انتشار الأخبار الكاذبة عن الأخبار الكاذبة. قراءة في كتاب Foolproof: Why Misinformation Infects Our Minds and How to Build Immunity

محمود الصباغ
2023 / 6 / 16 - 07:46     

دانيال ويليامز
ترجمة محمود الصباغ
ما إن وضعت الحرب الكورية أوزارها في العام1953، حتى سُمح للجنود الأمريكيين الأسرى بالعودة إلى ديارهم. غير أن ما أثار دهشة العديد من الأمريكيين، رفض البعض لهذا العرض وتفضيلهم الذهاب إلى الصين رفقة آسريهم. وسرعان ما شاع رأي يتحدث عن قيام الجيش الصيني بعمل شيء ما غير عادي للأسرى، عبر محاولات مكثفة ومتواصلة لإقناع الجنود هؤلاء- باستخدام تكتيكات مثل الحرمان من النوم والحبس الانفرادي والتعرض للدعاية- بتفوق الشيوعية على الرأسمالية. وفي خضم جنون الارتياب العام بسبب المكارثية في خمسينيات القرن الماضي، كان واضحاً تحقيق هذه التقنيات الصينية بعض النجاح، مما تسبب في قلق كبير، وسرعان ما صرنا نسمع أن هؤلاء الجنود تعرضوا إلى "غسيل دماغ" -وبات الجميع عرضة للخطر.
أثار الذعر الذي أعقب ذلك بشأن السيطرة على العقل بحثاً محموماً عن الحلول. كيف يمكن حماية الجمهور الأمريكي من هذا الخطر الجديد؟ كان ويليام مغواير، عالم النفس الاجتماعي الطموح، من بين أولئك الذين قبلوا هذا التحدي. وتمثلت فكرة مغواير الرئيسية بتشبيه غسل الدماغ بالعدوى الفيروسية، بمعنى إمكانية علاجها في مرحلة ما بعد العدوى، وهو ما يعطي أملاً بالشفاء، مثل الكثير من حالات العدوى الفيروسية. ولكن الحل الأفضل، وأيضاً مثل معظم الحالات الفيروسية، يكمن في اللقاح قبل الإصابة. واستمر مغواير في استخدام هذا المجاز، مدعوماً بسلسلة من التجارب التي بدا كأنها تعزز تكهناته، تأسيساً على ما دعاه "نظرية التلقيح"، حيث يمكن تحصين الأفراد ضد غسيل الدماغ عن طريق تعريضهم لجرعة ضعيفة من الدعاية وتحذيرهم من تقنيات وأساليب التلاعب التي قد يواجهونها في الحياة الواقعية. ويلخص عنوان مقاله "لقاح لغسيل الدماغ" الذي نشره في مجلة Psychology Today في العام 1970 تطلعاته تلك. وقد غابت مقولة مغواير لفترة من الوقت حتى بدى أن نظريته عن التلقيح والمخاوف التي طرحتها قد اختفت تدريجياً من الوعي الشعبي والعلمي.
غير أن نظرية مغواير عادت للظهور مجدداً في السنوات الأخيرة، مع بعض التنويعات والتعديلات. فقد صرنا نتحدث الآن عن الأخبار الكاذبة أو الزائفة بدل الحديث عن غسيل الأدمغة، فنحن نتحدث الآن عن معلومات مضللة بدلاً من غسل الدماغ، وانضم إلى الشيوعيين الذين لعبوا دور الأشرار الأصليين مجموعة أكثر تنوعاً من القادة الشعبويين ومنظري المؤامرة وحملات التأثير الروسية ومنصات التواصل الاجتماعي وغير ذلك. لكن الأساس بقي كما هو، أي حالة الخوف ذاتها التي ترى تعرض الجماهير للخداع الشديد والوقوع في شَرك الأفكار الخطيرة. كما عاد إلى الواجهة من جديد تشبيه الحالة بالأمراض المعدية. ففي العام 2020 وصفت منظمة الصحة العالمية المخاطر التي يشكلها انتشار المعلومات المضللة حول فيروس كورونا COVID-19 بأنها "وباء معلومات"، وهو مصطلح بات يستخدم الآن على نطاق واسع في المقالات العلمية ووسائل الإعلام على حد سواء. كما انتعشن أيضاً أفكار مغواير ومراجعتها وإعادة تقديمها في المجلات العلمية الرفيعة المستوى، لإعلام سياسات الحكومات والشركات الإعلامية في محاولاتها لمكافحة الانتشار الفيروسي للمحتوى الخاطئ. وذكرت شبكة سي إن إن في عدة تقارير لها أن "الباحثين ابتكروا" لقاحاً ضد "الأخبار الكاذبة"، كما أعلنت مجلة شهيرة مثل أمريكان سينتيفيك Scientific American عن "وجود لقاح نفسي ضد المعلومات المضللة"، ويذكر عنوان مجلة رولينغ ستون،" لقاح التضليل: هل هناك ثمة نظريات مؤامرة"؟. وتتناول هذه المقالات أبحاث عالم النفس ساندر فان دير ليندن ومساعديه في جامعة كامبريدج. ويعتبر فان دير ليندن شخصية مرموقة في البحث العلمي الحديث حول المعلومات الخاطئة وهو أكثر المؤيدين الحديثين لنظرية التلقيح. ويهدف كتابه الأخير " السهل المضمون: لماذا تصيب المعلومات المضللة عقولنا وكيف نبني مناعتنا" Foolproof: Why Misinformation Infects Our Minds and How to Build Immunity:، إلى نشر الأفكار الجديدة حول المعلومات المضللة والأفكار المركزية لنظرية تلقيح الجمهور. ويوضح فان دير ليندن بالتفصيل الاهتمام الكبير بعمله من قبل الحكومات والهيئات الدولية والشركات -بما في ذلك شركة غوغل- وكان الاستقبال النقدي للكتاب إيجابياً بشكل كبير، مع مراجعات هامة في عدة صحف كبيرة. لكن أفكاره وحججه المركزية لا تصمد أمام التدقيق.
