تنوير العقل العربي ؛ على هامش كتاب - الطرق إلى الحداثة -


محمد علي سليمان
2023 / 7 / 14 - 18:52     

نص من كتاب مخطوط بعنوان: " قضايا عربية راهنة "
التنوير هو تجذر أفكار العقل والفضيلة الاجتماعية والحرية السياسية، في المجتمع بحيث تساهم تلك الأفكار، كأيديولوجيا، بسيطرة قوى اجتماعية مهيمنة تجد في تلك الأفكار طريقها لكسب الشعب فكرياً ثم اجتماعياً بحيث تتحول تلك الأفكار إلى قوة مادية، وتأخذ المجتمع على طريق النهضة _ نهضتها هي كقوى اجتماعية في الأساس والتي هي في الوقت نفسه نهضة المجتمع _ الشعب، لأنه في هذه المرحلة من النهضة تتوافق القوى الاجتماعية المهيمنة الناهضة مع المجتمع، وتعمل من خلال تقدمها الاجتماعي على تقدم المجتمع أيضاً على عكس القوى الاجتماعية المسيطرة. وكما يقول غرامشي " على الإصلاح الثقافي والأخلاقي أن يكون مرتبطاً ببرنامج للإصلاح الاقتصادي، وبالإضافة إلى ذلك، فإن برنامج الإصلاح الاقتصادي هو بحد ذاته الطريقة العينية التي يتمثل فيها كل إصلاح ثقافي وأخلاقي " ، أي بقوى اجتماعية مهيمنة تملك مشروعها الاقتصادي، لأن النهضة بالأساس عمل اقتصادي لقوى اجتماعية مهيمنة، والتنوير بالأساس عمل فكري لتلك القوى الاجتماعية المهيمنة.
تاريخياً ربط الفيلسوف الألماني مندلسون التنوير بالثقافة، واعتبر أن هدف التنوير هو الإنسان. وقال: أن الأنوار المميزة لأمة من الأمم يجب أن تعبر عن نفسها: 1_ كقاعدة موسعة للمعرفة. 2_ ذات أهمية، أي طبيعة علاقتها بمصير: أ الإنسان ب المواطن. 3_ لها القدرة على الانتشار في جميع الظروف. 4_ في تناسب مع مهنة الإنسان. واعتبر مندلسون أن الحضارة تشير إلى الأعمال الزراعية واليدوية، وأن التنوير يشير إلى المعرفة العلمية والعقلية، ورأى أن المغالاة في التنوير تضعف الحس الأخلاقي وتقود إلى الأنانية واللادين والفوضى. وأن المغالاة في الحضارة تخلق الرخاء والحرب والمعتقدات الخرافية والعبودية. ورأى أنه حيث تتقدم الأنوار والثقافة بنفس الوتيرة تكونان معاً بالنسبة لبعضهما أفضل وسيلة ضد التحلل.. واعتبر أن ثقافة الأمة التي تتشكل في الحضارة والأنوار ستكون أقل عرضة للانحلال .
وفي ذات الوقت نشر الفيلسوف الألماني كانت مقالاً حول التنوير جاء فيه " إن بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير. وأن المرء نفسه هو مسؤول عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصاً في العقل، بل نقصاً في الحزم والشجاعة في استعماله دون إرشاد الغير. تجرأ أن تعرف، كن جريئاً في استعمال عقلك، ذاك هو شعار الأنوار.. كن جريئاً في استعمال عقلك، ذاك شعار التنوير " . واعتبر أن الجمهور لا يبلغ الأنوار إلا ببطء. ويمكن فعلاً لثورة أن تؤدي إلى الإطاحة بالاستبداد الشخصي والاضطهاد القائم على التعطش إلى المال والهيمنة، ولكنها لن تؤدي إلى إصلاح حقيقي لنمط التفكير . ويتابع " في تناولي لبلوغ الأنوار، الذي يتمثل بالنسبة إلى الإنسان في الخروج من القصور الذي هو مسؤول عنه، اعتبرت المسائل الدينية جوهرية، لأنه فيما يتعلق بالفنون والعلوم ليس للحكام مصلحة في ممارسة دور الأوصياء على رعاياهم. أضف إلى ذلك أن القصور في مجال الدين هو من بين أنواع القصور أكثرها مضرة وعاراً في آن واحد " .
