يفغيني بريغوجين -تَفَجَّرَ كَمَا يَنَبَغِي-


حسام تيمور
2023 / 6 / 25 - 14:21     

أعلن قائد ميليشيا فاغنر أنه سيزحف نحو العاصمة موسكو، بعد بسط السيطرة على مدينة "روستوف" الحدودية، و معها مقر القيادة العسكرية الروسية دون مقاومة تذكر، و ذلك عودة من الجبهات في أوكرانيا.
و حيث انسحبت القوات الروسية و حرس الحدود من اماكنها دون مقاومة تذكر، و تركت ل "بريغوجن" و رفاقه، مقر القيادة العسكرية و كافة المرافق العسكرية في المدينة، من مطارات و نقاط تحكم و سيطرة، و هذا ما انتج المشهد السريالي الذي تناقلته وسائل الإعلام، حيث يجلس "بريغوجن" وسط عسكرييْن روسيين، هما نائب وزير الدفاع "سيرغي شويغو"، و النائب الأول لقائد الأركان "فاليري كراسيموف"، حيث يحاول الاثنان يائسَيْن اقناع "بريغوجن" بالخطأ الذي يرتكبه في حق الدولة و الجيش و الرئيس، رغم ملامحهما التي تشي بالعكس تماما، حيث يظهر جليا اهتزاز فظيع في نفسية القائدين، و عدم قدرتهما عن التعبير بشكل قوي و مقنع، عن وجهة نظرهما، التي لا تتعدى هنا ترديد الأوامر العليا خوفا و رعبا، أو ابراءا للذمّة امام الكاميرا و أعين القيادة و المخابرات التي تراقب كل شيء و تحاسب الجميع على ابسط كلمة قد تصدر او قد لا تصدر، في ظرفيات مماثلة، هي ما وصفه "بوتين" في تسجيل نوعي غاضب لم يتأخر، بالتحريض على العصيان و الدفع نحو الحرب الأهلية في ظروف صعبة، و الطعنة في الظهر التي ترقى لمستوى الانقلاب العسكري.
كانت ملامح القائدين، او النائبين، او العسكريين، تصرح بكثير من البؤس و الاحساس بالعار و احتقار الذات و اللحظة سواء الزمنية او التاريخية، و هو نفس العار، الذي تحدث عنه "بريغوجن" اكثر من مرة، و على مدى اسابيع، سبقت تطور الاحداث بهذا الشكل الدراماتيكي و السريالي كذلك، و لم يكن "بريغوجين" يمارس ضغطا مباشرا او تخويفا على جَليسَيْه من الجيش الروسي، كما تفعل ادوات الانقلاب او حفظ النظام على حد سواء في العادة، و هو يطالب برأس كل من "سيرغي شويغو" و "فاليري غراسيموف"، و يفسر هذا بشكل واضح، شكل الجنرال "سيرغي سوروفوكين"، و هو يبث مقطعه كذلك، و هو الذي كان بعيدا عن نطاق "البنادق" الموجهة.
لقد كان "سوروفوكين" هو القائد السابق المعين للعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، و الذي لم يعمر طويلا في منصبه، و تم وضعه تحت سلطة "فاليري غراسيموف" بشكل مباشر، كمشرف و قائد فعلي معين كذلك بعد اعمال التعبئة و مختلف التطورات التي سبقت.
