دليل الفاشية البدائية لتدمير العالم: حوار مع نعوم تشومسكي عن الأكاذيب والجرائم والرأسمالية الوحشية

محمود الصباغ
2023 / 6 / 22 - 07:56     

نعوم تشومسكي
ديفيد بارساميان
ترجمة محمود الصباغ
بلغت الحرب في أوكرانيا شهرها السابع. تقدمت أحزاب اليمين المتطرف مؤخراً في السويد وإيطاليا. والتغيرات المناخية تستمر في التسبب بعواقب وخيمة بوتائر متسارعة. يتناول نعوم تشومسكي هذه القضايا وغيرها في هذا الحوار الإذاعي مع مضيفه ديفيد برساميان في برنامج الراديو البديل Alternative Radio يوم 26 أيلول 2022 ، قبل يوم واحد من إصدار كتابهما الجديد "ملاحظات حول المقاومة" Notes on Resistance.
ديفيد برساميان: يبدو الوضع في أوكرانيا صعباً للغاية، إن لم نقل مريعاً. ألا ترى أن حشر بوتين في الزاوية، يجعله يقوم بخطوة يائسة لاستخدام الأسلحة النووية، أو ربما قصف أحد المفاعلات النووية الأوكرانية الستة (سواء عمداً أم عن طريق الصدفة). وكأن مصير الكوكب وضع في أيدي بوتين وزيلينسكي وبايدن. صراحةً، أشعر بعميق القلق. ما الذي يمكن فعله إزاء هذه الأوضاع؟ ماذا يمكن أن يفعل في مثل هكذا سيناريو؟
نعوم تشومسكي: معك حق.. إنه سيناريو خطير كما العادة. عير أنه يمكننا العمل لمحاولة التأثير على ما يقع ضمن نطاق تأثيرنا. وكما ترى ثمة تباينات كثيرة بين الولايات المتحدة وبقية العالم، فأمريكا تبتعد الآن وبشكل حاد جداً، عن معظم دول العالم فيما يتعلق بهذه القضية الهامة، ولكن يمكننا العمل لمحاولة تغيير هذه السياسة، الأمر ليس سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً أيضاً. يريد معظم العالم.. بأغلبيته الساحقة الانتقال مباشرة إلى طاولة المفاوضات لمحاولة إنهاء الفظائع المرتكبة في أوكرانيا قبل أن يزداد الأمر سوءً. وهذا يصح، بمقدار ما على صعيد دول الجنوب العالمي والهند وإندونيسيا والصين وإفريقيا، بصورة عامة. حتى أنه في ألمانيا، وفقاً لاستطلاع أُجري في نهاية شهر آب الماضي، يرغب أكثر من ثلاثة أرباع السكان في الانتقال إلى المفاوضات حالاً. وهذا ليس سوى وجهة نظر واحدة. في المقابل، يبرز موقف كل من الولايات المتحدة وبريطانيا بوجوب استمرار الحرب بهدف إضعاف روسيا، وهذا يعني الطبع لا مفاوضات. حسناً، يمكننا العمل لجعل الولايات المتحدة تقبل بالتوافق مع معظم دول العالم وربما نتجنب كوارث أسوأ – أقول ربما. لا أرى شيئاً آخر يمكننا القيام به، ولكن هذا أكثر من كافٍ لمهمة كبيرة من هذا النوع.
ديفيد برساميان: تبدو الفاشية أكثر من مجرد شائعة يتم تداولها. كيف يمكننا مقارنتها بين الماضي والحاضر؟ فقبل قرن تقريباً، بالضبط، في تشرين الأول1922، سار موسوليني نحو روما واستولى على السلطة في إيطاليا. كان ذلك قبل عقد كامل من وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا.
نعوم تشومسكي: هذا سؤال جيد أتى في الوقت المناسب: فبالأمس القريب تولى الحزب اليميني المتطرف الرئيسي، الحزب ذو الأصول النيو فاشية، السلطة في إيطاليا. وكما ترى فأنا لست صغيراً، بل كبير بما يكفي لأتذكر ما كان يحدث في منتصف الثلاثينيات. بدا في ذلك الوقت كما لو أنه لا يمكن إيقاف الفاشية الصاعدة. نماذج كثيرة رفعت موسوليني، هتلر؛ النمسا، تشيكوسلوفاكيا؛ فرانكو في إسبانيا- بدا الأمر وكأنه لن يتوقف أبداً. أذكر ايضاً في ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة تمثل استثناءً: فقد كنا نتجه نحو الديمقراطية الاجتماعية. كانت عشرينيات القرن العشرين مشابهة نوعاً لما يحدث في أوضاع أيامنا هذه. تم سحق الحركة العمالية، وتسببت حملة الرعب الأحمر* التي قادها وودرو ويلسون في تدمير الحركة العمالية الأمريكية النشطة وقمعت الفكر المستقل. فاعتقلت حملات بالمر آلاف المعارضين وأبعدت المئات خارج البلاد. كانت فترة تميزت بانتصار رجال الأعمال وعدم مساواة رهيبة، تشبه إلى حد كبير ما يحدث اليوم. كان هناك حماسة كبيرة حول المستقبل الرائع الذي سوف يديره رجال الأعمال وأصحاب الشركات الأمريكية. ثم أتت فترة الكساد في العام 1929، وانتشر الفقر المدقع والبؤس بطريقة أسوء مما هو عليه الوضع الحالي. لكن، وفي ظل هذه الظروف، انتعشت الحركة العمالية، فقد كان هناك تنظيم صناعي، تنظيم مؤتمر المنطمات الصناعية CIO، وحركة نضالية عمالية قوية، إضرابات واعتصامات. كانت المنظمات السياسية نشطة. وكان هناك الكثير من المنشورات. وإدارة متعاطفة في البيت الأبيض، وهو ما أحدث فرقاً كبيراً. ومن هذا المنطلق جاءت الخطوات الأولى لما أصبح يعرف بالديمقراطية الاجتماعية في معظم دول العالم، في أوروبا بعد الحرب.
