الأفعوان/ قصة قصيرة

محمود الصباغ
2023 / 7 / 25 - 04:47     

جون شتاينبيك
ترجمة محمود الصباغ
استهلال
"الأفعوان The Snake" قصة قصيرة للكاتب الأمريكي جون شتاينبيك (1902-1968)، كتبها في العام 1934 ونشرها في العام 1935 قبل أن يضمنها في مجموعة The Long Valley في العام 1938.
تمتاز القصة ببساطة لغتها وسهولة حبكتها السردي؛ لكنها في ذات الوقت تعتبر من أكثر أعمال شتاينبيك غموضا، بسبب رمزيتها المنفتحة على تأويلات عديدة قد تبدو جميعها صحيحة أو غير صحيحة. حتى القصة نفسها تؤكد ذلك على لسان د. فيليبس عندما يشير إلى "الرموز الجنسية النفسية"(كان شتاينبيك على دراية بنظريات التحليل النفسي الفرويدي وأعمال كارل يونغ أيضاً)، فهناك العديد من التلميحات ذات الطابع الفرويدي التي قد تجعل التفسيرات الجنسية هي الأكثر رجحانا مثل الدلالات القضيبية phallic للأفعوان "بطل القصة"، والإشارات إلى "السائل الحليب" المستخلص من نجوم البحر وتجربة تخصيبها... وغيرها. وإذا كان الثعبان يشير إلى الشهوة والرغبة فهو يوحي أيضاً بما محبط منها، أي الرغبات التي تعجز عن تحقيق المراد منها. ثم يضعنا شتاينبيك في مأزق حين لا يوضح طبيعة العلاقة بين الدكتور المخبري والمرأة، فهي تبدو غريبة عنه لا يعرفها ولا يعرف اسمها (ونحن أيضا لا نعرف اسمها)... كل شيء غامض حولها... غامض ومعتم، فثيابها داكنة، وشعرها أسود، وعيونها سوداء، ولا نكاد نعرف ملامحها ولا هويتها وكأن الظلام يلفها من كل جانب... وهذا يحيل إلى تأويل مشروع يسترشد أيضا بالمقولات الفرويدية: هل المرأة حقيقية أو حلم؟ واقع؟ أم وهم؟ هل هي هلوسة ناتجة عن الشعور العميق بالوحدة لدى الدكتور فيليبس كونه يعيش وحيداً ويقضي وقته بين حيواناته وأدواته مما يولد الكثير من مشاعر الإحباط والرغبات المكتومة فيكون الثعبان رمزاً للشهوة الفجة المباشرة التي لا يقوى على إخفائها وتكون المرأة معادلاً موضوعياً لواقعه المحبط (وبلغة فرويدية صرفة:
لرغباته المظلمة والاندفاعات المتخفية في الظلام، بمعنى رغبات تأتي من العدم لتضيع أيضاً في العدم... لا ننسى أن أول جملة في القصة تخبرنا بحلول الظلام، ومن الجمل الأخيرة تلكا التي تقول عن المرأة إنها ذهبت لكنه لم يسمع صوت خطواتها على الرصيف). وقد يقترح أحد التفسيرات أن هذه الرغبات المقموعة عند د. فيليبس تجسد جانبه الحسي العاطفي الذي تسببت درسته وأبحاثه بعدم ظهوره، فوجود المرأة في مخبره -هذا الوجود المظلم اللاعقلاني وصعوبة تفسيره- يجعله يشعر بالخوف، وهو عند هذه النقطة يستجيب لمخاوفه، حتى أنه يحاول تفسير هلع الناس من منظر الأفاعي المرعب وهي تصطاد فرائسها بالاتكاء على التأويل الذاتي والموضوعي للمفترس والضحية "فلو نظرنا إلى الموقف برمته من الناحية الموضوعية فلن نرى سوى فأر.. مجرد فأر.. وعندها سيزول هلعنا"، ولكن هل ينطبق الأمر عليه؟ لعل فيليبس في تبريره لما يحدث بين الثعبان والفأر يحاول تبديد أو إخفاء مخاوفه هو من حيث الجوهر، أي الخوف من أن يتحول هو إلى ضحية للثعبان (أو للمرأة)، ومثل هذا السقوط في الخوف غير المنطقي لشخص يتعامل بالعلم تعبر عنه تناقضات ردات فعل بين " إنه أجمل شيء في العالم " و "افظع شيء في العالم"، من اللافت للنظر الثبات النفسي للمرأة، حيث يتوقع القارىء أن تكون شخصية عصابية أو غير ذلك، ولعل شتاينبيك قدم دفقاً لها بهدف تقوية حالتها الرمزية من خلال التركيز على شخصيتها دون أي شيء آخر (نحن لا نعرف مهنتها ولا نعرف تفاصيل حياتها الاجتماعية ولا نعرف سيي اختيارها مخبر د. فيليبس.. وغيرها من المفاتيح الضرورية للتعرف عليها).. بقيت المرأة طوال القصة شخصية سطحية لا عمق لها وتكتسب قوتها ليس منها بل من خلال نظرة د. فيليبس لها ومن الصفات الموحدة والمتربطة بالسواد