رواية الحياة لحظة -الفصل الرابع- الشاعر


سلام إبراهيم
2023 / 7 / 28 - 18:31     

ورمى «شيركو» قامته القصيرة نحو «إبراهيم» حال فتحه باب الشقة. اعتنقه ولبث يشده إلى صدره الصغير لاهثًا، بينما وقف «أسعد» جوارهما عند العتبة يضحك بفرح معلقًا:
- دورت عليه.. كل موسكو.. أدري بس هوه يرهم وياك!.
كان البدوي يشخّص بدقة حاجته في وضعه الملتبس الذي كان غافيًا في مؤسسة الزوجية المصحوب بحلمٍ متأخر بمدينة فاضلة.. بالضبط كان يحتاج إلى هذا الـ «شيركو»، الذي أمعن في عناقه وانغمر في تقبيله بأي ناحية تصلها شفتاه.. كان يردد بصوت عالٍ:
- تعبان.. تعبان حبيبي.. سامحني أخذني الشرب والنساء منك.. سامحني!.
كان كلام «شيركو» يشعل قهقهة «أسعد» المنتشي بصواب فعله.. بينما «إبراهيم» مشغول بخفقان قلب «شيركو» الصغير بدقاته المصطخبة وهي تخترق جسده عبر الجسد اللصيق.. تأرجح على حافة البكاء حاملًا «شيركو» القصير الناحل حتى الغرفة، كأنه يحمل ولده الصغير.. وضعه على الأريكة وبكى.. فاجهش «شيركو» هاذيا:
- سامحني.. حبيبي.. سامحني!
انتحبا وتعانقا من جديد.. مما جعل عيني «أسعد» المبتهجتين تنضحان بغلالة دمع لم يصل حد الأجفان.. البدوي قاوم بعناء كي لا يبكي شاعرًا تلك اللحظة بثقل وجوده.. كان يعرف أن ثمة علاقة قوية بين «إبراهيم» و«شيركو»، ولكنه لم يكن يدرك أن العلاقة بالغة هذا الحد.. فأضطر إلى مغادرة الشقة بينما كانا يهبطان رويدًا.. رويدًا عميقًا في فسحة الصداقة وتفاصيلها الصغيرة.. غادر «شيركو» الأريكة.. دار بأرجاء الغرفة مقتربًا من النوافذ، الشرفة، المكتبة، يلمس الخشب بطرف سبابته ويحدق بالتراب المتراكم طبقات، يشخص صوبه بعينين غاضبتين.. ينحني نحو الوسائد يضربها براحة كفه بقوة فتهب بوجهه غمامة غبار.. يبعد وجهه صامًّا فتحتي أنفه بالسبابة والإبهام، صارخًا:
- شنو هذا الغبار.. راح يدفنك!.
وخطا نحوه ليحنى قامته القصيرة، ويضع أذنه اليمنى قرب وجهه، وينصت لتنفس «إبراهيم» العسير:
- شوف أش لون تتنفس !.
- بس تشرب كل اليوم.. إني أعرفك.. والله راح تموت.. يا حبيبي!.
نزع معطفه وشمر عن ساعديه. وجلب من المطبخ أدوات التنظيف، وقال:
- «إبراهيم» حبيبي.. تنفسك تعبان. قوم أطلع للغابة.. خذ هواء نقي.. ومن ترجع تلقيني منظف الشقة من التراب!.
لم يشأ «إبراهيم» الخروج وتركه وحيدًا، لكن «شيركو» أصرّ. جلب المعطف وساعده على ارتدائه.. سحبه من ذراعه نحو الباب. فتحه وقال له:
- ضِعْ في الغابة ساعة.. لا تفكر بأي شيء!.
استدار وخطا نحو بئر السلم المعتم رغم انتصاف النهار، فالسماء ملبدة بغيوم الثلج.. هبط السلالم و«شيركو» الواقف على عتبة الباب يوصيه:
- حبيبي تنفس بعمق.. كل خطوة بنفس عميق!
وأغلق الباب.. وجد «إبراهيم» نفسه وسط الغابة الكثيفة المكتظة بأشجار السرو والبلوط الشاهقة يعب أنفاسًا عميقة من هواء شديد النقاء ودرجة الحرارة تحت الصفر بكثير، ملتزمًا بوصية «شيركو» الذي يصغره بأكثر من خمسة عشر عامًا.. «شيركو».. ردد اسمه بصوت عالٍ فانتشر بأرجاء الغابة.. «شيركو».. «شيركو».. وكأنه يراه أول مرة.. كان ذلك في زمن يبدو الآن بعيدًا مثل أزمان الطفولة، رغم أن الأمر لم يمض عليه سوى أربع سنوات.. كان عمره لا يتجاوز الثامنة عشرة، حينما وقعتْ عينا «إبراهيم» عليه جوار غرفة الضيافة المنعزلة عن مقر في «زيوة» الواقع خلف العمادية على ضفاف الزاب الأعلى.. انجذب نحوه مدفوعًا بقوة غامضة.. كان لا يفارق شابًا فتيًا أخر، جميل الملامح، فارع القامة، حيويًّا، سيعلم لاحقًا أن اسمه.. «دارا» وهو كردي أيضًا شأنه شأن «شيركو».. سيعرف أنهما التحقا بعد انكشاف شبكة تنظيم داخل مدينة كركوك بوشاية مندس..
هو الآخر انجذب نحو «إبراهيم»، وقابله ببسمة خجولة، عندما تجاذبا أطراف حديثٍ عن شؤون الجبل والحياة.. ستتعمق العلاقة.. سيزداد تعلق «إبراهيم» بالفتى الكردي اليافع.. الذي يخفي خلف خجله روحًا متمردةً تحتاج بيئة فقط كي تتجلى.. كان لا يخفي ما يشعر به.. ولا يداري أحدًا.. شديد العري مع نفسه والآخرين.. لمس «إبراهيم» ذلك حينما مرت بالصدفة ذكرى ميلاد الحزب الشيوعي العراقي في 31 آذار، وقت تواجد «شيركو» بالمقر ..
في الحفل الذي يقام عادة اكتشف «إبراهيم» لأول مرة أن هذا الصبي يكتب الشعر باللغة الكردية، حينما أعلن عريف الحفل عن فقرة يلقي فيها قصيدة.. أنشدت كل حواسه، يعيش مشهد ذلك اليوم البعيد بوضوح وسط الغابة.. مستعيدًا دفق الإحساس الأول بالآخر وهو يغور في القلب.. تابعه وهو يظهر من بين حشد المسلحين المالئين ساحة كرة القدم الصغيرة، الممتدة بين أبنية القاعدة المنتشرة على حافة السفح. أمسك بالميكروفون وحدق بجرأة نحو الوجوه المبتهجة بالمناسبة المقدسة لديهم.. حدق صامتا إلى الحد الذي ساد الهدوء وتلاشي اللغط، منتظرا ما يقوله هذا الفتي الغريب وقتها، والذي لم يمر على وصوله - هاربًا من بغداد، وحلوله في غرفة ضيافة المقر - سوى أسابيع.. كان الجو صحوًا والسماء صافية الزرقة ؛ وذلك ما جعلهم يقولون إن السماء تحتفل معنا.. في المزاج ذاك نطق «شيركو» قبل أن يلقي القصيدة قائلا بعربية، تشوبها لكنة:
- أنتم فرحون لكنني حزين.. لا أرى سوى الموت والخراب في بلدي.. حرب.. وموت في السجون.. وقتال في كردستان.. كل شي به موت.. أعتذر عن تشاؤم نظرتي.. وأعتذر عن القصيدة التي سألقيها كونها قصيدة حزينة!
وانغمر في الإنشاد منفعلًا يصعد مع الحرف ويهبط معه في معادلة متسقة.. كان «إبراهيم» يحسها.. لكنه كان يريد متابعة تأثيرها على وجوه الرفاق الأكراد العارفين ما ينشد.. فكان ينقّل نظراته بين وجه الشاعر ووجوه المقاتلين الأكراد الذين كانوا يندمجون في الإنشاد حتى أن بعض الوجوه كانت تتأرجح على حافة البكاء.. عقب الأمسية ، الكل سخروا منه، ولكن بنغمة إعجاب مضمرة كونه شبه مجنون.. كان يقابل ذلك ببسمة صامتة خجولة.. فقط أفضى بما كان يشغل كيانه.. فاكتشف به وعيًا متقدمًا عن هذا الحشد المعبأ بالأيديولوجيا ووهم عالمها.. وكان عنيدًا.. سيفجع لاحقًا بموت صديقه الحميم «دارا» في عملية عسكرية، قام بها ثوار الجبل.. سيظل يحلف عندما يُحاصَر بشك الآخرين صارخًا:
- وروح الشهيد دارا.. ما تصدق.. وروح دارا!.
سيظل يحلف بتلك الروح التي عاشرها وقت المحن.. سيظل وفيًا حتى وهو يغور في عوالم أخرى ، أعمق من فكرة النضال والقتال من أجل مدينة فاضلة.. صرخ «إبراهيم» وسط الغابة مكتشفًا في صفاء وحدته سرّ الانجذاب لروح «شيركو» واجدًا فيه طيف أخيه وابني عمتيه الذين ضاعوا في الأقبية إلى الأبد، إذ لم يُعثر على رفاتهم عقب سقوط «صدام». العناد .. العناد نفسه.. والروح.. الروح نفسها.. لكن «شيركو» أكسبته النجاة من الموت في المعتقل وعيًا مختلفًا.. مما قربه من «إبراهيم» بشدة.. زراهم مرارا في غرفتهما المنزوية أسفل سفحٍ في «زيوة».. كان يجلس مضرج الوجنتين مبتسمًا صامتًا، وكان «إبراهيم» يحثه على الكلام دون جدوى..
سيختفي بغتةً عند نقله إلى قاطع آخر، ولكنه سيظل متشبثًا بـ «إبراهيم» وعبق تلك الأيام القصار التي قضاها قربهما في «زيوة».. سيتجلى عندما يلتقيان في موسكو، التي وجده فيها بعد أن هربوه عبر حدود إيران مع تركمستان في آخر أيام النظام السوفيتي.. زارهم وجلس بصمت خجلًا كما الزيارة الأولى في «زيوه».. وقتها كان كل شيء في روسيا يتهدم : البشر والقيم والدولة الحديدية.. أحس «إبراهيم» أنه بحاجة إلى الانفراد به؛ فدعاه إلى نزهة في غابة قريبة تشبه هذه الغابة التي يجول بين أشجارها هذه اللحظة..
في عمق الغابة شكا «شيركو» من الكل، من الفكر ودجل المدينة الفاضلة.. والضياع في مكان لا يعرف لغة بشره البائسين في الأسواق والمترو والشوارع:
- «إبراهيم» هي هذي الاشتراكية!.
ولطم على وجهه مردفًا:
- الروس يستنجدون بالشوارع!.
- اهدأ.. اهدأ يا حبيبي.. ودعنا بعيدًا عن هذا الموضوع!
- كيف حبيبي.. كيف؟!
- نتحدث عن موضوع آخر!.
- كيف «سلامي».. إني بموسكو ضايع.. لا فلس.. لا إعانة.. ما أدري وين راح يصفه بيّ الزمن.. ما أعرف .. حتى الطريق لدول اللجوء انقطع!.
كان الطريق سالكًا نحو اسكندناﭬﻴﺎ بالنسبة للعراقيين؛ بحيث كانت الطائرات الروسية تستبدل ركابها العراقيين القادمين من سوريا ودول الشرق الأوسط في مطار موسكو مباشرةً، وكأن العملية منظمة، لكن «إبراهيم» في لحظة وصوله إلى مطار موسكو قادمًا من دمشق تساءل مستغربًا من تلك الحشود البشرية الغافية في باحات المطار في انتظار السفر، فهمس له الرفيق المكلف باستقبالهم أنهم من اليهود الروس ينتظرون الهجرة إلى إسرائيل.. قالها بسذاجة وكأن الأمر بديهي.
- هنا يكمن السر إذن!.
لكن كل ذلك انقلب، حينما اشتعلت حرب الخليج الثانية لتعطل كل شيء، وتجعل «إبراهيم» ورفاقه يحاصرون في موسكو.
- اسمع «شيركو».. هذه الموضوعات لا فائدة من الكلام فيها!.
- الحل..