و بنفس ملامح البؤس، و الاحساس بالعار، و النبرة المهزوزة، يخاطب "سوروفوكين" قادة و مقاتلي "فاغنر"، واضعا سلاحه فوق فخذه، مع التركيز على استعمال الخطاب العاطفي، و لو بشكل يائس، عن طريق مغازلة ذاك المحارب الروسي، الذي يحمل نفس الدم، و يخوض نفس المعركة، تحت لواء "فاغنر"، الى جانب الجيش النظامي، و هو يعلم جيدا، باعتباره "مُقالا" من منصب تولاه حديثا، ان ما يحرك "بريغوجين"، هو نفسه ما حرّكه هو شخصيا، عندما اعلن و نفذ ما سمي ب"الانسحاب من ضفة نهر دينيبرو"، و هو ما اُعتبر في الداخل الروسي اخفاقا ذريعا مهد لابعاده عن القيادة المباشرة للعملية العسكرية و بعد ذلك وضعه تحت سيطرة "كراسيموف"، و هو كذلك ما علّله "سوروفوكين" بشكل محتشم و خجول، بضرورة الحفاظ على حياة جنوده، قبل كل شيء، مخفيا ما لحق بنفس الجنود قبل اخذه لزمام القيادة و كذلك اثناء تواجده على راس القيادة الميدانية، لاسباب معروفة و واضحة، تتعلق بالخلل البنيوي العميق الذي يتفاقم يوما بعد يوم داخل الادراة الروسية، عسكريا و سياسيا، و اقتصاديا كذلك، و هو خلل يزيد من الطبيعة الأمنية للمنظومة، و يعزز تلك النزعة الفاشية التي تميز الانظمة القائمة على الأوليغارشيا و المخابرات و الجنرالات، و صراع الاقطاب البرجوازية على مكاسب الحرب، و لا شيء غير المكاسب، سواء كانت مكاسب ربح او خسارة، بمعيار الحرب، و السلم كذلك.
كدمى ضامنة لاستتباب الامن السياسي و السلم الاجتماعي داخليا قبله خارجيا، و هذا ما ظهر بوضوح ابان هذه الازمة، يلعب الجنرالات لعبتهم القذرة، و يدورن في دولاب الرعب المخابراتي، و هواجس الانقلاب، و الخيانة و المؤامرة، التي تفتعلها اطراف من داخل العمق الأمني للمنظومة من حين لآخر، لضمان استتباب الولاء المبالغ فيه، و الحذر المبالغ فيه، و التزلف المبالغ فيه، للقيادة السياسية التي تمثل الدستور و المؤسسات و ارادة الشعب.
انسحاب "سوروفوكين"، و بالشكل الذي تم التسويق له على انه تكتيكي، أو كما صرح هو حرفيا، أنه كان حفاظا على حياة الجنود، كان ضدا على ارادة "العار"، و ادارة العار، و نهج "العار" الذي تنتهجه القيادة العليا في موسكو، و المقصود تحديدا، "سيرغي شويغو" و "فاليري غراسيموف"، و باقي طراطير وزارة الدفاع و اركان الجيش، اضافة إلى "قردة" بوتين و مهرجيه و ببغاواته، من زاخاروفا الى بيسكوف و ميدفيديف، دون نسيان "رمضان قاديروف" غلام بوتين الوضيع جدا، الذي صار يعرض خدماته في كل مناسبة و بدون مناسبة، كالمومس في سن اليأس.
كان يمكن "لبريغوجن" سلوك نفس النهج الذي سلكه "سوروفوكين"، الجنرال القوي، اي الخضوع لتوجيهات القيادة دون نقاش، او حتى الابتداع لكن دون بهرجة او ضجيج، و ذلك في حالتين، الأولى ان يكون هو و مقاتلوه مرتبطين عضويا، بالجيش الروسي و قيادته، و خاضعين بشكل مباشر للأوامر و التعليمات، او ثانيا، في حالة كان هناك اتفاق بين الطرفين، على قبض ثمن الصمت، و الارواح التي تساق للمحرقة الأوكرانية، تنفيذا لاوامر و خطط و اجندات جنرالات "مخصيين"، خاضعين بدورهم لاوليغارشيات و جهات لا تملك أي رؤية او خطة واضحة للحرب، أو السلم، او تستعمل الجيش الروسي كلعبة او اوراق في مناوشاتها مع دول الغرب و الولايات المتحدة، و هي القوى التي بدأت تتمدد و تُظهر تحكمها في القرار السياسي و الاستراتيجيا الاقتصادية و العسكرية، ضدا على مبدا او عقيدة أو شرف يخص الجيش الروسي، و بهذا فهي تقوم باختطاف الدولة و الجيش و القرار السياسي، و تفرغ العملية العسكرية من كل معنى او مضمون، بالمعنى القومي او العسكري حتّى، و بمعنى ان العملية العسكرية الخاصة التي طالت أكثر من اللزوم و فقدت كل معنى او غاية، قد تحولت حرفيا الى مدفئة "الاوليغارشيا" الحاكمة الشتائية، و التي تشتعل باموال الروس و جثث جنودهم ؟!