والظلام التي يقدمها الراوي... وهكذا لم يكشف شتاينبيك مشاعرها من خلال اختياره للصياغة الوصفية؛ فبقيت طوال القصة لغزاً مجهولاً. يمكن أن يُنظر إلى وجودها كنتاج للتفاعل الديناميكي لوظيفة د. فيليبس كعالم ولبعده العاطفي والرومنسي كإنسان ولو تابعنا أعمق قليلاً، يمكننا القول أنها تمثل قوة شريرة تهدد الدكتور الشاب بسبب رفضه الاعتراف بالجزء المظلم والفوضوي في نفسه، وهكذا سيكون مفهوماً لنا أن يقوم د. فيليبس بإعادة تدوير خوفه من الهدوء العقلاني إلى الرعب غير المنطقي، يغض النظر عن كونهما نقيضين مختلفين من وجهة النظر الفرويدية، تبلغ ذروتها في الإغواء الجنسي له (نتحدث هنا على المستوى الرمزي بطبيعة الحال) وصولاً إلى التمرد النفسي العقلاني ورفضه لما هو مجهول وغير قابل للتفسير. ويلخص شتاينبيك ذلك بقوله عن قصة "الأفعوان" في إحدى مقالاته: " كان يجب كتابة قصة الأفعوان. لا أعرف ماذا يعني ذلك ولكنه يعني شيئاً فظيعاً جداً ولا عقلاني. سأكتبها ببطء بطريقة لا واعية، وأراها الآن [قبل كتابتها] قصة مروعة وبغيضة؛ لا أعرف ماذا يعني ذلك بالضبط. لا أعرف. سأكتب الشيء المخيف رغم ذلك... لا بد من كتابتها. وإلا ستلتهمني".
طيب... ولكن يحتاج شخص مثل د. فيليبس لمثل هذه الإيحاءات حتى يخرج من ذهانه. وإذن لعل المرأة شخص حقيقي وليس وهم أو حلم! أي أنها مجرد شخص عادي يعلم بتجارب د. فيليبس، وقد أرادت أن تختبر مشاعرها في مشاهدة ثعبان يلتهم فريسته... مثلما يفعل معظمنا أثناء مشاهدة الناشيونال جيوغرافيك (ألم نلاحظ كيف تفاعلت جسديا مع لحظات انقضاض الثعبان على فريسته!) وقد غادرت مجرد أن أشبعت فضولها مثلما نفعل تماماً بتغيير المحطة إلى محطة أخرى.
هذا بعض مما لمسته في القصة (مع الاحتفاظ بمسافة جيدة عنها حيث لست متخصصاً في النقد الأدبي) وثمة الكثير من الغموض والالتباس في ثنايا القصة، ولذلك تبدو أي معالجة نهائية للقصة غير مجدية واختزالية وفي غير مكانها؛ وسواء كان د. فيليبس يعيش هواجسه الجنسية ورغباتها المكبوتة بتلك الطريقة أو بغيرها، وسواء كانت نلك المرأة مدفوعة بدافع جنسي، أو ديني، أو دافع حب للحيوان، أو دافع ذوق، أو دوافع انتقامية وإجرامية وغرائز أخرى، فهذه أمور لا يمكننا تحديدها على الإطلاق
ولعل أفضل الحلول هو أن تقرأ بنفسك لتقرر بنفسك ماذا يريد لك شتاينبيك أن تقرأ.
.....
انتهى
كان الظلام على وشك الهبوط في شارع مصانع تعليب السمك في "مونتيري"؛ عندما لوّح الدكتور فيليبس بالكيس الذي معه وألقى به على كتفه ليغادر البركة ويتسلق الصخور، بحذائه المطاطي، نحو الأعلى ويتابع سيره على طول الشارع المضاء لحظة وصوله إلى مخبره التجاري الواقع في مبنى صغير وضيق يستند جزء منه على أعمدة مياه الخليج والجزء الآخر على الأرض؛ ويزدحم على كلا الجانبين مصانع تعليب السردين الكبيرة المتراصفة.
صعد الدكتور فيليبس الدرج الخشبي وفتح باب مخبره، وما إن أصبح داخل المكان حتى اندفعت الفئران البيضاء من داخل أقفاصها تتحرك للأعلى والأسفل تتسلق الأسلاك، وفي الأقفاص المجاورة بدأت القطط الأسيرة في المواء تطلب الحليب. اقترب الدكتور صوب طاولة التشريح وأشعل الضوء فوقها وألقى بكيسه المبلل على الأرض؛ ثم سار نحو الأقفاص الزجاجية قرب النافذة حيث تعيش "الأفاعي المجلجلة"، انحنى بجسده قليلا ونظر إلى الداخل. كانت الثعابين متكومة على بعضها البعض وتستريح في زوايا القفص، غير أن رؤوسها، التي تحمل عيون مغبرة وكأنها تحدق نحو اللاشيء، كانت بادية للعيان بوضوح؛ وحالما اتكأ الدكتور الشاب على قفص الأفاعي، حتى تحركت ألسنتها المتشعبة السوداء من الأطراف والوردية من الخلف، تتمايل خارج أفواهها وتتطوع ببطء لأعلى ولأسفل. وما إن تعرفت على الرجل حتى سحبت ألسنتها إلى الداخل أفواهها وسكنت.
