الغوص في الرمال – رحلة بحث عن حُشيفة الحقيقي


محمود حمدون
2023 / 7 / 13 - 12:21     

رؤية شخصية لرواية "حُشيفة "
للروائي المتمكّن : حامد الشريف
====
" تمهيد"
----
من خَبَرَ السير في رمال الصحراء وبخاصة الناعمة سيدرك مدى شقاء المشي فيها, سيعلم أن جهد السير وقطع المسافة وصولًا لغاية محددة يشقّ في دروبها على المرء, أنه وحتى اللحظة لا تزال الصحراء تستعصى على الغرباء, السائرين على أقدامهم أو الوافدين بدوابهم التقليدية أو الحديثة .
غير أن للصحراء متعة لا تضاهيها أخرى, غموض يحيّر النفس ويأخذ باللب ويدفع المرء دومًا للبحث في المطمور.
"حُشَيْفة", عمل سردي مرهق , ليست رواية لقارئ يرغب في استهلاك الوقت, كما لا تصلح للقراءة قبيل النوم, فهي لا تنتمي لطائفة الأعمال الأدبية التي يُقبل عليها القرّاء كبديل للمهدئات التي تعين على جلب النوم,
كما قلت هي رواية مُجهدة, مرهقة, استشعرت فيها رائحة الصحراء, جفافها نهارًا وبرودتها القارصة ليلًا, أزعم أن عواء بعض الذئاب كانت تصل إلى أذنيّ كلما أوغلت في الرواية وتعمّقت في فصولها,
غير أنها شيّقة, يغلب عليها طابع السهل الممتنع في لُغتها. لذلك سأبتعد قدر استطاعتي عن القوالب الجامدة التي تبدأ بها أي رؤية نقدية قائمة على تذوق شخصي للعمل, , لم أتعجل, تركت الأمر حتى أنغرس بكليّ داخل أودية الرواية السردية وسراديبها الكثيرة.
كما القيت خلف ظهري كل نهج نقدي متعارف عليه, على رغم أنني لا أميل لأيّ منها, أرى أن قولبة العمل الأدبي وفق نظرية أشبه بمن يئد مولوده, اعتصم في ذلك برأي أقتدي به لأستاذي الدكتور: عبد الرحيم الجمل, أستاذ الأدب الأندلسي والوكيل السابق , بكلية دار العلوم بجامعة الفيوم, في معرض حديث دار بيني وبينه قبل سنوات عن حدود الإبداع, القيود المفروضة على الكاتب, إذ عقّب قائلًا: المبدع يغيّر واقع الأدب بقلمه, هو يضع الحدود والقواعد, هذه يسير عليها العوام من بعده لفترة حتى يظهر مبدع آخر ليشيّد بنيانًا جديدًا, يضع أسس مغايرة, ثم نظر عميقًا في عيني وقال منهيًا الحديث: لا تلتفت لآراء هؤلاء, فالملتفت خاسر دومًا.

" نقطة ارتكاز"
---
ينبغي أن أشير إلى نقطة هامة, أنني بنيتُ رؤيتي لرواية " حُشَيفة", على سابق قراءة لعمل آخر للمؤلف, وعلى هدي العملين, أزعم أنني كوّنت تصوّرًا مقبولًا لي فقط, غير ملزم لأحد, عن النمط السردي هنا, عن بعض المعضلات التي واجهتها في العمل.
"حُشَيفة".. رواية تقع في ثلاثمائة وأربع وسبعين صفحة", "هي أقرب إلى فلاة مترامية الأطراف, تحسبها في البداية دون معالم تهتدي بها, طرقها وعرة, مسالكها ضيقة ملتوية, استغرقت وقتًا طويلًا في اللف والدوران حولها وحول بعض شخصياتها الرئيسة, غير أنني بسابق خبرة في العيش في الصحراء لأعوام وإن كانت قليلة إلاّ أنها منحتني القدرة على الغوص في الرمال, حدّة بصر لسبر أغوار ما وراء التلال البعيدة. ففعلت ذلك وأزعم أنني اقتربت حد الفهم والإدراك الصحيحين للعمل ( فهم وإدراك وفق رؤية شخصية )