كل هذا قد حصل في الماضي، أمّا الآن، فالوضع عكس ذاك تماماً، إذ تتربع الولايات المتحدة على صدر الطريق المؤدي إلى الفاشية البدائية، بينما مازالت أوروبا تتمسك بعناصر الديمقراطية الاجتماعية، على الرغم من تعرضها للهجوم، ربما ليس كما كان الأمر في الثلاثينيات، ولكن هناك ما يكفي من الذكريات للشعور بعدم الارتياح الشديد. وثمة مؤتمرين حديثين كإشارة إلى ما قد يكون المستقبل لسوء الحظ. الأول في بودابست في أيار، والثاني في دالاس في آب. جمع مؤتمر بودابست بين الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة الرئيسية ذات الأصول النيو الفاشية. وانعقد المؤتمر في المجر بسبب تصدر هذا البلد السير في طريق الفاشية القومية المسيحية. وهذه الأشكال اليمينية المتطرفة العنصرية، التي سوف تسحق بلا شك الفكر المستقل وتسيطر على الصحافة، هي الأشكال التي يطلق عليها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بفخر "الديمقراطية غير الليبرالية" -أي أن كل شيء يقع تحت سيطرة الدولة. كان النجم الرئيسي في مؤتمر بودابست من يعرّفون أنفسهم باسم "مؤتمر العمل السياسي للمحافظين في الولايات المتحدة (CPAC)"،والذي هو في الحقيقة جوهر الحزب الجمهوري. ألقى ترامب كلمة افتراضية امتدح فيها أوربان. فضلاً عن انبهار تاكر كارلسون، مذيع قناة فوكس نيوز بأوربان أيضاً. هذا هو مستقبل الولايات المتحدة: القومية المسيحية اليمينية العنصرية التي تسيطر فيها الدولة على الفكر المستقل والمؤسسات المستقلة، والجامعات، والصحافة، وما إلى ذلك. أما المؤتمر الثاني الذي عقد في دالاس فهو مؤتمر اجتمع فيه أعضاء "مؤتمر العمل السياسي للمحافظين في الولايات المتحدة (CPAC)". والآن أتى دور أوربان ليكون متحدثاً رئيسياً، ومرشداً للمستقبل؛ لقد استخدم ذات النوع من الخطاب تقريباً، أي تلك البلاغة التي نسمعها أيضاً في المحكمة العليا اليمينية المتطرفة.
يعدّ الحزب الجمهوري بشكل علني -وليس سراً- الطريق لمحاولة السيطرة على الانتخابات والتلاعب بها حتى يتمكنوا من الحصول على سلطة دائمة كحزب أقلية فاشي أولي. قد ينجحون. فإذا ما حصل ذلك، فسوف يمهد فوزهم الطريق إلى ظهور نوع من الفاشية البدائية في الولايات المتحدة، مما سوف يؤدي إلى مضامين هائلة.
في البرازيل، يتبع بولسونارو بالفعل سياسة ترامب. إذ أعلن أن الانتخابات لن تكون شرعية، بل مزيفة، في حال عدم فوزه بها. ثمة هناك تهديدات بانقلاب عسكري. لقد عبّر مجتمع رجال الأعمال عن ذلك بالفعل، لقد عبر جزء كبير منهم عن تفضيلهم انقلاباً عسكرياً على أن يتولى "لولا" السلطة. وعلى عكس الولايات المتحدة، فإن الشرطة في أيدي بولسونارو واليمين المتطرف. أما الجيش، فنحن لا نعرف موقفه على وجه اليقين، لكن الكثير من كبار القادة العسكريين يدعمون بولسونارو. ولا نعلم ما إذا كانوا سيلتزمون بالعمليات الديمقراطية كما حدث في الولايات المتحدة أو سيتبعون الانقلاب. لذا، من الممكن أن يتولى السلطة، وفي هذه الحالة يكون الأمر خطيراً للغاية. لأنه يعني، أولاً وقبل كل شيء، نهاية حوض الأمازون. هذه ليست مزحة. تقع معظم منطقة الأمازون في البرازيل، وقد كانت مصدراً رئيسياً لامتصاص الكربون. وكان من المفهوم لفترة طويلة أنه في مرحلة ما، في ظل الاتجاهات الحالية، ستتحول منطقة الأمازون من مصدر لامتصاص الكربون إلى منتج له بما سيؤدي ذلك لنتائج وآثار مدمرة على البرازيل وعواقب وخيمة على العالم بأسره. حسناً ، لقد بدأ يحدث قبل موعده المتوقع. ففي الوقت الحالي، أصبحت قطاعات من حوض الأمازون تصل فعلياً بالفعل إلى نقطة التحول؛ حيث لا يتم إنتاج كمية كافية من الرطوبة للحفاظ على الغابة. يمكن أن يكون لذلك تأثير مرعب على العالم. ولا ننسى أن بولسونارو داعم كبير لقطع الأشجار والتعدين والأعمال الزراعية الصناعية. ويرغب في تسريع عملية التدمير هذه، تماماً مثلما يفعل الحزب الجمهوري هنا -المكرس لتدمير الكوكب بأسرع ما يمكن. إنهم لا يعبرون عن مواقفهم هذه بالكلمات، ولكن المعنى الذي تحمله هذه السياسات. تعظيم استخدام الوقود الأحفوري، بما في ذلك أخطرها، وإلغاء التشريعات التي قد تخفف من تأثيرها.
وأنا هنا لا أفشي اسراراً فهذه كلها أمور علنية. وفي الواقع، لقد أصبح الأمر متطرفاً للغاية لدرجة أن قطاع الشركات، الذي هو حقاً في طريقه إلى الازدهار في ظل هذه الفترة من الفاشية الرأسمالية المتوحشة، ينتظم الآن في الواقع لمعاقبة الشركات التي تكشف حتى عن معلومات حول التأثير البيئي لاستثماراتها وتنميتها التزاماً بلوائح الهيئات التشريعية الجمهورية بالولايات، والتي تسحب أموال صناديق التقاعد وما إلى ذلك. هذه رأسمالية متوحشة حقاً وصلت إلى حدود بشعة. وهذه حالة واحدة فقط. فهناك الكثير من الأشياء من هذا القبيل.