خلع الدكتور فيليبس معطفه الجلدي وأوقد الموقد الصغير، ووضع فوقه غلاية مليئة بالماء وألقى فيها علبة فاصولياء. ثم وقف يحدق في كيسه المبلل الملقى بجواره على الأرض، بعينين لطيفتين منهمكتين قلما تتوقفان عن الحركة لكثرة ما اعتادتا النظر في المجهر، بدا منظره نحيلاً ويرتسم على وجهه لحية شقراء قصيرة. وأثناء ذلك اندفع عبر المدخنة تيار هواء بصوت خفيف مثل صوت النفس ليصل إلى الموقد فينبثق وهج الدفء وينتشر في جو المخبر. وفي أسفل المبنى كانت الأمواج الصغيرة تغسل بهدوء الأعمدة من تحته؛ وعلى الرفوف المنتشرة في المكان تكدست الأوعية والأطباق الزجاجية المتنوعة وفيها عينات بحرية مختلفة يتعامل معها المخبر. وغير بعيد عن الموقد، فتح الدكتور فيليبس باب جانبي ودلف منه إلى غرفة نومه، وهي أشبه بزنزانة صغيرة تحيطها الكتب، وثمة سرير عسكري، ومصباح قراءة وكرسي خشبي غير مريح. خلع حذاءه المطاطي ولبس شبشباً جلدياً. وعندما عاد إلى الغرفة الأخرى، كان الماء فوق الموقد على وشك الغليان.
رفع كيسه من الأرض ووضعه على الطاولة تحت الضوء الأبيض وأفرغ دزينتين تقريباً من نجوم البحر ورصفها بجانب بعضها على الطاولة. وتحولت عيناه المنشغلتان إلى جهة الفئران التي كانت تتحرك بحيوية ونشاط وهي تقفز على أسلاك الأقفاص، تقدم الشاب نحو كيس ورقي وأخذ منه بعض الحبوب وضعها في أحواض التغذية ودفعها نحو الأقفاص فهبطت عليها الفئران من فورها وبدأت في التهامها. وتناول من أحد الرفوف الزجاجية قنينة حليب بين أخطبوط صغير محنط وقنديل بحر؛ ومشى إلى قفص القطط، وقبل أن يملأ آنية الطعام، كان قد وصل نحوه قط مرقط رشيق ونشيط، مد الدكتور فيليبس يده نحو القط وبدأ يداعبه بلطف للحظة ثم ألقى به في صندوق صغير مطلي باللون الأسود، وأحكم إغلاق الغطاء، ثم فتح صمام الغاز الذي اندفع إلى حجرة القتل؛ وبينما استمر القط في صراعه الناعم القصير داخل الصندوق الأسود، ملأ الدكتور فيليبس الصحون بالحليب، وأثناء ذلك اقترب منه أحد القطط ورفع ظهره ليحتك بيده فابتسم الشاب له وداعب رقبته.
هدأت الحركة داخل الصندوق، فأقفل الصمام لامتلاء الصندوق بالغاز. كان الماء يغلي فوق الموقد حول علبة الفاصولياء، رفع الدكتور فيليبس العلبة بملقط وفتحها وأفرع حباتها في صحن زجاجي وبدأ في الأكل وهو يتأمل نجوم البحر المرصوفة على الطاولة؛ ولاحظ سيلان قطرات صغيرة من سائل حليبي تخرج من بين أذرعها. انتهى من تناول طعامه، فقام بوضع الصحن في الحوض ومضى نحو خزانة المعدات، أخرج منها مجهراً ومجموعة من الأطباق المجهرية الزجاجية الصغيرة. ملأها بمياه البحر ورتبها في صف بجانب نجوم البحر. أخرج ساعته ووضعها على الطاولة تحت الضوء الأبيض، وما انفكت الأمواج تتحرك، كما لو أنها تتنهد، فتضرب الأعمدة من تحته. أخذ قطّارة من درج الطاولة وانحنى فوق نجوم البحر. في تلك اللحظة سمع خطوات سريعة وناعمة تصعد على الدرجات الخشبية، تلاها قرع قوي على الباب. بدى على وجهه الانزعاج وهو في طريقه ليفتح الباب؛ حيث كانت تقف امرأة طويلة ونحيلة ترتدي بدلة داكنة شديدة السواد- وشعرها أسود مسترسل يتدلى على جبينها المنبسط دون ترتيب كما لو أن الريح تهب عليه وتبعثره، لاحظ التماع عينيها السوداوين في الضوء القوي، لم تمهله السيدة كثيراً، إذ سرعان ما قالت بصوت رقيق أتى من أعماق حنجرتها "أرغب في التحدث معك؛ هل يمكنني الدخول". فقال بفتور: "أنا مشغول الآن... فكما ترين علي إنجاز بعض الأمور في وقتها" لكنه ابتعد عن الباب، فتسللت المرأة الطويلة إلى الداخل. وقالت "سأبقى صامتة حتى تفرغ وتستطيع التحدث معي".