إن ربط التنوير بالعقل سيطر على الفكر الغربي بشكل عام كما سيطر على الفكر العربي بشكل خاص، وساعد على ذلك فلاسفة الموسوعة الفرنسيين الذين اعتبروا أن التنوير هو العقل بالدرجة الأولى، والذي أنتج الثورة الفرنسية التي شكلت أفكارها عن الحرية والأخوة والمساواة العالم الحديث. حتى أن سعيد بن سعيد يقول " تحديث العقل العربي ذاته هو المعبر الوحيد الذي يملكه الإنسان العربي لكي يلج عالم الحداثة، لكي يعيش النهضة المأمولة التي ما فتئ يحلم بها منذ منتصف القرن الماضي " ، لكن الكاتب يشترط توسط التراث " ولكن هذه النهضة، التي هي وتحديث العقل العربي سيان، لا تكون إلا بتوسط طرف ثالث قوي وفاعل هو التراث " . وهذا التراث تحديداً هو " التراث العربي الإسلامي " . لكن تاريخ تنوير أيديولوجيا العقل لم ينتج سوى صراع العقل العربي الحديث مع التراث، فتنوير العقل يقوم في النهاية على القطيعة مع التراث. لكن التراث كوسيط يمكن أن يخدم أكثر، كما سنرى، في تنوير سوسيولوجيا الأخلاق.
يرى الدكتور حسن حنفي " أن التنوير العربي شيء يصنع، يتم خلقه من قبل أشخاص وجماعات وليس حلماً طوباوياً" . والتنوير الذي يحتاجه المجتمع العربي، على رأي شريف يونس، هو " ثمة حاجة متواضع ينحني من عليائه إلى الواقع الاجتماعي، ويتعلم منه، لا يدعي القيادة الحكيمة ولا يحتكر العقل، ولا يتكلم باسم كيانات عليا: الوطن والشعب والنهضة.. يبحث عن العقل في الممارسة الاجتماعية الواقعية في أبسط أشكالها، باعتباره مجرد جزء من هذا الواقع العريض " . ويمكن أن يكون ذلك عبر تجاوز إبداع النصوص المدونة إلى إبداع النصوص الجديدة التي تدون ظروف العصر الجديد في مرحلته الراهنة، والتعامل مع الواقع مباشرة . لكن الواقع العربي إضافة إلى إشكالية العقل فيه من حيث صراع العقل مع اللاعقل (العقل والنقل_ الأصالة والحداثة) هناك إشكالية الأخلاق والقيم التي تكرس خدمة المجتمع لا خدمة الفرد، وكما يقول شبلي شميل " ولا شك أن حكومات الشرق هي التي ساعدت على فساد الأخلاق.. فإن ملوك الشرق ما زالوا فوق شرائعهم فأماتت حكوماتهم من الأمة عواطف الشهامة والإقدام بما أثقلت به كواهلهم من الاستبداد وقوت فيهم كل الصفات الدنيئة بما أخمدت من قوى العقل بإطفائها نور العلم " . ولأن تنوير العقل لم ينتج عصر تنوير عربي اجتماعي، يمكن التساؤل: هل هناك طريق آخر لخلق تنوير عربي اجتماعي؟
هناك كتاب صدر عن سلسلة " عالم المعرفة " بعنوان " الطرق إلى الحداثة " يعتبر أن هناك، كما يدل العنوان، طرقاً متعددة إلى الحداثة، فهناك التنوير الفرنسي الذي ركز على أيديولوجيا العقل، والتنوير الإنكليزي الذي ركز على سوسيولوجية الفضيلة، والتنوير الأمريكي الذي ركز على علم سياسة الحرية. وذلك يعود إلى الأولويات التي واجهت القوى الاجتماعية في البلاد الثلاثة للدخول إلى الحداثة: فبما أن انكلترا خبرت إصلاحاً دينياً وثورة سياسية أمنت لها استقراراً سياسياً كانت بحاجة إلى أخلاق اجتماعية للدخول إلى الحداثة، أما فرنسا التي لم يكن لديها إصلاح ديني ولا ثورة سياسية فقد اختارت العقل للدخول إلى الحداثة، أما أمريكا التي كان لديها الإصلاح الديني والثورة السياسية كميراث من انكلترا فقد اعتبرت الحرية السياسية طريقها إلى الحداثة. ومعروف تاريخياً أن التنوير الفرنسي قام على مواجهة العقل مع الدين، لكن التنوير الأمريكي والتنوير الإنكليزي قاما على التوافق مع الدين، وبالتالي لم تحدث مواجهة بين الحداثة والتقليد (الأصالة والمعاصرة)، ولم يقف الحاضر في مواجهة الماضي ولم تخلق تلك الفجوة بين العقل والدين، كما لم يحصل نزاع بين السلطات المدنية والسلطة الدينية كما حدث في فرنسا.