ربما تكون قد شاهدت تقريراً نشر قبل عامين يفيد بأن إحدى شركات النفط الكبرى، ConocoPhillips، اقترحت مشروع حفر رئيسي جديد في ألاسكا. من أكثر الأشياء التي تشغل بال علماء المناخ هو الذوبان الحاد والسريع في القطب الشمالي، والذي يزداد احتراراً أسرع بكثير من معظم بقية العالم. حسناً، هذا الذوبان يحرر غطاء التربة الجليدي الدائم الحاوي على كميات هائلة من غاز الكربون؛ وعندما يبدأ في الذوبان، يصعد الكربون إلى الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة. لكن هذا الذوبان ضار أيضاً بالبنية التحتية للتنقيب عن النفط. لذا اقترحت شركة كونوكو فيليبس تقنية تدفع من خلالها قضباناً تسمى Thermosyphons إلى التربة الجليدية تعمل على تصليب الثلج وعدم ذوبانه بشرعة، وهم يقومون بذلك، كي يتمكنوا من الحفر بفعالية أكبر، وهذا يشبه سباق انتحاري، ويحدث في كل مكان. خذ الشرق الأوسط على سبيل المثال، الذي يعد أكبر منتج للوقود الأحفوري في العالم. في وقت سابق من هذا الشهر، وجدت تقريراً جديداَ يقول أن درجة حرارة تلك المنطقة ترتفع بسرعة أكبر بكثير مما كان متوقعاً. في الواقع، من المتوقع أن ترتفع حوالي 10 درجات فهرنهايت مع نهاية القرن. وهذا يقترب من مستوى عدم القدرة على البقاء. ومن المتوقع الآن أن ترتفع مستويات المياه في شرق المتوسط بشكل أسرع بكثير مما كان متوقعاً: 1 متر بحلول عام 2050، إلى 2.5 متر بحلول عام 2100. ماذا يحدث لشرق البحر الأبيض المتوسط عندما يرتفع مستوى سطح البحر 2.5 متر؟ فقط تخيل. في غضون ذلك، تتنازع إسرائيل ولبنان حول من سيكون له الحق في إنتاج المزيد من الوقود الأحفوري على حدودهما البحرية. بينما تغرق بلدانهم تحت البحر، يتشاجرون حول من سيكون له الحق -الشرف- لإدارة اللمسة الأخيرة. إنه جنون.
وبالنسبة جنوب آسيا فسوف تزداد الأمور سوءً في نواح كثيرة. فالمنطقة بالفعل في مستوى عدم القدرة على البقاء. جزء كبير من باكستان مغمور بالمياه بسبب الأمطار الموسمية بشكل لم يحدث من قبل. في هذه الأثناء، في الجوار تماماً، هناك موجات جفاف هائلة. يحاول المزارعون في المناطق الفقيرة في الهند البقاء على قيد الحياة في ـجواء تصل حرارتها إلى حوالي 50 درجة مئوية بدون مكيفات. فقط حوالي 10% من السكان هناك لديهم مكيفات ومعظمها أجهزة قديمة الطراز تسبب مزيداً من التلوث. وفي الوقت نفسه، تعمل الهند وباكستان على تطوير أنظمة أسلحتهما النووية حتى يتمكن كل منهما من تدمير بعضهما البعض في منافسة حول من سيتحكم في المياه المتناقصة التي يعتمدان عليها مع ذوبان الأنهار الجليدية. يبدو الأمر كما لو أن الجنس البشري برمته قد أصابه الجنون.
في غضون ذلك، تأمل حرب أوكرانيا. إن أحد أسوأ آثارها -وربما الأسوأ- هو عكس الجهود المحدودة للتعامل مع تغير المناخ وتسريع استخدام الوقود الأحفوري، وتشجيع إنتاج المزيد منه، وفتح حقول جديدة لضمان استمراره في المستقبل. وكأنهم يقولون لنا لدينا نافذة ضيقة للبقاء على قيد الحياة، لذلك دعونا نغلقها ما استطعنا، أليس هذا ما تعنيه سياسة الولايات المتحدة الرسمية عندما تقول دعونا نواصل الحرب ونؤجل المفاوضات لإضعاف روسيا. وهذا لا يعني زيادة مخاطر حدوث حرب نووية، وقتل الأوكرانيين، وتجويع الملايين من الناس بسبب توقف تدفق الحبوب والأسمدة، ولكن يعني أيضاً السباق لتدمير الحياة البشرية المنظمة على الأرض من خلال تعظيم استخدام الوقود الأحفوري خلال الفترة القصيرة التي أمكننا فيها تقليصه أو إنقاذ أنفسنا. هذا هو الوضع الذي نحن فيه الآن.
ديفيد برساميان: 50 درجة مئوية أي حوالي 122 درجة فهرنهايت، هذا ما وصلت إليه الحرارة في الصيف الماضي في الهند وباكستان والعراق وفي أجزاء أخرى من غرب وجنوب آسيا. لكن دعنا نعود إلى أوروبا والفاشية: مازلت أتذكر كيف كان بعض اليسار الأمريكي ينظر إلى السويد بعظمة وبنوع من التمجيد كنوع من المدينة الفاضلة حيث تحدث هناك أمور رائعة، فالحكومة كريمة، والناس سعداء. حسناً. مؤخراً أصبحت مجموعة يمينية أسسها لنازيون الجدد أكبر حزب في الائتلاف الحاكم في السويد. يوجد في ألمانيا حزب "البديل من أجل ألمانيا (AfD)" وفي فرنسا، تحظى لوبان بدعم كبير. وها هو إردوغان يحكم تركيا. وليست أوروبا فقط، حيث تقول أرونداتي روي إن الهند مكان "خطير" بسبب "انتقال الديمقراطية المعطوبة للغاية والهشة -بشكل علني ووقح- إلى مؤسسة إجرامية هندوسية فاشية تحظى بدعم شعبي هائل"، تحت قيادة ناريندرا مودي. هل سبق أن رأيت مثل هذا يحدث في التاريخ؟
نعوم تشومسكي: حسناً لم يكن عقد الثلاثينيات مطابقاً لما يحصل في أيامنا هذه. لا يوجد شيء حولنا الآن يشبه النازية الفعلية، التي كانت وحشيتها وعنفها تفوق حدود الوصف. وقد كانت قاسية جداً،. هناك الكثير من القمع والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان مثلما يحدث في الهند الآن تحت حكم مودي، لكنها ليست كألمانيا هتلر. وليست كإيطاليا موسوليني. نعم إنها سيئة بما يكفي أن نحكم عليها، وهي يتحرك في هذا الاتجاه، لكنها ليست مثلهما. وكما قلت، في الثلاثينيات كان هناك اختلاف جوهري واحد، وهو الولايات المتحدة: بينما كان معظم العالم ينحدر إلى الظلام الفاشي، كانت الولايات المتحدة تتجه نحو الديمقراطية الاجتماعية. لم تكن برامج الصفقة الجديدة New Deal جذرية تماماً، لكنها حسنت حياة الناس ووفرت لهم الأمل، غير أن رجال الأعمال لم يعجبهم هذا التوجه وقد كانوا يستعدون للانقضاض عليه لدحره. لدي يقين بأنك تتذكر كتاب أليكس كاري الرائع "إزالة المخاطر عن الديمقراطية Taking the Risk Out of Democracy" (1995)، والذي يصف فيه الهجوم التجاري في الثلاثينيات، ويشير إلى القلق الذي أبدته الصحافة التجارية بشأن ما دعوه "القوة السياسية الصاعدة للجماهير". وقد بدأت في أواخر الثلاثينيات في محاولة تنظيم الجهود للتغلب على تلك القوة مرة أخرى. ولكن تم تعليق هذه المحاولة في فترة الحرب، وبعد ذلك مباشرة كانت هناك جهود ضخمة من قبل المجتمع التجاري المنظم بقيادة الولايات المتحدة لكبح، بل لصد تهديد الديمقراطية الشعبية والديمقراطية الاجتماعية. استغرق الأمر بعض الوقت. وقد دعمت شخصية مثل أيزنهاور على سبيل المثال، آخر زعيم سياسي أمريكي محافظ أصيل، بقوة الصفقة الجديدة وتنظيم العمال. ووفقاً لمعايير اليوم، يبدو وكأنه شخص راديكالي يشتعل حماساً.