تبدو رسالة الكتاب بسيطة: المعلومات الخاطئة والتضليل أشبه بـ، أو هي، فيروس خطير يهدد كل شيء بدءً من الصحة العامة وصولاً إلى الديمقراطية. كما يقول فان دير ليندن، "يمكن للناس أن يصابوا بالمعلومات الخاطئة مثلما يصابوا بالمرض". ويعتبر "فيروس المعلومات المضللة" شديد العدوى وهو "لا يهدد رفاهية الأفراد فحسب، بل يشكل تهديدات خطيرة وجدية على سلامة ونزاهة الانتخابات والديمقراطيات في جميع أنحاء العالم". ويؤكد فان دير ليندن علة عدم كفاية معالجة الضحايا -أي إزالة المعلومات المزيفة من عقولهم- بعد إصابتهم بالعدوى، إذا ما أردنا محاربة هذا الفيروس، بل يتوجب تلقيح الضحايا قبل الإصابة بالعدوى.
تبنت بعض الأعمال المبكرة لفان دير ليندن استراتيجية مغواير، أي إيجاد لقاحات معينة لأشكال المعلومات المضللة. وعلى سبيل المثال أظهرت مجموعة من التجارب عن أفضلية تحذير الناس من الادعاءات المضللة المتعلقة بتغير المناخ بدلاً من دحض المفاهيم الخاطئة بعد ظهورها. وأظهر فان دير ليندن ومعاونيه طموحاً لافتاً في بعض أعمالهم الحديثة، إذ اتضح أن السعي إلى تعريض الأشخاص لـ "لشيفرة" المعلومات المضللة -أي البنية المشتركة لتقنيات التلاعب، سواء كانت تتعلق بتغير المناخ أو اللقاحات أو التزوير الانتخابي، أو أي شيء آخر، سوف يكون مجدي أكثر من تحصين الأفراد ضد المعلومات المضللة حول موضوعات معينة، عدا عن كلفته العالية وصعوبة توسيع مدى التلقيح أو التحصين بسهولة. ووفقاً لفان دير ليندن، يمكن فهم هذه الشيفرة من خلال ستة مكونات أساسية يختصرها بمصطلح DEPICT: تشويه السمعة، العاطفة، الاستقطاب، انتحال الشخصية، التآمر، التصيد، التي يختصرها بالتعبير DEPICT الذي يشير إلى الحروف الأولى من الكلمات الإنكليزية السابقة.
ستكون الخطوة التالية التي تلي الكشف عن لغز الشيفرة المتضمنة معلومات خاطئة، هي تصميم اللقاح وإدارته بصورة صحيحة. ويقترح فان دير ليندن ومساعديه تدخلاً محدوداً على هيئة ألعاب games، ففي لعبة Bad News، وهي اللعبة الأكثر تأثيراً التي طورها فان دبر ليندن وفريقه، يقوم اللاعبون بدور "قطب الأخبار المزيفة" فيحاولون تضليل الناس عبر الإنترنت. ويكون هدف هذه المحاولة تجميع علامات مميزة أو شارات badges يمكن الظفر بها عندما ينجح أي لاعب في إتقان كل جزء منوط به من سلسلة مكونات شيفرة الـ DEPICT بنجاح، وسوف يتم، في هذه اللعبة، اختيار المعلومات المضللة الساذجة عن قصد -كما هو الحال مع اللقاحات الحقيقية، وهذا يعني تعرض الأشخاص، ضمن إطار اللعبة، إلى سلالة غير ضارة من فيروس المعلومات الخاطئة- ويزعم فريق البحث كيف سيقوم الأفراد، من خلال اللعبة، بتطوير أجساماً مضادة عقلية، إذا جاز التعبير، ضد المحتوى الأكثر الذي يواجهونه في العالم الافتراضي.
يصرف الكتاب جهوداً غير قليلة في البحث عن تبرير تجريبي مزعوم لهذه المقاربة. ويتم اختبار تجربة نموذجية يُطلب من المشاركين فيها تقويم درجة موثوقية المجموعة عينها من العناوين الإخبارية قبل وبعد ممارسة اللعبة. وتُظهر النتائج، وفقاً لفان دير ليندن، تحسن ملحوظ للأشخاص في هذه المهمة بعد اللعب، وتفوقهم على عناصر مجموعة متنوعة من مجموعات التحكم والمقارنة، وهذه الاستراتيجية توفر، بلا شك، حماية أفضل لدى مقارنتها بالتدخلات البديلة. غير أن الحجة هذه ليست درجة معقولة من الإقناع، ولمعرفة السبب، سوف تفيدنا العودة إلى حالات الذعر والهلع الناتجة عن غسيل الأدمغة في الخمسينيات، وهي حالات لا أساس لها من الصحة إطلاقاً، وغير مبررة في الواقع، فمن بين آلاف أسرى الحرب الأمريكيين، أعلن 21 شخصاً فقط (0.5% تقريباً) تمردهم وهربوا إلى الصين، وفوق كل هذا، لا تبدو الأسباب وراء سلوكهم هذه تتعلق بدرجة إقناع حقيقية، بقدر ما كانت مرتبطة بمصالحهم الشخصية البسيطة بالدرجة الأولى، وربما خشي الكثير منهم تعرضهم لمحاكمات عسكرية لتعاونهم مع خاطفيهم الصينيين. وهذا في واقع الحال أمر معروف ينتظره، في العادة، بعض الجنود العائدين إلى أوطانهم. بمعنى، تحمل هشاشة سردية غسيل الدماغ هذه، عدة دروس عامة لحالة فزع المعلومات المضللة الحالي وللأفكار المركزة التي تستعرضها نظرية التلقيح.