.. كان «إبراهيم» قد أعدَّ العدة. دس كفه في حقيبته السوداء. أخرج قنينة كونياك وقدحين من البلاستك.. أبدى «شيركو» خشيته من فقدان الوعي فهو لم يجرب الشرب أبدًا.. أقنعه بأن يتناول قدحًا واحدًا فقط. وبعده سيسمعه قصائده بالكردية، وبصوت عالٍ وسط الغابة.. لكن قبل القراءة يشرح له مضمون القصيدة بالعربية.. راقت الفكرة له فارتشف أول رشفة. كان «إبراهيم» يتمعن في قسماته التي تقلصت من الطعم الحاد للكونياك. سارع بلقم قطعة جبنٍ في فمه وكأنه «يعس طيره». بعد عشر خطوات على الممر الملتوي بين سيقان الأشجار الشاهقة، التفت إليه محدقًا بعينين تلمعان بنشوة أول قدح في العمر وانطلق ينشد القصائد. تاها في الغابة. وظل «شيركو» يشرب القدح تلو القدح، ويرتمي إلى صدر «إبراهيم» معانقًا شاكرًا:
- عالم جديد.. «سلامي».. هذا الشرب عالم جديد .. أحس راح أطير.. أشكرك حبيبي أشكرك!.
أفرغا قنينة الكونياك. وخلف دغلٍ كثيف أغفيا حتى المساء. ومنذ تلك النزهة.. عاد لا يستطيع «شيركو» التوازن والكلام دون الشرب.. وما جعله ينفلت تمامًا قراءته المتمعنة لروايات «ديستويفسكي» التي استعارها منه. صار صريحًا إلى حد الفظاظة. سكنته أرواح «ديستويفسكي» بتلك الطريقة المبدعة الحاملة سمات تجربته. أصبح يحاور بطريقة شكاكة ساخرة من الإنسان اللابس أقنعة القيم والعادات ، المبطن غير ما يظهر. ففي مرة دخل في حوار مع رفيقٍ له بحضور «إبراهيم».. الرفيق ذاك مؤدلج بشدة، عامل مطبعة، مقاتل من الطراز الأول في كردستان، اقتحم عشرات الربايا، الحزب لديه يقترب من مفهوم العشيرة، شديد الطيبة، سخي، من أهالي بغداد، ورياضي سابق، لاعب كرة قدم درجة أولى في الدوري الممتاز، قبل التحاقه بالثوار في الجبل. كان يتهجم على الروس الذين نزلوا إلى الشوارع قبل أيام بعد فشل انقلاب الجيش على «جورباتشوف». وقتها كان «إبراهيم» و«حازم» العامل و«شيركو» يقفون في ساحة بريجنيسكي، فشاهدوا حشود الشباب الروس يهجمون بصخب وعنف محتلين الساحة ومحطمين نصب بريجينسكي البولندي الأصل مؤسس المخابرات الروسية أول أيام ثورة أكتوبر1917. حتى أن «شيركو» أصابته بهجة الهياج والتمرد، فركض مع الحشود ليلتقط قطعة صلبة من التمثال المحطم، ويعود مبتهجًا بالغنيمة، غير آبهٍ بشتائم «حازم» المنصبة على الروس الجهلة.
قرب كشكٍ لبيع البيرة، وقف الثلاثة يحتسون ويناقشون المشهد.. «إبراهيم» انسحب مستمتعًا بما آل إليه مسار النقاش.. «شيركو» يدافع بشدة عن الشباب الذين احتلوا الشوارع، و«حازم» يعتبرهم جهلة مغررين بدعاية الغرب وأمريكا؛ لإفشال أول تجربة اشتراكية حقيقية في تاريخ البشرية. ما أن ختم «حازم» آخر كلمة من «الكليشيه» المكررة في ذلك الوقت حتى انخرط الشاعر في الضحك وتهالك على عشب الحديقة.. كاد يختنق من قسمات «حازم» المذهولة، والذي التفت نحو «إبراهيم» قائلًا:
- شنو اليضحك صاحبك؟!
«إبراهيم» كان يدرك أن الضحك سخرية فاضحة من قوله، وصاحبه العامل تعرف على «شيركو» في موسكو عن طريقه.
- ...
لزم الصمت باسمًا، ينتظر خروج «شيركو» من نوبة الضحك العاصف. ومن ذيل الضحكة نهض مشيرًا نحو «حازم» قائلًا:
- يا مجنون وين المؤامرة.. الناس هنا مختنقة ما شفتها.. مختنقة.. يا اشتراكية يا شيوعية.. أي ما شفت الناس تستجدي بالشوارع.. كنا بوهم عجيب.. كيف صدقنا فكرة تساوي الناس بالقوة.. فكرة سخيفة.. كيف يتساوى الذكي ويه الغبي؟!.. بعدين النظرية الماركسية ما إلها أي علاقة بالطبقة العاملة.. شو بزمن ماركس كان العامل يشتغل 12 ساعة.. متى ينام.. متى يأكل.. متى يشوف أطفاله إذا كان متزوج.. يعني كان أغبى الكائنات وقتها.. ماركس كان أكبر كسول وسكير وحالم.. بس يقره ويفكر ويتخيل.. وكتب نظريته!
كان «إبراهيم» ينقل نظراته بين وجه «حازم» المنزعج وقسمات «شيركو» الواثقة من قولها، وهو يجمع بأصابعه نماذج مختلفة من البشر، ويضعها على راحة كفه الأخرى قائلًا:
- تعال جيب أنواع مختلفة من البشر.. أحبسهم بوطن ولازم يعيشون بالطريقة نفسها وينطبعون بالمزاج نفسه ويفكرون بالطريقة نفسها.. خرط.. هذا خرط مو فكر..
صرخ «حازم» عاجزًا عن الرد:
- «إبراهيم» أنت منين لگيت هذا الكردي المخبل؟!.
- لا تدخلني بالحوار!.
رد «إبراهيم» بخبث! مما جعل «حازم» يكيل اللوم إلى «شيركو» الساخر القسمات. ذكّره بأيام نضاله في الداخل قبل التحاقه، بأصدقائه الشهداء.. بـ «دارا» الذي يحلف بروحه كلما أراد توكيد شيء، بعناء أيامه في الجبل.. خطاب شديد العاطفة، يجعل المرء يوشك على البكاء أو الاشتعال حماسًا؛ مما أثار شجن«إبراهيم» للحظات، وهو يستعيد أصدقاءه الذين قضوا في الأقبية والرفاق الذين قضوا تحت ناظريه في الجبل.. لكن الكردي الصغير.. رمق بعينين لا أثر للعاطفة فيهما قبل أن يعلق تعليقًا شديد الذكاء والخباثة:
- أنت مثل العرب!
وصمتَ لثوانٍ.. اشتد حياد «إبراهيم» فسكن يحدق بهما بعينين لا تشيان بأي انفعال.. راوح حازم في وقفته، قبل أن يسأل:
- ماذا تقصد؟!.
- تتغنه بالماضي التليد!
- ما فهمت!
علق «حازم».. وجرع رشفة من الزجاجة الكبيرة التي يملأونها بالبيرة، كلما نفدت من الكشك القريب حيث يتكفل «إبراهيم» كالعادة بضرب الصف الطويل بكل جرأة.
- من ينكر أيام النضال.. أحنه نجينا من الموت صدفة.. صح.. لو..لا.. فلا تحكي عن النضال والكفاح.. والشهداء..
صمت مادًّا يده نحو الزجاجة؛ ليرتشف مزيدًا من البيرة الباردة قبل أن يردف:
- لاحظ عمارات موسكو السكنية تعرف ما هي الاشتراكية.. بنايات متشابهة بحيث مرات واحد يضيّع بيته.. التصميم نفسه.. الأبواب نفسها.. النوافذ نفسها.. الارتفاع نفسه.. شكل الحدائق نفسه بين بناية وأخرى.. أما الروس المساكين فتراهم متجهمين ووجوههم مهمومة.. وكأنهم ما شافوا فرح بحياتهم!
صمت هنيهة، ثم سارع في القول قبل أن يفتح «حازم» فمه:
- أنا أحكي عما أراه في مدينتنا الفاضلة موسكو لا عن نضالي ونضالك فالمعنى مختلف.. شويه حرك رأسك!.
احتدم «حازم» غضبًا، فجعل يحوص في وقفته قلقًا، غير قادرٍ على الحوار، ثم التفت نحو «إبراهيم» ساخطًا ليكرر:
- «إبراهيم».. أنت منين جايبلي هذا المخبل!
كان إبراهيم يدرك أن «شيركو» يتصرف بما يشير له قلبه.. وليس فيما يفعله سرًّا في الظلام.. كان تحت الشمس عاريًا يُرى ويَرى بوضوح، بالعكس من «حازم» تمامًا الذي سيسكن فترة معه في الشقة نفسها، ويتركه كل الأيام يعاني وحيدًا، مدعيًا أن لديه عشيقة روسية.. لكن «إبراهيم» كان يعرف أن لا عشيقة روسية لديه، بل علاقة مع شيوعية عراقية كانت تعيش في روسيا تزوجت من رجل شيوعي من شرق آسيا، تركها في رومانيا مع طفلتها وعاد إلى بلده؛ إذ التقى بها معه أول مرة في المستشفى الروسي، الذي كان يجري فيه فحص العراقيين المقبولين كلاجئين. ما أزعج «إبراهيم» هو الدور الذي مثله «حازم» أمامه «صورة العراقي الشيوعي الشريف».. سيكتشف لاحقًا أن كل ما نطق به مجرد أكاذيب، فقد كان يبيت مع العراقية القادمة أم الطفلة .. وسيتركها بعد قضاء وطره منها.. ستأتي إليه تتوسطه كي لا يتركها، وسوف يتشاجر معه قبيل سفره.
وسط ضجيج الحديقة الكبيرة المليئة بالسكارى والمتشردين جوار كشك البيرة؛ حيث يمتد صف الروس إلى مسافة كيلومترات.. كان «إبراهيم» يشمت مغتبطًا من جرّاء الوضع البائس الذي وضع فيه «شيركو» «حازم». كان يرى في شخصيهما معادلة شديدة التجريد.. الكذب بمواجهة الصدق.. أدرك من تلك اللحظة قوة الصدق وعدم الخوف، وفهم أيضًا قدرة المناضل الصوفي في مواجهة الموت في الأسر.. قال لنفسه:
- الصادق أسعد الناس!
- لماذا تسكت؟.. وهذا صاحبك راح يخبلني!.
انتبه إلى «حازم» المضطرب المستنجد من «شيركو» المحدق بتشفٍ نحوه. لا يدري الرفيق العامل أن إبراهيم كان، في تلك اللحظة، يحاول بعناء التوحد بروح «شيركو» الفتية؛ كي يصل ناصية البوح لينطلق في خضم موسكو والفودكا، والتحرر من قيد العائلة ووهم الحب والأيديولوجيا..
- شو دخلي!
تنصل «إبراهيم» بخبث أيضًا، فرد - حازم - ( هنا الذي يرد هو - حازم - وليس عدنان ارجو تصحيح ذلك|):
- أنت أش تفرق عنه مثله أديب.. فنان.. مخبل!. ما تحسون بالطبقة العاملة!.
أطلق «إبراهيم» ضحكة مجلجلة في عمق الغابة المتشحة بثوبٍ أبيض ناصع يشبه قلب «شيركو».. وانتبه إلى نفسه فوجدها غارت بعيدًا بين الأشجار الشاهقة الصامتة، التي يتساقط من أغصانها العالية بين الفينة والفينة رذاذ من الثلج، يعانق الممر بحفيف خفيف:
- هذا الصبي يجلب المسرة إلى قلبي!.
صرخ بصوت عالٍ، وكأنه على خشبة مسرح.. واستدار عائدًا.. تابع أثر خطواته بقدميه الهرقليتين المطبوعتين على المسلك الضيق الممتد حتى التلاشي بين تشابك السيقان التي تبدو للناظر، وكأنها تتضافر في مدّ النظر.. كان يشعر بنشوة خالصة.. نشوة فريدة.. سيظل يفتقدها طوال العمر.. نشوة تفوق حتى ممارسة الجنس مع الحبيبة.. نشوة الشعور بالدفء قرب صديق:
- هاهو يهبط عليَّ من السماء مثل وحيٍ.. وأنا أكاد أندثر تحت الغبار وأغرق في الكأس.. وحيدًا.. غريبا!.