أغلق الباب وأحضر الكرسي غير المريح من غرفة النوم. وقال معتذراً: "كما ترين، بدأت العملية ويجب إنهاؤها". كان قد اعتاد، بحكم عمله، أن يحضر كثير إلى مخبره فيتجولون في الأرجاء ويطرحون العديد من الأسئلة، وقد اعتاد أيضاً إشباع فضولهم بتقديم تفسيرات روتينية لطبيعة عمله، وهكذا لم يكن صعباً عليه أن يطلب منها دون تفكير الجلوس ريثما ينهي عمله ويكون جاهزاً للاستماع إليها في غضون بضع دقائق، وبدأ الشاب بجمع السائل من بين أذرع نجوم البحر بواسطة قطارة ثم يرش السائل في وعاء به ماء؛ ثم يحركه بلطف بالقطارة. وبدأ يشرح بإيجاز للسيدة الطويلة التي كانت تنحني متكأة على الطاولة: "عندما ينضج نجم البحر جنسياً، يطلق حيوانات منوية وبويضات عندما يكون البحر في حالة جزر، في تلك الأثناء أكون قد اخترت العينات الناضجة فأخرجها من الماء، وأجهّز لها هنا في المخبر ظروفاً تشابه حركات المد والجزر؛ وكما ترين فأنا خلطت لتوي مزيجاً من الحيوانات المنوية والبويضات؛ ووضعت جزءً منه في أعداد مختلفة من الأطباق الزجاجية المجهرية الصغيرة هذه وعددها عشرة. وبعد عشر دقائق من الآن سأقتل مزيج الطبق الأول، وبعد عشرين دقيقة سأقتل مزيج الطبق الثاني، وهكذا سأقوم المزيج في الأطباق العشرة كل عشرين دقيقة على التوالي؛ ثم أجمع العينات وأضعها على شرائح مجهرية للدراسة البيولوجية". توقف للحظة عن الشرح ثم قال:
- هل ترغبين في النظر إلى المجموعة الأولى تحت المجهر؟
- لا.. لا أريد، شكراً.
التفت نحوها بسرعة منزعجاً من جوابها، إذ لطالما رغب الناس في النظر إلى الشرائح المجهرية ، لكنها بدت له كأنها لم تكن تنظر إلى الطاولة أصلاً، بل كانت تنظر إليه هو. كانت عيناها تنظران نحوه، لكنهما بدتا كأنهما لا تريانه، وقد أدرك السبب في الحال، فقزحية عينها كانت غامقة مثل الحدقة، وليس ثمة لون يفصل بينهما. ورغم شعوره بالملل وهو يجيب على أسئلة البعض، فما يزعجه ويستفزه أكثر قلة الاهتمام بما يفعله. نمت بداخله الرغبة في إثارتها. فقال "بينما أنتظر الدقائق العشر الأولى، هناك أمر آخر ينبغي القيام به؛ أعلم أن البعض لا يحبذ مشاهدته، لذا اقترح عليك الدخول إلى تلك الغرفة حتى أفرغ". فقالت بنبرة رخوة هادئة: "لا... لن أدخل... لا بأس افعل ما يحلو لك. سأنتظر هنا حتى تنتهي للتحدث معي"؛ وكانت يداها تستريحان على حجرها باسترخاء تام وعيناها تلمعان، لكن جسدها بدى كما لو أنه في منزلة بين الحركة وعدمها. تأملها وهو يفكر: "من الواضح أنها تعاني من انخفاض معدل الاستقلاب الغذائي... الأيض لديها في أدنى مستوياته، تشبه حالتها حال الضفادع تقريباً... هكذا تبدو من النظر إليها لأول وهلة." تملّكته رغبة شديدة في إثارتها مجدداً واستحوذت عليه فكرة هزّها وإخراجها عن طورها. فأحضر وعاءً خشبياً صغيراً يشبه المهاد ووضعه على الطاولة، مع مجموعة من المشارط والمقصات وأنبوب ضغط في طرفه إبرة كبيرة مجوفة بما يشبه الحقنة. واتجه نحو حجرة القتل ورفع القط الميت الرخو ووضعه على المهاد وربط ساقيه بخطافات من الجانبين. وأثناء ذلك نظر بطرف عينيه إلى المرأة؛ التي كانت ساكنة بلا حراك وفي راحة تامة. كان القط في المهاد يبدو كأنه يبتسم ابتسامة عريضة تحت الضوء، وظهر لسانه الوردي ملتصقاً بين أسنانه الإبرية. قص الدكتور فيليبس الجلد من عند الحلق ببراعة. ثم أحدث شقاً طولياً بمشرط حاد حتى عثر على الشريان بأسلوب بارع لا شائبة فيه، ووضع الإبرة في الوعاء الدموي وربطها بالأحشاء، ووجّه كلامه للسيدة يوضح: "هذا سائل التحنيط... سأقوم لاحقاً بحقن كتلة صفراء في الجهاز الوريدي وحقن كتلة حمراء في الجهاز الشرياني- كل هذا طبعاً لشرح الدورة الدموية- هكذا هو حال دروس الأحياء "
نظرت المرأة حولها مرة أخرى. بدت عيناها الداكنتان كأنهما مغطاتان بالغبار. نظرت، بوجه خلى من أي تعبير، إلى حلق القط المفتوح. كان المهاد والشق نظيفين فلم تفلت قطرة دم واحدة. نظر الدكتور فيليبس إلى ساعته وأعلن: "حان وقت المجموعة الأولى". هزّ بضع بلورات من المنثول في الطبق الزجاجي الأول، لقد جعلته تلك المرأة يشعر بالتوتر، ليس هو فحسب كما يبدو، فقد بدأت الفئران في تسلق أسلاك قفصها من جديد وتصدر صريراً خافتاً ورقيقاً، وما زالت الأمواج تحت المبنى تضرب الأعمدة ضربات خفيفة، شعر الشاب ببعض الارتعاش، فقام بوضع قطع من الفحم في الموقد وجلس وقال: "يمكنني الآن الاستماع إليك، فليس لدي ما أفعله لمدة عشرين دقيقة"، وانتبه وهو يتأملها إلى تلك المسافة القصيرة بين شفتها السفلى وطرف ذقنها، فاجأها كلامه، فبدت كأنها تستيقظ ببطء، لتنهض من بركة وعيها العميقة. رفعت رأسها وعينيها المغبرتين تجولان في الغرفة ثم استقرت عليه.
