الشهداء يعودون غدًا -قصة قصيرة-


محمد عبد حسن
2023 / 7 / 9 - 00:48     

إلى: الطّاهر وطّار
"عندما خرج قائد وحدة الدرك، قابلته حركة غير عادية الناس، رجالًا وأطفالًا، وعجائز، يتراكضون إلى أسفل. نحو سكة القطار وهم يهتفون:
- الشيخ العابد.. الشيخ العابد.
ركض بدوره، وعند السكة وجد دركيين آخرين يقفان عند رأس جثّة الشيخ العابد ويبعدان الناس.
- لقد ألقى بنفسه تحت القطار.
قال السائق.
- رآه بعضهم وهو يلوّح بهذه الرسالة.
قال دركيّ، فتناول قائد الوحدة الرسالة وتمتم:
- إنّها فعلًا.. سبحان الله العظيم"(*).
قال ذلك دون أنْ يقرأ الورقة. ثمّ انحدر إلى حيث يقف الدركيّ الآخر قرب جثّة ملقاة على قضبان السّكة الحديد، فيما وجهها ملتصق بالأرض. بصعوبة شقّ قائد وحدة الدرك طريقه إلى هناك بين الناس المتدافعين بعد أنْ أخفى الرسالة في جيبه واطمأنّ على وجودها فيه.. مفكّرًا أنّه تخلّص من العابد بن مسعود الشاوي، مسبب حركة التشويش في القرية منذ أيّام:
- التخلص من مسؤول قدماء المجاهدين ومسؤول الفرع النقابي ليس صعبًا. من السهل أنْ نلفّق لهم قضية اختلاس، فالأموال الضائعة كثيرة.. نرسل لهم نساءً من جماعتنا، أيّ قضية تشوّه تاريخهم، ثمّ نلقي بهم بعيدًا.
حينها كان قد وقف على نهر السّكة. ثمّ قفز ليصبح عند الجثة. وإذ أمر أحد الدّركيين برفع الرأس ليراه بوضوح أدرك أنّه ليس الشيخ العابد! ذلك ما أكّده أيضًا بعض القريبين منه وهم يتفحّصون الوجه:
- ظننّاه سي العابد. كانا يقفان معًا ينتظران القطار.
ودّ لو أنّ الناس انفضّتْ قبل حضوره حاملين خبر موت العابد ليسهل التخلّص منه لاحقًا دون إثارة أيّ ضجة. ذلك أصبح مستحيلًا الآن. قد يكون العابد في مكان ما بين الناس.. يراهم ويرونه:
- آه لو كان تحت يديّ الآن.
وخبط محفظته الجلدية بكفّه. ثمّ انتبه إلى أنّه وحيد، قرب الجثّة، مع الدّركيين وأشخاص يمرّون سريعًا.
قال موجّهًا كلامه إلى العنصرين الواقفين خلفه دون أنْ يلتفت إليهما:
- عرفتم مَنْ يكون؟
- لم يعرفه أحد. قد يكون من قرية مجاورة.
- والعابد؟
- لم نره. وصلنا متأخرَين.
كان المساء قد حلّ. يبدد الغبار المرتفع الضوء المنبعث من بعض مصابيح مضاءة على رصيف المحطة وعلى جانبي الطريق الصاعد نحو القرية. لم يصادف وجوده في الشارع في مثل هذا الوقت ليرى ذلك، وقتها يكون في المسجد القريب من مقرّ وحدة الدرك: يسبغ وضوءه.. ثم يختار له مكانًا في الصفّ الثاني خلف الإمام. بعدها تكون الطريق التي تقوده إلى لقاء مسؤولة الإتحاد النسائي قد خلتْ أو كادتْ.
وحين لم يعدْ لبقائه، في المكان، أيّ معنى؛ أمرَ الدّركيين بتغطية الجثّة بالقماش الأبيض الطويل، الملفوف على صدر الرجل وكتفه، لحين رفعها. وابتعد وهو يدمدم:
- يجب أنْ أعرف مَنْ يكون.. فهو الآخر وصلته برقية من مكان ما!
بحث في جيوبه عن قصاصة الورق ليقرأها علّه يجد شيئًا.. خيطًا يوصله إلى رأس البلاء: (ماذا لو كان أحد أعضاء فرقتي من العائدين؟! ربي لا يهنّيك يا العابد).
وتحت نور شحيح لعمود إنارة يميل موشكًا على السقوط فتح الورقة وقرّبها من عينيه: (غدًا.. غدًا؟! يبدو أنّنا غرقنا). ثم مضى بعد أنْ طوى الورقة على عجل ووضعها في محفظته الجلدية السوداء متجهًا إلى مقر وحدة الدرك.