كان «إبراهيم» قد ضيّعهُ في موسكو بعد عدة لقاءات، ضاعا فيها في هذه الغابة مع الكأس والشعر والبوح والصراخ والضحك والبهجة، التي لم يدركا إلى هذي اللحظة سرها.. لكنه ضاع بغتةً، وعاد يسمع أخباره من البيشمركة الذين يلتقي بهم صدفة في مبنى الأمم المتحدة، وقت المقابلات لقبولهم كلاجئين أو في الشارع.. كان المقاتلون القدماء يكيلون اللوم له، وهم يرونه يعاقر الخمرة ليل نهار، مندمجًا في طقس السكيرين الروس.. يعاتبونه ويذكرون سوية وضعه قبل الوصول إلى موسكو.. فكان بصراحته الديستوفيسكية يقول لهم:
- لا تلوموني.. «إبراهيم» هو من دلني على هذا السائل السحري.. الذي لا أستطيع أبدًا تركه..
أسرّ له ، باسمًا ، أحد المقاتلين مضيفًا:
- ماذا فعلت يا «إبراهيم» بالشاب المسكين.. لقد جنَّ! لا أدري من أين يجيب الكلمات العجيبة.. يرد على لومنا قائلًا:
«كلكم باطل والخمرة وحدها الحقيقة!.
وحدها تدل الإنسان على ذاته!
وحده «إبراهيم» حبيبي يعرف ما بنفسي!.. وحده»
ليختم الكلام ضاحكًا:
- خبلته يا رفيق خبلته!.
رغم انشغاله بالعائلة والمصير المجهول ، كان يفرد حيزًا من تفكيره للشاعر، الذي غاب في موسكو المحتدمة، وعندما وجده صدفة في مخزن من مخازن موسكو الكبيرة. كان يهم بالدخول لحظة رؤيته لـ«شيركو» السكران وامرأة روسية ضخمة تسد باب الخروج، تفتش حقيبة كل خارج من المخازن، في ظاهرة لم ير مثيلًا لها في العالم كله. أمعن في عناقه وسط دهشة الروس الباحثين عن الخبز واللحم وقتها.. حضنه ونشج هاذيًا:
- سامحني.. حبيبي «سلامي».. سامحني.. دمرني ...!! .. ما أعرف طعمه.. تدري سلامي.. مو بس ما أعرف طعمه.. ما شايفه.. وإذا ذقته فسوف أثق بنفسي وأخترق روسيا كلها.. كل تاريخها من «ديستويفسكي» إلى «إيتماتوف».. سامحني حبيبي.. سامحني.. أنا على وشك اختراق حصن روسيا من ... نسوانها.. أنا عايش وسط بائعات خضرة في سوق شعبي.. سامحني.. أبحثُ عن الحقيقة!.
وانفلت من بين ذراعيه بغتةً ليختفي وسط زحمة السوق.. تلك اللحظة شعر «إبراهيم» بالذنب قليلا، وهو يرى «شيركو» ينحدر في الصدق إلى حد التشرد. فحاول مرات عديدة إيجاد صلة ما به علَّه يعالج ما آلت إليه أمور صديقه الشاعر، لكن الملعون أجاد الغياب وسط بيئة موسكو الشاسعة وبين بائعات الخضرة فيه.. غاب تاركًا لوعةً تسكن روح «إبراهيم».. غاب أيامًا طوالًا.. لينبثق بغتة في شارعٍ ما من شوارع موسكو.. اعتنقه مبتهجًا.. مجنون المزاج، وهمس:
وانفلت من بين ذراعيه بغتةً ليختفي وسط زحمة السوق.. تلك اللحظة شعر «إبراهيم» بالذنب قليلا، وهو يرى «شيركو» ينحدر في الصدق إلى حد التشرد. فحاول مرات عديدة إيجاد صلة ما به علَّه يعالج ما آلت إليه أمور صديقه الشاعر، لكن الملعون أجاد الغياب وسط بيئة موسكو الشاسعة وبين بائعات الخضرة فيه.. غاب تاركًا لوعةً تسكن روح «إبراهيم».. غاب أيامًا طوالًا.. لينبثق بغتة في شارعٍ ما من شوارع موسكو.. اعتنقه مبتهجًا.. مجنون المزاج، وهمس:
- «سلامي».. حبيبي.. لقد اخترقته.. فأحسست أن كل روسيا فتحت أبوابها أمامي..
منذ ذلك التاريخ ضاع «شيركو» في لجة الجنس وموسكو المشرعة.. هبط إلى قيعان عوالم «تشيخوف» و«ديستويفسكي».. ضاع متخيلا.. ليس متخيلا، بل عاش ما يشبه قصص أولئك الكتاب بكل تفاصيلها، وكأن الزمن عاد مكررًا قصص كتاب الروس القدماء ذاتها.. نزل «شيركو» إلى حضيضٍ وجده جميلًا .. وهاهو ينبثق من غيب اللجة والضياع في موسكو الشاسعة.. ينبثق بصحبة الصعلوك «أسعد» التكريتي، الذي وضعه جواره واختفى.
- أي بهجة يضعني فيها هذا الكيان الفتي.. أي بهجة!.
هتف «إبراهيم» عند حافة الغابة والمساء على وشك الهبوط: أيُّ رحلة أخذته إلى الأشجار والأخيلة حتى نسى نفسه وسط الثلج وكثافة الأشجار والبرد؟! أيّ دفء يبعثه خاطر صديق حبيب منتظر؟!
- أي دفء؟!
هتف بصوت عالٍ في خواء الشارع، ودلف إلى مدخل العمارة.
فتح «شيركو» الباب محدقًا بعينين قلقتين قائلًا:
- وين صرت حبيبي.. وين صرت.. صار لك ثلاث ساعات.. قلت لك اشتمّ هواء!.
تلمس ذراعيه ثم ضمه إلى صدره هامسًا:
- أدري بك مجنون مثلي!..
وجد «إبراهيم» الشقة نظيفة، لا أثر لرائحة الغبار فيها.. كل شيء مرتب، المدخل، الطاولة، السرير، المكتبة، أدوات المطبخ، الحمام:
- حبيبي لو باقي ثلاثة أيام كان قتلك الغبار!.
مكث مع «إبراهيم» أيامًا يسرد فيها تجاربه في عالم الصبايا الروسيات وبائعات الخضار والمنظفات.. عالم لا يستطيع المرء رؤيته في الشارع. عالم شبه العاهرات الصغيرات، اللواتي تمكن «شيركو» من الولوج إلى بيئتهن الاجتماعية بالصرف عليهن مما كان يستجديه من الرفاق.. كان يطلب دون خجلٍ من كل رفيق يبعث له قريب من اسكندناﭬﻴﺎ مبلغًا. وكان يجهر لمن يطلب منه أنه سوف يصرفها على العاهرات الروسيات الصغيرات الجميلات؛ لأنهنّ أكثر صدقًا منه..
عالم يشبه كثيرًا أجواء المسحوقين في روايات «ديستويفسكي».. وكأن الزمن قد توقف منذُ مطلع القرن العشرين.. نساء يكدحن ليسكرن في المساء.. سكيرات.. مطلقات.. يبحثن عن عشيق ولو لليلة واحدة، وصبايا يمنحن أنفسهن بيسرٍ لمن يصرف عليهن وجبة طعام.. عذاب بشر يعانون الوحدة والعوز، لكنهم شديدو الصراحة والبوح، لا يخجلون من شيء..
هذا ما استنتجه «إبراهيم» وهو ينصت لحكايات «شيركو» الممزوجة برهافة حسه.. أخبره عن بائعة خضرة جميلة الوجه.. لكنها سمينة جدًّا.. صديقة صاحبته التي تعرّف عليها في السوق.. أرته ألبوم صورها فباغته جمالها الشاخص من الورق المصقول.. وصفها بدقة.. رشاقتها.. ضحكتها الصافية.. بهجة قسماتها الفتية.. شعرها الأشقر الطويل المتأرجح خلف قامتها في الريح.. ثم راح ينقل عينيه بين كتلتها العظيمة الجالسة جواره على الأريكة والصورة إلى أن وجد نفسه ينفجر بالبكاء، بكت معه وعانقته.
العديد من القصص الشبيهة لهذه قصّها «شيركو» عليه، فاتحًا أبواب القاع الروسي ومساكينه.. لم يكن يتصرف بالفطرة فقط، بل بوعي فلسفي يبرر كل خطوة من خطواته.. صرخ في إحدى لحظات تجليه:
- اسمع «سلامي» البنات حمامات.. متى وضعت لهنَّ القفص هربن.. لا تكن أنانيا وغيورا!.
- ...
- الأمير «ميشكين» على حق.. لكن «ديستويفسكي» شديد العفة!.
لم يعلق «إبراهيم» بكلمة منتظرًا دائرة أفكار «شيركو» تكتمل في الربط بين الغيرة والبنات الحمامات والأمير «ميشكين» وعفة «ديستويفسكي».
- ...
- ما ينقص الإنسان بشكل عام هو الصدق.. أما نحن العراقيين فالصدق لدينا أندر من الذهب.. عدا أننا أكثر البشر تشبثًا بالغيرة والشرف.. لكننا نفعل كل المحارم وأعظمها في السر.. أليس كذلك؟!
ركز عينيه بعد سؤاله المباغت في عيني «إبراهيم»، اللتين اضطربتا وهما تطلان خطفًا على عالم السر الدفين المستحيل البوح.. ركّز محركًا طرف فمه حركة خبيث يتصنع براءة السؤال.. تمالك «إبراهيم» وضعه بعناء قائلًا:
- أكمل.. أكمل.. لم أفهم ما تومئ إليه!.
استرخت قسماته مغادرة انفعالها المريب، صب كأسًا من النبيذ ورشف منها قطرة.. أعاد الكأس بحركة بطيئة كادت تقضي على هدوء «إبراهيم» المنتظر، وحدق بعينين ثابتتين.. مفتوحتين قائلًا:
- خاف يزعجك كلامي يا حبيبي، وأنت المتزوج من الحبيبة مثلما أخبرتني دائمًا..
- ...
- فمن المؤكد أنك تغار عليها بجنون.. وكلامي ضد الغيرة!
صرخ به «إبراهيم»:
- بلا مقدمات.. أنت تعرف أني أكرهها!
- اسمع «سلامي».. البنات الروسيات أكثر صدقًا منا نحن الثوريين.. أكثر صدقًا من صاحبك العامل.. فعندما تجوع تقول لك : إني جائعة.. وعندما تشتهي غيرك تقول.. ففي غرفة واحدة في بيت أهلها، وبعد أن صرفت عليها كثيرًا، وهي مبالغ تافهة حتى بالنسبة لنا نحن المتشردين.. قالت: تريد الصحيح أنا لم أحبك يومًا. ولدي حبيب من أبناء جلدتي، ولكنه لا يستطيع أن يصرف عليّ مثلك.. كانت سكرانة لكنها صادقة.. كانت تخشى من غيرتي من ثورتي.. وهذا ما كان يفعله أي إنسان روسي أو غير روسي.. فكيف بي أنا ابن كركوك.. لكنني في تلك اللحظة رأيت العظيم الأمير «ميشكين» متجليًا أمامي في أحرج لحظاته.
قطع الكلام ليرشف رشفة أخرى من كأسه، قبل أن يردف متسائلًا:
- أتعرف ماذا فعلت؟
سأله «إبراهيم» المذهول:
- ماذا؟!.
- قلت لها لنذهب فورًا إلى حبيبك.
وفعلًا أخذتها إلى حبيبها الفتي المسكين، لا تدري مبلغ فرحها. ظلت تقبلني طوال الطريق.. وفي بيت حبيبها الصغير جعلتها تدخل إلى غرفة نومه، وبقيت في الصالة أنصت متوجعًا إلى صراخ لذتها، الذي لم اسمعه أبدًا رغم أنى ضاجعتها أكثر من عشرين مرة.
كان «إبراهيم» يحدق مبهورًا.. صامتًا.. شاردًا.. ذاهبًا إلى عمق أبعد من الكلام.. مندهشًا من قدرة «شيركو» على الهبوط إلى النقطة العميقة الغامضة في الإنسان.. وكأنه من شخصيات قاع روسيا في روايات كتابها العظام:
- أسمع.. «سلامي».. أي بؤس كانت تعيشه معي تلك الروسية الصغيرة المسكينة، وهي تمنحني جسدها كل مساء.. كنت أظن أول الأمر أنها تريدني بكل كيانها.. هنا يكمن بؤس البشر.. في تلك اللحظة التي تمنح فيها نفسك دون رغبة حقيقية..
