
- سيبقى لديك عدة أيام!
مذعورًا يتلفت، وجهه ورقبته مليئة بالخدوش، لا يستقر لحظة بمكان.. كان معه بالفصيل نفسه.. قليل الكلام، لا يكاد يرفع عينيه وخصوصًا عند الكلام مع الرفيقات، وفعالًا يدير الشؤون الإدارية.. ومحبوبًا من الجميع.. تبين أنه حاول اغتصاب مالكة الشقة الروسية التي يسكن عندها، فقاومته واتصلت بالشرطة التي تبحث عنه الآن. سيتحول بعض من ثوار الأمس إلى مهربي بشر، يتقاضون مبالغ سمسرة بين مافيا الروس والأحزاب، التي تسهل وصول العراقيين إلى الدول الاسكندناﭬﻴﺔ.. سيتحول بعضهم إلى صعاليك، يشربون طوال اليوم كحال «إبراهيم».
أحدهم - وكان شجاعًا في معارك الجبل - قضى غرقًا وهو سكران بنهر موسكو في ظروف غامضة. سيختفي البعض نهائيًا..
تبين بعد سنوات أنهم تزوجوا من روسيات في بقاع متفرقة، هاجرين كل حلم عدا العيش بسلام وتكوين أسرة.. ستبقى الشقة تحتشد كل ليلة بالجدل الحاد.. لكن «شيركو» لم يظهر.. مرّ أكثر من شهر ولم يظهر. كان غيابه يقلق «إبراهيم».. كان يتمنى حضوره الجدل والنقاش المتفجر كل ليلة والذي طال كل شيء في كردستان..
في ليلة من الليالي العاصفة تلك.. تحلق خمسة حول المائدة في الشقة. وكان «هوشيار» المستشار السياسي للفصيل المشرف على سجن قاطع «بهدينان» حاضرًا.. يحملق عبر زجاجتي نظارته الطبية بقلق طوال الوقت.. ازداد نحولا وشحوبًا وعندما سأله «إبراهيم» عن سبب ذلك النحول قال: من الروسيات أصبت بكل أنواع الأمراض الجنسية.. أريد أعوض سنين القحط بالجبل.. أريد أعوض وعمري فوق الأربعين.. أريد أعوض يا «إبراهيم»..
كان كلامه يثير عاصفة من الضحك والتعليقات البذيئة.. إنه نفس الشخص الذي كان يوفر «العرق» سرًّا في كردستان، ويدعو «إبراهيم» إليه في البستان المجاور، الذي عرض فيه المسؤول العسكري مرات كي يأخذ ثأره من العملاء المسجونين..سأله «إبراهيم» عن مصير السجناء بعد قرار الانسحاب في الأنفال فأجاب:
- ما أدري نقلوهم إلى الفوج الثالث!.
قال أحد الرفاق الشباب:
- صفوهم قبل الانسحاب بساعتين!
سقط صمت مباغت، فالكل يعرف السجناء عن قرب وقت الحراسات، وهم يقطعون الحطب، أو يخبزون الأرغفة، قطعه «هوشيار» بصوت ملهوف:
- من وين سمعت؟!
تبّسم الشاب بملامحه الناعمة الجميلة رادًّا :
- كنت هناك!
تساءل« هوشيار» لاهثًا:
- أخبرني عن الأمر بالتفصيل.. بالتفصيل!.
- خلف مقر الفوج الثالث بوادٍ عميق، حفروا قبورهم بأنفسهم.. كان بعضهم يبكي..وبعدين رميناهم!
ـ...
- كنتُ أحدَ الرامين!
قالها بنشوة عمّقت الصمت.. وجعل الكل يحملقون نحوه بعيون مرتبكة. أدار «إبراهيم» عينيه في وجوه الحضور، فاجتذبه وجه «هوشيار» الذي ازداد شحوبًا.. وابتدأ يرتجف بكل جسده.. وبعناء كان يحاول قول شيء.. ناضل مقاومًا حتى يستطيع السؤال:
- حتى «رعد»!
- ...