الدرس الأول: لا أساس حقيقي للمخاوف الناجمة عن إمكانية التلاعب بالناس على نطاق واسع. وبخلاف ما يتردد في قصص الفولكلور الشعبي، لا يوجد شيء اسمه غسل دماغ. حتى في ظل ضغوط رهيبة تقودها حملة مكثفة من الإقناع والتلاعب، يبقى الأشخاص عموماً عنيدين ويصعب التأثير عليهم. فالمعلومات المضللة ليست عملية غسيل دماغ بأي معنى، ولكن ثمة درس مشابه ينطبق على هذه الحالة. حين يصور الذعر الحالي من المعلومات المضللة البشر الواقعين تحت تأثير هذه المعلومات، كأفراد غاية في السذاجة، ويقومون بشكل روتيني بمراجعة وجهات نظرهم وسلوكياتهم لما هو حولهم بناءً على ما يواجهونه على الإنترنت. وتشير مجموعة كبيرة من الأبحاث النفسية استخدام الناس آليات نفسية معقدة لتقويم المعلومات المتبادلة التي يتلقونها. فإذا كان ثمة ما هو مريب، فسوف تزيد هذه الآليات -ما يسميه علماء الإدراك "اليقظة المعرفية"- من عناد الأفراد على نحو مفرط، ويصعب، بالتالي، التأثير عليهم، في الوقت الذي يعتقد فيه البعض عكس ذلك. ويظهر الناس، عموماً قدراً هائلاً من الشكوك في المعلومات التي يتلقوها أو تعرض عليهم: فإذا ما تعارضت الرسالة الكامنة وراء هذه المعلومات مع معتقداتهم السابقة، فسوف يطالبون المصدر إظهار حجج يعتبرونها محل ثقة. وبخلاف ذلك، عادة ما يرفض الأفراد هذه الرسالة.
وهذا لا يعني أننا متبصرون وعلى اطلاع متواصل لكل ما هو جيد، فمازال الجهل منتشر، ومازلنا نحتفظ بمعتقدات غير دقيقة حول العديد من المواضيع. لكن المسألة ليست هنا، ليست ما إذا كان الناس مضللين أم لا. بل في أن نظرية التلقيح تنسب وجود المعتقدات الخاطئة إلى التعرض للمعلومات المضللة، ولكن هذه صورة مبسطة للغاية ومضللة، في ذات الوقت، لواقعنا الإدراكي. فمقولة أن المعلومات الفيروسية المضللة المنتشرة "تشوه مواقف وسلوكيات الجمهور بما يخلق لديه مواقف سياسية وآراء تتسق مع أفضل الأدلة العلمية المتاحة" تملك "أسساً محدودةً في الأدبيات العلمية الاجتماعية" مثلما يرى ديترام شوفيل وزملاؤه. وغالباً ما تكون الحقيقة معقدة وغير مؤكدة ومنافية للشعور العام ومتناقضة مع جملة المفاهيم والمعتقدات السائدة بغض النظر عن المعلومات الخاطئة التي تنهال علينا من وسائل الإعلام. وقد يكون من الصعب اكتشاف هذه الحقيقة أو الوصول إليها في سياق السيل الجارف من المعلومات الخاطئة، لأسباب ليس أقلها احتفاظ الناس بمعلومات محدودة، وانشغالهم، وخضوعهم لانحيازيات منطقية على مستوى طرائق التفكير المختلفة.
تنشأ في سياق فترات طويلة من عمرنا، تعود إلى طفولتنا، المعتقدات التي نعتنقها والهويات التي نفسر بموجبها العالم. وتتميز هذه المعتقدات بتفاعلات معقدة بين ميولنا وتماثلاتنا وشخصياتنا وتطورنا وخبراتنا الحياتية ومجتمعاتنا.. والكثير غير ذلك. وغالباً ما تكون نظرتنا إلى العالم الناتجة عن هذه العملية نظرة جزئية وغير دقيقة ويصعب التخلص منها أو تحويلها وانتقالها، لاسيما لأن الكثير منا مازال لا يحتفظ بثقة عالية لما يقوله العلماء والوكالات الحكومية وسلطات الصحة العامة، بل يشعر البعض حتى بالعداء إزائهم. وبرغم السجال حول أسباب عدم الثقة هذه، وازديادها في الآونة الأخيرة، في العديد من البلدان، إلا أنها تبدو كما لو أنها متجذرة في عوامل مختلفة ذات صلة بالاقتصاد، والهوية، والاستقطاب، والفشل المؤسسي، ولكن ليس "العدوى" بالأخبار الكاذبة. ويتعارض هذا المنظور بعمق مع فرضية فان دير ليندن التي ترى أن المعتقدات الخاطئة تنشأ لأننا لا نبدي شكوكاً كافية في المعلومات التي نتلقاها عبر الإنترنت أو من مصادر إعلامية أخرى. فإذا كانت التصورات الشائعة لها جذور أعمق بكثير ونشأت من عمليات عبر سنوات مديدة، فقد تكون المشكلة الحقيقية في كثير من الحالات هي عكس ذلك تماماً، أي يظهر الناس تشبثاً قوياً بحدسهم وبديهياتهم، في حين يشككون أكثر بالمعلومات التي تصلهم من مصادر موثوقة، وفي هذه الحالة، قد يتسبب توجيه الناس نحو يقظة أكثر تجاه التلاعب المحتمل بنتائج عكسية، حيث يوفر لهم موارد أكثر تدفعهم لرفض المعلومات التي تتعارض مع معتقداتهم التي لا تستندـ بدورها، على أسس صحيحة.
