قراءة في كتاب -الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتصادي-


صلاح الدين ياسين
2023 / 7 / 12 - 00:28     

كتاب من تأليف جون بركنز الذي سبق أن عمل كمستشار اقتصادي لدى شركات أمريكية ليجد موطئ قدم له في عالم المال والأعمال، قبل أن يوطن عزمه على البوح بخبايا عمله، ومن ثم نشر الغسيل القذر لحقيقة النظام الاقتصادي السائد المفرغ من أي التزام أخلاقي. وهكذا، فقد أضاء المؤلف على خطورة الدور الذي يؤديه "قراصنة الاقتصاد" وتداعياته الوخيمة على اقتصادات الدول "النامية"، فضلا عن أساليب عملهم الخبيثة، مستحضرا تجارب شخصية له أثناء تجواله بين مجموعة من الدول التي عمل بها.
يُعرف الكاتب قراصنة الاقتصاد بأنهم "خبراء محترفون ذوو أجور مرتفعة، مهمتهم هي أن يسلبوا ملايين الدولارات بالغش والخداع من دول عديدة". وتكمن مهمة قراصنة الاقتصاد في خدمة ما يسميه بركنز ب "الكوربوقراطية" التي تحيل إلى تحالف من الشركات والبنوك والحكومات يوحد بينها هدف مشترك ألا وهو الحفاظ على النظام الرأسمالي القائم، وذلك من خلال إضفاء المصداقية على تمثلات زائفة من قبيل أن النمو الاقتصادي يخدم البشرية جمعاء، وسرعان ما تقطف ثماره الفئات الدنيا من الناس الأقل حظا، وهو ما يدعوه بعض الاقتصاديين بنظرية "التقاطر إلى الأسفل"، بحيث عرى الكاتب زيف هذه النظرية.
كما يحرص قراصنة الاقتصاد على تبرير منح قروض من لدن المؤسسات البنكية (كالبنك الدولي) لفائدة الدول "النامية" من أجل إنجاز مشاريع البنية التحتية (موانئ، طرق، محطات توليد الكهرباء... إلخ) والتي تشرف عليها شركات أمريكية تجني مكاسب مالية ضخمة من وراء تلك الاستثمارات، بحيث يجنح قرصان الاقتصاد إلى تضخيم توقعات النمو الاقتصادي الذي قد يترتب على تلك المشاريع والإفراط بالتفاؤل بشأنها على نحو لا يخلو من غش وخداع.
وعليه، يدخل في نطاق مهام قراصنة الاقتصاد إغراق الدول بقروض ذات فوائد مرتفعة بشكل يجعلها عاجزة عن سداد ديونها، فتصبح بذلك مسلوبة القدرة والإرادة، ومجبرة على تنفيذ إملاءات الدائن (السيطرة على تصويت الدول في الأمم المتحدة، إنشاء قواعد عسكرية، السيطرة على مقدرات الدول المَدينة وثرواتها الطبيعية كالبترول... إلخ).
كما يشدد المؤلف على أن ما يجعل الناس المتضررين يُحجمون عن المقاومة هو الدهاء الذي تتمتع به الكوربوقراطية، وسدنتها من قراصنة الاقتصاد الذين يبدون كأشخاص عاديين في مظهرهم، ويتمتعون بمهارة فائقة في الخداع والتلاعب والإغراء، وحين يخفق هؤلاء في إنجاز مهامهم في الحالات النادرة التي يحدث فيها ذلك، يجري اللجوء إلى "فصيلة الثعالب" من رجال وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) الذين يتولون القيام بالمهام القذرة التي تشمل اغتيال القادة السياسيين الذين يرفضون الإذعان لتوجهات الإمبراطورية المالية العالمية (يستشهد الكاتب باغتيال خايمي رولدس رئيس الإكوادور الذي تحدى شركات البترول الأمريكية، وعمر توريخوس رئيس بنما الذي دافع عن الحقوق السيادية لبلاده في ملكية قناة بنما)، فضلا عن خلق قلاقل واضطرابات أهلية تمهيدا لتخطيط انقلابات عسكرية في الدول غير الحليفة. وعندما يفشل هؤلاء أيضا مثلما حدث في العراق يتم توسل الأساليب الكلاسيكية عبر الزج بالجيش في الحرب، والذي يتعمد إحداث دمار هائل في البنية التحتية الذي يذهب ضحيته السكان المدنيون، في أفق ظَفَر الشركات الأمريكية والأجنبية بصفقات إعادة الإعمار الضخمة.
على امتداد صفحات الكتاب، استغرق جون بركنز في سرد وقائع مثيرة مستمَدة من تجربته الشخصية في مجموعة من دول العالم (إندونيسيا، إيران، السعودية، بنما، الإكوادور... إلخ)، إذ يفصح مثلا عن الضرر الهائل الذي خلفته شركات النفط الأمريكية في الإكوادور، بحيث أفضت صناعة النفط إلى اختفاء مساحات كبيرة من الغابات المطيرة، ومصير الانقراض الذي بات يتهدد مجموعة من الأنواع الحيوانية، فضلا عن الإبادة الثقافية للحضارات المحلية، دون إغفال الأضرار الصحية الجسيمة الناجمة عن تلوث المياه. والأنكى أن ذلك التحول البترولي لم تستفد منه الطبقات الشعبية المسحوقة التي ظلت ترزح تحت نير الفقر والبطالة، إذ أن القسط الأوفر من عائدات النفط تحصل عليه شركات البترول، بينما يخصص الباقي لسداد الديون الخارجية الضخمة التي أثقلت كاهل الإكوادور، في حين لا يبقى سوى النزر القليل لتغطية نفقات الإنفاق على القطاعات الاجتماعية وسياسات محاربة الفقر.
وفي الختام، يشير صاحب الكتاب إلى أنه لا يسعنا التعويل على وسائل الإعلام المهيمنة لإحداث التغيير المرتجى لأنها جزء من الكوربوقراطية ومملوكة في معظمها لشركات اقتصادية كبرى، بقدر ما يعقد الأمل على الناس العاديين لإضفاء طابع إنساني على النظام عبر إتيان سلوكيات معينة (التقليل من الاستهلاك الجامح للبنزين وغيره من المنتجات، توظيف وسائل الاتصال الحديثة للتنبيه على خطورة النظام ونشر الوعي الأخلاقي بين الناس... إلخ). فالمؤلف لا يزعم بأنه من دعاة تقويض المنظومة من أساسها والإطاحة بالمؤسسات القائمة، بمقدار ما يرى أفقا لاستخدام فائض القوة والثروة التي في حوزة الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول والشركات الثرية لحلحلة الأزمات الإنسانية المتفاقمة (الجوع، التفاوتات الطبقية الفاحشة... إلخ) بدل تصعيدها والتسبب في إشعال فتيلها.