رأى «إبراهيم» وجه «رعد» بوضوح.. كان خبازًا ظل طوال فترة سجنه يعد التنور ويعجن ويخبز.. شابٌ ابن السابعة عشرة ورطه خاله، الذي يعمل بالمخابرات ليندس وسط الثوار.. اعترف بعد عدة أيام.. وظل مسجونا من عام 1981 حتى 1988، فارتبط مع الثوار بعلاقات حميمة، وكان يفضي لهم بهمومه الصغيرة، ويكرر «كل شيء ولا تعدموني بعدني شاب صغير»..
صاح «هوشيار» بصوت مرتعش، وهو يرتجف ويلهث كأنه على وشك الاختناق:
- ليش ساكت.. حتى «رعد»!
- نعم حتى «رعد»
انفجر «هوشيار» ببكاء عاصف، وأخذ يلطم على جبهته، فوقعت نظارته على الطاولة، كان يردد:
- ليش.. ليش.. ليش؟!.
إلى أن سقط على الأرض منهكًا، حملوه إلى السرير المنزوي بطرف الغرفة، وعادوا ليكملوا الحوار والشرب، محاولين الوقوع على سر انهيار «هوشيار» المباغت.. وسر علاقته بالقتيل «رعد» دون جدوى.. فقد كان طوال الوقت يشترك في التحقيق ويشرف على السجن.. في تلك الأثناء قرِع الباب، فقام «إبراهيم».. سحب ضلفته وصرخ بفرح.. كان «شيركو» يقف فاتحًا ذراعيه، فأعتنقه دون أن ينتبه إلى الواقفين خلفه.. الأولى «جميلة» رفيقة قديمة يعرفها من أيام الجامعة، فارقها ليلتقي بها في كردستان فترة قصيرة جدًّا.. وجدها متعبة جدًّا، تلزم الصمت طوال الوقت، علم من الآخرين أنها عاشت تجربة عنيفة عند أسرها من قبل قوات «جلال الطالباني».. وقتها حثها على الكلام، ولكنها رفضت بهزة من رأسها وقسمات تكسرت ألمًا وكأنه نكأ جرحًا دفينا.. لم يمهله الوقت، إذ سارعوا ببعثها في زمالة دراسية إلى موسكو، بعد مقتل ثلاثة إخوة من إخوتها بالمعارك.. الآخر «وسام» ، الذي شعر «إبراهيم» بغبطة لمقدمه في هذه الليلة، وفي مناخ الموضوع المتأجج المستمر منذ انهيار هوشيار، فرحب بهما مركزًا على «وسام»:
- بعثتك السماء هذه الليلة.. بعثتك السماء!.
قالها متجاهلًا نظرات «شيركو» المستغربة.. عانق الرفيقة مرحبًا، ومن خلف ظهرها غمز له بعينه اليسرى بخبث، فهو يعرف أنه مستغرب من استقباله الحار لـ «وسام» فهو في الجبل لم يكن يبادله حديثًا.. بل لاحظ في كثير من الأحيان أنه كان يتحاشى الحديث معه أو التواجد جواره في المكان نفسه، حتى أنه لم يبد أسفًا لإصابته بطلقة دوشكا شلّتْ ذراعه، عندما عثرت على سريتهم طائرات الهليكوبتر جوار قمة من قمم جبل كارا، فقُتِلَ أكثر من عشرين مقاتلًا.. وقتها سأله عدة مرات عن سبب جفائه ذاك، فكان يهز رأسه ويقول:
- مزاج يا عزيزي مزاج!.
كان «شيركو» يحدق نحوه بريبة قائلا:
- تضم عليّ شيء يا «سلامي»..
يضحك ويرد هاربا من الموضوع:
- قلت لك مزاج فقط!.
لخص «إبراهيم» للقادمين ما جرى من حوار حتى سقوط «هوشيار»، فاتسع النقاش الدائر حول السؤال، الذي أعاد إبراهيم صياغته وهو يحدق مباشرةً في عيني «وسام» اللتين ارتبكتا، فغض طرفه ناظرًا إلى الطاولة، وفاركًا كفيه المشتبكتين بعنف:
- هل كان من الصحيح ممارسة العنف مع المعتقلين مثل ما تفعل سلطة «صدام»؟!
ما انفك «إبراهيم» يذكي الحوار متطرفًا ضد كل عنف.. تعمّق الحوار وسُرد عديد من قصص التعذيب، التي كانت تثير مزيدًا من الاختلاف بين رأي يجيز العنف، ورأي يعتبره لا يختلف عن ممارسة جلادي النظام متسائلا:
- كيف إذن لو كنا في السلطة؟!.
