المستبد وحقيقته بين جيلين


فالح عبد الجبار
2006 / 11 / 3 - 10:14     

المستبد هو اسم حاکم، وهو اسم کتاب. اما الحاکم فيقف اليوم أمام القضاء في مرافعات شبه‌ هزلية‌ تحول فكرة‌ القانون ال? هباء، بدل ان تکون وسيلة‌ للوصول ال? الحقيقة‌. ولسدّ هذ الفراغ يأتي دور الأدب. وکتاب زهير الجزائري «المستبد» قد يکون محاولة‌ لتجاوز هشاشة القانون.
وهو مسعى خاص، بحرفية التعبير، وبمجازيته أيضاً. وهو خاص لأسباب عدة. فهو محاولة لرؤية ما لا يُرى: التنقيب في حقبة البعث التوتاليتارية وهي في عز جبروتها، وذروة هوسها بالتكتم والاسرار. وخاص، بالمعنى المعرفي: فهو يتجاوزمنطق تعذر تحليل المعلومات في بلد ترتعد فرائص الدولة فيه من أي تداول للأخبار، ومن أي افتضاح لبواطنها الملغزة، ناهيك عن عسرالتحليل بوسائل الملاحظة الروائية.
والمسع?، خاص أيضاً، بالمعنى الوجودي: إذ كيف يتأتى للفرد المعزول أن يقف قبالة اللوياثان، الكائن الفاتك، الكلي الجبروت، الكلي القدرة، الكلي الحضور، المسمى دولة شمولية.
إن مجرد التفكير بالكتابة عن الدولة الشمولية، قبل انهيارها، كان يتطلب قدراً من الجرأة، أو مقادير من البله لتوطين تلك اللامبالاة الباردة بالعواقب: الملاحقة بكواتم الصوت، أو سم الثاليوم، أو أخذ
الأهل رهائن. إن مجرد التفكير بالكتابة عن الدولة البعثية، وقتذاك، كان يتطلب ايضاً بحثاً دؤوباً عن التفاصيل في دولة تمنع تداول المعلومات، وتسد أبواب البحث، ولا تسمح بالإحصاءات.
المحاولة جريئة: تنقيب في سوسيولوجيا السلطة بمعول روائي وعين أديب. ولعل هذا يشبه، في عرف البعض، القنص بالقوس والنشاب بالتنافس مع بنادق مجهزة بأحدث ناظور رصد. لكن لهذا الصيد بالنبال امتيازه: إختبار صلابة اليد، وامتحان قدرة العين على التسديد، وأيضاً، القدرة على الإنجاز بوسائل جديدة.
كان ينبغي نشره قبل عقد ونيف، فهو جاهز في الأدراج منذ زمن. وكان مؤلفه يضيف إليه، كلما هزَّ العراق حدث خارق، فصلاً أو مقطعاً لتغطية المستجدّ من الأحداث. وبهذا المعنى، بات النص أشبه بتدوين مذكرات ذاتية، سوى أن السيرة هنا هي سيرة أمة منكودة، وسيرة حاكم هو أقرب الى دراكيولا (مصّاص الدماء الأسطوري) منه إلى كائن سويّ.
قرأت النص مرتين: بُعيد تأليفه، وقبل السعي الى نشره. وأمتعني في الحالتين، رغم تبرّمي الأكاديمي من «هوسة» الهوامش والإحالات، أو من الإلفة المفرطة التي يخاطب المؤلف قارئه بها، وهي إلفة يستبطنها الكاتب بلا وعي حين يفكر في قارىء مجايل من وطنه، مما يدفعه إلى افتراض وجود مشتركات في الذاكرة الجمعية قد لا تتوفر في الواقع: الحديث، مثلاً، عن أول رئيس بعثي للجمهورية، أحمد حسن البكر، بلغة الإلفة والاعتياد باستخدام كلمة البكر وحسب، هذا الإحالة لن تطرق وتراً لدى الجيل الذي ولد بعد وفاة ذلك الرئيس الابله عام 1982.
ثمة صورة باطنية عن النظام البعثي الشمولي، وهو يفكك، بواقعية، القول الايديولوجي ليرى إلى ما يخفيه هذا القول من وقائع. فالمقارنة، دوماً، لا تجري بين فكرة وفكرة، بل بين فكرة وواقع. أي إن تحليل المعنى يجري في مغطس الحياة، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تبدو، من موشور ما بعد الحداثة، نصاً ينتج نصاً في تواشج متصل.