إن هذه هي منطلقات "بريغوجن" من منظور عام او شمولي، و كيفما كانت غاياته، و باعتبار كذلك، انه يريد باطلا، فهو مستند على "حق" !
أو أنه خطط لما يقوم به قبلا، او يعول على دعم جهة معينة، أو يريد الانتصار لنهج آخر، مناهض للواقع الراهن، و الثقيل جدا، على الدولة و الادارة، و الجيش و السياسة، او كذلك باعتبار أن له اطماعا شخصية، او ينفذ اجندات بالوكالة، لاطماع أخرى، داخلية او خارجية، او انه يتحرك وفق منطق الافادة من تناقضات معينة، بهدف او أمل ايجاد واقع آخر، او تغيير شيء من معادلة الحكم و التحكم، لصالحه، او لصالح جهة مفترضة تدعمه، او ضد جهة تعادي مصالحه، تتعدد النظريات و وجهات التحليل، لكن المنطلق هنا واحد، و هو خلل بنيوي عميق يشرعن لكل اشكال التمرد، و العصيان، و الهزيمة كذلك، او بداية انهيار الدولة، و ما يرافقها من محاولات انقاذ، او سد للفراغ، او حتى سطو على السلطة.
في الجهة المقابلة، او في "موسكو"، لم يشهد العالم بأسره نهاية مذلة جدا للرئيس "فلاديمير بوتن" فقط، بل شهد كذلك سقوطا اخلاقيا كبيرا له، كقائد او زعيم سياسي، يجب أن ينصت لكافة الاصوات، و يجب أن يتحلى بحد ادنى من الشجاعة، لمسائلة عسكرييه و معاونيه المقربين، و مواجهتهم بما يثار من ازمات و حزازات.
هنا كان تموقف "فلاديمير بوتن" جبانا، و ظهر بمظهر النذل الوضيع، الذي لا يستطيع تحريك ساكن، او خلخلة تراكمات من الفساد و العبث داخل احد اهم ركائز حكمه، و هي الجيش.
بداية انطلق الظاهر من ازمة "فاغنر" او حزازاتها مع القيادة الروسية ممثلة في وزارة الدفاع و هيئة الاركان، بمسألة نقص الذخائر، خلال مقطع شهير بثه "بريغوجن" وهو يرغد و يزبد في وجه القادة الروس، متجنبا بأي شكل الاقتراب من "فلاديمير بوتن"، و هو ما يمكن اعتباره دعوة مباشرة له، لاعادة الامور الى نصابها، او مسائلة قياداته، و على رأسها وزير دفاعه "سيرغي شويغو"، لكن حلحلة الازمة هنا، تمت بشكل غير واضح، او غير شفاف، بشكل يرجح كفة بريغوجن، و بطريقة غير مباشرة، او دون اعتراف رسمي بالتقصير في مسألة الامداد، و هذه هي بداية السقوط.
إن الخطا الأول الذي ارتكبه فلاديمير بوتن، كان بالضبط عندما تأكد بشكل واضح من صحة كلام "بريغوجن"، و وجه بشكل غير رسمي، قياداته بضرورة امداد "فاغنر" بكل ما تحتاجه من ذخائر، كما صرح "سيرغي شويغو" نفسه، و كما تم تكليف "سوروفوكين" بذلك، كمنسق و مشرف على هذه العملية، بديلا عن "شويغو"، الذي لم يعد "بريغوجن" قادرا على التعامل معه، هكذا بالضبط حدثت الأمور، او هكذا اقترف "بوتين" اول خطأ قاتل له، حيث حاول امساك العصا من الوسط، عن طريق ارضاء "بريغوجين"، دون اغضاب وزير دفاعه و باقي الطراطير، اي ما يمكن تسميته هنا بعش الدبابير.
بعدها، سوف نشهد ما يجب اعتباره هنا مؤامرة حقيقية ضد شركة فاغنر، حاكها وزير دفاع بوتين، نيابة عن الجهات النافذة و المتحكمة و التي لم تعد تتحمل وجود هذا الاسم، و هذه المؤامرة كان لها عنوان واحد، هو السيطرة على فاغنر و الشروع في تفكيكها و تذويبها داخل الجيش الروسي النظامي.