- ...
- تسكت «سلامي».. تسكت.. حقك أنت عايش بالوهم.. تحت الغبار.. وحدك.. لازم تطلع وتشوف.. اسمع تدري ماذا فعلت الصغيرة الروسية بعد ما وديتها لصاحبها.. جننتني بالفراش.. وجعلتني أصل إلى القول بأن البنات حمامات، متى وضعت لهنَّ القفص هربن..
أخمده الكشف.. العميق لنوازع النساء الدفينة.. للمعادلات الغريبة التي أثارتها قصص «شيركو».. أخمده وهو يستذكر عدد المرات التي أنفجر فيها محاولًا وضع زوجته.. حمامته في القفص.. وخصوصًا عندما حلاّ وسط رجال العصابات في كردستان، فوجد المرات عصية على العد في قصته، مات اللسان وبقى «إبراهيم» يحملق بشرود في وجه «شيركو» الجميل، الذي احتدم غاضبًا وهو يلتفت صوب بشر وطنه قائلًا باستنكار:
- لو يسمع كلامي أي من أصحابك العراقيين يقولون عني قوادًا !.
- ..
- اسمع وصلت لقناعة أن كل علاقاتنا الاجتماعية، العائلة والمدرسة والشارع والأحزاب يعني حياتنا كلها غلط!..
- ..
- علاقات مزيفة.. كذب.. نفاق.. تملق.. قسوة.. جبن.. ادعاء.. وحتى أنا وأنت.. ولو ننظر بصدق وبعمق.. لما نقوله ونفعله لما اختلفنا عما يفعله الآخرون!.
- ...
- وكل ذلك مغلف بمبررات أخلاقية تبدو لفظًّيا عظيمة!
- ...
كان «إبراهيم» في حياد معذب يقيس كلام الشاعر الكردي الذي يبدو ليس مجرد كلام، ولكنه قول ينفي الثوابت.. كل الثوابت .
- الصبية الروسية اللَّعوب أكثر صدقًا من زوجات شرقنا المدعيات!.
استدرك عندما لمح قسمات «إبراهيم» تقسو متلبدةً:
- عداك.. يا حبيبي.. وعدا كل محب حقيقي.. مثلك، فأنا أعرف كيف تحبان بعضكما!.
لانَ وجه «إبراهيم»، فراح يتملى في عالم «شيركو» وحكايته العجيبة.. حدثه عن طفولته في حي كردي فقير بطرف كركوك.. عن اضطراره للعمل بعد وقت المدرسة كصباغ أحذية؛ كي يعين عائلته المكونة من عشرة أطفال، أكبرهم لا يتجاوز السابعة عشرة وثمانية منهم بنات..
عما كان يتعرض له من مضايقات من الرجال في السوق:
- كنت أشعر يا «سلامي» أن الرجال في مدينتي مجرد وحوش لا قيمة أخلاقية لديهم، فمن كان يريد إغوائي رجال يبدون محترمين لديهم أسر وأباء أطفال بعمري، ليس واحدًا بل الغالبية.. ذلك ما جعلني أتطرف في العناد وأحرز في أعماقي حقدًا عاجزًا.. وأنت تعرف يا حبيبي مدى لؤم العاجز.. فقد كان لابد من الخروج كل يوم؛ كي أصبغ أحذية عديد من أولئك البرابرة، متحملًا في ذل دعواتهم مقابل مبالغ مغرية.. كنت ألزم الصمت لاعنًا الفقر وأبي، الذي مات باكرًا ليتركنا في بيت إيجار، عشرة مع أمي المسكينة التي تخدم في البيوت.. أكرر لعنتي كلما أحتك بي واحد من أولئك الرجال!.
لم يستغرب «إبراهيم» قصص «شيركو» بل وجد بها سلوى، فهو الآخر تعرض إلى نفس ما تعرض له صديقه الصغير لكن بمدينة في جنوب العراق.. وكانت تجربته أكثر مرارةً إذ كان شكله جميلًا، مضاف إلى أنه عاش طفولة تشبه طفولته، فهو أيضًا نشأ وسط عائلة كبيرة مكونة من العدد نفسه، والفرق أن أباه كان سكيرًا عاطلًا عن العمل.. وبيتهم يتكون من غرفة مما جعله ينشأ في الشارع والسوق، ويختلط باكرًا بمن هم أكبر سنًا منه، غير مبالٍ بما سيحصد من عذاب، وهو يواجه أقرب الناس أو الذين كان يعتقد أنهم أقرب الناس وهم يحاولون غوايته.. هم متزوجون أيضًا.. والمصيبة أنهم ثوريون.. قضوا سنين في السجون وكانوا مثالًا لإبراهيم وجيله..
يدرك «إبراهيم» أن التوازن في معادلات كهذه مستحيل.. فقد يستطيع المرء التوازن ظاهرًا.. ولكنه في الأعماق يكون غير ذلك. وهذا ما كانه طوال القصة.. تصنع البطولة.. أحب.. وعاند وتزوج الحبيبة، ناضل وكاد يقضي نحبه، فبدا ظاهرًا وكأنه أكثر تماسكًا من الفولاذ.. مضمرًا كل تلك الجروح التي أثارها «شيركو» ببوحه.. لم يثرها بل نكأها، واضعًا كيان «إبراهيم» في قلب عاصفة دون أن يدري.
- اسمع «سلامي».. اسمع..
وارتشف كأسًا أخرى من الخمرة دفعةً واحدةً، وتلوى كأنه ديك موشك على الذبح.. راح يفرك رقبته براحة كفه فركًا شديدًا. أحس «إبراهيم» أنه يريد البوح بسر.. لكنه يخشى.. سحبه إلى صدره واضعًا رأس «شيركو» الساخن لصق قلبه، وقال:
- صغيري.. لا تقُلْ إلا ما تريد قوله، فإذا كان ما تريد قوله ثقيلًا فلا تقله إلا لمن يتحمل سرك!.
دفن رأسه بشدة تحت إبط «إبراهيم»... وأجهشَ بعنف.. وعندما تمالك نفسه من جديد باح بمحنته:
- «سلامي».. حبيبي.. أحلف بالعرق الذي علمتني شربه.. أحلف به وبكَ أنني أستنكر كل حياتي.. كلها «سلامي».. كلها.. اسمع ، ما مزق قلبي هو سذاجة أمي.. شكوت لها من مضايقة الكبار في السوق والنهار.. لم أفصِّل، ولكنها فهمت وصارت عصبية طوال أيام، إلى أن جاءت من عملها في مساء يوم وهمست في أذني على انفراد أنني لن أذهب إلى سوق المدينة في المساء لصبغ الأحذية..
فرحت للخبر وتخيلت حالي أقضي ما بعد وقت المدرسة باللعب مع أقران طفولتي في الشارع.. أشبعتها قبلًا لقرارها الرحيم بتخليصي من ذلك الهم العنيف. لكن أردفت بوجه سعيد، بأنها وجدت لي عملًا موسميًّا لدى رجال شرفاء يختلفون عمن رأيتهم في أسواق المدينة، رجال ورعين، متوحدين مع الخالق.. يجوبون قرى كركوك البعيدة، دراويش الطريقة القادرية.. قالت لي سأكون خادمًا للشيخ في جولاته بين القرى.. «سلامي».. حبيبي.. حزمت أمري ورحلت معهم..
بعد ليلتين بعث الشيخ في طلبي بعد منتصف الليل.. راح يحدثني عن العفاف والصوفية والكون الغامض وطهارة الروح.. كلمات من العسل، جعلتني أتأرجح على حافة النوم.. فبعد عنف وسوقية أسواق كركوك وجدت بوجه الشيخ وجه نبي، وذلك ما جعلني أغفو بعمق في حضرته.. لكنني استيقظتُ موجوعًا مختنقًا.. لأجد يا سلامي الشيخ القائد يخنق أنفاسي.. فوقي بكل ثقله وكان قد جردني من كل ملبسي.. حقدت على أمي التي دفعتني إلى تلك اللحظة.. «سلامي».. اغتصبني شيخ من شيوخ الطريقة القادرية بإحدى قرى كرميان.. «سلامي».. «سلامي».. أنت أول من أبوح له بهذا السر، الذي خنقني منذ الطفولة.. فلمن أقول.. وماذا أقول؟!
صمت قليلًا ليردف:
- «سلامي».. أليس كذلك؟!.
- ...
- ليش ساكت؟!
بدا «إبراهيم» قلقًا حائرًا.. مستغرقًا مع نفسه في حوار:
هل أفضي له بما جرى لي في طفولتي البعيدة، في العاشر من عاشوراء، عندما سهرت مع رفاق طفولتي حتى الصباح.. وفيما كنت أشاهد تفاصيل المقتل غلبني النعاس وسط الزحمة ففكرت في العبور إلى مدرسة قريبة.. فتسلقت السياج، وفي الرواق رقدت على البلاط البارد.. كان الوقت صيفًا وعلى إيقاع معركة الطف ونحيب النسوة غفوت، لأستيقظ على ألم في مؤخرتي.. ألم شديد.. كان عمري وقتها ثماني سنوات.. لم أجرؤ على فتح عيني.. ظللت أنصت، وأنا في أقصى حالات الرعب إلى اللهاث الغريب المنصب من خلف رقبتي، مستسلمًا عاجزًا إلى أن خفت، فرأيته رجل بعمر والدي وسط مكتب مدير المدرسة.. أدركت بعد ذلك أنه كان الحارس، الذي جعلني مضطربًا شكاكًا بالبشر كل العمر.. هل أفضي لـ «شيركو» بالقصة القديمة كما أفضى إليّ.. أم؟!
- «سلامي».. قل شيئًا؟!.
- اسمع حبيبي!.
ومشط بأصابعه المتصلبة كأنها أسنان المشط، شعر «شيركو» المبعثر، مكملًا:
- لست وحدك؟!.
- ماذا تقصد يا «سلامي»؟!
- جرى لي ما جرى لك؟!
سحب جسده من صدر «إبراهيم» مذهولًا، وحدق طويلا بعينين مفتوحتين، لم تطرفا لحظةً قبل أن يسأل:
- صحيح «سلامي».. صحيح؟!.
كان يلهث مضطربًا متشككًا من أن «إبراهيم» قال ذلك ليخفف عنه.. كان ينتظر تفصيلات:
- وأول مخلوق أسرّ له بذلك هو أنت يا «شيركو» حبيبي؟!.
- كيف.. كيف.. جرى الأمر؟!.
بتفصيل في المكان والزمان، وما أحس به في لحظة السحق تلك، وما فعلته بنفسه لاحقًا قصَّ على «شيركو» كل شيء.. وعندما ختم كلامه، انفجر «شيركو» بنشيج صاخب يقطعه بهذيان، يصب فيه لعناته على كل شيء.. الوجود والدنيا:
- حبيبي.. «سلامي».. أنت متعذب من كان عمرك ثماني سنوات.. حبيبي.. وما تقدر تقول لأحد!.. حبيبي دمرتني.. وخليتني أعرف سرك مع الخمرة..
- ...!
- حبيبي.. «سلامي».. حبيبي.. لا تسكت.. فكر معي.. أي مجتمع منحط كنا نعيش فيه.. الشرف هو العلامة المغلفة لكل العلاقات في الخارج.. والانحطاط هو الراسخ في الداخل والأسرار!.
- ..
- شو هم ساكت «سلامي».. من يستطيع البوح بمثل هذي الأسرار سوانا.. وأحنه تمردنا على العائلة والمجتمع والسلطة وخاطرنا بحياتنا.. وتشردنا وقاتلنا بالجبال.. وأكلنا المر والعشب.. وفقدنا أعز الأحباب.. ومع كل هذه التجارب لم أجرؤ على البوح لك.. مثلما لم تجرؤ أنت.. لولا الشرب الذي كنت أستاذي فيه.. ولولا «ديستويفسكي».. من المستحيل عليَّ قول ما قلت.. فماذا يكمن في أرواح العراقيين من أسرار وعذابات؟!.
- بس الله والعراقي يعرفان يا «شيركو»!..
- بربك «سلامي».. بربك.. كيف نصل إلى النقاء.. كيف؟!
لم يفهم ما قصده الشاعر، فمكث في الصمت:
- لا تسكت «سلامي».. لا تسكت!.. يبدو أن كل شي غلط بحياتنا.. كل شي..