ذلك ما دعاني لترك دلالة العنوان, ألّا أقف أمامه كثيرًا, فإيماني عميق بأن سياق النص سيكشف عن دلالة الاسم, لذلك لم أستغرب أن المؤلف في نهاية عمله السردي الوفير, اختصّ فصلًا كاملًا بهذا الاسم وهو الأخير للحديث صراحة عن "حُشيفة", كصفة, تعني تصغير لكلمة " حُشفة", هذه الأخيرة هي قطعة الخبز الصغيرة اليابسة, أو ما يبقى من الزرع بعد الحصاد, أن الاسم دلالة على صغر الشيء وتفاهته حتى أنه لا يضيف شيئًا لصاحبه.
" حُشيفة", رواية بحث عن الذات, رحلة هروب من صفات أُلصقت عمدًا ببطل الرواية وراويها الرئيس " رامي", الذي ورد اسمه على استحياء في الثُلث الأخير من العمل, وأن البطل نفسه بدا أنه نسي اسمه الحقيقي تحت عنف الصفة التي ألحقتها المجهولة به, المرأة التي أصر " رامي", على الحديث عنها بصيغة ضمير الغائب( قلت لها- قالت لي, هي, ضَحِكَتْ......" )
وهي الأنثى التي ما فتئت تتقوّل على الراوي قائلة " كل حُشيفة ولها مقرمش" على وزن المثل المصري الشهير" كل فولة ولها كيّال", أو أن التشابه بين الرجل والمرأة هو معيار الارتباط أو التجاذب بينهما والذي قد ينتهي في صورة رسمية أو غيرها.

الرواية في مجملها, تتماس قليلًا مع أدب الرحلات وقد ظننتها في البداية هكذا لسرد وتفصيل عن المكان بجغرافيته " الكفرون", افتتان الراوي بالشام بمدنه وقراه , غير أن الغوص في الكثبان السردية في العمل, التي تفيض برمال ناعمة هنا وحراشف ونتوءات هناك, أوضحت لي أن العمل لا ينتمي لأدب الرحلات وأنّ تَصَورْ هذا هو من قبيل السذاجة والميل المريح لتفسير الأمر على هذا النحو. لذلك أميل لتفسير رؤيتي وفق بعض ما ورد على لسان الراوي ..
يقول" رامي":(وقفت أمام النافذة فاتحًا ذراعيَّ, مبتسمًا للجبال والأشجار, للطيور ولكل الكائنات التي الفتها وألفتني في الأيام الماضية , وقد لا أستثني من ذلك حتى الجمادات فكثير من الحجارة رافقتني وأظنها عاشت آلامًا وأفراحًا عشتها ...
كنت أدين بالفضل للتجارب التي عشتها في " الكفرون", بعد أن أنضجتني كثيرًا خلال أيام قلائل, أظهرت لي بجلاء أنني لا أقلُ شأنًا عنها, بل ربما فقتها ذكاءً وقدرة على فلسفة الأمور وربطها بالواقع , اردت فقط الخروزج من سجنها والعثور على نفسي المفقودة )

العبارة السابقة لخّصت مجمل الصراع النفسي للراوي, فوجدتني أمام نوع يختلف من أدب السرد, رحلة بحث عن الذات في المكان, بين الوجوه, رحلة بدأت بتحقير لشخصية رئيسة في الرواية " عودة", ثم تبيّن أن " رامي", يعكس على " عودة", هذا والذي ظننته أيضًا في البدء شخصية افتراضية من بناء خياله, يعكس عليه كل ما بداخله من سواءت ألصقتها " هي ", به ,
عير أنه صراعه خلال رحلته في " الكفرون", بشخصياتها, تلالها, جغرافيتها البديعة الجمال, نظرته الفوقية إلى " عودة", وبعض سكان القرية الوادعة, أوصلته في النهاية إلى حالة من التوازن الداخلي, الذي افتقده " معها", تعلّم بضعة دروس من "عودة" والآخرين تلخّصت في قوله: " من خلال علاقتي بعودة خرجت بقناعة قوية, هي ألّا أحفل بشيء من هذا طالما كان الإنسان يملك قيمًا وأخلاقيات تصعد به إلى السماء...
كان "عودة", على رأس هؤلاء الذين أظن أنني لن التقيهم كثيرًا في حياتي. لذلك احببته بصدق, ولا أخاله سيُمحى من ذاكرتي أبدًا"