لكن عالم التجارة استفاد من الفرصة، وأخيراً أتيح لهم ذلك في السبعينيات عندما حدثت أزمة اقتصادية، فاستغلوها. عندما تنظر إلى الإحصاءات الإجمالية في الولايات المتحدة - كلها تقريباً: معدل الوفيات، وتكاليف الرعاية الصحية، والسجون، والحد الأدنى للأجور- ترى نقطة انعطاف في منتصف السبعينيات. كانت الولايات المتحدة تتقدم مع معظم دول العالم المتقدم حتى منتصف السبعينيات. ثم توقفت، وبدأت تتحرك البلاد خارج الطيف في كل هذه النواحي. وحتى الآن، كانت نهاية فترة كارتر، ثم أتت إدارة ريغان التي سارعت من هذه العملية، وفتحت كل قنوات الضخ. ومنذ ذلك الحين، بالطبع - كان الأمر نفسه في إنكلترا في عهد تاتشر ثم انتشر في جميع أنحاء العالم. إنها حرب طبقية كبرى، حرب طبقية وحشية دمرت أشياء كثيرة في عالمنا وأدت إلى غضب هائل واستياء وازدراء للمؤسسات. هذه هي الخلفية التي تنطلق منها هذه الأحزاب الفاشية البدائية. لم يفت الأوان لعكس هذا الاتجاه، لكن لو توقفنا فكثير من الوقت سوف نضيعه.
ديفيد برساميان: كان هذا بالتأكيد رأي الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حين استمر في تحذرينا من مغبة هذه المخاطر ومطالبتنا بالتصرف بأسرع ما نقدر.
نعوم تشومسكي: هو محق لاشك، ولكن، لسوء الحظ، لا يوجد كثير من يستمع. هناك بعض الأشخاص الذين يستمعون، والشباب في حركة التمرد ضد الانقراض Extinction Rebellion وحركة الشروق Sunrise.هؤلاء الناس الذين خرجوا إلى الشوارع يتظاهرون وينفذون عصيانًا مدنياً ويطالبون بفعل شيء ما. يحاولون بشكل يائس لفت انتباه الفئة الأكبر من الناس، أي من لديهم سلطة سياسية لفعل شيء ما، أن يتحركوا لوقف هذا الجنون والاستفادة من الفرص التي لدينا لتحسين الأمور. حسناً، هذا هو الصراع الدائر حالياً.
ديفيد برساميان: هناك بعض الأدبيات المثيرة للاهتمام التي تتناول الفاشية. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، كتب سنكلير لويس رواية بعنوان "لا يمكن أن يحدث ذلك هنا It Can’t Happen Here". وبعد عقود كتب فيليب روث رواية بعنوان مؤامرة ضد أمريكا The Plot Against America (2004). وربما الأشهر أتى من فرنسا حين نشر ألبير كامو روايته الطاعون The Plague (1947)، كمجاز عن الاحتلال الألماني لفرنسا. وينتهي الأمر، في الطاعون، بتحذير الدكتور ريو للأشخاص الذين خرجوا للاحتفال في الشوارع لأنهم اعتقدوا أن الوباء قد انتهى ولن يعود مرة أخرى. يحذر من أن جرثومة الطاعون لا تموت أو تختفي للأبد ؛ بل يمكنها البقاء كامنة لسنوات وسنوات.. وهي ليست على عجلة من أمرها، بل تظل تنتظر الوقت المناسب للانقضاض من جديد.. وربما يأتي ذلك اليوم عندما.. يوقظ الوباء جرذانه ثانية ويرسلهم للموت في مدينة سعيدة ".
نعوم تشومسكي: نعم.. كما أن هناك العديد ممن حذرونا. يمكنك إضافة ألدوس هكسلي، جورج أورويل، يفغيني زامياتين، ولكن لا حياة لمن تنادي، فهي أصوات صارخة في البرية**. أما في الوقت الحالي، فالصورة التي تتبادر إلى ذهني هي أن شخصاً ما يسقط من ناطحة سحاب، وبينما يمر من طابق إلى آخر نزولاً تمتد أذرع كثيرة وأصوات تناديه أن "امسك ذراعي. سأجذبك إلى الداخل وأنقذك". بينما هو يقول لهم "لا تقلقوا، كل شيء على ما يرام. أشعر لتوي بمتعة عظيمة. لا تقلقوا." وهكذا نحن كمن ينتحر وهو يبتسم.