لم يكن «إبراهيم» بالغًا هذه الناصية من الوعي.. فأصبح في تلك اللحظة أسيرًا لما يفوه به «شيركو» المتسائل في اللحظة تلك:
- «سلامي» مرة قلت لي مثل عندما كنا في الجبل.. مثل يثير الضحك.. لكنه حقيقي.. أريدك أن تذكرني به الآن:
فكر «إبراهيم» قليلا ثم قال:
- أي مثل تقصد؟!. ذكرني بطرف منه!.
- لا أتذكره بالضبط!.
صمت قليلًا وراح يركز ناظرًا خلال النافذة بشرود، قبل أن يقول:
- «سلامي».. تذكرت القصة، كنت تحكي عن مصور زنجي أسود وشاعر..
ضحك «إبراهيم» بصخب، رائيًا وجه المصور الناحل بقسماته الصغيرة وعينيه الصغيرتين المحمرتين، وهو يجلس على كرسيه أمام دكانه ينظر بصمت نحو المارة عصركل يوم، قال:
- الحياة لحظة ..الحياة فقاعة.. فصورها قبل أن تنفجر!.
- عظيم.. هي كذلك فقاعة!. هيا قم معي.. سوف آخذك إلى قاع روسيا الذي ضيعني عنك طوال الشهرين الفائتين.. قم يا حبيبي المسكين.. قم حتى تشوف الصدق عاريًا بلا أقنعة.. لا تقل إني متزوج.. تعال خض التجربة لترى نفسك والآخرين.. هيا لنخرج الآن!.
سحبه من ذراعه.. كان الوقت بعد منتصف الظهيرة بقليل:
- خذ حمامًا والبس أحلى ما عندك!.
قال ذلك بلهجة آمرة.. ومثل مخدرٍ، أنصاع «إبراهيم» لتعليمات «شيركو» الجاد. غسل جسده بعناية.. حلق ذقنه ولبس أحلى ما لديه. على السلالم الهابطة نحو البوابة المزدوجة.. أردف بعد أن رمقه جانبًا بعينين، تبسمان بخبث:
- ستجننهن يا «سلامي»!.
لفحهما هبوب خفيف لريح مثلجة ما أن جاوزا البوابة:
- كل ما يجري الآن يشبه الروايات؟
قال «إبراهيم» ذلك لنفسه.. وتبّسمَ.. لم يشأ سؤال «شيركو» بمن يكنَّ.. ذلك ليس مهمًّا الآن.. ليس مهمًا.. فلا مكان للمنطق في تجربة كهذه.. فـ «شيركو» الخجول الذي كان قبل أشهر لا يعرف طعم الخمرة يقوده الآن إلى عالم غامض يشبه الأحلام، يشبه كائنات الورق.. يقوده إلى وسط موسكو عبر باطنها، حيث استقلا مترو الأنفاق.. في محطة ما قال له:
- هيا «سلامي»!.
ومد يده الصغيرة ليشبك أصابعه بحنان لا يشبه حنانًا آخر!. أفضي بهما السلم المتحرك الطويل جدًّا الصاعد إلى باحة صغيرة وباب ضخم مزدوج.. دفعه «إبراهيم» بقامته الفارعة وكتلته الضخمة.
- «سلامي» نحن في وسط موسكو.. في حي من أحيائها القديمة جوار الساحة الحمراء!. يعني بشريان الرفاق الروس!. تعال شوف البشر.
سلكا طرقًا ضيقة تفضي إلى طرق أكثر ضيقًا.. مرا بفسحة سوق خضر منتشر في ساحة مدورة، وسط بنايات قديمة الطراز.. توقف «شيركو» عند بعض الباعة الروس الواقفين خلف بضائعهم المكونة من المواد المختفية من أسواق الحكومة.. وأنواع الخضراوات والفواكه. كان يدخل في حوار قصير مع أحدهم ويعود إلى «إبراهيم» الواقف وسط السوق، وكأنه يقف في باطن سوق يصفه «مكسيم جوركي» المولع بهذه الأمكنة والأجواء.. لم يجد رغبة في سؤاله عما يتحدث به مع الروس.. كان منقادًا.. مخدرًا.. مذهولًا.. يفكر في الطريقة التي استطاع بها «شيركو» الولوج إلى عالم الروس بهذه السرعة، رجع من حواراته مع الباعة غاضبًا ليقول:
- أدري مجنونات مثلنه.. مسكينات مثلنه «سلامي» مثلنه.. أكيد عذاب روحهن خلاهن يسكرن البارحة حد النوم ونسيان الدنيا.. الحياة لحظة سلامي.. وإلا تكذب هي عليّ مثل ما كذب - «أبو علي» - مسئولي الحزبي عندما اختفي بغتة وعافنا وسط المدن!.
«إبراهيم» المتأنق كان لا يستوعب معادلات «شيركو» المعقدة والذي يبدو أنه يحاور نفسه وسط سوق خضرة في قلب موسكو القديمة.. كان يؤكد أن فقاعة الحياة ستنفجر عاجلًا أم آجلًا، وهو يقول مواصلًا الكلام عنهن:
- أكيد واصلن الشرب وظللنَّ في الشقة!
دلفا في زقاق فرعي، أفضى بهما إلى شارع عريض، تمتد على جانبيه بنايات قديمة جدًّا.. عَبرَ نفقٍ تحت الجادة ، انتقلا إلى الجانب الآخر. كان «إبراهيم» مسرورًا سرورًا خفيًّا من هذه المغامرة الغريبة، التي يقوده «شيركو» إليها.. وكان يتساءل مبتسمًا وهو يحدق بقامته القصيرة، التي يجرها جرًّا على الممرات الضيقة بين أكداس الثلج على الأرصفة مسرعًا، يتقدمه بعدة خطوات:
- إلى أين يأخذني هذا المجنون؟!.
انعطفا نحو زقاق شديد الضيق، معتم.. وبعد عدة أمتار توقف «شيركو» أمام بوابة من الخشب الصاج الحائل اللون.. بوابة شاهقة عريضة قديمة.. بعناء دفعها بكل كتلته، فأسرع «إبراهيم» في الدخول إلى ممرٍّ مظلم واسع، لم يستطع في الوهلة الأولى تبيان معالمه. وبعد لحظات هجمتْ عليه رائحة هي مزيج من العفونة والبيرة والدخان وخليط من البصل والثوم ورائحة لحم الخنزير المسلوق. وبحركة لا إرادية سد أنفه بالسبابة والإبهام، وقطع تنفسه للحظة.. أتاه صوت «شيركو» المسترخي:
- ستتعود.. الإنسان أحقر كائن في التعود!.
إلى يسار المدخل، صعدا سلمًا حجريًّا يفضي إلى الطابق الثاني.. خفت رائحة العطن قليلًا. وبانت من نوافذ حيطان السلالم صفحة السماء الغائمة بسحب الثلج البيضاء.. درابزين السلم متآكل الخشب، مسود من القدم والأوساخ، الحيطان حائلة اللون تقترب من لون الفحم والرماد.. حدق في قامة «شيركو» الذي يسبقه على السلم الصاعد بعدة درجات فوجدها رمادية بائسة، ناداه فالتفت متطلعًا متسائلا بقسمات، بدت كأنها امتصت لون الجدران، وحدهما عيناه شخصتا نحوه ساطعتين:
- ماذا بك «سلامي»؟!
- وين ما خذنا؟!
- ما بقى شيء حبيبي.. راح تشوف بعينك!.
قطعا ممر الطابق الثاني العالي السقف الممتد من السلم حتى نافذة الجدار المطلة على الشارع.. استدار «شيركو» وقرع بابًا إلى اليمين.. انتظر دقائق قبل أن يعاود القرع بكفيه قرعًا غاضبًا.. استند «إبراهيم» إلى حافة النافذة الزجاجية الطويلة، متخيلًا في لحظة خبث خيبة صديقه، الذي بدا واثقًا وهو يقوده إلى ما وصفه بالروح الروسية المعذبة أبدًا.. المخدوعة أبدًا.. والتي استدعت حسب قوله كتابة ذاك الأدب العظيم في القرن التاسع عشر. خيبته عندما تكل يداه من القرع.. والباب لا يفتح..
بدا الإرباك على جسده كاملًا.. يقرع بعنف وينضح، حتى بدا مثل نبع ماء في قمة. صار يتصبب مبللًا قسماته المضطربة، وهو يلتفت بين نوبات القرع صوب وقفته المسترخية على حافة النافذة.. صار القرع مجنونًا مصحوبًا بكلامٍ بالروسية قدره بذيئًا إذ اختلط بشتائم عربية وكردية شديدة البذاءة. وبغتة انفتح الباب.. وظهرت خلفه امرأة في أواخر الثلاثينات، قصيرة القامة، تترية الملامح، بدت كأنها استيقظت للتو من نوم ثقيل، منزعجة من الضجيج، ولكنها عندما وقع نظرها عليه انفرجت ملامحها وأخذته في الأحضان. همس في أذنها فانفصلت عنه؛ لتأخذ يد «إبراهيم» باحترام وتسحبه عبر عتبة الباب.. ضايقته رائحة خانقة هي مزيج من الفودكا والبيرة ودخان السجائر وعرق بشري وشرائح لحم خنزير مقلي.. كاد يسد منخريه، لكنه عدل عن ذلك، و«شيركو» يصرخ مستنكرا بالعربية:
- لا.. لا «سلامي».. لا!.
أنزل ساعده الأيسر الحر متحملًا فظاعة الرائحة.. أجلسته على كرسي رث جوار أريكة أكثر رثاثة، ممزقة القماش مكسورة الأذرع ، صرّتْ بصخب حينما جلس «شيركو» عليها.. هبطت على الأرض العارية قرب قدميه، وقالت شيئًا فهم منه أنها تدعوه لشيء.. أجابها بهزة من رأسه، فنهضت لتخطو نحو طرف الغرفة المؤدي إلى فسحة ضيقة صفت فيها أشياء المطبخ.. لاحق جسدها القصير الممتلئ وخلفيتها البارزة قليلًا من خلال ثوبها القديم الفضفاض، قال «شيركو»:
- هذه صاحبتي!
كانت تكبره بأكثر من عشرين عامًا.. أجال «إبراهيم» طرفه بأرجاء الغرفة الصغيرة.. الجدران وسخة، السقف عال جدًّا، في الزاوية المقابلة للمطبخ سرير فراشه مبعثر، وتحت النافذة العالية ثمة كتلة هائلة ساقطة بنومٍ عميق على أريكة تكون آخر قطعة من أثاث الغرفة..
أطال التحديق بالكتلة التي يتعالى شخيرها متقطعًا. تأملها.. تأمل المكان، نقوش السقف، الشباك العريض بزجاجه المزدوج، وجه «شيركو»، الذي بدا مهمومًا وكأنه رجل البيت، هذا الجو، الذي بدا غريبًا أول وهلة أحسه بعد دقائق شديد الألفة، وكأنه زاره منذ زمن بعيد.. بعيد قبل الحروب الأخيرة.. قبل الجبل.. قبل ورطة الحب والعائلة.. قبل ذلك بكثير.. فاستسلم للذة تخصه دون كل البشر.. رائيًا نفسه يعيش لحظات ذاك الزمن البعيد الذي استقام حيًّا بهذه الغرفة وسط موسكو.. حيث كان يقضي الظهيرة وحتى المساء مبحرًا في غرفته المقطوعة بحاجز خشبي عن غرفة أبيه.. مبحرًا بأمكنة «ديستويفسكي» في «الجريمة والعقاب» و«الأخوة كرامازوف» و«الأبله».. غرف وصفها الكاتب بدقة وبإيجاز..
قاده «شيركو» إلى باطنها ليحيى لذة مزدوجة.. لذة التذكر وخيال القراءة.. في الوقت البريء.. ولذة الدخول في فضائها الفيزيقي وبروسيا بعد أكثر من خمسة وعشرين عامًا.. جعل يسترخي رامقًا أشياء الغرفة بعيني ذاك الصبي، الذي أذهلته القراءة الأولى لروايات «ديستويفسكي».. اتكأ على ظهر كرسيه وكأنه يحلم.. ذاك لم يفت على «شيركو» المراقب انفعالات وردود فعل «إبراهيم» منذ لحظة الدخول، فقال:
- النائمة البائعة السمينة المسكينة التي أبكتني صور شبابها عندما كانت رهيبة الجمال كما أخبرتك من قبل!.