ثلاثة ظلوا صامتين طوال الحوار.. «شيركو»، «جميلة»، و«وسام»، كان الأول يتنقل بعينيه الذكيتين بين ملامح «وسام» المرتبكة في إطراق طوال الحوار، والناظر إلى الكؤوس المنضدة تارة وإلى النافذة تارة أخرى، وقسمات «إبراهيم» المتوهجة الملاحق بنظراته كل حركة تأتي من «وسام»، متجاهلًا الكل في محاولته سبر ما كان يضمره «إبراهيم»، ومنتظرًا لحظة البوح، فهو خبر «إبراهيم» جيدًا وعاد يدرك كل خطط حديثه:
- إنه يخفي سرًّا يتعلق ب- «وسام»!.
هتف في نفسه وكاد يطالبه بالبوح.. لكنه تريث مرددًا في صمت:
- اصبر.. اصبر لا تفسد الأمر!.
وأصغى إلى «إبراهيم» الذي شرع في سرد قصة، أخرجت الموضوع إلى مدى أبعد من ممارسة التعذيب، إلى جدوى رفع السلاح:
- اسمعوا كنت في مفرزة تثقيفية؛ أي كنا في جولة بالقرى المحيطة بالمقر.. مجموعة من الرفيقات والرفاق بصحبة «سلام تحياتي»، الذي كان يحاضر في جوامع القرى على الفلاحين.. وكان معنا رفيق من الفوج الثالث، خرج لتوه من سجن القاطع.. وكان قد أودع السجن بسبب الشك. ولعدم وجود دليل ولشجاعته في المعارك ولسلوكه في السرية وحب رفاقه أطلقوا سراحه.. كان ينتظر مفرزة تتجه إلى الحدود الإيرانية.. كان كل ليلة يفز صارخًا مفزوعًا من نومه وكأن أحدهم يهمّ بقتله.. ألححت عليه كي يخبرني ما سر هذه الحالة ومتى أصابته، فهمس في أذني:
- أتصون السر!
- نعم
وعدته وقتها، ووفيت بالعهد طالما كنا في الجبل، لكن الآن ونحن في موسكو شبه ضائعين، و«محمد» وهذا اسمه وكلكم تعرفونه، عبر الحدود منذ وقت باكر إلى إيران وعاش في الأوردكاه.. أجد من الضروري إخباركم بقصته.. جوار نبعٍ وبعيدًا عن الرفاق، حكي لي لِمَ أُصيب بكابوسٍ يتكرر؛ إذ يرى أحدهم يطبق على رقبته بشدة حتى يكاد يختنق، فيصرخ مذعورا ويهب من نومه مثل مجنون. قال:
- أصابني هذا الكابوس منذ تلك العملية!.
وصمت طويلًا محدقًا نحو أفق السماء الضيق البادي بين امتداد السلسلتين الجبليتين.. اغرورقت عيناه وتكسرت قسماته ألمًا، وكأن ما يريد سرده يحدث تلك اللحظة.. لم أحثه على الكلام.. تركته يتفاعل وينسجم مع الذكرى، طمعًا في القصة إلى أن تمالك نفسه وعاود القول:
- كنا في عملية مشتركة مع مقاتلي «البرزاني»، نصبنا كمينًا لجنود ينزلون من الربيئة إلى النبع لملْء قِرِب الماء.. كان المكان خطرًا، تسللنا قبيل أذان الفجر وكمنّا حول المسلك المؤدي إلى النبع.. كنت العربي الوحيد في المجموعة وموقعي عند رأس الكمين.. والخطة تقتضي ضربهم والاستيلاء على أسلحتهم والانسحاب بسرعة.. مع خيوط الفجر..
كنت أول من رآهم ينحدرون من الربيئة.. ثلاثة رجال، تبين أنهم من أفراد الجيش الشعبي ومن أهالي الناصرية.. مدينتي.. فتصور ماذا جرى لحالي.. ارتبكت فالمكان خطر جدًّا، والكلام كان ممنوعا.. كنت أنصت ممزقًا وهم يتحدثون، لاعنين اليوم الأسود الذي أشعل فيه «صدام» الحرب على إيران.. وشاكرين آمر القاطع الآدمي، الذي ساعدهم بهذه الإجازة؛ كي يكونوا قرب أولادهم في عيد الفطر.