فهل يمثل هذا مخاطرة حقيقية؟
لعله من الأجدى توخي مزيد من اليقظة والحذر إذا ما كنا نعيش في بيئات تجتاحها المعلومات المضللة، ما يشير إلى ذلك افتعال الجائحة الإعلامية. ولكن واقع الحال يشي بأن الذعر الحالي المتعلق بوباء المعلومات الخاطئة له بحد ذاته جذور ممتدة في الأخبار الكاذبة. ويظهر الأمر في الدول الغربية المدروسة جيداً، على الأقل، كيف تكون نسبة المعلومات الخاطئة في منظومة المعلومات التي يحتفظ بها غالبية أفراد المجتمع ضئيلة للغاية؛ نظراً لأن الغالبية العظمى منهم تحصل على الأخبار من مصادر موثوقة إلى حد كبير. لذلك قد يكون من غير المفيد، بالأحرى سوف يلحق بهم ضرراً، حقاً إقناعهم -كمن يضللهم- بأن عوالمهم مشبعة بأخبار فيروسية كاذبة، عليهم الحذر والتشكك فيها. وتعتمد المزاعم حول حجم الأخبار الكاذبة على كيفية تعريفنا "للمعلومات المضللة". وهذا أمر مثير للجدل. ففي حين تتوفر للأوبئة الحقيقية أسباباً محددة جيداً -الفيروسات التي يمكن تحديد سلالاتها وتسلسلها- تفتقر المعلومات الخاطئة إلى تعريف قابل للإجماع. وإذا ما تم تعريفها على نطاق واسع كمعلومات مضللة، فسوف تكون موجودة بكثرة. علماً أن التقارير حتى بين مصادر الأخبار الرئيسية، غالباً ما تكون من طبيعة انتقائية وشديدة التحزب والتحيز. ويمكن القول أن الأخبار بحد ذاتها هي من طبيعة مضللة حتى لو غابت عنها الانحيازات السياسية، حيث تنطوي العملية الإخبارية على تقديم عينة أحداث إخبارية غير تمثيلية تماماً يكون هدفها جذب الانتباه.
ويتبع فان دير ليندن ميل الأبحاث الحديثة حول المعلومات المضللة إلى تعريفها بشكل أضيق كمعلومات خاطئة مباشرة، نظراً لأن تعريفها بشكل أوسع سوف يؤدي إلى نتائج مماثلة لما سبق الحديث عنه في الفقرة أعلاه. وتشكل المعلومات المضللة ضمن هذا الحيز الضيق من تعريفها جزءً صغيراً من منظومة معظم أفراد المجتمع، لأسباب ليس أقلها امتناع وسائل الإعلام الحزبية الفعالة والدعاية عن التعبير، كما جرت العادة، عن الأكاذيب التي يمكن إثباتها بسهولة مباشرة. وبالنظر إلى هذا التعريف، تظهر الصورة العامة المضللة لوباء المعلومات الذي تعاني منه عوالمنا عن طريق فيروس معلومات، وقد تسبب هذه الصورة ضرراً أيضاً. مما لا شك فيه أن المعلومات الخاطئة، بهذا المعنى الضيق، ليست مخادعة أو وهمية بصورة مطلقة وكاملة. ويمكن أن نلحظ وجود محتوى متدني الجودة وكاذب حتى لو لم يكن منتشراً بالشكل الذي تثار حوله مثل هذه المزاعم بوجه عام. بيد أن استهلاك مثل هذه المعلومات الخاطئة متفاوت بشدة. حيث يستهلك معظم الناس قدراً قليلاً جداً منها، باستثناء نسب صغيرة من أفراد المجتمع -يتكون معظمهم إلى حد كبير من أصحاب نظريات المؤامرة شديدي النهم للمعلومات بصرف النظر عن مصدرها أو صدقها، والمتطرفين المنحازين والراديكاليين- وهي فئات تستهلك، بلا شك، الكثير منها.
ربما سيستفيد هذا الجمهور من لقاح المعلومات الخاطئة من النوع الذي يقترحه فان دير ليندن؟
الدرس الثاني: للوصول إلى مقاربة ناجحة سوف نضع في اعتبارنا، هذا الدرس الثاني من حالة الذعر، التي تتسبب بها عملية غسيل الدماغ التي ظهرت في الخمسينيات، من أجل معرفة سبب عدم وجود مبرر لهذا الاستنتاج. وإذن، عندما يبدو حصول تلاعب في أفكار الناس، فهذا لا يعود إلى تعرضهم للخداع ضد مصالحهم، بل لعل الأمر عكس ذلك تماماً، أي لأن سلوكهم يعزز مصالحهم الشخصية. وهنا يمكننا رؤية هذا الأمر في قانون العرض والطلب الذي تخضع له سيولة وحجم المعلومات المضللة. فمن جهة العرض، تنشر بعض الجهات الفاعلة معلومات مضللة عمداً لأنها تستفيد -مالياً أو غير ذلك- من إيهام وتضليل جمهورهم بصحة المعلومات التي يتلقوها. (في مثل هذه الحالات، يتحدث أهل الاختصاص عادةً عن "التضليل الإعلامي"). ويرغب البعض الآخرـ بكل بساطة، في إثارة الاستفزاز والغضب، والتواصل مع أعضاء ثقافتهم الفرعية التي ينتمون إليها، وإظهار سماتهم الاجتماعية الجذابة. كما تعتبر الأهداف المماثلة أيضاً أهدافاً أساسية في استهلاك المعلومات المضللة. فنحن على وجه العموم لا نحبذ أن نكون على دراية ومطلعين جيداً على دقائق الأمور، حتى عندما نقدم أنفسنا كباحثين محايدين عن الحقيقة. وتشكل معتقداتنا ورؤيتنا للعالم أجزاءً من هوياتنا وتؤدي مجموعة من الوظائف العاطفية والاجتماعية بالنسبة لنا: فهي تساعدنا على كسب موافقة الأصدقاء والمؤمنين المشتركين، وتعزز وتبرر اهتماماتنا ومصالحنا، وتساعدنا على الشعور بالرضا والارتياح عن أنفسنا واختياراتنا.