- ...
- «سلامي».. ستلمس مدى عذاب الروس، الذين كنا نعتقد أنهم في الجنة!.
أقبلت المرأة ذات الملامح التترية حاملة ثلاث كؤوس صغيرة من الفودكا. وزعتها رافعة كأسها عاليًا، فرفعا كأسيهما ليرنّا مع كأسها في فضاء الغرفة الرث، قبل أن ينزل في الأحشاء حادًّا ليمنح «إبراهيم» أخيلة مضافة. فظن أنه حقًّا في باطن رواية، وهو يراه يحتدم في حوارات حادة مع التترية حتى أنه كاد أن يضربها فلطم جبهته، مما جعل «إبراهيم» يسأله : ما المشكلة:
- مجنونات.. يشتغلن من الصباح حتى المساء واقفات على أرجلهن.. ليصرفن الأجر على الأصدقاء.. أتعرف لِمَ لم يخرجنّ إلى السوق هذا اليوم؟ لأنهن كن سابقًا شيوعيات ويحتفلن اليوم بالسكر العنيف بذكرى ثورة أكتوبر التي ستصادف غدًا.. تخيل يا سلامي.. تخيل!.
- لهذا السبب تتخاصم معها!
- نعم.. نعم!
لفظها مشددًا على وقع المفردة مستنكرًا صيغة السؤال؛ مما جعل «إبراهيم» يزداد نشوة، وهو يوقن بأنه فعلًا يغور في باطن رواية من طراز فريد، فيها أخيلة قراءة الصبا وخلاصة تجربة الاشتراكية في القرن العشرين، التي أفضت إلى المشهد المجسد شخصيات بائسة معذبة لا تختلف عن عذاب «صوفيا»، أو أي شخصية من شخصيات تلك الروايات المكتوبة في نهاية القرن التاسع عشر.. شخصيات مذلة مهانة.. لكن بصيغة تناسب عصرها.. خسارة من يظن أنه بنى مدينة فاضلة يفقدها هذه الأيام.. ما كان يضيف للمشهد مزيدًا من اللذة هو انفعال وحرارة وعنفوان «شيركو» وهو يتشاجر مع صاحبته الروسية عن ضرورة التعقل. كان يرى به «راسكولنيكوف» المنخور، وهو يدعو أخته وأمه إلى التعقل ورفض زواج أخته بالتاجر البخيل.. كان الحوار بين «سورخي» وصاحبته التترية يتخذ بعدًا خطيرًا وقت الاحتدام، وكان «إبراهيم» يستمتع راشفًا المزيد من كؤوس الفودكا.. حتى أنه صرخ في لحظة:
- ماذا بك.. دعها وشأنها.. أنت مجرد عابر.. عابر!.
أشعله الكلام.. فصرخ:
- «سلامي».. أدري أني عابر لكنها سيقضى عليها عندما أغادر!.
أطربه الرد، فهتف في داخله:
- إنه مثل نبي.. هذا الصبي الشاعر!.
فصمت يتملى المشاجرة.. الصبي الشاعر.. الغرفة الصغيرة.. مدركًا الفارق بين حسه وحس صاحبه الكردي المجنون.. فـ«إبراهيم» كأنه يجلس في غرفته ببيت أهله القديم بطرف الديوانية يغور في عالم الكلمات، بينما «شيركو» يغور في عالم بشر موسكو.. نسوتها المطلقات.. المتروكات.. في وقت شحوب الزمن الطويل الذي أوهمهم في المساواة والعدالة.. يغور في عذاب الروس.. زمن لا يختلف إلا في الشكل عن عذاب الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي صوره «ديستويفسكي».
في غمرة اللذة تلك.. كان يستمتع والحوار تحول إلى مجرد شتائم بذيئة يعرف معناها «إبراهيم».. التترية تشتمه وكأنه أليفها الذي تعود على ذلك.. هو يفعل كذلك، وكأنه يعرفها منذ عشرات السنين. وفيما كان يتأمل المشهد وكأنه بمواجهة خشبة مسرح.. التفت نحو حفيف كتلة عظيمة، قدمت من ناحية الأريكة الرثة تحت نافذة الغرفة العالية، فرآها تخطو متنمرة صوبه تمامًا. وكأنها تسير في حلمٍ. وبصمت هبطت جالسةً على فخذيه. وقربت وجهها الجميل كوجه صبية من قسماته المرتبكة، التي لم تستوعب بعد الموقف، لتأخذ شفتيه وتمصهما مصًا أذهله، إذ أحس أنها تمنح روحها بالكامل من خلال شفتيها..
لن ينسى تلك اللحظة ما تبقى من العمر.. الحركة والقبلة أنهت شجار «شيركو» مع صاحبته، فصمتا يحدقان في المشهد.. كان «إبراهيم» مذهولا بالطقس.. بالأخيلة.. بهذا الاقتحام المباغت لكتلة عظيمة كانت ساكنة.. بالقصة المحتشدة بالأحداث خلال دقائق!. استسلم للشفتين الخبيرتين ظانًّا أن الأمر مجرد لحظة عابرة لا تذهب أبعد.. لكنها هبطت لتتكوم جوار ساقيه، وتأخذ قدميه إلى حضنها العظيم وتجرده من جوربيه، وتبدأ بتدليكهما بأصابع خبيرة. تلفَّتَ مشربك القدمين كطائر وقع في فخٍ باحثًا عنه، فوجده قد غادر الأريكة مع صاحبته باتجاه زاوية المطبخ. لاحق خطوه المتأني ولفتاته بوجهه المبتسم بخبث.. كان لا يفهم ما تتمتم به المنكبة على ساقيه مع كل قبلة، ترصع ظاهر وباطن قدميه الضخمتين.. اشتدّ مأزقه، فصرخ به:
- تعال يا مجنون.. خلصني!.
شخص نحوه ضاحكًا.. وتمهل في خطوه عامدًا، يركز على شفتيها الصغيرتين المكتنزتين كشفتي طفلة، الملامستين برقة صلابة قدميه.. هبط نحوها هامسًا بصوت شديد الرقة، وسحبها برفق كي تنفصل عن ساقي «إبراهيم»، الذي نهض فورًا، وكأنه تحرر من سجن:
- لنغادر الآن!.
قال بصوت آمر.
- اصبر دقائق ولا تجرح الناس!.
ردَّ بحدة وانهمك في الحديث معهنَّ، عرف لاحقًا بأنه تحجج بمشاغل؛ كي يتمكنا من الخروج.. في بئر السلم قال «شيركو» مسرورًا:
- أول مرة أرى مثل هذه الحالة.. تستيقظ من النوم إلى حضنك مذهولة.. حبتك «سلامي».. حبتك!.
أطلق ضحكة صاخبة معلقًا:
- ولك مجنون يا حب مع هذي الحثالة!
- ...
احتقنت ملامحه موشكة على الانفجار، و«إبراهيم» يردف:
- أنت تعيش، وكأنك في باطن رواية من روايات «ديستويفسكي»!..
- ...
راح يتلفت محتدمًا حواليه وسط الشارع العريض المغمور بالثلج، متحاشيًا التحديق مباشرة في وجه «إبراهيم»، المستمر في التعليق والتحليل وربط سلوكه بأخيلة الكتابة إلى أن انفجر صارخًا:
- كافي «سلامي».. كافي.. أنت الْراح تخبلني.. هذا اللي شفته رواية.. شفت بشر يا حبيبي.. بشر معذبين، ما يختلف عذابهم عن عذابنا بشيء. بشر «سلامي».. بشر.. ليش تحتقرهم.. ليش.. تعرف ما وصفتك به.. تعرف؟!.
- ...
- قالت هذا قديس.. قديس.. أخذ قلبي.. قديس..
- ...
- «سلامي» أنت اللي عايش بالخيال.. بكائنات الورق حسب تعبيرك!. «سلامي».. في الشقة التي كنا فيها تكمن روح الروسي المعذبة..
- ...
لم يستطع «إبراهيم» ردًّا.. ارتبك شاعرًا بالعار، فلزمَ الصمت:
- ..
- ليش تسكت؟!
سأل بغضب، ثم أردف:
- يا حقير.. كيف تفكر بهذه الطريقة... أنت أستاذي في الخمرة والقراءة والحياة.. كيف وأنت تقابل حرارة استقبالك من المسكينات بكل هذا الترفع والاحتقار.. لنجرد كل شيء.. كل شيء.. بلا فلسفة ولا تعقيد.. امرأة تستقبلك في شقتها لأول مرة بحفاوة، تقدم لك كؤوسًا من الفودكا.. لو تعلم كم يعانين من متاعب في يوم العمل الشاق كي يوفرن قنينة، وأخرى تقبلك وتدلك قدميك مرددة بالروسية أنت قديس.. أنت حلمي.. أنت سري.. وتقول عنهما حثالة.. لا ، نحن الحثالة يا «سلامي».. نحن.. الحقراء القتلة، القادمون من حرب عصابات وطاحونة قتل لوثت أرواحنا بدوافع غير حقيقية.. أوهام الأيديولوجيا جعلتني يا «سلامي» أصوب بندقيتي نحو صدر جندي عراقي ابن جلدتي مسكين وقع في كمين.. أرديته قتيلًا وكنت فرحًا، وكأنني قتلت «صدام حسين» في وهم آخر.. نحن المشوهون.. نحن يا «سلامي».. نحن الحثالة.. ولسن بائعات الخضرة الروسيات الوحيدات المسكينات..
- ...!
خلد «إبراهيم» إلى الصمت، يداري شعورًا عنيفًا بالعار.. فكل ما تفوه به الصغير حقيقي.. فمن كان يعيش في أخيلة الكتب والروايات هو.. ومن كان يفسر ما يجري أوائل تسعينيات القرن العشرين في روسيا وفق منطق القراءات هو ، وليس «شيركو» الذي غار عميقًا في تفاصيل أبسط الروس وأصدقهم.
على مقعد في عربة المترو جلسا صامتين.. متقابلين، يتحاشيان النظر مباشرة في وجوه بعضيهما.. كان «إبراهيم» يحملق بشرود في هيئته المنعكسة على زجاج النافذة المعتم، وهو يخترق باطن موسكو، يحملق مستعيدًا تجربته المرة مع المتشردة الروسية.. التي حرض على حضورها منطق صديقه الواضح والصريح..
شعر بنفسه تغوص في عار جديد، يضاف للقائمة الطويلة الكامنة في عمقها الدفين. وبغتةً أنهد في البوح بما كان يثقل كيانه، فقد أدرك بأنه لو كتم مشاعر تلك التجربة عنه فستظل إثمًا يعذبه كل العمر، يضاف أنه لا يستطيع البوح بها لأي إنسان سواه، فانهد في اللحظة، التي تلاشى فيها ظله المعكوس الزجاج عند دخول عربتهما دائرة الضوء الباهر في محطة.. ساردًا بإيجاز قصته مع المتشردة الروسية مركزًا على لحظة المضاجعة، وعينيها الزرقاوين الناظرتين إلى قسماته الثائرة المهتاجة، وهو يحاول الولوج فيها.
وتوقف طويلًا في وصف حركة اعتراضها، وهي تحاول إزاحته عنها بدفعه بساقيها المنثنيتين المفتوحتين، وشدة دفعه بصدره القوي، كي يحافظ على وضعهما المنفرج. وتخافت مقاومتها لحظة الولوج..
وصف إمعانًا في إذلال نفسه تفاصيل اللحظات تلك بدقة، سكون عينيها المفتوحتين المحملقتين بحياد، وكأن ما كان يقوم به يجرى مع أخرى.. أمعن في وصف حالته وهو يرهز لاهثًا ناضحًا فوقها، ثم صَمَتَ منصتًا إلى دوي المترو الضاج، لسكون عيني «شيركو» المحملقتين باتقاد ، الموشكتين على الغضب، لأصابعه الناعمة التي راحت تفرك جبهته وكأنه يعاني صداعًا.. عاود الكلام نافثًا خلاصة ما كان يعذبه بصمت منذ تلك الليلة:
- اللي راح يظل يعذبني إلى الأبد يا صديقي شكل عينيها، سكونها.. الدهشة الباردة.. سكون أطرافها.. برودة بطنها.. حتى أنني أزحت قميصها القديم، كاشفًا نهديها البيضاوين بحلمتيهما الداكنتين الذابلتين.. فركتهما ..كانتا ميتتين.. لم أهتم بل رحت أرهز مثل ثور.. مثل ثور حتى لحظة القذف.. كنت مجرد ثور!.