ثمة لجيل الشباب الذي لم يعش أهوال نشوء الدولة البعثية الشمولية أيام صعودها، أي فترة عزها ومجدها، الكثير من الزاد للتفكير في هذا الذي سبقهم وذاق الذي ذاقوه مرة أو مرتين. ففي تلك الأيام غير السعيدة، كانت الدولة التوتاليتارية قادرة على محق جيل كامل من المعترضين، وإلغائهم من خريطة الوجود. وسيجد جيل الشباب اللاحق الذي عاش أهوال فترة نكوص الدولة البعثية، بما في ذلك انهيارالنسيج المدني، والمعرفي، أن هناك الكثير من المشتركات بين الجيلين.
وفي هذا المعنى، يمكن للكتاب أن يكون جسر تواصل بين جيلنا نحن، جيل الكهول الذي تجرأ على الزعيق في وجه غول الدولة المترعة بعوائد النفط، وعانى من أوجاع صعودها، وجيل الشباب الذي تحمل آلام انحلال الدولة، ودفع ثمن ذلك بالدم والدموع، من دون أن ينعم الإثنان بمسرات الآتي.
وتكمن أكبر المشكلات المعرفية في العراق لا في غياب قاعدة المعلومات، أوضعف حرية تداول المعلومات، وهما الشرطان الأساسيان للمعرفة، بل تكمن أيضاً في انقطاع الصلة بين أجيال الباحثين والكتاب، وهي مشكلة تمنع التراكم المعرفي. فلا تقدم في المعرفة من دون تراكم في منتجات المعرفة، ولا تراكم في المنتجات من دون تواصل اجيال المنتجين. كان منع الكتب في الماضي يكفي لكسر مسارالمعرفة. لكن الشمولية ابتكرت أكبر فخ لعزل الأجيال التي تباعدت بسبب الهجرة القسرية فاخترعت «جماعة الخارج» و»جماعة الداخل». وللأسف، تطوع بعض الكتاب، بقدر كبير من السذاجة أو سوء النية، وربما الغباء، لترويج هذه الفكرة.
هذا الكتاب فرصة للقاء معرفي بين اجيال، وفرصة للمعافاة من الشرخ.
كان بودي الاستطراد في تبيين أهمية الكتاب، لكني على يقين من أنه لا يحتاج الى شرح قط. ولا أود أن أبدو كمن يضع نفسه في منزلة إطراء صديق، فالمؤلف صديق عُمرٍ كما يقال. ومن حق المؤلف، أي مؤلف، أن ينشد الثناء، فهوالمكافأة الأكبر على عنائه. ولا ضير في ذلك، لكن للمديح حدودا.
تقوم فكرة الكتاب على استبطان التفاصيل التي قادت الى نشوء النظام الشمولي البعثي وترسيخه، واندماج نظام الحزب الواحد بالنظام القرابي، أو نظام العشيرة. وهي بمعنى ما سيرة النظام، وسيرة شخصية لرأسه الأول صدام حسين. يرصد المؤلف القادة مثلما يرصد الروائي شخصياته بعين تراقب التفاصيل الحميمة، رغبة في الكشف عن المستور، بروح الفرجة.
ولا عجب في ذلك. فهذا هو الانتقام الوحيد الذي ينتزعه الروائي-الكاتب-الأديب لنفسه من هذه الدولة التي حطمت جيله، وحطمت وطنه، وحطمت حياته الفردية. هتك استار الحقيقة هي انتقام المثقف من الديكتاتور. الحقيقة ثأر كوني. يزول الديكتاتور الفرد، وتزول دولته، وتنطمر الحقائق، كلياً اوجزئياً، إلى حين. لكنها في النهاية ينبغي أن تطفو على السطح. وأقول ينبغي لأنها لن تفعل ذلك تلقائياً. على العكس من ذلك، فديكتاتور الأمس وأتباعه يكرهون الحفر في متعضياتهم المطمورة. إنهم يبغضون الباحث بغضهم عالم الآثار: لأنهم يريدون أن يبقى الماضي مطموراً وأن نراه بعيونهم لا بعيوننا.
لن أضيف الى هذه المقدمة أية كلمة أخرى لاستكمال «الأحداث» التي وقعت منذ أن توقف الكاتب عن إضافة سطر واحد إلى الكتاب. حسبنا ما يرد فيه. إنه شهادة وتاريخ، وينبغي أن نقرأه بهاتين الصفتين.