ديفيد برساميان: لقد ذكرت حركة التمرد أو الانتفاضة ضد الانقراض وحركة الشروق كنقطتي مقاومة، لكن هل لديهما حقاً من القوة ما يكفي لإحداث تغيير؟ أفكر فيما حدث في سريلانكا في تموز، حيث أطاحت انتفاضة شعبية بالمعنى الحرفي بالحكومة الفاسدة للرئيس جوتابايا راجاباكسا. هل ترى أن هذا يحدث هنا؟ هل هناك مقومات لثورة من اليسار وليس من اليمين؟
نعوم تشومسكي: سريلانكا كانت وضعاً خاصاً جداً، إنها تمثل كارثة حقيقية بأتم معنى الكلمة. فقد انهار البلد بلحظة. كان هناك الكثير من الفساد الذي تبع وصفات النيوليبرالية حتى وصل الأمر إلى حد الكارثة. بالطبع، شهدت البلاد حرباً أهلية ضخمة كان لها أثر مدمر. والآن، هل هناك ما يشير إلى انتفاضة يسارية في الولايات المتحدة؟ لا أستطيع رؤية ذلك. إذا كانت هناك انتفاضة في الولايات المتحدة، على الأقل في ظل الظروف الحالية، فسيكون تمرد من أقصى اليمين، مثلما حصل في البرازيل تماماً. كان أحد الأمور التي فعلها بولسونارو في البرازيل هو إطلاق طوفان من الأسلحة. كان يتم التحكم في البنادق بشكل جيد في البرازيل، لكن بولسونارو فتح الباب على مصراعيه، ليس من أجل المتعة. فهي لم تصنع لاصطياد الفئران فيما أطن، بل من التخطيط لاستخدامها في تمرد ما قد يحصل. أما هنا، في الولايات المتحدة، فالسلاح متوفر بصورة رهيبة وهذا ما تساعد عليه المحكمة العليا أيضاً. فقد كان أحد قراراتها الأخيرة، بقيادة كلارنس توماس، إلغاء قانون نيويورك للعام 1913 الذي يطلب ممن يرغب في حمل سلاح مخفي في نيويورك، تقديم الأسباب والتبريرات التي تشرح هذه الدوافع. ويتضح مما ورد على لسان توماس كم هي هذه البلاد باتت مروعة وبغيضة لدرجة أن الناس بحاجة إلى الأسلحة إذا كانوا سيستخدمون مترو الأنفاق مثلاً أو يرغبون في التسوق من أحد متاجر المدينة. هذه هي أمريكا الآن، حيث لم يعد هناك ما يوجب تقديم سبب لامتلاك سلاح مخفي في نيويورك أو في أي مكان: فقد أعطى لك السيد توماس كل الأسباب فعلاً. لقد انحدرت البلد إلى حد لا يمكنك الخروج من منزلك إن لم يكن لديك سلاح للدفاع عن نفسك. هذا نوع مثل تيد كروز في تكساس***.
يقولون إن هناك حلاً بسيطاً للرد على حالات إطلاق النار في المدارس: وهو تحويل هذه لمدارس إلى معسكرات مسلحة، وتحصينها، ووضع كتيبة من المارينز هناك، وتعليم الأطفال كيفية الاختباء، وتعليم المعلمين كيفية إطلاق النار، ثم يقولون هذه هي البيئة التعليمية التي تحتاجها وعلى هذه الشاكلة تريد لأمريكا أن تكون. نعم يريدون رؤية بلد مروع. ولا شك سيحصلون على هكذا أمريكا عبر انتفاضة يمينية محتملة.
ديفيد برساميان: حظيت وفاة الملكة إليزابيث الشهر الماضي أياماً وأياماً من التغطية الإعلامية الشاملة والتعليقات والتقارير.. إلخ. تخيل تأثير ذلك على الجمهور فيما لو حظيت أزمة المناخ بهذا الاهتمام؟ لعلها ستستقر في وعي الناس ومن ثم يمكن اتخاذ الإجراءات اللازمة. لكن شيء من هذا لم يحدث... قال إليوت ذات قصيدة : كم نحن ضائعون في الضياع بسبب هذا الضياع
نعوم تشومسكي: نعم، هذه صحيح لسوء الحظ. ويمكن قول ذلك على نطاق أضيق. بينما كانت إنكلترا تنفق كميات هائلة من الطاقة والوقت والمال في مراسم الحداد المعدة بعناية، كانت البلاد تنهار عملياً. فقط ألق نظرة على العملة. وصل الجنيه البريطاني إلى أدنى مستوى له مقارنة بالدولار على الإطلاق، وهناك أزمة طاقة قادمة. لا يستطيع الناس دفع فواتيرهم. لا تستطيع الهيئات الغذائية تقديم الرعاية للناس. البلد ينهار، لذا دعونا نقيم احتفالاً مكلفاً للملكة. كان الاقتراح الرئيسي للميزانية الجديدة لحكومة حزب المحافظين الجديدة برئاسة ليز تروس هو تخفيض ضرائب الأثرياء.
ديفيد برساميان: ومع ذلك لايزال صناع القرار ومن يسمونهم بالقادة خجولين، بالأحرى حذرين، للغاية في مقاربتهم لمعالجة المشاكل المجتمعية ومسائل الحرب والسلام. وعندما يتطلب الأمر اتخاذ إجراءات صارم ومثيرة، نراهم مترددين ويقتنعون بتدابير ضعيفة. وهذا ما يدعونا، مرة أخرى لطرح السؤال التالي: الحكام والأثرياء لديهم عائلات، ولديهم أطفال وأحفاد، ومع ذلك يفشلون في التصرف على الأقل لتقليل الكوارث التي لابد أنها ستحدث ذات يوم.. لماذا يا ترى؟
نعوم تشومسكي: إنها ظاهرة مثيرة للاهتمام. لهذا السبب أستخدم صورة الرجل الذي يسقط من ناطحة السحاب التي ذكرتها. وفي الحقيقة، يعيش الأثرياء حياة مترفة حقاً فهم يمتلكون ثروات طائلة لا يعرفون ما يفعلون بها. كم عدد اليخوت الفاخرة التي يمكنك الحصول عليها أنت من تنتقدهم؟.. كم؟ لاشيء؟ إذن لم كل هذا؟ هكذا يفكرون، هذه هي العقلية. وبالمناسبة، ليس من الدقة القول أنهم يشعرون بالملل من حياتهم المترفة هذه. كل ما في الأمر أن سلوكهم سيجعل الأمور أسوأ – بل أسوأ بكثير مما نظن. لقد قدمت بالفعل بعض الأمثلة: دعنا نستخدم علومنا وتقنياتنا لتقوية التربة الصقيعية حتى نتمكن من استخراج المزيد من النفط، فلنعاقب الشركات التي تخبر المساهمين عن التأثير البيئي لاستثماراتهم كي لا يفعلوا ذلك ثانية.. طيب لننظر إلى ما هو أكثر جدية، انظر إلى تايوان، لقد مر نحو خمسين عاماً من السلام هناك. الذي تأسس على فكرة سياسية تعرف بـ "الصين الواحدة"، حيث تتفق الولايات المتحدة والصين على أن تايوان جزء من الصين، لأنها بالتأكيد تخضع للقانون الدولي. تتفق صناع القرار على هذا، ثم يضيفون ما أسموه "الغموض الاستراتيجي" - مصطلح دبلوماسي يعني أننا نقبل هذا من حيث المبدأ، لكننا لن نقوم بأي خطوات للتدخل فيه. سنحافظ على الغموض وسنحذر حتى لا نستفز أي شيء. لذا، سنترك الموقف يسير على هذا النحو. لقد أدت هذه الاستراتيجية دورها بشكل جيد لمدة خمسين عاماً. لكن ما الذي تفعله الولايات المتحدة الآن؟ لا تتخذ وضعية المزهرية هناك، كلا. ليست خاملة إلى هذا الحد، ودعك من سلوك نانسي بيلوسي المضحك في الترويج لنفسها؛ لقد كان غباءً صرفاً، لكنه مر على الأقل. وقد يحدث ما هو أسوأ بكثير. الق نظرة على لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ. في 14 أيلول، قدمت قانون سياسة تايوان، الذي يقوض تماماً مبدأ الغموض الاستراتيجي. ويدعو الولايات المتحدة إلى التحرك لمعاملة تايوان كحليف من خارج الناتو. وإلا، معاملتها بشكل مشابه تماماً لمعاملة دول الحلف، حيث ستنفتح علاقات دبلوماسية كاملة، تماماً كما هو الحال مع أي دولة ذات سيادة، وتتجه نحو تحركات لنقل الأسلحة على نطاق واسع، ومناورات عسكرية مشتركة، وإمكانية التشغيل البيني للأسلحة والأنظمة العسكرية - تشبه إلى حد بعيد في الواقع، سياسات العقد الماضي تجاه أوكرانيا، والتي تم تصميمها لدمجها في القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي وجعلها قوة فعلية للحلف. حسناً، نحن نعلم إلى أين أدى ذلك.