كانت قسمات الشاعر الغضة تتكسر ألمًا في إنصاته المرهف!
- شعرت بالذنب.. بعد تلك التجربة.. وصرت أتهرب منها.. لم أعد أفتح لها الباب، رغم أنها تظل تدق أكثر من ساعة!
- ...
تفتتت ملامح «شيركو» ألمًا.. لتتماسك غاضبةً مرعدة منذرة، فغادر صمته متسائلًا عن تفصيل، بدا هامشيًا ل- «إبراهيم»:
- ماذا فهمت من هذرها وهي تدق الباب؟!
- لا أدري.. لكن ما استطعت فهمه أنها كانت تتوسل كأسًا من الفودكا!.
- وما فتحت الباب!.
- طبعًا .. طبعًا!
قال ذلك وحدق في خياله المتفتح في عتمة زجاج نافذة المترو.. قال ذلك وتمنى لو أن صديقه الشاعر الصغير لا يحلل على طريقة «ديستويفسكي».. لو يستوعب بوحه ويداريه.. لم يكمل بقية القصة، عن شعوره بالعار منها، عندما حضنت ذراعه في طريقهما نحو خمارة المحلة.. عن هروبه منها لضغط نظرات الروس المستخفين.. الساخرين من المشهد.. قدر أن ذلك سيغضب صديقه غضبًا شديدًا.. لزم الصمت منتظرًا.. وجلًا من ملامح «شيركو» التي تنمرت.. توهجت.. مشرئبةً في وقدتها، وكأنها تحترق هذه اللحظة التي ضجت بصراخه بالعربية وسط عربة المترو:
- وتركتها «سلامي» تنام بالبرد على سلالم العمارة..
- ...
في المسافة بين محطة المترو والشقة، في عمق ليل موسكو الثلجي أحس «إبراهيم» بخواء كينونته التام.. أحس بصحبة الشاعر الكردي الفتي أنه في دنيا غير هذه الدنيا.. دنيا نظيفة حيث الداخل هو الخارج.. لا أسرار فيها.. كانا يسيران بصمت ينصتان لوقع أقدامهم المكتومة على الممرات المغطاة بالثلج المتساقط من سماء باهتة الظلمة.. امتد صمته ثقيلًا موجعًا، فدفع «إبراهيم» إلى سرد بقية القصة قائلًا لنفسه:
- هيا.. إنها فرصتك كي تتخلص من شعور إثم سيسمم حياتك إن لم تبح به.. هيا.. هيا!
ربت على كتف «شيركو» المتلفلف بمعطفٍ ثقيل.. توقف محدقًا نحوه تحت نور مصباح الشارع المجاور للشقة، فبادر «إبراهيم» قائلا:
- اسمع.. في ليلة فتحت لها الباب.. وذهبت معها إلى محل بيع المشروبات القريب، كم كانت فرحة بحيث لفت ذراعها بذراعي.. لكن عندما وصلنا إلى الصف الطويل، رأيت السخرية المصحوبة بالتعليقات بعيون الروس التي لاحقتنا.. ذلك جعلها تترك يدي وتتشاجر معهم.. شعرت بالعار منها فهربت!.. وكلما أتذكر لحظة هروبي، أشعر بالعار يا صديقي.. أشعر بالعار!
قفز «شيركو» كمن طُعن بخنجر ، لاطمًا بكفه المفتوحة جبهته المعروقة، وهدر بالكلام:
- وتقول لي وين ما خذنه للحثالة.. اللي شفتهم والمتشردة أنظف من عدنا.. وأنظف من رفاقك اللي كانوا يعذبون ويعدمون ويكذبون على بعضهم البعض.. ما حثالة إلا إحنه.. فتّحْ عينيك يا حبيبي.. فتّحْ عينيك.. أسمع إني أحقر منك.. وكلما أتذكر الماضي أخجل منه كله.. من الطفولة والنضال وكردستان وكل شيء سويته بالسر.. إني أحقر منك.. لكن اللي وصفتهم بالحثالة علموني أش لون أرجع إنسان.. وأنت حبيبي لازم تشوف مثل ما شفت..
- ..
- لا تسكت «سلامي».. لا تسكت.. اسمع أنت كاذب كبير.. تكذب على نفسك.. والمتشردة أصدق منك على الأقل بإحساسها بجسدها.. تخون زوجتك بسهولة، وتخجل من اصطحاب متشردة سكيرة مسكينة اغتصبتها، وهي التي لجأت إليك طلبًا للدفء وكأسًا وقليلًا من الحنان.. اسمع أنا لا ألومك يا حبيبي.. لكن
وهنا صرخ بصوت كأنه من زجاج:
- لكن الإنسان حقير.. كلنا حقراء.. كلنا دون استثناء!..
ورفع ذراعه كي يربت على كتف «إبراهيم» العالية، ليقول بصوت شديد الخفوت:
- حقراء.. حقراء.. غير قادرين على الحب!.
كان الكلام يضرب عميقا بروح «إبراهيم»، الذي أوهم نفسه بحب زوجته طوال أكثر من عشرين عامًا.. فهو حقًّا هش، ضاجع أول متشردة ما أن غابت، وكأنه يضاجع عاهرة لأول مرة ناسيًا كل ذلك العنفوان في الفراش معها في كل الأمكنة.. عاود الإنصات وصاحبه يردف تحت ضوء مصباح الشارع ورذاذ الثلج المتساقط بهدوء:
- «سلامي».. كنت تظن أنك بلغت في الحب عمقه مع رفيقة عمرك قبل هذه التجربة، لكن يا «سلامي».. الحب شيء صعب.. صعب.. لا يحس به من تلوث بالثقافة.. الكتب.. السياسة.. وتخيل نفسه يستطيع أن يغير المجتمع.. فاضطر للتخفي والكذب والسرقة وقتل الخصم.. أليس هذا حالنا يا سلامي؟!
- ...
- الحب براءة..بساطة.. يحس به حقًّا الإنسان البسيط.. ساعي بريد.. معلم مدرسة بقرية.. فلاح.. بدوي.. ابن المحلة العامل.. أما نحن الحقراء فقد صعب علينا.. يجب أن نتعلم الحب من بائعات الخضرة الروسيات اللواتي عافتهن الدنيا..
- ...
- لا تزعل «سلامي» ما أقصد أتعبك.. لكن وجدت بالبشر المسحوقين صدق من لا مصلحة له في الدنيا، سوى بعيشها وقول ما يريد قوله!..
- ...
- لست واعظًا.. لكن أقول كل ذلك لأن بائعة الخضرة السمينة المسكينة التي أبكتني صور شبابها، تعلقت بك بجنون، وسوف تعمل المستحيل لتفوز بك في الفراش!.
كان يظن أن «شيركو» يخرّف في خضم العالم، الذي دخل فيه بعنف وبوقت قصير مفعمًا بقراءات الأدب الروسي.. رغم أنه في الحوار جاس كيان «إبراهيم»، الذي يهرب من اللمسة تلك بتجاهل كلام الصبي الشاعر الذي يقدح ذكاءً.. أوهم نفسه بذلك واعتنقه على السلالم المؤدية إلى الطابق الثالث، حيث واصلا الشرب والحديث عن خواء الإنسان إزاء الآخر والوجود في المواقف الحاسمة. أمعنا في الكشف، فصلا تجربة الجبل.. قسوة المواقف.. ضياع الحق.. اختلاط المعايير.. قارنا ذلك بالبشر الواقعين تحت سيطرة الديكتاتور؛ حيث كل شيء يلبس ثوبًا ليس له..
وفيما هما بذلك الحال رنّ الهاتف.. لم تكن لديهما الرغبة في الردّ.. كان التليفون أقرب لموقع جلوس «شيركو»، الذي شخص بعينين متسائلتين نحو «إبراهيم» منتظرًا الإشارة.. لم تكن لديه أية رغبة في الكلام مع الآخرين.. لكنه فكر باحتمال أن المكالمة من الدينمارك، فشعر بغتة بشوق عنيف لسماع نبرة صوتها، قبل أن يغرق في هذا العالم الغريب الممتع.. أشار له كي يرفع السماعة. وجعل يتأمل قسماته التي طفقت بمغادرة خدرها مع تطور حواره مع المتكلم في الطرف الآخر.. طوّل الحوار، مما جعل «إبراهيم» يسأل:
- مع من تتكلم؟
غمد سماعة الهاتف بكفة، وانخرط في ضحكة عاصفةٍ مرددًا:
- «سلامي».. أخذت عقلها.. تريدك الآن وإلا ستنتحر الليلة!.
وعاد يرطن بالروسية، مرددًا اسم الشارع ورقم البناية والشقة!. لم يحزر «إبراهيم» من تكون، فسأل ما أن وضع السماعة:
- من هي؟!.
- يا حبيبي.. ما عرفت.. من هي.. بائعة الخضرة الروسية السمينة.. جنت بِك.. تريد المجيء إلى الشقة.. تقول إنها ستأخذ آخر مترو، وستكون في المنطقة القريبة من سكننا مع صاحبتي.. «سلامي» جننتها.. دون كل من عرفتهم عليها من البيشمركة.. أنت الوحيد الذي جنت بك وستأخذ آخر مترو كي تفوز بقربك!.
ـ.. وماذا قلت لها؟!
- أعطيتها العنوان.. ألم تسمع؟!
- سمعت.. لكن!
قاطعه:
- بلا لكن.. تريدني أصير حقير مثلك فأقول لها لا تجيئي؟!
ـ..!.
- بعد ساعة سيقرعن الباب!.
- ماذا تريد؟!
سأل «إبراهيم» بسذاجة! و«شيركو» منشغل بصب المزيد من الفودكا في الكأسين، ويجيب ساخرًا:
- لا تغشم نفسك «سلامي».. تريدك الليلة كلك.. وبلا كذب.. أنت تريد وإلا ما بادلتها البوس.. هذا واحد.. الثاني كن مرة «زوربا» اليوناني كي لا تدخل النار بتركك المسكينة التي جننتها تبيت ليلتها وحيدة بالفراش!..
وغرق في قهقهة أربكت «إبراهيم» المضطرب، المحملق بقسماته التي تبدل انفعالاتها حسب موضوع الكلام.. فكلامه، عن «زوربا» ومقولته سمعها أول مرة منه.. إذ إنه لم يطلع على رواية «كزنتزاكيس»، نبرة تشي بظلال سخرية وخبث، أحس «إبراهيم» بتحوله من أستاذ إلى موضع اختبار من تلميذ ذكي، لكن سرعان ما تعود الملامح إلى سويتها، فتبدو شديدة البراءة ناصعة كوجه طفل.. لم تقرع الباب بعد ساعة.. ساعة ونصف. بدا القلق واضحا على قسماته وحركاته وكلامه مقابل هدوء «إبراهيم»، الذي شعر أنه يتخلص من محك هو الخاسر فيه بكل الأحوال.. هذا ما كان يردده صوت عقله بصمت.
- ما بك؟!. كأنك لا تسمع ما أقول!
- «سلامي» أفكر بهن.. يجوز ضيعن العنوان.. لا.. أكيد!.
- يجوز سكرت ورجعت نامت مثل ما شفناها من دخلنا شقة صديقتك!
هزّ رأسه قائلا بحماس:
- لا.. لا.. أنت ما تعرفهن.. ما تعرف..
في تلك اللحظة رنّ جرس الهاتف فانقض عليه، ألصقه بأذنه اليمني وأنصت.. ثم رطن بالروسية ووضع السماعة قائلًا:
- قلت لك.. «سلامي».. قلت لك.. ضيعن المكان.. هيا!.
- إلى أين؟!
رمقه باستغراب وهو ينهض من الأريكة متناولًا معطفه، وأجاب وكأن الأمر لا يستدعي مثل هذا السؤال:
- نجيبهن!.