يدرك فان دير ليندن هذه الظاهرة -التي يسميها علماء النفس "الإدراك المحفز"- ويخصص فصلاً كاملاً من الكتاب لها، لكنه لا يقدّر المشاكل العميقة التي تطرحها القصة السببية البسيطة في قلب نظرية التلقيح. حيث يسعى المؤمنون المتحمسون إلى الحصول على محتوى مضلل يبرر قناعاتهم ورواياتهم المفضلة، كما أن الرواد الإعلاميون المضللون سيحققون مكاسب اجتماعية ومالية من تلبية هذا المطلب. وعلى هذا، لا تكون النتيجة، في مثل هذه الحالات، وباء معلومات بل سوقاً للتبريرات والدوافع العاطفية. فلا يتعامل الناس مع الفيروسات الضارة كسلعة استهلاكية، ولا يرغبون في الإصابة بها؛ بينما، وعلى النقيض تماماً، يفعلون ذلك في حالة المعلومات المضللة.
بإيجاز، تستند نظرية التلقيح على صورة مشوهة للإنسان بوصفه كائن سلبي غير نشط وسهل ساذج. وبعيداً عن كوننا ضحايا ساذجين لفيروسات العقل التي تجتاح أنظمتنا المعلوماتية، فنحن وكلاء متطورون نملك أهدافاً وهويات معقدة تنتقل في بيئات تهيمن عليها معلومات موثوقة إلى حد كبير، على الأقل في الأمور الواقعية البسيطة. أما بخصوص درجة التضليل التي نعاني منها في هذا الشأن، فالأمر لا يتعلق بسبب خداعنا من مصادر غير موثوقة أو تجربة مضللة؛ بل يعود في أحيان كثيرة إلى درجة الشك العالية في المصادر الموثوقة التي تتعارض مع معتقداتنا السابقة، أو لأن استهلاك ونشر المعلومات المضللة يعزز اهتماماتنا أو أهدافنا.
وإذن، هل تهدد هذه الاعتبارات مشروع فان دير ليندن؟
حتى لو كان حجم المعلومات المضللة مبالغاً فيه في كثير من الأحيان، وحتى لو كنا نمتلك حوافز معنية تدفعنا لاستهلاك محتوى متحيز ومضلل، فسيكون من العبث إنكار تعرضنا للخداع أحياناً عن طريق أكاذيب ضارة. يضاف إلى هذا تشابه الجانب الأكثر أهمية بالنسبة لنظرية التلقيح، حتى لو كانت المعلومات المضللة مختلفة عن الفيروس في بعض النواحي، إذ ربما تحتوي هذه المعلومات المضللة على "DNA" جوهري يمكن للأفراد تعلم التعرف عليه من خلال تعرض مضبوط له. فإذا كان الأمر كذلك، فالمخاوف بشأن جعل الناس أكثر تشككًا في جميع المجالات لا أساس لها من الصحة. قد نعتقد أن التشكك يمكن أن يستهدف بشكل ضيق المعلومات المضللة دون التأثير على الثقة في المحتوى مصدر الثقة أصلاً. ولمعرفة سبب عدم احتمال حدوث ذلك، من الضروري التمييز بين الادعاء القائل بأنه من المفيد تحذير الناس بشأن أفكار معينة -التخمين بدلاً من نقضها- وبين الفرضية الطموحة التي تقول بإمكانية تلقيح الناس وتحصينهم ضد كل المعلومات الخاطئة المحتملة بأشكالها المختلفة كافة. وقد يكون القول الأول صحيحاً رغم تباين البراهين عليه. غير أن وجهة النظر الثانية لا تصمد كثيراً أمام النقاش. حيث أن افتراضها المركزي -وجود شيء ما جوهري في المعلومات الخاطئة، مثل "حمض نووي" يمكن تدريبنا على التعرف عليه- افتراض غير معقول تماماً. وتكمن المشكلة الأساسية في عدم وجود فروق جوهرية بين المزاعم الصحيحة والادعاءات الكاذبة. بمعنى، لا تعتمد صحة أو عدم صحة المزاعم -مفيدة أو مضللة- على خصائص الزعم بعينه بل على مدى تمثيله الدقيق للواقع. فإذا أخبرنا شخص ما أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية للعام 2020 قد أُبطلت بسبب تزوير أو احتيال في عملية التصويت، على سبيل المثال، فلا يمكننا ببساطة فحص البيان -أو حتى السياق الخطابي المحيط به- لمعرفة ما إذا كان صح أم خطأ؛ فحقيقته أو زيفه يعتمد على الواقع.
كيف نقرر إذن قبول ما يقوله لنا الآخرون؟
في الواقع لا نملك قدرة على التحقق مباشرة من صحة المزاعم بالنسبة لمعظم الأسئلة موضع النزاع ذات الأهمية العامة، ولذا علينا الاستفادة من معتقداتنا التي نحتفظ بها -سواء كانت من الدرجة الأولى (حول المسألة المطروحة) أو من الدرجة الثانية (حول مدى جدارة المصدر الذي يقدم المزاعم). ويمكننا، في مواقف معرفية مثالية، قبول الحجج المقنعة التي تتعارض مع مشاعرنا الغريزية أو حدسنا أو التزاماتنا السابقة، ولكن حتى في هذه الحالة، سوف تكون المعتقدات التي نحتفظ بها ضرورية أيضاً لتقويم ظواهر الحجج جدارة الأطراف الذين نناقشهم ونجادلهم. ويمكن، في ظروف أقل من مثالية، قد يتعارض الإدراك المحفز مع السعي وراء الدقة، مما يؤدي بنا إلى رفض الادعاءات حتى لو كان لدينا أسباب وجيهة لقبولها وقبول الادعاءات حتى عندما تكون غير متوقعة أو مدعومة باستدلال تافه. وفي هذه الحالات، قد نكون منحازين لقبول الادعاءات التي ترغب في تصديقها -لأنها تؤكد هويتنا على سبيل المثال، أو تشير إلى ولاءاتنا الحزبية- وتشكك كثيراً في المزاعم التي نجدها مهددة أو غير مستساغة. وتشير هذه الصورة لواقعنا الإدراكي والمعرفي إلى حدود حادة للحلول على المستوى الفردي لمكافحة المعلومات الخاطئة. فإذا كان الناس متشككين للغاية بالفعل، وارتباط التحديات الحقيقية للمعلومات الخاطئة بالإدراك المحفز، فسوف تقع التحديات الحقيقية على تماس مع المعلومات المضللة على المستويين النظامي والسياسي. فينبغي، على سبيل المثال، بناء المزيد من المؤسسات الجديرة والتي يمكنها كسب ثقة الناس، ويجب علينا معالجة الظروف الاجتماعية والسياسية التي تجعل الناس مستهلكين حماسيين للمحتوى المتحزب والتآمري. وتتعارض هذه النظرة جذرياً مع الزعم الجوهري لنظرية التلقيح، أي القول باحتواء المعلومات المضللة على "إشارات" داخلية معينة، تكون بمثابة علامات جوهرية بمكن للأفراد تعلمها بصورة مستقلة للكشف عن عدم الموثوقية للحصول على أي معرفة أو دوافع جديدة. ولفهم مشكلة هذه الفكرة، سوف نعود إلى إطار عمل الـ DEPICT الخاص بفان دير ليندن ونتأمل الشق الأول من الاختصار: تشويه المصداقية.