الآن يريدون أن يفعلوا ذات الشيء مع تايوان. حتى الآن كانت الصين هادئة إلى حد ما حيال ذلك. لكن هل يمكنك التفكير في أي شيء أكثر جنوناً؟ حسناً، لقد مر ذلك. كان مشروع قانون من الحزبين، بنسبة17-5 في اللجنة. فقط أربعة ديمقراطيين وجمهوري واحد صوتوا ضده. في الأساس، كان تصويتاً ساحقاً من الحزبين لمحاولة إيجاد طريقة أخرى لتدمير العالم. دعونا نخوض حرباً نهائية مع الصين. ومع ذلك، لا يوجد حديث تقريباً عن ذلك. يمكنك أن تقرأ عنه في الصحافة الأسترالية، التي تشعر بالاستياء الشديد حيال ذلك. يتم الآن التحضير لتقديم المشروع للتصويت في الجلسة العامة. طلبت إدارة بايدن، حسب تقديرها، إجراء بعض التغييرات على مشروع القانون بعد تقديمه من اللجنة. لكنه يمكن أن يمر. ثم ماذا؟ إنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي بضجر. إنهم يقولون، "دعونا نتسابق إلى الهاوية بأسرع ما يمكن."
ديفيد برساميان: لكن ما زلت أفكر في ذلك الحفيد الذي يقول، "جدي، لماذا أفسدت الأمور من أجلي؟ لماذا خربت الكوكب؟ إنه وطننا الوحيد". ماذا يستطيع الجد أن يقول؟
نعوم تشومسكي: كانوا يقولون ذلك عندما نبهتهم غريتا تونبيري في اجتماع دافوس. هذا بالضبط ما قالته، "لقد خنتونا." كيف كان رد فعل النخبة؟ تصفيق مهذب. ”كم أنت فتاة صغيرة لطيفة. والآن هيا عودي إلى المدرسة. فسوف نهتم بالأمر لا تقلقي". هذا ما يقوله الجد.
ديفيد برساميان: في 21 أيلول، خاطب بايدن الأمم المتحدة في نيويورك، قائلاً "لقد انتهكت روسيا بلا خجل المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة." علماً أن الولايات المتحدة لديها سجل كبير في انتهاك المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة. أين الإعلام من الإشارة إلى هذه التناقضات والنفاق؟
نعوم تشومسكي: هناك الكثير من الردود في العالم الثالث. إنهم يقعون أرضاً ضحكاً وسخرية هناك. نقرأ تعليق العالم الثالث وهم بالكاد يصدقون ما يحدث. هذا هو المخالف الرئيسي لميثاق الأمم المتحدة أكثر من أي عضو آخر يقول لنا، "أووه، هناك شخص ما انتهك ميثاق الأمم المتحدة." أعني، إنه أمر غريب حقاً عندما تنظر إلى الأمر من هذه الزاوية. يكاد يكون من الصعب تصديق ذلك. هناك مقال حديث في فورين أفيرز، المجلة الرئيسية التابعة للنظام القائم، بقلم شخصان ليبراليان: فيونا هيل، التي كانت كبيرة مسؤولي أوروبا وروسيا في مجلس الأمن القومي من 2017 إلى 2019 وهي الآن في بروكينغز، وأنجيلا ستينت، الباحثة الرائدة في الشأن الروسي والتي تنتمي أيضاً إلى معهد بروكينغز.
في بداية الأمر، يشجب المقال بوتين، ثم العالم الثالث. ويمكن أن نقرأ فيه: "هذا العالم الثالث المجنون. هناك أشخاص يجرؤون بالفعل على مقارنة ما يفعله بوتين في أوكرانيا بما فعلته الولايات المتحدة في فيتنام والعراق. إلى أي مدى من الجنون يمكن أن نصل إليه حقاً"؟. نعم.. هذا ما تقوله النخبة الليبرالية، لكنك لن تجد ولو كلمة نقد واحدة تجاه الإدارة. بالطبع أنا أنتقدها. ربما سيفعل ذلك زوجان آخران من المنشقين المجانين، لكن لن يكون هناك المزيد من الانتقادات السائدة. أما في أوروبا، فهناك حديث الآن عن طرد روسيا من مجلس الأمن. فهل تحدث أحد عن طرد الولايات المتحدة وبريطانيا من مجلس الأمن بعد غزو العراق؟ في الواقع، إذا نظرت إلى السجل الخاص بفيتنام، فقد كانت الأمم المتحدة تخشى حتى مناقشته لأنهم فهموا أنهم إذا طرحوا الأمر، فإن الولايات المتحدة ستقوم بتدمر المنظمة فوراً. لذلك، لا يمكن طرح الموضوع. هذا هو العالم والمجتمع الفكري الذي نعيش فيه.