عبر أغصان شجيرة البلوط دققت في ملامحهم السمراء.. كان أحدهم يشبه خالي بالضبط.. القامة نفسها، الملامح نفسها، الصوت نفسه، اللحظة تلك خاطفة.. شلتني تمامًا. فلم أنتبه إلا على ضجة الرصاص، فانتبهت مصوبًا نحو الأجساد الثلاثة الصارخة المفزوعة، وهي تستدير راجعة هاربة من باطن الكمين.. بمواجهتي.. أطلقت نحوهما غريزيًّا، ورأيتهم يسقطون الواحد بعد الآخر نازفين شاخرين.. لم يكن خالي معهم، فقد سألت عنه من التحق من أبناء مدينتي، فأخبروني أنه حي، لكن الكابوس ظل يلاحقني، مخربًا فكرة النضال المسلح، أصبحت كسولًا، متذمرا، أستثار بسهولة.. فأبديتُ رغبتي في ترك الحركة المسلحة.. مما جعلهم يلقون بي السجن ، ساعدهم على ذلك وظيفتي السابقة، وصمت!
سألته:
- ماذا كنتَ تشتغل قبل أن تلتحق؟!.
فأجاب بما أذهلني:
- مفوض أمن.. كنت في السيطرة المؤدية من دهوك إلى القرى التي يسيطر عليها البيشمركه.. وكنت أتساهل كثيرًا مع الأكراد والملتحقين.. إلى أن وجدت أن وجودي بذلك الجهاز جريمة، فتركت كل شيء والتحقت!. مما شفع لي عند الرفاق سلوكي طوال سنتين في نقطة التفتيش!.
صمت «إبراهيم» المتوهج وعبّ كأسًا أخرى من الفودكا البيضاء، مستمتعًا بدهشة العيون المحملقة، وهي تنتظر مزيدًا من حكاية «محمد» المقاتل المسكين. وَحْدَهُ «شيركو» كان يحصر بصره بين وجه «إبراهيم» وقت الحكاية التي كان واثقًا من صدقها، اشتداد ارتباك «وسام»، واثقًا من أن حكاية «محمد» ما هي إلا مدخل لما يريد أن يفجره «إبراهيم»، قال في نفسه بصمت:
- لم أكن أدرك مدى درجة خبثك يا «سلامي»!.
وتبسَّمَ مضيفًا بصمت:
- خبيث وجميل!..
سأله أحد الحاضرين:
- أين «محمد» الآن؟!.
أجاب «إبراهيم»:
- آخر مرة شفته عام 1989 صدفة في طهران وسط «كوجه مروي»، وبعد عشر دقائق من الحديث أدركت أنه لم يعد يمتلك عقله.. كان يتحدث حديثًا غير مترابط، عبارة عن هلوسة وهذيان عن قدراته الخارقة.. وكيف زرعت الاستخبارات الإيرانية كاميرا دقيقة في جسده تصوره أينما حلّ!. لم أسخف كلامه، عانقته متصنعًا شاغلًا، وعرفت لاحقًا من رفيق نزل نفس الأوردكاه «كرج» بضواحي طهران، أن الإيرانيين عذبوه بشدة بعدما وشى به أحد العراقيين كونه مفوض أمن عراقيًّا، ثم مقاتلًا بصفوف الشيوعيين في كردستان.. وضعوه في زنزانة انفرادية طوال سنتين فأصابه ما أصابه!.
علق أحدهم:
- رجل صاحب ضمير!.
وافقه الحضور بتعليقات مختلفة.. ظل «شيركو» وحده ينتظر ما سوف يفجّره «إبراهيم» المثبت عينيه على كتلة «وسام» المتكور بجلسته صامتا مرتبكًا، وكأنه في مكان بعيد، وبين يقظة وأخرى يحدق بفزع وارتباك في وجوه الجالسين، متحاشيًا الشرر المنبعث من عيني «إبراهيم»، اللتين لم تغادرا لحظة واحدة كتلته المتضائلة في تحجرها بزاوية الحلقة:
- هيا «سلامي».. هيا اهتك الستر!.