صحيح أن منتجي المعلومات المضللة غالباً ما يسعون إلى تشويه سمعة من يتحدون مزاعمهم، ولكن صحيح أيضاً سعي وسائل الإعلام السائدة والموثوقة إلى تشويه سمعة المحتوى الهامشي والمتطرف في أغلب الأحيان. وكتاب فان دير ليندن هو، في نهاية المطاف، محاولة مستمرة لتشويه سمعة (مصداقية؟) منتجي المعلومات المضللة. وما يميز المعلومات المضللة هو سعيها إلى تشويه سمعة المصادر الخاطئة، وليس انخراطها في تشويه السمعة بتاتاً. وذات الشيء ينطبق على مكوّن العاطفة، أي الشق الثاني من الـ DEPICT. وسوف نقول مرة ثانية، من الصحيح أن الكثير من المعلومات المضللة تؤثر على مشاعر وعواطف الناس، ولكن الكثير من المحتوى العام وموضوعه يستغل العواطف أيضاً. والقليل من الأشياء التي تلعب تستغل العاطفة بذات القدر الذي يقوم به خطاب مارتن لوثر كينج الابن "لدي حلم". حقيقة أن المزاعم مشحونة عاطفياً لا تخبرنا ولا يمكنها أن تخبرنا ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة. فإذا كان الأمر كذلك، فستكون هذه مشكلة كبيرة للادعاء المركزي لكتاب فان دير ليندن، أي تشبيه المعلومات الخاطئة بفيروس خطير، وهذا يعني استغلال مخاوف الناس واللعب على وتر عواطفهم.. يتمثل العنصر الثالث في الـ DEPICT في آلية الاستقطاب، وهي محاولة مثيرة للاهتمام على وجه الخصوص لتحديد المعلومات الخاطئة. صحيح أن المروجين للإشاعة غالباً ما يسعون إلى تأجيج الانقسامات المجتمعية، ولا شك أن الكثير من المحتوى المضلل يمثل استقطاباً واحتقاناً كبيرين. ومع ذلك، ما لم يكن المنظور الشرعي الوحيد للعالم هو الوسط -وهي وجهة نظر غير متماسكة، لأسباب ليس أقلها أن ما يعتبر وسطاً أو رئيسياً يختلف اختلافاً جذرياً عبر الزمان والمكان- فإن المحتوى الشرعي التام يمكن أن يكون شديد الاستقطاب أيضاً. ويُعرِّف فان دير ليندن الاستقطاب بأنه أسلوب تضليل يحاول "إبعاد الناس عن الوسطية السياسية"، ولكن من الصعب التفكير في أي حركة تقدمية -مثل النسوية ومعاداة العنصرية ونشطاء حقوق السكان الأصليين وما إلى ذلك- لا يمكن تمييزها بهذه الطريقة. مرة أخرى، لا يوجد سبب للاعتقاد بأن ميزة المعلومات هذه تقول أي شيء عن حقيقتها أو موثوقيتها.
أخيراً، علينا الوضع في اعتبارنا نظريات المؤامرة -وهي الشق الخامس من إطار عمل فان دير ليندن. لا شك أن العديد من نظريات المؤامرة خاطئة، وبعضها غير عقلاني للغاية. ولكن ماذا عن الادعاء بأن كبار أعضاء الكنيسة الكاثوليكية تآمروا للتستر على إساءة معاملة الأطفال داخل المؤسسة؟ أو تآمر إدارة بوش لكسب التأييد لغزو العراق بالكذب بشأن وجود أسلحة الدمار الشامل؟ أو تآمر شخصيات بارزة في البنوك الكبرى للتأثير على السياسات بطرق تخدم مصالحها في أعقاب الأزمة المالية في العام 2008؟.
يلاحظ فان دير ليندن في بداية الكتاب أن نظريات المؤامرة السيئة تختلف عن نظريات المؤامرة المعقولة بافتقارها إلى الأدلة. ولكن إذا كانت نظريات المؤامرة يمكنها أن تكون صحيحة ومعقولة، فإن مجرد وجود نظرية المؤامرة -كيفما عرّفناها- لا يمكن أن يكون علامة لتمييز المعلومات المضللة. وهذا كثير بالنسبة لأربعة من الجوانب الستة لإطار عمل الـ DEPICT. بعيداً عن كشف جينات المعلومات الخاطئة، فإنه يحدد الظواهر التي غالباً ما ترتبط بمعلومات موثوقة.