- كنت أنتظر. وظلت يداها ممددتان واحدة حذو الأخرى على حجرها وتابعت تقول: "لديك ثعابين... صح؟"
- نعم، لماذا، أجابها بصوت عال وأضاف: "لدي حوالي دزينتين من الأفاعي المجلجلة. فأنا معتاد على سحب السم منها وإرساله إلى مختبرات مكافحة السموم". واصلت النظر إليه لكن عينيها لم تركز عليه، بل شملته بنظرتها وبدت كأنهما تنظر في دائرة كبيرة مرسومة من حوله، وقالت هل عندك ثعبان ذكر"..."هل لديك أفعوان مجلجل ذكر؟"... فأجاب: "حسناً، تحدث مثل هذه الأمور كما لو أننا نطلبها عمداً... وأستطيع أن أخبرك كيف أتيت ذات صباح ووجدت ثعباناً كبيراً في الداخل مع ثعبان أصغر منه. طبعاً هذا أمر نادر الحدوث جداً في الأسر. ولكن كما ترين، فقد بتّ أعلم أن في مخبري ثعبان مجلجل ذكر "
- أين هو؟-
لماذا تسألين؟، ها هو هناك في القفص الزجاجي بجوار النافذة.
- هل أستطيع رؤيته، وقد مال رأسها متأرجحاً ببطء دون أن تحرك يديها اللتان بقيتا ساكنتين
نهض الدكتور فيليبس، ومشى باتجاه القفص حيث أشار قبل قليل، وهناك تكوّمت عقدة من الأفاعي المجلجلة تتشابك أجسامها على الرمل في قاع القفص، لكن رؤوسها كانت واضحة، وقد أخرجت ألسنتها للحظة تلوّح بها للأعلى والأسفل لتستشعر الاهتزازات الآتية نحوها. أدار الدكتور فيليبس رأسه بعصبية. كانت المرأة تقف بجانبه. لم يسمعها وهي تنهض من الكرسي. لم يسمع سوى دفقة الماء بين الأعمدة وصرير الفئران على أسلاك القفص. قالت برقة وهدوء: "أي واحد هو الذكر الذي تحدثت عنه؟". فأشار إلى ثعبان غليظ الجسم لونه رمادي مغبر يرقد منفرداً في أحد أركان القفص: "ذاك هو؛ يبلغ طوله حوالي متر ونصف تقريباً. إنه من تكساس. عادة ما تكون أفاعي ساحل المحيط الهادئ أصغر حجماً. لقد أكل جميع الفئران أيضاً. عندما أريد إطعام الثعابين الأخرى لا بد لي من إخراجه بعيداً من القفص كي لا يلتهم طعامها"
حدقت المرأة في الرأس الجاف. انزلق اللسان المتشعب للخارج وظل يرتعش للحظة طويلة. "هل أنت متأكد أنه ذكر." فأجاب: "تبدو الأفاعي المجلجلة مثيرة للضحك أحياناً... لا أستطيع التعميم، فكل التعميم خاطىء، لذلك لا أحبذ قول تعميم قاطع عن هذا النوع من الأفاعي، ولكن- نعم- أستطيع الجزم الآن أن ذاك الأفعوان الرمادي المغبر هو ثعبان مجلجل ذكر". لم تتحرك عيناها عن الرأس المسطح ثم قالت فجأة: "هل تبيعه لي؟"، فقال كمن يصرخ "أبيعه!؟" فأجابته "أجل... ألا تبيع عينات من حيواناتك؟
- أووه نعم. بالطبع أفعل... لم لا أبيع؟
- حسن... كم تطلب؟ خمسة دولارات؟ عشرة؟
- أووه! ليس أكثر من خمسة. ولكن هل تعرفين شيئاً عن الأفاعي المجلجلة؟ فقد يلدغك!
نظرت إليه للحظة وقالت:" لا أنوي أخذه معي. سأدعه هنا، ولكني أريده لي... أن يكون لي... ملكي، وسوف أحضر وألقي نظرة عليه وأطعمه وأشعر أنه ملكي. "ثم فتحت حقيبة صغيرة وأخرجت خمسة دولارات وتابعت القول" هاك نقودك! لقد أصبح هذا الأفعوان الذكر المجلجل ملكي الآن"
بدأت مشاعر الخوف تتلبس الدكتور فيليبس.
- طيب... يمكنك أن تأتي وتنظري إليه كلما أحببت دون أن تدفعي ثمنه.
- ولكني أريده أن يكون لي.