هتف «شيركو» بصمت محملقًا بقسمات «إبراهيم»، النشوانة بتسخيف فكرة حمل السلاح من أجل فرض الحق:
- هيا حبيبي اضرب ضربتك!.
وكأنه استجاب إلى نداء «شيركو» الباطني، انتصب واقفًا محتقن القسمات ليقول:
- ماذا تقولون برفيق قتل بريئًا تحت التعذيب؟!.
استنكر عديد من الحضور معترضين على صيغة السؤال.. وعلى استحالة الفكرة.. لاحظ «شيركو» تصاعد نشوة «إبراهيم» الذي أسكتهم بإشارة من يده مفجرًا قنبلته:
- وهو جالس بيننا هذه اللحظة؟!..
سقط صمت مباغت.. وجعلوا يحدقون بوجوه بعضهم البعض. وحده «شيركو» كان واثقًا من أن السر يتعلق ب- «وسام»، الذي رآه يحتقن وينضح بغزارة مطرقًا لا يبادل الآخرين النظرات. تخابث «إبراهيم» مطيلًا الصمتَ، ومستعيدًا اللحظة التي اطلع فيها على ذلك السر، فجلس ليسترخي إلى مسند الأريكة، مبحرًا في الوجوه السكرانة المذهولة.. في تعبها.. في حيرتها.. في ضياعها.. وهي تنتظر كشف القاتل الجالس وسطها.. ففي ظهيرة صيفية حارة بوادي «زيوة» أسرّ له رفيق توطدت علاقته به إلى حدود الأسرار.. أسر ضاحكًا من حيرة أحد المسؤولين العائد لتوه من اجتماع مع حزب «البرزاني»، المطالب بمصير اثنين من أعضاء تنظيمه السري اللذين اعتقلتهما مفرزة من الأنصار الشيوعيين من بيتهما في قرية «سواره»، ولم يعرف عنهما شيئًا بعد ذلك قائلًا:
- أنا أعرف أين هما؟!.
سأله «إبراهيم» بلهفة:
- كيف تعرف؟!
- ماتا جوه إيدينا أنا ورفيق آخر!.
- لماذا.. لماذا؟!
- القصة طويلة!ّ
أصرَّ «إبراهيم» على سماع تفاصيلها.. لكن ذلك الرفيق كان لا يريد سرد التفاصيل قائلًا:
- لا تلحّ.. تمرضنا بعد تلك القصة.. ما أريد أتذكر بالتفصيل.. ما أريد.. لكن سوف أقص عليك باختصار شديد، مفرزة من الرفاق وقعت بكمين واستشهد به رفيق بمدخل قريتهم.. فدخلنا القرية ووشى لنا فلاح بهما.. أخذناهما .. وبكهف بعيد بدأنا نضرب.. ونضرب.. بعد أن شددنا أيديهما للخلف.
كان «إبراهيم» يتخيل المشهد بوضوح.. حتى كأنه كان معهم في ذلك الكهف حالًا بجسد أحد الفلاحين لحظة القيد والضرب، التي عانى منها في زنازين الأمن العامة العراقية مرات عدة:
- ما توقعنه يموتان.. كنا نضرب بحرقة.. بلا فائدة! لم يعترفا أبدًا لأنهما بريئان، هذا بعدين عرفناه!
أنشدَّ «إبراهيم» متوترًا:
- وماذا بعد؟!.
- ظلا يرددان: آو.. آو يعني «ماء» باللغة الكردية.. ما أعطيناهما.. ونص الليل سمعنه شخيرهما.. والفجر وجدنهما ميتين!
وقتها أحس «إبراهيم» بطعنة، سأله:
- ماذا فعلتم بهما؟!.
- خفنا وأخبرنا المسؤول.. فأمرنا بدفنهما في الكهف نفسه، وعدم الحديث بالموضوع إطلاقًا.
«سيقرأ «إبراهيم» خبرًا بجريدة الزمان أواخر التسعينيات في صفحة المجتمع عن حفلة عقد قران ذلك الرفيق في قاعة بلندن».
تصنع «إبراهيم» السخرية، وكأن الأمر مسلٍّ؛ كي يصل إلى اسم الرفيق الذي كان معه، فقال ضاحكًا:
- خرب إبليسكم.. أش لون دبرتم الحفر؟!.