"رامي", حُشفة , بداخله, يشعر بضآلة عميقة اُستزرعت بداخله من بعيد, فنمت ثم نمت وأصبحت شجرة وارفة, تظلل عقله, تتهدل فروعها وأوراقها على عينيه وعقله وقلبه فلا يرى الناس من حوله إلّا بصورة مضطربة .
و ما ترك واحته وأهله ( الذي لم نعرف عنهم شيئًا ولم تتطرق إليهم الرواية على رغم تشعب أوديتها السردية الكثيرة), إلاّ فرارًا من دونية غرستها " هي" به, فراح يضرب في الأرض, يرقب البشر, يبحث عن من هم أقل منه في التفكير والمظهر, التعليم, ليستشعر قدرته وتفوقه. يبعث " لها" رسالة من أعماقه " وإن لم تصل إليها فعلًا", ربما ترضية لنفسه بأن هناك من هم أدنى منه بكثير, أنها مخطئة حد الخطيئة التي لا تغتفر في وصفها له والتقليل دومًا من شأنه!
يرد عليها "رامي", في متن العمل, قائلًا: (إلاّ أـنني هذه المرة لن أكترث لما تقول, بل سأبتسم في وجهها, وسأبتعد عنها وأنا على يقين من أنه سيأتي اليوم الذي تتغيّر فيه زاوية رؤيتها للأشياء. ستعلم عندئذ أنني ابنها "رامي", والذي في ظني أحبته جورجيت رغم حُسنها وجمالها, وتمنّته زوجًا لها, وأحبّه "أبو غسان" رغم سعة اطلاعه وثقافته وعلمه واحترمه كهل العيادة رغم اختلافي معه, رغم عمره المديد الذي أفناه بين دفات كتب التاريخ... كذلك أحبه "عودة", الذي نجح في ما فشلت "هي" فيه! استطاع بصمته العجيب إخراج الإنسان الحقيقي الذي كاد يضيع بداخلي, غيّر الكثير من مبادئي.. أنا لست "حُشيفة", الذي تتألم من أجله, وتشعر بغصة في حلقها وهي تنظر إليه )
"

أزمة " رامي "
أنه بدأ رحلته بتشوّه نفسي شديد, بتقزّم " زرعته " هي" بداخله سنوات عمره الفائتة, ظنه أنها ما رأت فيه خيرًا, ولا نظرت إلّا إلى الجانب المظلم في تكوينه الجسدي وشخصيته, فانطلق بصحبة حقيبته الفارغة إلاّ من ملابسه وأمواله, الممتلئة حد الاكتظاظ بتراكمات من عقد النقص الشديد حيال الغير وشهادات علمية لا تغني ولا تسمن. لذلك لا غرابة أن يبحث عن ضحية تتسم بضحالة فكرية , غياب للجمال الجسدي أو الوسامة حسب زعمه, وجد ضالته فيه, اتخذه رفيق درب وصاحب رحلة, فكان " عودة", الغريب في اسمه أيضًا عن الشائع من الأسماء بالقرية, الصامت, المناقض شكلًا وموضوعًا وقدرة مع " حًشيفة", فكان الراوي يُسقط كل نقيصة بداخله على عودة, فيتقبّلها هذا بصمت ولا ندّعي أنه تقبّلها بصدر رحب فلم نعلم شيئًا عن حالة الفوران الثائرة بداخله إلاّ ما سمح به النص في صورة شذرات هنا أو هناك.

أظن " كقارئ", أن " عود" هو المعالج النفسي الذي صوّب وصحّح كثيرًا من مسارات " رامي" الفكرية, فوضعه بنهاية الرواية على طريق جديد أو ربما أنهضه على نفس الطريق لكن بعدما زالت غشاوة التحقير الداخلي من نفسه, بعدما تعمّد بأفكار " عودة" التي لم يبح بها صراحة لكن تساقطت منه بقصد أو بغير ذلك طوال مسافة الرحلة المكانية والزمانية.
ما كان ل" رامي", أن يتخلّص من نَيْر " حُشيفة", الذي وضعته " هي ", أو أمه التي تجاهل الإشارة لها طوال أحداث البناء السردي العميقة , إلاّ بعد ملاصقته ل " عودة" فكان يقارن حال بحال, فيتكشّف أمام عينيه وضع خاطئ , يرى صور مغايرة لأخرى متجذرة بداخله.
أظن كذلك أن " عودة" هو بطل الرواية بحق, هو طريق الآلام الذي خاضه " رامي", ليتطهر من أدران" حٌشيفة" القميئة . ينزع عن جسده رداء ألبسته أمه إياه لسنوات كثيرة, حتى التصق بجسده وأصبح علامة دالة على وجوده.

" حُشيفة", ليست مجرد راوية شائكة الدروب والأزقة السردية, ليست حديثًا عن شخصية مضطربة من بداياتها, بل هي كشف وتعرية لكل " حُشيفة". بنهاية قراءتها, حين تطويها, المؤكد أنك لن تتركها وتمشي بسلام, فحالك بعد القراءة سوف يختلف بشدة عمّا قبل.