ومازلت حتى يومنا هذا، وبعد عقود، لا تستطيع العثور على شخص يقدم نقداً صادقاً لحرب الفيتنام، اللهم إلا بعض الهوامش هنا وهناك. حاول أن تجد شخصاً من التيار الرئيسي وستجده يقول ما قاله 70 % من الشعب الأمريكي في العام 1978 - أن حرب فيتنام لم تكن "خطأً"، بل كانت "غلط وغير أخلاقية من حيث الجوهر". في ذلك الوقت كان الجناح اليساري للنخبة، مثل أنتوني لويس في صحيفة نيويورك تايمز، يقول إن الحرب بدأت "بجهود مضطربة لفعل الخير"، لكنها تحولت إلى فعل خاطئ لأننا لم نتمكن من جلب الديمقراطية إلى فيتنام بتكلفة مقبولة بالنسبة لنا، وفي ذات الوقت يقول 70٪ من الشعب – أن الحرب ليس خطأ. بل هي غلط وغير أخلاقية.
والآن انظر إن كنت ترى، من النخبة السائدة، من ينتقد حرب العراق باعتبارها خطأ استراتيجي فادح، كما فعل أوباما، بل أيضاً، وكما هي فعلاً، جريمة دولية عظمى بل كارثة وكارثة وحشية وشريرة. في عضون ذلك وفي الذكرى العشرين لغزو أفغانستان -وهي جريمة كبرى أخرى- أجريت مقابلة مع جورج دبليو بوش في الواشنطن بوست، لقد صورت الصحيفة هذا الجد الطريف اللطيف والجميل وهو يلعب مع أحفاده، ويلهو، ويتباهى بالصور التي رسمها لأشخاص مشهورين التقى بهم. إنه مشهد رائع وجميل بعد عشرين عاماً من تدمير وتقويض أفغانستان. تحاول منظومة التلقين المكثف فرض كل هذا على الشعب، وهي تنجح في ذلك بدرجة كبيرة. وأثناء ذلك، نقوم بالأشياء التي وصفتها للتو، ليس نحن فقط. خذ الخلاف بين إسرائيل ولبنان على سبيل المثال من الذي سيشرف على إغراق كلا البلدين تحت الماء. هل هناك حديث عن ذلك؟ لا. لقد تلقيت مقالاً في "هآرتس" يقول إن هذا جنون، لكن لا شيء عملياً يسعى لمنع ذلك.
ديفيد برساميان: كما تذكر.. لقد كانت تشيلي هدفا للتدخل الأمريكي من خلال الإطاحة بنظامها الديمقراطي لانقلاب رعته وكالة المخابرات المركزية في العام 1973. وفي أوائل الشهر الماضي، أجرى البلد تصويتاً على دستور جديد ليحل محل الدستور الذي تبناه بينوشيه في العام 1980. وكان النتيجة معارضة 62 %. ترى ماذا حدث هناك؟
نعوم تشومسكي: لهذه القصة جوانب أخرى عديدة، حيث سبق ذلك استفتاء العام 2020 الذي أجاب فيه 78٪ من الناخبين إنهم يريدون التخلص من دستور بينوشيه. إذن، نحن أمام قصة مختلطة. ماذا حدث حقاً؟ حسناً، كان الدستور الجديد يحتوي على عناصر لم برغب لها الشعب. منها مثلاً إعلان شيلي مجتمعاً متعدد الجنسيات وإعطاء حقوق واسعة للسكان الأصليين، وهو ما ينبغي أن يتمتعوا به. حسناً، كان هذا كثيراً بالنسبة للكثير من السكان؛ لقد أرادوا شيئاً من شأنه أن يحل محل ديكتاتورية بينوشيه، لكن ليس أشياء من هذا القبيل. كما أعطى الدستور المقترح حقوقاً للطبيعة. هذه فكرة تقدمية للغاية -وهذا أمر زائد عن رغبة الكثير من السكان. يجب القول إن وسائل الإعلام التشيلية، جميعها، يمينية متطرفة، وقامت بحملة ضخمة لتشويه سمعة الدستور الجديد، ونشرت الأكاذيب والافتراءات حول كل الأشياء الفظيعة التي كان يحتوي عليها مشروع الدستور.
حسناً، هناك بعض الاختبارات لمعرفة ما إذا كان لذلك تأثير أم لا. فثمة بعض التجارب المضبوطة فعلياً، مع وجود مجموعات سكانية متشابهة، باستثناء أن إحداها رأت فعلاً الدستور والأخرى قرأت عنه في الأخبار فقط. كانت الاختلافات مثيرة. أولئك الذين شاهدوا الدستور كانوا أكثر تفضيلاً بكثير، أما من قرأوا عنه فقط عارضوه بشدة. لقد رأينا أشياء من هذا القبيل هنا. خذ على سبيل المثال قانون إعادة البناء بشكل أفضل، وهو اقتراح بايدن الرئيسي. فإذا ما نظرت إلى عناصره الفردية، ستحد الشعب يدعمه بشدة. لكن إذا نظرت إلى مشروع القانون بحد ذاته، فقد عارضوه لأنهم لم يعرفوا ما فيه. إنهم لا يريدون برنامجاً حكومياً كبيراً من قبل هؤلاء الديمقراطيين الذين كانوا يحاولون فرض شيء ما علينا. حسناً، هذه هي القصة عينها: لقد رأيناها تتكرر عدة مرات، خذ موضوع إصلاح الرعاية الصحية، والتأييد الجماهيري الساحق له. ولكن بعد ذلك تبدأ الدعاية التجارية حول كيفية عدم السماح لك برؤية طبيبك؛ ستخبرك الحكومة عن الأدوية المسموح لك بتناولها. وفي مواجهة أنواع القصص المخيفة هذه، ينقلب الرأي العام ضدها. هذا هو الغرض من الدعاية. هذا هو ما يعنيه أن يكون لديك أعمال ذات وعي فئوي عالي وتشن حربًا طبقية وحشية مستمرة ومريرة بموارد ومنظمات وتفاني هائلة. وهذا ما له كبير الأثر. يجب أن أذكر شيئاً آخر عن تشيلي، حول الإطاحة بالحكومة الديمقراطية وتنصيب الدكتاتورية. لم يحدث في العام 1973 فحسب، ولكن في 11 أيلول 1973. (كان ذلك أول أيلول، وهو أسوأ بكثير مما نسميه 11 سبتمبر. فهل هناك من يتحدث عنه؟)
ديفيد برساميان: فيما يتعلق بمسألة ما يمكن فعله، فلنتحدث عن السؤال القديم للإصلاحات التجميلية مقابل التغيير الجذري الأساسي. إنه شيء تناوله الدكتور مارتن لوثر كينغ جونيور عندما قال، "لقد تعبت لسنوات عديدة من فكرة إصلاح المؤسسات القائمة في الجنوب. ثمة تغيير بسيط هنا، تغيير بسيط هناك. الآن أشعر بشكل مختلف تماماً. أعتقد أنه يجب إعادة بناء المجتمع بأكمله، يجب إحداث ثورة في القيم ".
