مسرح صبحي … يبحثُ عن العائلة


فاطمة ناعوت
2023 / 8 / 2 - 10:55     

مسرح "صبحي" … يبحثُ عن "العائلة"
أسرة مصرية من الطبقة البرجوازية المتوسطة، في بدايات القرن الماضي، يجدُ أفرادها متعتهم بين صفحات الكتب القيمة المتراصة في المكتبة الأرابيسك، وفي اسطوانات الجراموفون الذي يخبئ في قدسه حناجرَ مصريةً فاتنة، وعلى نغمات البيانو تعزف عليه سيدةُ الأسرة وبناتُها، كعادة الأسر المصرية في ذلك العصر الذهبي. نتلصص على هذه الأسرة في لحظة مفصلية من تاريخ مصر، يوم وفاة الزعيم "سعد زغلول" في أغسطس ١٩٢٧، ثم نراقب الجيل الثاني والثالث والرابع والخامس لتلك الأسرة، وصولا إلى سلسالها بعد مرور مائتي عام حين نصل إلى عام ٢١٢٧ وقد اختفت جميعُ القيم الجميلة التي تمتعت بها الأسرة في نسختها الأولى قبل قرنين. راحت العادات الطيبة تتلاشى شيئًا فشيئًا مع مرور الزمن ومع تغوّل التكنولوجيا التي بدلا من أن تخدمَ الإنسانَ، كما ينبغي لها، أساء الإنسانُ استخدامها وصار خادمًا لها فمزقّت أوصالَ ترابطه مع أشقائه في الإنسانية، وحوّلت دفء الأسرة إلى صقيع قاس؛ حتى صار الإنسانُ في القرن الثاني والعشرين يعيش في صناديق منعزلة وكأنها القبور، بعدما تحول هو ذاته إلى آلةٍ لا حياة فيها.
كعادته في كل عرض جديد يقدّمه لنا، يحرصُ الفنان الكبير "محمد صبحي" على تقديم الكوميديا بعدما تمرُّ على العقل فتضربه في منطقة الوعي، وتخزُ القلبَ بشوكة التأمل والوجع. تلك هي الخلطة السحرية التي يتميز بها مسرح صبحي. تضحكُ وعصفورُ القلب يغرد وجعًا. ولا عجب في هذا، فطائر مالك الحزين لا يطلق أجمل تغاريده، إلا نازفًا برصاص الرامي.
مسرحية "عيلة اتعمل لها بلوك" التي يقدّمها "محمد صبحي" الآن على "مسرح مدينة سنبل" في موسمها الجديد، والتي بدأ عرضها في ديسمبر ٢٠٢٢، مازالت ترفعُ لافتة "كامل العدد" في جميع العروض. تبدأ أحداثُ المسرحية مع الاحتلال الإنجليزي، وتنتهي بعد قرنين من الزمان مع احتلال الحياة الافتراضية التي مزّقت نسيجنا الإنساني. تحمل جميع أعمال صبحي مذاقها الخاص وتجمع ما لا يجتمع: الضحك الفارْس + الوجع الناجم من تأمل تشوهاتنا على صفحة مرآة ميدوزا التي تفضح عيوبنا أمام عيوننا علّنا نحاولُ إصلاحها، ونستعيد شيئًا من جمالنا الغابر الذي قتلناه بأيدينا ولصالح عدو توقف عن قتلنا بالرصاص والقنابل، حينما وجد طرائقَ أسهل وأرخص للاغتيال. أن نتقل أنفسَنا بأنفسنا حين نقتل القيم والأخلاق والدفء الأسري والتضام والتراحم الذي أوصانا اللهُ به في جميع رسالاته. شاهدنا العرض المسرحي الفاتن غارقين في الضحك، وقلوبنا تنعي خصالنا الحلوة التي عملنا لها "بلوك"، مع مرور الزمن. يقدّم صبحي في العرض خمس شخصيات مختلفة، لكل شخصية طباعها وتكوينها النفسي والشكلي المختلف. تشاركه البطولة الفنانة "وفاء صادق" وعدد من أعضاء فرقة "استوديو الممثل"، منهم: كمال عطية، مصطفى يوسف، محمد يوسف، محمد سعيد، رحاب حسين، داليا حسن، منة طارق، ليلى فوزي، محمود أبو هيبة، محمد شوقي طنطاوي، آنجيليكا أيمن، مايكل وليم، لمياء عرابي، حلمي جلال الدين، داليا نبيل، محمد عبد المعطي، وليد هاني والطفلان عبد الرحمن محمود، ومريم شريف. واستعان صبحي بسينوغرافيا المسرح لعرض مشاهد حيّة من تاريخ مصر في لحظات تاريخية مثل يوم وفاة الزعيم "سعد زغلول"، وجناز الزعيم "جمال عبد الناصر"، واستشهاد الرئيس "محمد أنور السادات"، مع ديكور موحٍ من تصميم "محمد الغرباوي"، وأغانٍ جميلة كتبها الشاعر "عبد الله حسن"، من موسيقى وألحان "شريف حمدان".
المايسترو "محمد صبحي"، كما يطيبُ لي أن أطلق عليه، كونه أستاذ وأسطى المسرح المصري والعربي المعاصر، صاحبُ مسرح "رساليّ ورسوليّ". فالكوميديا دون "رسالة" حقيقية؛ تغدو عرضًا هزليًّا وظيفته إضحاكُ الناس وإلهاؤهم عن القضايا التي تضرب خِصر المجتمع. والكوميديان إن لم يكن "رسولاً" يحملُ رسالةً جادّة، يغدو مجرد مهرّج يُخدِّرُ الناس بالنكات والقفشات، لينسوا همومهم ومشاكلهم، بدل أن يواجهوها ويعالجوها. علّمنا المسرحُ القومي العظيم أن المسرح مُعلّمٌ لا يقلّ أثرًا عن المدرسة والجامعة. المسرحُ الحقيقي مدرسةٌ خطيرة نتعلم عليها ما فاتنا أن نتعلمه على مقاعد المدارس. والمسرحُ الكوميدي الرسولي "صعبٌ طويلٌ سُلّمُه"، لا يرتقيه إلا مَن يعلمه. ذاك أن المعادلة الصعبة هي الإضحاك مع إعمال العقل، من أجل تشخيص المشكلات ثم وضع خطة لعلاجها بالعقل والعمل. هذا ما تعلّمناه من مسرح المايسترو "محمد صبحي"، على مدى تاريخه الطويل المحترم، منذ قدّم "هاملت" على مسرح الجامعة، مرورًا بتجربته الثمينة الثرية مع الراحل العظيم "لينين الرملي"، ثم في مرحلة إحيائه تراثنا المسرحي الجميل في تجربة "سكة السلامة"، و"لعبة الست"، وكذلك في العرض الساحر "كارمن" الذي قدّم خلالها "أوبرا كارمن" بتوليفة مصرية غير ما قدّم بيزيه. ومازلتُ أنترُ وعده لي بتقديم مسرحية "ملك سيام" التي انشغل عنها طويلا. والحقّ أن الحديث عن مسرح صبحي يحتاج إلى ألف مقال.
***