في طريقه إلى هناك.. واجهته الكثير من صور الشهداء المنتشرة في الساحات والمعلّقة على الأعمدة وواجهات البيوت. كان ينظر إليها كمَنْ لم يرها من قبل:
- الشهيد القائد.. الشهيد القائد! كلّهم جعلناهم قادة وأبطالًا حتى أولئك الذي ماتوا بعد انتهاء حرب الاستقلال. بعضهم كان كذلك.. ولكنّنا الآن لا نريد قادة وأبطالًا، يكفينا ما أنتجنا منهم. مَنْ يُقنعهم، إذا ما عادوا ورأوا صورهم هذه، أنّهم ليسوا كذلك؟ لن يبقى لنا كرسيّ واحد نجلس عليه.. هذا إذا اقتنعوا بالجلوس! الليلة يجب أن ترفع كل هذه الصور.
قطعتْ تفكيره رؤيته شيخ بلدية القرية ومدير مدرستها يسير تائهًا على الجانب الآخر من الطريق:
- سمعتَ المصيبة يا سي عبد الحميد؟
لم يكن هذا منتبهًا له، وربما لم يره. كان يسير متلفّتًا كمَنْ يبحث عن شيء أضاعه. صرخ قائد وحدة الدرك؟
- يا شيخ عبد الحميد.. يا سي عبد الحميد.
- ما بك؟! هل استلمتَ، أنت الآخر، برقية!؟
- نحن نستلم البرقيات كلّ يوم، وننفذ ما فيها وفق القانون.. أي والله وفق القانون.. وفق القانون يا شيخ عبد الحميد. إلّا هذه المصيبة.
كان شيخ البلدية يحدّث نفسه وهو ينظر إليه: (يريد أنْ يكذب عليّ، وكأنّي لا أعلم أنّه يغيّر محضر التحقيق لمَنْ يدفع أكثر.. ويبلّغ مَنْ تصله بأسمائهم مذكرات قبض وإحضار قبل أنْ يذهب لاعتقالهم على رأس قوة لا تستطيع القبض حتى على ذبابة. المرأة التي جعلنا زوجها شهيدا بقدرة قادر ثمّ حوّلت بيتها خمّارة أخبرتني بذلك. قالت أنّها أرسلتْ إليه ثلاث زجاجات من خمرة غير مغشوشة بعد أنْ أعلمها أنّه سيفتّش دارها مساءً.. وغيره كثير. وإلا من أين له كلّ هذا العزّ الذي يعيش فيه! أكيد لم يهبط عليه من السماء، والله وحده يعلم كيف أنّ جميع أعضاء فرقته قُتلوا فيما أسر هو وحده!).
وحين وجد أنّ قائد وحدة الدرك مازال يقف أمامه قال:
- مصيبة العابد بن مسعود الشّاوي؟! أنا نفسي ذهبتُ إلى سي قدور وتحدثتُ معه. أقسمَ لي بأغلظ الأيمان أنّه دفن مصطفى، ولد العابد، بيديه. كيف يعود!
- يبدو أنّ حركة التشويش التي افتعلها العابد قد تمددت إلى القرى المجاورة.
- كيف يعني تمددت؟
- رجل ألقى نفسه تحت عجلات القطار قبل قليل. أنا قادم من هناك الآن. كانت معه ورقة مثل تلك التي وصلتْ للعابد.. غير أنّها تقول أنّ الشهداء سيعودون غدًا. لم نتعرّف بعد على الرجل.
- كنت أظنّ أنّ العابد وحده مَنْ تسلّم رسالة. الحمد لله أنّه قد ذهب عقله.. وإلّا ما كنّا عرفنا شيئًا.
- علينا، نحن المسؤولين، أنْ نتصرف.
- وهل تظنّني أنتظر! جهزّتُ قائمة بأسماء مَنْ عليك اعتقالهم بصفتك قائد وحدة الدرك.
- بأيّ تهمة؟
- وهل يستعصي عليك ذلك! جد لهم تهمة من عندك.. عدم حيازتهم أوراق ثبوتية.
مضى قائد وحدة الدرك. (كلّ العائدين ليس معهم أوراق ثبوتية.. فلماذا هؤلاء بالذات! مؤكد أنّ معهم مصطفى ابن الشيخ العابد، فهو الذي قتل أباه الخائن. سيصفّي حسابه معه ثمّ يطلق الباقين. ولكن ماذا لو كان بين العائدين أحد من فرقتي؟ هم جميعا رأوني حين تركتُ المدفع الرشاش وركضتُ نحو العدو.. وأنا رأيتهم وهم يُقتلون. الله لا يهنّيلك بال يا العابد).
ما تبقّى من الطريق قطعه وحده متعمّدًا تغييب وجهه عمَّنْ يصادفهم. إلّا أنّ ذلك لم ينجح تمامًا، إذ وضع أحدهم يده على كتفه:
- ما بك يا رجل! وكأنّك تركض هاربًا من حرب!