- يا إلهي!. صرخ الدكتور الشاب وقال:" لقد داهمني الوقت "؛ ثم ركض نحو الطاولة وتابع:" لا بأس... تأخرت ثلاث دقائق، لن يهم كثيراً ليس وقتاً طويلاً ليؤثر على النتائج "ثم هز بلورات المنثور في الطبق الزجاجي الثاني وعاد أدراجه نحو القفص حيث كانت المرأة لا تزال تحدق في الأفعى.
- ماذا يأكل؟
- أطعمه فئران بيضاء من تلك الموجودة في القفص هناك.
- هل ستضعه في القفص الآخر؟ أريد إطعامه
- لكنه لا يحتاج إلى طعام. لقد تناول جرذاً كاملاً هذا الأسبوع. في بعض الأحيان لا تأكل الأفاعي يومياً، بل قد لا تأكل لمدة تصل إلى ثلاثة أو أربعة أشهر. كان لدي ثعبان لم يأكل لأكثر من عام."
- هل تبيعني فأرا؟ تساءلت بنبرة رتيبة خافتة
هز كتفيه وقال: "الآن فهمت قصدك، أفهمك تماماً فأنت تودين مشاهدة كيف تأكل الأفاعي المجلجلة. حسناً لك ما تريدين، ستدفعين خمسة وعشرين سنتاً إضافياً ثمن الجرذ، سوف ترين ما هو أجمل من مصارعة الثيران لو نظرت إلى الأمر من زاوية معينة. ولكن من ناحية أخرى ليس الأمر سوى ثعبان يتناول طعامه". قال ذلك بلهجة لاذعة؛ فهو لا يشعر بمودة نحو من يحوّلون نشاط الطبيعة إلى رياضة وإلى سببٍ للترفيه. هو ليس رياضياً بل عالم أحياء. يمكنه قتل ألف حيوان لأجل العلم والمعرفة، لكنه لا يجرؤ على قتل حشرة لأجل المتعة؛ هذه ليست أفكاراً طارئةً؛ فلطالما تداولها في ذهنه منذ أمد بعيد. أدارت رأسها ببطء نحوه وبدت ابتسامة على شفتيها الرقيقتين. وقالت: "أريد أن أطعم ثعباني؛ سأضعه في القفص الآخر" ثم تقدمت وفتحت الجزء العلوي من القفص ومدت يدها، وقبل أن يدرك فعلتها طار إلى الأمام نحوها وسحبها إلى الخلف فارتطم الغطاء بالقفص بقوة وانغلق، وخاطبها بقسوة: "ما في براسك عقل!... ماذا فعلت لتوك؟. ربما لن يقتلك للوهلة الأولى، لكنه سيؤذيك حتماً، برغم كل ما يمكنني فعله من أجلك". فقالت بهدوء "طيب... تفضل حضرتك وضعه في القفص الآخر إذن". أحس الدكتور الشاب بارتعاشة، لقد كان مصدوماً مما سمع، ووجد نفسه يتجنب النظر في العينين الداكنتين اللتين تنظران نحو اللاشيء، كأنهما تحدقان في الفراغ. نمى لديه شعوراً طاغياً دون معرفة سببه، لاشك أنه من الخطأ وضع جرذ في القفص الآن، هذا فعل خاطئ للغاية؛ بل خطيئة شديدة وإثم كبير. عادة كان يضع الفئران في القفص عندما يرغب شخص أو آخر رؤية، لكن هذه الرغبة الليلة أثرت عليه بشكل سلبي. حاول أن يفسر الأمر لنفسه دون جدوى.
التفت جهة المرأة وقال لها: "أمر جيد مشاهدته... سوف ترين طريقة عمل الأفاعي في حصولها على طعامها؛ إنه أمر يجعلك تبدين بعض التقدير والاحترام للأفاعي المجلجلة، فعلى الرغم من الهلع الذي ينتاب البعض لدى مشاهدتهم الأفاعي وهي تقتل فريستها، أعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى الوضع الذاتي للفأر؛ أي حين يضع المشاهد نفسه مكان الفأر، ولكن لو نظرنا إلى الموقف برمته من الناحية الموضوعية، فلن نرى سوى فأر.. مجرد فأر.. وعندها سيزول هلعنا". ثم تناول عصا طويلة مزودة بأنشوطة جلدية من الحائط وذهب نحو القفص ففتحه وألقى الأنشوطة على رأس الثعبان الكبير وشدها حتى أحكمها جيداً، فبدأ الثعبان يخشخش بجلبة وجلده السميك يتلوى حول مقبض العصا، فرفعه الدكتور فيليبس خارج القفص وأسقطه في قفص التغذية، تهيأ الثعبان واتخذ وضعية الهجوم، ثم بدأت الخشخشة تخفت رويداً رويداً، وزحف الثعبان يجر جسمه الضخم نحو زاوية القفص وتكوم هناك بسكون.