معروف تاريخياً إن أول تماس حضاري للمجتمع العربي في العصر الحديث مع الغرب حدث مع الثورة الفرنسية التي أدخلت المفهوم الفرنسي عن التنوير _ تنوير العقل، ثم تابع الباشا محمد علي اعتماد التنوير الفرنسي. ولقد حاول المنورون العرب بعد محمد علي اعتماد التنوير الفرنسي _ تنوير العقل أيضاً، لكن الذي سيطر في الأزمنة العربية الحديثة والمعاصرة نتيجة عدم وجود قوى اجتماعية مهيمنة مما أدى إلى تشكل بنية اجتماعية كولونيالية، هو التوفيق بين الحضارة الأوروبية والحضارة العربية الإسلامية، وكانت النتيجة أن رفضت أخلاق الغرب حفاظاً على الأصالة العربية الإسلامية، واعتمد علم الغرب _ تنوير العقل في جانبه المادي _ الثورة التقنية، كما عمل الفكر التنويري العربي الإصلاحي على تطويع العقل ليكون في خدمة الدين، وهذا كان دور العقل بشكل عام في الحضارة العربية الإسلامية _ الغزالي، ولذلك فإن هناك مفكرون، مثل د غالي شكري ود مراد وهبة، اعتبروا أن العرب لم يعرفوا عصر تنوير حديث، وما قدمه المنورون العرب في العصر الحديث هي أفكار تنويرية.
وإذا كان المجتمع العربي الكولونيالي في حالة تفكك اقتصادي واجتماعي وسياسي وفكري، ويعاني من غياب أخلاق الفضيلة الاجتماعية (الشفقة والأريحية والتعاطف بين الناس، التوحيد بين الفضيلة الخاصة والفضيلة العامة)، ومن غياب العقل والعقلانية، ومن غياب الحرية بكل أنواعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، الأمر الذي جعل بعض المفكرين العرب، مثل د حسن حنفي ود فؤاد زكريا، يعتبرون أن المجتمع العربي يشبه ما كان المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى، دون أن ننسى سلامة موسى الذي يقول في كتابه " تربية سلامة موسى ": " وحين أتأمل شخصيتي وأهدافي أحس أنني أؤدي في مصر في القرن العشرين، ما كان يؤديه رجال النهضة في أوروبا بين سنة 1400 وسنة 1800.. ومن هنا دعوتي إلى العقل بدلاً من العقيدة، وإلى استقلال الشخصية بدلاً من التقاليد " . ولذلك اهتم المفكرون العرب المعاصرون بوجود عصر تنوير عربي جديد يساهم في النهضة العربية المعاصرة، وخاصة بعد فشل تجربة الباشا محمد علي النهضوية الحديثة لعدم اعتمادها على خلق مجتمع قوي وتركيزها على بناء دولة قوية على حساب الشعب _ تجاهل الطبقة البورجوازية، كما تجربة عبد الناصر في النهضة المعاصرة _ تجاهل الطبقة العاملة والاعتماد على الدولة أيضاً. ومن البديهي أن المجتمع العربي المعاصر بحاجة إلى كل أشكال التنوير الحديث: الفرنسي (تنوير العقل) والإنكليزي (تنوير أخلاق الفضيلة) والأمريكي (تنوير الحرية السياسية)، وهذه الأفكار الأوروبية التنويرية لم تكن غائبة عن المنورين العرب في العصر الحديث، وكمثال فقد طرح الكواكبي تنوير الحرية السياسية وطرح محمد عبده تنوير أخلاق الفضيلة الاجتماعية، وطرح طه حسين تنوير العقل، وطرح سلامة موسى العلم والتقنية. وكما يرى الدكتور عبدالله العروي فإن الأيدبولوجيا العربية المعاصرة تقوم على ثلاثة أركان: الشيخ داعية الإصلاح، والليبرالي داعية الحرية السياسية والتقني داعية العلم والعقل، وهؤلاء الثلاثة هم تلامذة جمال الدين الأفغاني: الشيخ أخذ عنه الإصلاح الديني، والليبرالي أخذ عنه الدستور والحرية السياسية ورجل التقنية أخذ عنه الصناعة والعلم والتطور. لكن دون جدوى، فقد انتصر اللاعقل في الحضارة العربية الإسلامية