وما أظن " حُشيفة", إلّا قد ُحشر بين شقيّ رحى, ( هي و عودة), انحصر بينهما رامي, عُصِر بشدة, انصهر بتأثير الضغط الشديد. بفعل ما رآه من مشاهداته وما أحدثته تفاعلاته اليومية خلال فترة إقامته في " الكفرون", مع " عودة", فكان هذا الأخير يقوّم كل سالب تركته " هي " في نفس " رامي", وأجزم أن أعتى أستاذة العلاج النفساني غير قادرين على الإتيان بما أتى به " عودة", بصمته وبلاهته, قبحه الذي رآه " حُشيفة" في بدء اللقاء بينهما.
اتبعت " هي" منهجًا طويل الأمد لتشويه نفس وروح " رامي", قد نجحت في ذلك, وخلقت مسخًا " حُشيفة", بينما أفلح " عودة", بهدوئه, تعليقاته المقتضبة, سماته الغريبة أن يجرجر الراوي إلى طريق مغاير, دخله بإرادته ك"حُشيفة", وخرج بنهايته بريئًا معافى ك" رامي"

" حُشيفة" رواية زاخرة بالسرد الثقيل, القفزات من قصة لأخرى, من حكاية لثانية ثم العودة دون تمهيد لقصة سابقة, كأنما يتعمّد الكاتب أن يُظهر على لسان الراوي مدى تشتّته النفسي, صعوبة الإمساك بمعضلاته التي أخفاها بين طيّات وثنايا حكايته الطويلة .
كما أخفى " رامي- حُشيفه", شخصية " هي " المحيّرة للقارئ في البداية, سحبني من يدي بإرادتني ثم عنوة بين سراديب روايته. ربما مُلتُ لفرضية أنها حبيبته أو امرأة التقاها وتركت في نفسه أثرًا سلبيًا, غير أن الإشارة إليها دومًا بصيغة الضمير, قد خلا النص كليّة من إساءة مباشرة لها أو نقدًا جارحًا على رغم ما ألحقته "هي" بنفسية وروح " رامي", ذلك ما دفعني للتريث حتى النهاية.
كما أن الكاتب لجأ إلى أحد أشهر تقنيات القصة القصيرة, والتي تميزها, مزجها في روايته ليُخرج لنا نهاية فارقة مدهشة, تدعو للإعجاب, تثير العقل, إذ وجدت أنه يتحدث عن "أمه" لا عن امرأة عادية مهما علا شأنها لديه, وما فعلته بها, حينئذ أدركت الحذر السردي في التعامل مع هذه الشخصية المجهولة للقارئ المعلومة حد التشبّع للراوي .
ما أحدثته "الأم" من تشرّخات وتصدّعات, عالجه " عودة", ببساطة ترتقي إلى حد السذاجة .
" حُشيفة", رواية أجهدتني بالفعل, في قراءتها, مسايرة أحداثها, متابعة ما حوت من دلالات سياسية عن الصراع العربي- الإسرائيلي, ذلك التداخل بين موروث ديني عن القردة والخنازير, ما يفعله الصهاينة ببعض البلاد العربية, السلوك الديني الظاهري المتمثل في التمسك بظاهر الطقس الديني, تناول فكرة التنمّر والوصاية الدينية بشكل عابر, أن آفة مجتمعاتنا أننا ننصّب أنفسنا رقباء على بعضنا البعض, أنّا ننشغل بالآخرين بقدر يتجاوز بمراحل كبيرة انشغالنا بأنفسنا.( لا أخفي أن هاجسًا تردد بداخلي حيال تلك التفريعات السردية سواء سياسية أو غيرها, أن الكاتب يستهلك قضايا تُخرج عمله عن سياقه النفسي بامتياز, بخاصة وأن الحديث عن الصراع العربي الصهيوني, تناوله " رامي", باقتدار من حيث التحليل أو الرؤية أو تعقب آراء بعض الشخصيات الثانوية في العمل, ذلك أمر لفت نظري بخاصة حين رأيت طلاقة الفكر حينها, خلوّه من اضطراب الشخصية, فرجاحة الفكر هنا متأصلة, بينما هي غائبة بعض الشيء حين يتطرق السرد إلى " هي ", فينشب الصراع النفسي من جديد!, فليت الكاتب انكب بقوته على عالم أبطاله النفسي المتداخل- المشوّه, لأصبح الأمر مختلفًا!)
----------
بنهاية رؤيتي هذه يتبقى أن أقول: عزيزي الروائي القدير, حامد الشريف..
-كلنا حُشيفة وفق روايتك, كلنا مشوّهون بصورة أو بأخرى, كلنا لدينا في أعماقنا عُقدة " هي", أو " هو "

-كلنا نأمل في " عودة", لمرافقتنا في رحلة عودتنا إلى أنفسنا التائهة .
تحياتي لإبداعك
الفيوم - مصر