يستخدم دعاة البروباغاندة وحملات المعلومات المضللة تقنيات مماثلة، وهذا لا يعني القدرة على اكتشاف التقنيات باعتبارها خاصية لمعلوماتهم المضللة. لنأخذ مثالاً تقنية قطف الكرز. على الرغم من أن هذا غير مدرج في إطار عمل الـ DEPICT، إلا أنه أسلوب تضليل واسع الانتشار وفعال على وجه التحديد لأن "الكرز" -القصص الإخبارية والأحداث المبلغ عنها وما إلى ذلك- حقيقية ولأن العملية التي يتم من خلالها اختيار الكرز هي عملية مخفية. ينطبق ذات الدرس عموماً وهكذا تميل المعلومات الخاطئة الفعالة -التي يُفترض أنها النوع الوحيد الذي يجب أن نقلق بشأنه- إلى تجاوز قدرة الأشخاص على اكتشافها.
ولكن هل هذه المخاوف مدمرة لنظرية التلقيح؟
يمكن للنظرية أن تخدم، أحياناً، هدفاً أكثر تواضعاً -ليس التقاط جوهر المعلومات المضللة ولكن ببساطة لجعل الناس أكثر يقظة لاحتمال أن يتم التلاعب بهم بطرق معينة. ولكن هذا يتعارض مع ادعاءات فان دير ليندن في الكتاب. وكبديل لذلك، قد نعتقد أن الدليل موجود في البيانات التجريبية التي يخصص لها فان دير ليندن مساحة كبيرة في كتابه. والسؤال ما إذا كان الأداء الناجح في هذه المهام التجريبية يشير إلى "تلقيح" حقيقي ضد التضليل الحقيقي. سوف نجد أنفسنا مرة أخرى أمام أسباب قوية للشك.
أولاً، هناك نوعان من المقاييس المختلفة يمكن من خلالهما تقويم التدخل في مواجهة المعلومات الخاطئة: تحسين قدرة اكتشاف المعلومات الخاطئة، أو تحسين القدرة على التمييز بين المحتوى الموثوق وغير الموثوق. ولفهم الفرق، لنفترض أنه طُلب من مشارك في الدراسة أن يحكم على حقيقة عشرة عناوين، خمسة منها خاطئة. لنفترض كذلك أنه قبل التدخل، قام الأفراد بتصنيف جميع العناوين الرئيسية بأنها صحيحة ولكن بعد التدخل يقوم بتصنيفها جميعهاً كعناوين زائفة. وفقاً للمقياس الأول (تحسين قدرة اكتشاف المعلومات الخاطئة)، يبدي الفرد تحسناً كبيراً -فقد انتقل معدل نجاحه في اكتشاف العناوين الخاطئة من 0% إلى 100%- لكن ربما لم يكتسب قدرة أكبر على التمييز بين محتوى موثوق وآخر غير موثوق؛ يمكن ببساطة أن يصبح أكثر تشككاً في جميع العناوين بلا استثناء.
وتعتبر وجهة النظر التي يستعرضها عالما النفس أريانا موديروستا غاليان وفيليب أ. هيغام في مقال حديث لهما، أمراً لافتاً في هذا السياق، من خلال التركيز على المقياس الأول بدلاً من الثاني، يبالغ البحث الحالي في تضخيم الفوائد الواضحة لألعاب محاكاة اللقاحات المعلوماتية. وفي الواقع، قد يكون هذا أمر مبالغ فيه حقاً. فنظراً للشكوك التي نبديها بالفعل ونظراً أيضاً لانتشار المعلومات الحقيقية بثورة أكثر من انتشار المعلومات المضللة في العالم الواقعي، فمن المؤكد أن جعل الناس أكثر تشككًا في جميع المجالات ينطوي على عواقب سلبية. ويصف فان دير ليندن في نقطة ما في كتابه بحثاً يهدف إلى مواجهة هذا القلق والوقاية من هذه المخاوف. ويطرح، في تجربة واحدة قام بها مع مساعده جون روزنييك، بتضمين عنوانين رئيسيين دقيقين في دراستهم، بالإضافة إلى مجموعة من العناوين الرئيسية التي توضح تقنيات المعلومات المضللة المزعومة التي تم تحديدها في إطار عمل الـ DEPICT بعد المشاركة في لعبة Bad News، لم ينظر المشاركون إلى العناوين الدقيقة باعتبارها عناوين كاذبة، لكنهم كانوا أكثر قدرة على اكتشاف تقنيات المعلومات المضللة. ووفقاً لفان دير ليندن، تُظهر هذه النتيجة أن التدخل يؤدي في الواقع إلى تحسين التمييز؛ فهو لا يجعل الناس أكثر تشككاً بشكل عام فقط. مرة أخرى يبدو أن هذا "الاكتشاف" الإيجابي مجرد نتيجة من تصميم التجربة. كانت القصتان الدقيقتان المتضمنتان في الدراسة معروفتين عند إجراء التجربة في العام 2019: وهما رغبة ترامب في بناء جدار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيحدث رسمياً في ذلك العام. الزيادة العامة في الشكوك لن تدفع المشاركين إلى الشك في كل شيء اعتبروه سابقاً خبراً صحيحاً. ويشير هذا الاعتبار إلى مشكلة ثانية في التجارب التي يُزعم أنها تثبت صحة نظرية التلقيح، فالعناصر المستخدمة لاختبار التمييز بين المعلومات الخاطئة عادةً ما يتم اختيارها من قبل القائمين على التجربة. وقد ابتكر فان دير ليندن وفريقه، في الواقع، أمثلة على المعلومات الخاطئة لتوضيح ما يعتبرونه تقنيات أساسية للمعلومات الخاطئة الموضحة في إطار عمل الـ DEPICT. فاستخدموا، على سبيل المثال، التغريدة التالية: "تم التلاعب بسعر صرف البيتكوين من قبل مجموعة صغيرة من المصرفيين الأثرياء. InvestigateNow # لتوضيح تقنية المؤامرة، بينما من المفترض أن "دراسة جديدة تظهر الأشخاص اليساريين يكذبون أكثر بكثير من اليمينيين" لتوضيح تقنية الاستقطاب. (بغض النظر عما إذا كانت هذه أمثلة جيدة للظواهر التي من المفترض أنها تمثلها). ويؤكد فان دير ليندن: "إذا ما استخدمنا قصة إخبارية حقيقية مزيفة، فربما سيعرف الناس ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة لمجرد أنهم قرأوها أو شاهدوها أو سمعوها من قبل".