- كما ترين... هذه الأفاعي أليفة تماماً... فهي هنا منذ زمن، أظن إني قادر على الإمساك بها لو أردت، ولكن من يتعامل مع الأفاعي المجلجلة لا بد من التعرض للدغتها عاجلاً أم آجلاً؛ ولا أظن إني أريد تجربة ذلك الآن. ونظر نحوها قبل أن ينهي كلامه. وبدأ يفكر كم يكره وضع الفأر في القفص الآن، لكنها اقتربت نحوه وتحركت أمام القفص الجديد وعيناها ثابتتان نحو رأس الثعبان الحجري بلون التراب وقالت: "والآن ضع الفأر في الداخل هنا". فاتجه غاضباً نحو قفص الفئران وعيناه تتأمل تلك الكتلة الضخمة البيضاء الزاحفة وهي تتسلق شبك القفص باتجاهه وقال: "أي فأر؟" ثم فكر للحظة وقال "أي منها تختارين؟" واستدار نحو المرأة وقال بنبرة غاضبة: "أترغبين لو أضع قط بدل الفأر؟ عندها سترين قتالاً حقيقياً. قد يفوز القط، لكن إذا فعل ذلك فقد يقتل الأفعى. سأبيعك قط إذا أردت." لكنها لم تنظر إليه، بل قالت: "ضع فأراً... أريده أن يأكل". ففتح قفص الجرذان ودفع يده للداخل. والتقطت أصابعه ذيل أحدها، فرفعه ليظهر فأراً ممتلئاً وعينين حمراوين، جاهد الفأر للإفلات، لكنه لم يفلح، سحبه الشاب وبقي معلقاً من ذيله ورأسه للأسفل، وما هي إلا لحظات حتى هدأ الفأر كمن أصابه شلل. مشى به مسرعاً عبر الغرفة وفتح قفص التغذية وأسقطه على الأرض الرملية ثم صرخ:: انظري ماذا سيحصل الآن "، لم تجبه المرأة وإنما كانت عيناها ثابتتان على الثعبان الذي بقي بلا حراك في مكانه باستثناء لسانه الذي كان يتحرك بسرعة داخل وخارج فمه ليستنشق هواء القفص حوله. هبط الفأر على قدميه، واستدار نحو ذيله وتحسسه بأنفه العاري الوردي؛ ثم هرول بلا مبالاة عبر الرمال، وبدأت رائحته تنتشر في المكان كلما خطى. سقط الصمت على الغرفة ثقيلاً. ولم يعرف الدكتور فيليبس ما إذا كان الماء يتنهد تحت الأعمدة أم أن المرأة هي التي كانت تتنهد، وقد بدت له وهو يرمقها بزاوية عينه منحنية قليلاً ومتصلبة.
تحرك الثعبان بسلاسة وببطء، وانزلق بنعومة على الرمل. ولسانه يتحرك إلى الداخل والخارج، كانت حركة الثعبان تتسارع على أرضية القفص ويزيد من انزلاقه الناعم حتى بدا كأنه لا حركة له على الإطلاق؛ وفي الطرف الآخر من القفص، استدار الجرذ وثبت نفسه في وضعية الجلوس وبدأ يلعق شعر صدره الأبيض الناعم. في الوقت الذي حافظ فيه الثعبان على حركته وتتخذ رقبته شكل الهجوم المعروف عند هذا النوع من الأفاعي. ومع اشتداد الصمت وتثاقله، كان الدم يغلي في عروق الشاب ويتدفق في أنحاء جسده، فقال بصوت عال: انظري! انظري... هل رأيت كيف يحافظ على هذا الشكل المنحني لعنقه؟ إنها طريقته في الهجوم... هذا يعني أنه جاهز للدغ، الأفاعي المجلجلة حيوانات حذرة للغاية، لدرجة يمكن وصفها بالجبانة، تتمتع بآلية هجوم حساس جداً، يحصل الثعبان المجلجل على فريسته بطريقة غاية في المهارة والرشاقة، تشبه عمل الطبيب الجراح؛ فهو لا يخاطر بما يملك، ولا يضع في حسبانه احتمالات غير ناجزة"، وكان الثعبان قد بدأ في التحرك نحو منتصف القفص. نظر الفأر للأعلى ورأى الأفعى ثم عاد يلعق صدره دون اكتراث. قال الشاب: "هذه اللحظات هي أجمل ما يمكن رؤيته"... وكانت عروقه تنبض وتابع يقول. "إنها أكثر الأشياء فظاعة في العالم."
اقترب الثعبان الآن. رفع رأسه عن الرمل إلى الأعلى قليلاً وحرك ببطء ذهاباً وإياباً، كأنه يصوب نحو هدف، ويبتعد، ثم يقترب ويصوب. نظر الدكتور فيليبس مرة أخرى إلى المرأة وشعر بالغثيان؛ كانت هي الأخرى تتموج مثل رأس الثعبان، ليس كثيراً بل بشكل ضئيل، بما يشبح التلميح لتلك الحركة. نظر الجرذ لأعلى ورأى الأفعى فاستند إلى أرضية القفص بقوائمه الأربعة ثم عاد ووقف... وهووووب أتت الضربة؛ وجمد كل شيء مثل السكتة الدماغية، مجرد ومضة، من المستحيل رؤيتها. اهتز الجرذ وصرخ من شدتها، لقد كانت ضربة مميتة غير مرئية، عاد الثعبان مسرعاً إلى الزاوية التي أتى منها وسكن هناك، ولسانه يتحرك دون توقف إلى الداخل والخارج. "مدهش... عمل ممتاز!" قال الدكتور فيليبس بصوت عالٍ وتابع يشرح "لقد أتت اللدغة بين لوحي الكتف تماماً، لا بد أن أنيابه اخترقت القلب أيضاً". تسمّر الفأر في مكانه وبدأ يتنفس مثل منفاخ أبيض صغير، وفجأة خفق جسده وقفز في الهواء وسقط على جانبه. ركل رجليه بشكل متقطع لثانية وهمد ميتاً. استرخت المرأة بكسل كأنها نائمة، فسألها الشاب: "حسناً، كان الأمر مذهلاً أليس كذلك، لقد كانت تجربة مليئة بالمشاعر العميقة حقاً!". لم تبد المرأة أي مشاعر، بل وجهت عيناها الضبابيتان نحوه وسألت
- هل سيأكله الآن؟
- بالطبع سوف يأكله. فهو لم يقتله من أجل الإثارة. لقد قتله لأنه كان جائعاً.