مع غياب المعتزلة وابن رشد اجتماعياً وفكرياً، كما غابت الحرية بكل أنواعها الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والفكرية مع الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي، وغابت أيضاً أخلاق الفضيلة مع وجود قوى اجتماعية مسيطرة في المجتمع المدني (القوى الدينية) وفي المجتمع السياسي (الأنظمة الحاكمة) تقوم سلطتها في جانب كبير منها على أخلاق اللافضيلة. ولابد من القول إن فلاسفة " سسيولوجيا الفضيلة " لم يكونوا رجال دين، ولم يجعلوا الدين مصدر الأخلاق، ولكنهم أظهروا تسامحاً نحو الدين، وكان أن توطد مناخ " أيديولوجيا السلام والتقارب " لا مناخ " الثورة الأيديولوجية والحرب الأهلية ". وفي التاريخ الإسلامي " فقد عبر إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي عن عدم رضا الشعب بالسلطة الخلافية، فتقدموا بطرح برنامج إصلاحي من شأنه أن يضمن السعادة في الدنيا من خلال تحقيق المساواة والعدالة والتضامن الاجتماعي وكذلك نعيم الآخرة، من خلال سلطة تعتمد نفسها على الأخلاق فتستطيع أن تبعث مبادئها في صفوف الشعب " .
لا يوجد تنوير بالمطلق، ولا يوجد تقدم للمجتمع بالمطلق، هذا إذا تجاوزنا التقدم الذي يفرضه الزمن والتقدم العلمي، التنوير والنهضة هما في النهاية فعل يأتي من داخل المجتمع عبر قوى اجتماعية مهيمنة تعتبر ولو في مرحلة النهضة أن مصالحها مرتبطة بمصالح المجتمع، ما يأتي من خارج المجتمع مجرد قشور تستهلك ولا تنتج إذا لم يكن هناك توافق بنيوي يسمح للأفكار التنويرية أن تتوطن اجتماعياً. وأعتقد أن التنوير العربي الجديد إن أتى عبر التراث العالمي أو التراث العربي، ولا يوجد فكر قومي تنويري يخلو من طرق التنوير الثلاثة: أخلاق الفضيلة والعقل والحرية السياسية، لن يصبح اجتماعياً إلا حين تصبح تلك الأفكار التنويرية أفكار قوى اجتماعية مهيمنة تستخدم تلك الأفكار التنويرية لقيادة الشعب خلفها باعتبارها تمثل المجتمع في تلك اللحظة التاريخية، وتقود المجتمع إلى الحداثة عبر نضالها لتحقيق مصالحها، كقوى اجتماعية، كما حدث في المجتمع الأوروبي في العصر الحديث مع الطبقة البورجوازية. ولكن لا بد من القول إن إحدى طرق التنوير الثلاثة يمكن أن تسيطر في مجتمع ما بسبب الظروف التاريخية التي ينفرد بها كل مجتمع، في تلك اللحظة التاريخية: من ناحية الأنظمة السياسية الحاكمة _ استبدادية أو ديمقراطية، والاقتصاد من حيث خضوعه للمجتمع المدني أو للمجتمع السياسي _ اقتصاد ديناميكي أو اقتصاد استاتيكي، كما يتبع دور الدين ومؤسساته في المجتمع والدولة _ أخلاق الفضيلة الاجتماعية أو أخلاق اللافضيلة. وهذا التركيز في مجتمع من المجتمعات على إحدى طرق التنوير الثلاثة التي يقول بها كتاب " الطرق إلى الحداثة " لا يعني إهمال الطريقين الآخرين، بل يعني أن الظروف الاجتماعية لذلك المجتمع تجعل إحدى طرق التنوير تلك أكثر تأثيراً وفعالية في تلك الظروف الاجتماعية بحيث يمكن أن تهيمن عبر قوى اجتماعية في المجتمع المدني ثم في المجتمع السياسي. والسؤال الذي يطرح نفسه أي من طرق التنوير الثلاثة يحتاجه المجتمع العربي في هذه الظروف الاجتماعية المتفجرة دينياً إذا لم نقل طائفياً ليسير على طريق التنوير الجديد _ طريق الحداثة؟

الطرق إلى الحداثة_ غيرترود هيملفارب_ ترجمة محمود سيد أحمدـ سلسلة عالم المعرفة العدد 367 عام 2009.