تحمل هذه المنهجية نقاط ضعف واضحة.
فأولاً، إذا ما كان ينبغي استبعاد أمثلة الأخبار الكاذبة من العالم الواقعي على أساس أن تلقيها المبكر، فلماذا إذن يعتبر من الجيد تضمين أمثلة حقيقية للأخبار الصحيحة التي يكاد يكون شبه مؤكد تلقاها جميع المشاركين من قبل؟ ثانياً، نظراً لأن فان دير ليندن وفريقه قد ابتكروا أمثلة المعلومات المضللة بأنفسهم، فهم يتمتعون بدرجات كبيرة من الحرية في إنشاء أمثلة تزيد من احتمالية ظهور تدخلهم بنجاح. (ربما يفسر هذا بساطة الأمثلة) أخيراً، وهو أسوء ما في الأمر، ثمة مشكلة تواجهنا بالفعل: لا تعتبر "تقنيات المعلومات المضللة" التي تميز عناصر الاختبار تشخيصاً للمعلومات الخاطئة في واقع الأمر. ولذلك، لا يماثل زيادة الميل لاكتشاف مثل هذه الأساليب والتقنيات زيادة الميل لاكتشاف المعلومات الخاطئة. وتبدو جميع هذه الاعتبارات كأنها تطيح بالحجة القائلة بصحة البرهان التجريبي لنظرية التلقيح. وهذا يعني أن حجة الكتاب لا تعد أمراً موثوقاً تماماً، على الأقل على صعيد التعريف الضيق نسبياً الذي استخدمه فان دير ليندن في كتابه، فالمعلومات الخاطئة ليست واسعة الانتشار، ويكاد يكون دورها السببي في الأحداث الاجتماعية الكبرى إما لا أساس له أو مبالغ فيه إلى حد كبير.
وبشكل عام، يظهر البشر في مجتمعاتهم كأفراد متعلمين ومتطورين ويتمتعون باليقظة والحذر، وإذا كان هناك شيء ما غير واضح، فسوف يظهرون مزبداً من الريبة نحوه بدلاً من تصديقه بسذاجة. يبدو أن قلة قليلة منهم الذين يتعاطون مع الحصة الأكبر من المعلومات المضللة ذات الجودة المنخفضة هم تلك الفئة الشغوفة المستهلكة، ولن يكونوا بطبيعة الحال الضحايا السلبيين لتلك المعلومات المضللة. كما أن المعلومات الخاطئة الفعالة تفتقر إلى جينات، أو شيفرة وراثية" أساسية قابلة للتمييز الدقيق عن المحتوى الحقيقي والموثوق.
وفي ضوء نقاط الضعف هذه التي تعتري الكتاب، سوف نتسائل لماذا انتشرت نظرة فان دير ليندن عن العدوى الفيروسية للمعلومات المضللة بشكل واسع؟
بدأت تنتشر حالة هلع من المعلومات المضللة في العام 2016 بعد حدثين صادمين للكثير: تصويت المملكة المتحدة على مغادرة الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وقد بدأ العديد من النقاد وصانعو السياسات وعلماء الاجتماع في التساؤل عن سبب فقدان الكثير من الناس لعقولهم تماماً، في ظل الظهور العالمي للشعبوية القومية -ودور وسائل التواصل الاجتماعي بإظهار وجهات النظر الهامشية-، فقدمت سردية المعلومات المضللة الإجابة: لأن الناس حول العالم يعيشون حالة من التضليل بسبب المعلومات الكاذبة التي "تلقوها".
وتجدر الإشارة إلى ثلاث سمات تفسيرية. الأولى ذات أبعاد غير سياسية، وبالتالي لا تفسر الصراع الاجتماعي والسياسي من منظور هويات الأفراد ووجهات نظرهم ومصالحهم المتباينة ولكنها تنظر إلى الأخطاء الحقيقة الناجمة عن التعرض لمعلومات سيئة. ومن وجهة النظر هذه، يظهر خصومنا السياسيين ببساطة كمغفلين وجهلة، وبمجرد أن ينالوا قدراً من التعليم والتفكير النقدي سيتفقون معنا؛ ولا حاجة لإعادة تصور المؤسسات الاجتماعية الأخرى أو بناء القوة السياسية اللازمة للقيام بذلك. وتتمثل السمة الثانية في الحجة التكنوقراطية وليس الديمقراطية. وباستخدام مجاز الوباء الذي يقترح حلولاً لمشاكل اجتماعية مشابهة لتدابير الصحة العامة، فإن هذا يجب أن يقود الخبراء إلى طريق كبح انتشار الفيروسات العقلية وتلقيح الجماهير ضدها. وتفترض السمة الثالثة والأخيرة أن وجود شعور عميق من التفاؤل، رغم الإشارات العديدة التشاؤمية من النقاد بشأن المعلومات المضللة، لا يقتصر فقط على توضيح وعلاج بسيط للمشاكل الاجتماعية المعقدة؛ بل يتصور تهديداً قابل للتحديد بشكل مباشر.
أعتقد أن هذه السمات قادرة على تفسير سبب حصول رواية المعلومات المضللة كفيروس على مثل هذا التأييد الواسع. إن الاعتقاد يكون فيروس المعلومات الخاطئة الخطير مصدراً رئيسياً لمشاكل المجتمع هو أمر شائع ليس لأنه مدعوم بالأدلة، وليس لأنه قادر على خداع الأفراد الساذجين، ولكن، وهو الأكثر منطقية، لأن طابعه البسيط وغير السياسي والتكنوقراطي يتردد صداه مع مصالح وانحياز من يستهلكه وينشره.
....
العنوان الأصلي The Fake News about Fake News
المؤلفDaniel Williams
المصدرhttps://www.bostonreview.net/articles/the-fake-news-about-fake-news/