التفتَ لتستقرّ عيناه على وجه منسّق القسمة، فقال محدّثًا نفسه: (إلى ماذا يلمّح هذا؟).
- خير يا سي المانع.
- هل صحيح أنّ الشهداء سيعودون غدًا؟
تفاجأ قائد وحدة الدرك. كان يظنّ أنّه الوحيد الذي يعرف ذلك:
- وكيف عرفتَ؟
- كلّ أهل القرية يتحدّثون، سيملؤون المحطة غدًا.
تركه ومضى ليبقى منسّق القسمة يتحدّث وحده: (هو لا تهمّه عودتهم، فقد كان أسيرًا وعاد.. لن تغيّر عودتهم شيئًا من وضعه. أنا مَنْ يجب عليه أن يخاف، فقد هدّدني مصطفى بعد أنْ وشيتُ به، والحمد للّه أنّه لم يرَني حتى قُتل. ولكن ماذا لو عاد؟).
حين مرَّ قائد وحدة الدرك أمام بقالة.. نظر إلى الداخل. لم يكن هناك أحد. كان قدّور وحده يعيد رصف بعض العلب على الرفوف. تجاوز الباب بخطوات.. ثمّ عاد ودخل عليه:
- يمسّيك بالخير يا سي قدّور.
- سيدي القائد! هل اشتكاني أحد؟
- لا.. لا. فأنت ماضيك أصفى من الذهب، ولا همَّ لك الآن إلّا أنْ تعيش وتعيّش الجيش الذي معك.
- وماذا افعل. ذهبوا هم وبقينا نحن. قازوزة؟
- كنتَ مع مصطفى ولد العابد؟
- نعم.. كان معي، نحمل بريد الولاية، وقد انفجر عليه لغمان، ودفنته هناك بيديّ هاتين!! أنت ثالث شخص يسألني اليوم عن ذلك: عمّي العابد صباحًا.. وعصرًا سي عبد الحميد.. والآن أنتَ! حتى أنّني بدأتُ أشكّ في ما حصل، وأنّ مصطفى قد يعود اليوم أو غدًا.
- تقول يعود!
- وكيف يعود وقد دفنته بيديّ! قازوزة؟
كان القائد قد ابتعد بخطى متسارعة.. فيما ظلّ قدّور واقفًا لحظات والقازوزة بيده قبل أنْ يضعها على الرفّ القريب منه ويخرج بعد أنْ أطفأ الضوء في دكّانه.
في مقرّ وحدة الدرك.. بدا الوضع قلقًا. كان الظلام يغيّب الكثير من المعالم في الخارج.. فيما العناصر يعاودون المرور، على غير العادة، أمام باب غرفة القائد وقد بسط محفظته السوداء أمامه. كان يحدّث نفسه وكأنّه يناقش أفكاره مع شخص يجلس أمامه.. ولم يكن هناك أحد:
- الاجتماع سيكون في مقرّ وحدة الدرك. لن ندعو له منسق قسمة قدماء المجاهدين؛ فأغلب العائدين رفاقه، وسيُسرّ بعودتهم لانتشاله من المكان الذي ركنّاه فيه.. أمّا مسؤول الفرع النقابي فلا يرى فيهم غير أصوات يضمّها لقائمتهم الانتخابية، هذا الكومينيست مازال يفكّر بعقلية الثوري مع أنّنا أبعدناه عن الناس وعن الحزب. الحقّ عليّ أنّي تركتهم يخرجون ولم أعتقلهم.. ماذا يعني عدم وجود مذكرة قبض وإحضار؟ ثم أنّ الشهداء أنفسهم، لو عادوا، سيبقون حائرين أمام المسمّيات والمقارّ الكثيرة للأحزاب والحركات التي توالدتْ بعدهم.
بسط القائد ورقة بيضاء أمامه وشرع يسطّر عليها ما سيطرحه في الاجتماع: منع التجوال جزئيًا غدًا.. توزيع عناصر وحدة الدرك والشبيبة والكشافة في الطرقات وعلى مداخل القرية وبالأخص محطّة القطار.. التأكد من الأوراق الشخصيّة لكلّ من يرونه مريبًا.
عندما أتمّ ذلك.. رفع سمّاعة الهاتف ليتّصل بمنسّق القسمة:
- آلو.. سي عبد الحميد المانع.
- معاك حضرة القائد.
- ضروري عقد اجتماع الآن في مقرّ وحدة الدرك.
- سبحان الله.. كنتُ سأطلب منك ذلك، ولكنّك رحلتَ وتركتني.
- مَنْ ندعو له؟
- شيخ القرية فقط.



(*): قصة (الشهداء يعودون هذا الأسبوع) للراحل الطّاهر وطّار.. عن نسخة إلكترونية تضم قصص ( الشهداء يعودون هذا الأسبوع / الطاحونة / ممرّ الأيام / رقصات الأسى).