فتبسم قائلًا:
- حملناهما إلى حفرة وغطيناهما بالحجر!.
وباغته «إبراهيم»:
- من كان وياك؟!.
ما ضيَّع على «شيركو» التشخيص هو غزارة العرق الناضح على قسمات الرفاق شاحبي الوجوه.. المخرسين.. المحملقين بذهول في «إبراهيم»، وكأنه القاضي العادل الذي سوف يشير إلى القاتل مبرئ ما عداه..
- ما أجمل خبثك يا حبيبي.. ما أجملك قويًّا متألقًا، ترمق الوجوه واثق النظرات.. حبيبي «سلامي».. كم أحب خبثك!.
هتف «شيركو» في نفسه مكملًا بنشوة:
- هيا حبيبي لقد ضيعني خبثك.. فما عدت أعرف من هو القاتل وسط الحضور الناضح، وكأنهم في عزّ ظهيرة تموز عراقية لا في ليلة شتوية من ليالي موسكو الثلجية.. كنت واثقًا من أنه «وسام» قبل هذا الصمت الرطب، الذي أثقلت فيه على الكل.. ضيعني خبثك.. ضيعني.. يا لجمال ورشاقة حركاتك وأنت تملأ كأسك بالفودكا البيضاء، واثقًا مبتسمًا في بحر الصمت الذي أغرقتنا فيه.. هيا حبيبي.. الكل ينتظر.. الكل وكأنهم يخفون السر نفسه، الذي تبغي فضحه.. هيا.. هيا أوهمتنا.. هيا!.. بدأت أنضح!.. تكاد توهمني بأني الفاعل..
شمل «إبراهيم» الوجوه الخرساء المبحلقة نحوه بذهول بنظرة ثقيلة، وهو يرفع كأس الفودكا بمهل إلى شفتيه هاتفًا في نفسه:
- ما أضعف الإنسان!
رشف على مهلٍ وعاود التحديق، كان يمر خطفًا على وجه «شيركو» الشاخص بعينيه القويتين نحوه:
- لم أكتشف مقدار هذا الخبث العظيم الذي تخفيه يا حبيبي بوجهك الذي يبدو بريئًا.. لم أكتشف إلا في هذه اللحظات!
هتف «شيركو» في نفسه.. ثم صرخ بصمت:
- إذن أي عذاب عانيته في حياتك يا صديقي حتى صرت إلى هذا الحال!
وضع «إبراهيم» الكأس على الطاولة، وحدق مليًا في وجه «شيركو» المترقب قائلًا بصوتٍ مكسور، وكأنه يفقد ضميره بهذا البوح:
- «شيركو».. هو الجالس جوارك!.
استدارت الوجوه الناضحة نحو «وسام» الذي تضاءل من هول المفاجأة.. فأمعن في تكوره ضامًّا ركبتيه المثنيتين إلى صدره، وبدأ ينود سابحًا بنضحه.. محملقًا كلما ارتد بحركته البندولية إلى الخلف نحو «إبراهيم» بعينين محمرتين، فيهما مزيج من الحقد والتوسل وكأنه يقول:
- ليش.. ليش فضحتني ليش؟!.
وحده «شيركو» كان متماسكًا ينتظر ردة فعل الجالس جانبه، ناقلًا نظراته المتقدة بين وجه «إبراهيم» المتألق، ووجه المتكور الذي اسودَّ بغتةً. تنحنح «إبراهيم» كاسرًا الصمت بعد لحظة فقط، فاتجهت نحوه العيون التي بان الاسترخاء في قاعها، ليقول محكمًا الطوق حول «وسام» تمامًا بذكر اسم الرفيق، الذي كان معه لحظة الإجهاز على الكرديين، واصفًا بكثافة المكان وفعل القتل وجريمة إخفاء الدليل والاتفاق مع مسؤول المفرزة على إخفاء الأمر حتى على الرفاق الذين معهم.. أوجز ذلك بجملٍ قصيرة مكثفة، جعلت «شيركو» يهتف في نفسه وهو يشاهد وسام يتبدد:
- قتلته.. قتلته.. لا.. «سلامي».. لا.. لا!.