نعوم تشومسكي: يمكنك العودة إلى روزا لوكسمبورغ وقيادة النشطاء اليساريين منذ أكثر من قرن. لم أقبل حقاً هذه الثنائية. لم اشأ قبول هذا الاستنتاج المتباين، فالأمر ليس خيار بين إصلاح أو ثورة، بل كليهما. هناك إصلاحات مرغوبة للغاية. لنفترض أن إصلاح النظام الصحي سيجعل الولايات المتحدة تنضم إلى بقية دول العالم. وأعني ذلك حرفياً. في العام 1975، كان النظام الصحي الأمريكي نظاماً طبيعياً جداً بين المجتمعات المتقدمة - تقريباً ذات النتائج، وذات التكاليف. ثم يأتي الانقسام الذي يصاحب النيوليبرالية. التكلفة الصحية الآن هي ضعف ما عليه المجتمعات المماثلة، ليس هذا فحسب، بل نحصل على نتائج أسوء في بعض الحالات. بل إنها متطرفة بعض الشيء فمعدل الوفيات آخذ في الازدياد. وهذا لا يحدث في أي مكان سوى في بيئات الحرب والوباء الشديد. لكن في الولايات المتحدة يحدث دون سبب كارثي. أرغب حقاً رؤية إصلاحاً لذلك. أود رؤية نظام صحي مثلما هو حال المجتمعات الأخرى. نعم هذا ليس بالأمر القريب على نحو ما، لكنه سيكون إصلاحاً مهماً لو حصل ومن شأنه إنقاذ العديد من الأرواح، والأطفال، وكبار السن. هذا يعني أنك لن تفلس إذا كان عليك الذهاب إلى المستشفى. أنا لست ضد هذا الإصلاح، أنا معه ومؤيد له.
يجب أن يكون لدينا أيضاً ثورة اجتماعية كبيرة تجعل الرعاية الصحية أمراً حقيقياً ومضموناً، لذلك لا يتعين عليك التعامل مع هذه العقبات. ولكن هذا تغيير كبير. أود أيضاً رؤية تغييراً اجتماعياً يتم من خلاله دمقرطة أماكن العمل، وليس الاستبداد، ولكن في غضون ذلك أود رؤية حماية أفضل لحقوق العمال. هذه ليست رغبات متناقضة. بل هي خطوات ينبغي اتخاذها كمحاولة لتغيير العالم. قم بتحسينها عندما تستطيع، وحاول التغلب على المشاكل الأساسية من خلال تنظيم حركات ثورية ملتزمة. الإصلاح والثورة الاثنان ليسا في حالة تناقض.
ديفيد برساميان: ولكن بالنظر إلى طبيعة المؤسسات القائمة، فلنتحدث عن الكونغرس تحديداً، حيث يتمتع أحد أعضاء مجلس الشيوخ، جو مانشين، بسلطة كبيرة وقادر على منع بعض التشريعات ويدفع بالأمور التي يريدها. كيف سيحدث ذلك في ضوء هيكل الكونغرس؟
نعوم تشومسكي: نعم، هذا رجل انتخبه حوالي 300 ألف شخص، العديد منهم يعارضون سياساته بالفعل. في نيسان الماضي، وافق اتحاد عمال المناجم في أمريكا (UMWA)، الذين يمثلون الكثير من الطبقة العاملة في ولاية فرجينيا الغربية، على برنامج انتقالي من شأنه نقل عمال المناجم بعيداً عن صناعة الفحم المنهارة للانتقال إلى التدريب والوظائف في مجال الطاقة المتجددة. عارض مانشين قانون إعادة البناء الأفضل الذي تضمن مثل هذا البرنامج، مما دفع رئيس الاتحاد لحث مانشين على إعادة النظر في موقفه. يرغب مانشين في الحفاظ على صناعة الفحم؛ فهو نفسه من بارونات هذه الصناعة، ويحصل على تمويل من أصحابها. لذا نراه ينتهج سياسات تضر بفيرجينيا الغربية ويعارضها العديد من ناخبي وست فرجينيا، بما في ذلك جماعته الخاصة من عمال المناجم. لدينا ديمقراطية محدودة للغاية. هناك مشاكل هيكلية مثل تلك التي تسمح لشخص على شاكلة مانشين بأن يكون له صوت حاسم. هناك الكثير من المشاكل التي يجب التغلب عليها. يمكننا قضاء الساعات القليلة القادمة في طرح بعض هذه الطرق. ولكن في غضون ذلك، دعنا نحاول إجراء أي تغييرات صغيرة يمكننا تحقيقها أثناء العمل على تحقيق التغييرات الكبيرة.
....
ملاحظات المترجم
*تشير عبارة الذعر الأحمر Red Scare إلى ما حصل في بداية عشرينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، أي حالة الخوف الواسع بين الأوساط اليسارية، لاسيما الأجنحة المتطرفة، نتيجة التحريض السياسي الراديكالي في المجتمع الأمريكي والانتشار المزعوم للاشتراكية والشيوعية والفوضوية في الحركة العمالية الأمريكية مما أدى إلى تأجيج الشعور العام بالقلق.
** صوت صارخ في البرية voices in the wilderness مجاز إنكليزي يشبه تماماً القول العربي "لقد اسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي" .. ويعود أصل التعبير الإنكليزي إلى ما كان يكرز به يوحنا المعمدان في زمن المسيح كما ورد في الأناجيل المختلفة.. للمزيد انظر الإصحاح الثالث من إنجيل متّى على سبيل المثال : 3 فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».
*** رافائيل إدوارد كروز سياسي أمريكي ومحامي سيناتور عن ولاية تكساس منذ عام 2013.
العتوان الأصليThe Proto-Fascist Guide to Destroying the World
المصدر https://www.bostonreview.net/articles/the-proto-fascist-guide-to-destroying-the-world/