غادر «إبراهيم» الأريكة.. نظر إلى الساعة الموضوعة على درج المكتبة.. كانت تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل. ومن حافة المكتبة وخلف زجاج النافذة، بان الثلج المتساقط ندفًا صغيرة يهبط من فوق غطاء مصباح الشارع المتدلي. تابع الندف الصغيرة المدورة في هبوطها البطيء، وهي تختفي خلف حافة النافذة السفلية غير آبه بصوت «شيركو» المهموم يستحثه على الإسراع. أحس بغبطة من يستيقظ من حلم جميل، ويظل مناخه عالقًا بالحواس.. فهاهو يشرع في الخروج في ليلة ثورة أكتوبر المثلِجة عام 1991 بصحبة شاعر مجنون، بحثًا عن امرأتين رآهما أول مرة في الظهيرة.. غبطة من تخلص تمامًا من مشاعر الذنب الدونية.. وكأنه لم يتزوج قط، ويعيش كل تلك السنين القاحلة مع امرأة واحدة، أوهمته أن الدنيا دونها خواء.. لم يزل يحبها.. أو يظن هكذا.. لكنه يعيش غبطة عصفور أفلت من قفص إلى رحابة السماء.. شعور قوي أحاله إلى لحظة تشبه هذه، حينما طاردهم الجيش في الأنفال حتى دخلوا الحدود التركية.. غبطة الخلاص المزدوج من المؤسسة الحزبية، ومن موت كان شبه أكيد. وقتها حضنها بقوة في الظلام الدامس قائلًا:
- لقد نجونا!
لبس معطفه الثقيل.. ودرج خلف «شيركو»، الذي فتح باب الشقة وبدأ النزول على السلالم.. أغلق الباب وتبعه. عندما جاوز باب البناية الثقيل المزدوج لفحته الندف البيضاء، فسكنت خطاه محدقًا بدهشة في البياض الغامر كل شيء، الأبنية.. الأشجار.. لعب الحديقة.. العشب.. النوافذ والأبواب.. اندفع خلف «شيركو» مستمتعًا بغبطة فريدة، هي مزيج من شعور بالتحرر من قفص أخر.. ولذة دخول عالم عاشه في مطلع حياته بعالم الروايات.. ولذة مصاحبة صبي مجنون.. وغرابة القصة وهما لا يعرفان إلى أين يتجهان..
كان «شيركو» يشتم ويلعن كلما مرَّا قرب محطة أو موقف حافلة فارغ.. أوقفتهما عدة مرات دوريات الشرطة..كان «شيركو» يستعين بهم سائلا عن المرأتين دون جدوى.. قرب الساحات ومحطات المترو، شاهدا عديد من طوابير البشر واقفة أمام بوابات مغلقة، تذكر «إبراهيم» أنها محلات كان يشتري منها الفودكا، فتعجب من ذلك؛ فالمحلات تفتح أبوابها في الثامنة صباحًا، فلماذا يقفون طوابير طويلة منذ الثالثة.. قال لـ «شيركو» ذلك.. فذهب نحو طابورٍ وعاد ضاحكًا؛ ليقول:
- «سلامي».. هؤلاء رفاقنا العمال الشيوعيون الروس.. يقولون : إن الاحتفال بثورة أكتوبر تقليد مقدس لديهم، وهم هذه الأيام لا يستطيعون شراء الفودكا بسعر السوق السوداء ؛ لذا يبكرون كي يحصلوا عليها بالسعر الرسمي.. تخيل «سلامي».. تخيل.. خمس ساعات تحت الثلج من أجل قنينة فودكا!..
- يا للمساكين!
قالها «إبراهيم» دون عاطفة.. قالها بغبطة الحالم.. كان فعلًا يعيش التفاصيل كالسائر في نومه.. ناظرًا بعينين سارحتين إلى «شيركو» الذي ينفجر بين مكان مفترض لهن ومكان ثانٍ غاضبًا لاعنًا.. ظلَّ مدهوشًا من حرارة مشاعره العاصفة وكأنه عاشرهن كل العمر. بعد ساعة من الدوران في الشوارع والساحات، التفت نحوه قائلًا:
- ما الحل؟!.
رد «إبراهيم»:
- نعود إلى الشقة، فسوف يتصلن مرة أخرى، فَضَبْط اسم الشارع ورقم البناية والشقة!.
حتى تلك اللحظة كان «إبراهيم» يظن أن ما يجري يشبه الحكاية، لكن ما أن عادا إلى الشقة وجلسا منهكين على الأريكة حتى رنَّ الهاتف. وصف لهن المكان وأرقام الشارع والبناية والشقة.. بعد دقائق ضج جرس الشقة عنيفًا، جعل «شيركو» يقفز نحو المدخل سائلًا عن الطارق، ليتأكد خوفًا من مافيات السرقة الروسية، التي انتشرت تلك الأيام بكثافة. جاء صوت صاحبته الغنج المبتهج بالوصول.. فتح الباب.
كان «إبراهيم» يقف مستندًا إلى إطار باب الغرفة الوحيدة، يحدق غارقًا في غبطته بالوجه الجميل الطفولي للسمينة، التي كانت تلهث موشكة على الاختناق من جرّاء السير الطويل وسلالم الطوابق الثلاثة. لكن عندما وقع بصرها على «إبراهيم».. ابتهجت.. وهرعت نحوه هاذية بالروسية مفردات يعرف طرفًا منها.. تعني حبيبي.. حياتي.. ومثل من يستيقظ من حلم أطل على وضعه البشري وقصته، وكأنه أغلق صفحات الرواية، فقابلها بحياد.. أعطاها خده بدل شفتيه لتطبع قبلة من نار. وجلس جوارها على الأريكة متحاشيًا الالتصاق بجسدها المتوقد متجاهلًا نظراتها المتوسلة، والغبطة الغريبة، غادرته فجعل يحدق بحياد فيما يجري قائلا في سره:
- لا تنحط.. فهل من المعقول أن تستبدل شريكة عمرك الجميلة بهذه الكتلة المشوهة التي لا تعرفها.. لا تنحط.. ولا تنقَدْ للشاعر الممسوس!
تلبك الجو.. والسمينة جعلت تتوسل، فشخص «شيركو» نحوه بعينين غاضبتين قائلًا:
- ليش تأذي المسكينة.. جننته وتتركها.. «سلامي».. معقول خطية!.
- لا تحرجني.. ولك ما عندي كل رغبة في مضاجعتها!
لا يدري بماذا وشوش بأذنها.. لكنه رجاه كي يدعها تنام جواره على الأريكة أو الأرض، قائلًا:
- إنها تقول فقط كي أسمع أنفاسه!
كان «إبراهيم» تلك اللحظة يأسره شعورٌ عميق بالذنب، أرجعه إلى القفص القديم البعيد في الدنمارك. كان محاصرًا بأنفاسها، ملمس جسدها الأبيض الناعم، لهاثها، أنفاس أولاده، أنفاس القصة في الجبل والمدن ومعسكرات اللجوء.. محاصرًا بالضمير الجمعيّ.
- لكن لا أريد يا حبيبي!.
- يعني أقول لها ذلك
- نعم!
صمت دقائق قبل أن يخبرها، تكسرت قسماتها ألمًا قبل أن تنفجر في نحيب عاصف، وكأنها فقدت أعز مخلوق.. شخص نحوه بعينين تقدحان بالنار قائلًا:
- «سلامي».. أ أنت قاسٍ إلى هذا الحد؟!.
- ...
حملق في كتلتها العظيمة الناحبة، في وجه «شيركو» الموشك على البكاء، في وجه التترية المحزون ، التي راحت تربت على ظهرها في محاولة لتهدئتها.. توارى شعور الذنب الخاطف للمشهد الدرامي الغريب الدائر تحت عينيه، ليس ثمة ممثلون، ثمة بشر يتألمون حقًّا. رفيقه الحميم، صاحبته التترية، وصديقتها السمينة الناحبة التي بدأت تهذي:
- من المؤكد أنها تستحضر حكاية عمرها الخاسرة الآن!
قال «إبراهيم» في نفسه، وقد وجد في تمنعه قسوة حقًّا:
- ما الضير في منح هذه الكائنة البائسة لحظات سعادة عابرة ولمرة واحدة فقط!؟
فكر في نفسه وتساءل:
- أليس من الأنانية ترك هذه المسكينة تتعذب؟!.
لم تكف عن النحيب، بل تصاعد مع محاولات «شيركو» والتترية مواساتها.. لا يدري بما كانت تهذي به.. وبأية كلمات كانا يواسيانها، لكنه تأمل الكتل الثلاث المهمومة المعذبة بوجوهها النازفة ألمًا.. وكفوفها الحائرة في تنقلها بين العيون والخدود والظهر وكأنها تعين الكلام. كان يرمقه بين الحين والحين نظرات لوم متمتمًا بالعربية:
- شوف.. شوف!
صار شديد الفضول، فسأل:
- ماذا تقول؟!
كان يمسك بذراعها التي تحاول ضرب وجهها:
- «سلامي» تتمنى الموت!.
عصفت به رغبة في الضحك شديدة.. كبتها بعناء مسرعًا إلى المطبخ ليصب كأسًا كبيرة من الفودكا. عبها دفعة واحدة وتمنى لو تلبسه روح «أسعد» التكريتي، الذي عرف كيف يصور حياته قبل أن تنفجر.. صب كأسًا أخرى. وسرى بجسده خدرٌ لذيذ سامعًا النحيب واللغط بالروسية يأتي من الغرفة. أقترب من نافذة المطبخ المطلة على الغابة البيضاء. تأمل سكون الأشجار وندف الثلج كفت عن التساقط. رجع إلى الغرفة وجدَ الكتل الثلاث لم تزل مشتبكة الأصابع تلغط، قال بهدوء:
- سأدعها تنام جواري، لكن هذي أخر مرة أراهما فيها!.
- مثل ما تريد.. آخر مرة!.. أخر مرة .
وهبط جالسًا جوارها على الأرض هامسًا بأذنها.. توقفت عن البكاء.. وحدقت نحوه بعينين فرحتين، غير مصدقتين. مسحت دموعها بباطن كفيها.. تمسكت بحافة الأريكة كي تُنهِض كتلتها العظيمة.. أخذت رأس «إبراهيم» وقبلته. وقالت شيئًا لـ«شيركو» الذي أسرع إلى المطبخ وجلب خبزًا وقطع لحم.. أكلتهما بفرح. أحس «إبراهيم» بإنهاك ورغبة في النوم.. قامت لتفرش في زاوية الغرفة البعيدة بكل نشاط. عدلت وضع الفراش ونظرت نحوه برغبة.. تجاهلها وخطا نحوه ليستلقي جوار الحائط معطيًا ظهره لها. أطفأ «شيركو» الضوء ونام على السرير الضيق مع التترية. لبث في العتمة جامدًا مفتوح العينين يحدق بالحائط الفارغ، وينصت إلى أنفاسها اللاهثة القادمة من خلفه.. قدر أنها تنتظر نوم الآخرين كي تقترب منه.. جرى الأمر بالضبط مثلما قدر.. زحفت بذراعها أسفل ظهره.. دفعها أول مرة بعنف، لكنها عاودت الكرة مرات إلى أن لانَ قليلا.. قليلا:
- سأدعها تفعل ما تريد!.
قال أخيرًا في نفسه مستسلمًا لأناملها الخبيرة ليعيش تجربة جديدة. على ضوء الفجر المتسلل من النافذة المجاورة، في الفضة الباهتة المختلطة بعتمة الغرفة وجد نفسه يركز على قسمات وجهها التي بدت شديدة الفتنة وهي تذوب.. كان يخوض فيها متتبعًا دوائر اللذة المنحدرة من خط منتصف الوجه إلى جانبي القسمات، وينصت لأنفاسها الناهجة، التي تكتم بعناء صراخ اللذة كي لا توقظهما. كان ينفذ نصيحة «أسعد» بالضبط.
استيقظ في الصباح وكأنه هبط من عالمٍ آخر على صوت يغني بالروسية قادمًا من المطبخ.. فرك عينيه وأمعن النظر من جديد بأرجاء الغرفة. لم يكن هنالك أحد.. سمع وقع أقدام تقترب. ظهرت من باب الغرفة بوجهها المتلألئ المسرور، وكأنها أسعد امرأة في العالم.. وخلفها وقف «شيركو» وعلى وجهة ابتسامة خبيثة، ينظر نحوه بعينين ثعلبيتين، وكأنه يقول رأيت البارحة كل شيء. كان «إبراهيم» غير مكترث، لكن ودّ لو يبقى وحيدًا.. ظل مرتبكًا واجمًا إلى أن نهض الثلاثة قائلين:
- سنخرج!
عندما أُغلق الباب، وجد نفسه وحيدًا من جديد.. ليس مثل تلك الوحدة عندما تركته وطارت إلى السماء، بل كان متشوقًا للدخول في المزيد من المغامرات في هذا العمر الفقاعة.