حاصرته العيون من جديد منتظرةً قوله.. كف عن النود.. فلَّ ذراعيه المعشقتين حول ساقيه.. أنزل ساقيه من الكرسي.. عدل جلسته ببطء شديد.. رفع عينيه ومررهما على الوجوه واحدًا.. واحدًا.. بلع ريقه بصعوبة، والعيون تتابع تفاحة آدم تتحرك مضطربة وسط رقبته..
هتف «شيركو» في نفسه:
- قاسي «سلامي».. قاسي!.
وهو يشخص نحو قسمات «إبراهيم» التي بلغت ذروة نشوتها، وهي تسحق رفيقًا مسكينًا مشلولة إحدى ذراعيه.
- ر..ف...ا..ق..
نطق الكلمة بعناء وخجل، وأضاف جملة يتيمة:
- إنها أوامر الحزب!..
- ...!
غار الصمت أعمق في الوجوه!.
أردف بصوت مرتعش.. غير واثق:
- كنا صغارًا ومتحمسين!.
- ...!
- كنا نضرب ووجوه رفاقنا اللي ماتوا من التعذيب أمام عيونه!.
- ...
واجهه الصمت عاصفًا.. ضاجًّا بالوجوه التي سرعان ما تنمرت.. الجالس إلى يسار «وسام» سحب كرسيّه عدة خطوات مبتعدًا.. قال أحدهم بصوت واهن:
- كنت أظن أن ما تقوله يا «سلامي» مجرد خيال!.
ردد البعض عبارات مشابهة، قبل أن يبدأ الهجوم الكاسح على وسام. أربعة فقط كانوا ساكنين «جميلة» و«وسام» و«شيركو» الجالس لصقه إلى اليمين، و«إبراهيم» عبر الطاولة، الذي كان يتفحص وجوه المتكلمين، وعلى شفتيه بسمة ساخرة.
- قاتل.. مجرم!
صرخ أحدهم بوجه محتقن وتناول ما تبقى بكأسه!.
- حقير.. تافه.. تستأهل السجن لا اللجوء!
نبَّ آخر، فاتسعت بسمة «إبراهيم» الساخرة؛ فالمتكلم الأخير الأكثر شراسة كان معه في الفصيل، وكان يذهب مع أحد المسؤولين إلى عمق الوادي؛ ليساهم في تعذيب رفيق مشكوك فيه أُعدم لاحقًا، وكان يسر له بما كان يفعلونه به من فنون التعذيب!.
- بلا ضمير.. أنت بلا ضمير!.
صرخت «جميلة» التي كانت صامتة منذ دخولها، وراحت تردد بصوتها الناعم المجروح:
- بلا ضمير..بلا ضمير.. بلا ضمير!
ألهبتِ الحاضرين، فانهالوا بالشتم وبذيء الكلام والبصاق، فانهار «وسام» راكعًا على الأرض وراح في نحيب طويل.. في اللحظة تلك هب «شيركو» صارخًا بالجميع:
- كافي.. كافي.. كلنا بلا ضمير.. كلنا..
أخرسهم فجعلوا يحدقون نحوه، عائدين إلى كراسيهم، وهو ينحني على «وسام» الراكع، ويحيطه بذراعيه في محاولة لإنهاضه قائلًا:
- كلكم مساكين.. كلنا مساكين!
ولثم رأس «وسام» بشفتيه هامسًا:
- قم.. قم يا حبيبي.. قم!..
بصمت ساعده على النهوض.. مسح جبهته بمنديل، وهو ينظر بعطف نحو قسماته المغضنة بألمها قائلًا:
- عذبوك فوق عذاب روحك.. المساكين عذبوك!.
ألبسه معطفه.. وسار به نحو المدخل، وقبل أن يتوجه إلى الباب التفت نحوهم، وقال:
- كلكم مساكين.. كلنا!.
صمت برهة، ومسح بعينيه الوجوه وجهًا.. وجهًا، وهتف بنبرة مرتعشة:
- من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر!.
فيما هو يهم بقطع المدخل، ردد بصوت واضح مشددًا على مخارج الحروف،
- بلا خطيئة!
كررها ثلاث مرات في المسافة الفاصلة بين باب الغرفة وباب الشقة.
أنصتوا لصوت الباب وهو يغلق، ساقطين في صمت ضجَّ بوجيب قلوبهم الراكضة..