انفرج فمها ومال من عند الزوايا قليلاً ونظرت مرة أخرى إلى الأفعى وقالت: "أريد أن أراه يأكله". وفي تلك اللحظة خرج الثعبان من زاويته من جديد، لم يكن هناك منحنى هجوم في عنقه هذه المرة، لكنه اقترب من الجرذ بحذر شديد، مستعداً للقفز للخلف في حالة مهاجمته. دفع الجسم برفق بأنفه الحاد وابتعد راضياً عن عمله وموت فريسته، ثم اقترب ولمس جسم الفأر بذقنه، من الرأس إلى الذيل كأنه يعاين حجمه ويقبله، وفي النهاية فتح فمه ووسع فكيه من أقصى الزوايا.
قرر السيد فيليبس الحفاظ على يقظته بأن لا يتلفت نحوها وقال لنفسه: "لو فتحت فمها بحرف واحد سأصاب بالغثيان والخوف" وقد نجح في إبقاء عينيه بعيدة عنها. وأثناء ذلك كان الثعبان يثبت الفأر بفكيه ثم يبدأ بصنع حركة تموجية بطيئة لابتلاعه، وكان يكرر هذه الحركة دون كلل؛ يثبت الفكين ويسحب بلعومه ثم يثبت الفكين ويسحب البلعوم وهكذا مرة تلو الأخرى. استدار الدكتور فيليبس وذهب إلى طاولة عمله وهو يقول: "لقد جعلتني أفوّت إحدى السلسلات، لن تكتمل اليوم". ووضع أحد الأطباق الزجاجية تحت المجهر ونظر إليها، ثم سكب بغضب محتويات جميع الأطباق في الحوض. كانت الأمواج قد خفتت بحيث لم يعد يسمع سوى همسة رطبة عبر الأرض. رفع الشاب طاقة صغيرة في أرضية المخبر عند قدميه ورمى نجوم البحر في المياه السوداء. توقف عند القط المصلوب في المهاد المبتسم ابتسامة عريضة تحت الضوء وكان جسده منتفخا بسائل التحنيط. فأوقف الضغط وسحب الإبرة وربط الوريد. وقال
- هل ترغبين ببعض القهوة؟
- لا، شكرا. سأغادر حالا
اتجه نحوها حيث وقفت أمام قفص الأفعى الذي كان على وشك ابتلاع الفأر الذي بقي منه جزء بسيط من الذيل الوردي والذي كان يخرج من فم الثعبان مثل لسان ساخر. اتسع البلعوم من جديد ليختفي الذيل بعد ذلك. ارتد الفكين مرة أخرى في تجويفهما، وزحف الثعبان متثاقلاً إلى الزاوية، وتكوم على بعضه ورمى برأسه على الرمال.
قالت المرأة: "إنه نائم الآن... سأذهب؛ لكنني سأعود وأطعم ثعباني بين حين وآخر. سأدفع مقابل الفئران. أريده أن يحصل على الكثير. ويوماً ما سآخذه معي." وقد بدت عينيها كأنها استفاقتا من حلمهما المغبر للحظة وتابعت تقول: "تذكر أنه لي... ملكي. لا تسحب سمّه. أريده أن يحتفظ به. تصبح على خير." ثم سارت بسرعة نحو الباب وخرجت. سمع وقع أقدامها على الدرج، لكنه لم يسمع خطواتها وهي تسير مبتعدة على الرصيف.
جذب الدكتور فيليبس كرسياً وجلس أمام قفص الأفعى. حاول تهدئة أفكاره وهو ينظر إلى الثعبان الكسول. "لقد قرأت الكثير عن الرموز الجنسية النفسية... لا يبدو لي أن هذا يفسر كل شيء. لعل هذا لأني أعيش وحيداً. ربما يجب أن أقتل الأفعى. لو كنت أعلم؛ لا، لا أستطيع أن أصلي من أجل أي شيء"
توقع الدكتور فيليبس عودتها، لكنها لم تأت... قرر أنه لو أتت سيدعها وحيدة مع الثعبان ويخرج: "لن أرى هذا الأمر اللعين يتكرر أمامي من جديد"
لكنها لم تأت، مرت عدة اشهر ولم تأت؛ كان يبحث عنها كلما تجول في المدينة، وكثيراً ما ركض، عدة مرات، خلف امرأة طويلة اعتقد أنها هي.
لكنه لم يرها مرة ثانية قط.