إن الخطا الثاني الذي اقترفه "فلاديمير بوتين"، هو انحيازه الواضح جدا لوزير دفاعه، في دعوته الى تسجيل مقاتلي فاغنر و غيرهم من المقاتلين على الجبهات، ضمن صفوف الجيش الروسي، و بذلك جعلهم يوقعون على عقود رسمية ملزمة بطاعة و تنفيذ القيادة العسكرية النظامية في موسكو،
إن رفض "بريغوجن" القاطع لهذه الدعوة، كان منتظرا و شبه مؤكد، بل كان اول استفزاز حقيقي، يمارسه الخبث البيروقراطي في روسيا، و كان سببا كافيا لاعتبار "بريغوجن" خارجا عن القانون، أو متمردا، يدعو للعصيان، باعتبار ان الدعوة للتعاقد شملت بشكل خبيث جدا، كل المشاركين في القتال من الجانب الروسي، و هنا حيث سقط "بوتين" للمرة الثانية، بشكل اعنف، او حيث كان اول خلاف غير معلن للرئيس الروسي مع قائد فاغنر، حيث قام يتأييد دعوة وزير دفاعه، للتعاقد الرسمي، دون ادنى اهتمام برفض "بريغوجين" القاطع، او حتى ترك المجال مفتوحا لحل بديل أو وسط.
إن هذه الواقعة تحديدا، تمثل نفس أزمة اليوم، المتعارف عليها بالتمرد او الانقلاب، و بصيغة غير معلنة، او صامتة، و هي ما صنعت رد الفعل العنيف جدا لقائد فاغنر، على ما يزعم انه استهداف لقواته من طرف الجيش الروسي، باوامر مباشرة من وزير الدفاع.
إن صحة هذا الزعم من عدمها تبقى هنا تحصيل حاصل، باعتبار أن وزارة الدفاع انخرطت مسبقا في مسار تحييد و تفكيك فاغتر، بتزكية شخصية من بوتن، و الأسوء، و هنا الخطيئة الكبرى التي اقترفها "بوتين"، هو أن هذه المصادقة على توجه وزارة الدفاع، الى ترسيم كافة المقاتلين على الجبهات، جائت في اطار نفس الخطاب الذي اعترف فيه بوتين و لأول مرة، بوجود نقص في الذخائر عند بعض الجبهات، (للاسف كما ذيل اعترافه)،و هذه اشارة مهمة لم يلتقطها الكثيرون طبعا، تعني فيما تعنيه، صحة مزاعم"بريغوجين" منذ البداية، و كذلك، فيما يخص باقي قطاعات الجيش، السبب وراء عدة تراجعات و انتكاسات مسكوت عنها في اوساط الجنرالات الطراطير، الذين منهم من كان ينتظر في خاطره شيئا يشبه ما قام به "بريغوجن"، كونهم مكبلين بسلطات التخوين و الاعدام و التصفية المباشرة، و على رأسهم "سوروفوكين" صاحب المقطع الذي يهدد فيه مقاتلي فاغنر.. و يدعوهم للاستسلام.
هذه بعض المداخل التي قد تساعد على فهم جزء مما حدث خلال العشرين ساعة التي شملت اعلان "بريغوجين" التمرد، و السيطرة على مدينة، و الشروع في الحشد نحو موسكو، قبل القبول بصفقة "لوكاشينكو"، و التي لن تكون حلا نهائيا لازمة "فاغنر"، و لن تكون كذلك حلا لأزمة الدولة في روسيا،
إن القائل بتوقيع "بريغوجين" على قرار اعدامه، يغفل امرا مهما آخر، حيث أن هناك من وقّع على قرار اعدامه سياسيا و اخلاقيا، و هو "فلاديمير بوتين" و قياداته الفاشلة المتخبطة، و ذلك اولا بتماديه في المماطلة و التضليل عسكريا و شعبيا، و ثانيا بانحيازه الى البيروقراطية و انتصاره لفساد الدولة و المؤسسات، و ثالثا بقبوله كذلك بهذا الحل، لحفظ ما تبقى من "نظام"، حيث ظهر، كأي دكتاتور مراهق، مرعوب، و ذليل.