تغريدة العقل لمّا يعقل هذيانه


الطايع الهراغي
2023 / 6 / 11 - 17:40     

ذات ساعة من ساعات اللّيل وأنت تستعدّ لافتتاح مسامرتك مع ذاتك انتابك سيل من الهواجس بملامح ضبابيّة،حالة لم تكن مستعدّا لها.لم تقرأ لها حسابا على غير عادتك في ما سلف من الأيّام،هجم عليك بغتة،وعلى دفعات على خلاف المعتاد. بين يقظة غائمة سكرى حبلى بما لستَ تدري تراودها إغفاءة كسلى فتنفر منها،ولحظات شرود في قمّة الصّفاء المحيّر سيكون من العبث الإصرار على التّمييز بين ما هو في عداد الخطرفة الخاطفة والهذيان المنساب وما هو من أكثر لحظات الوعي صدقا.هول التّذكّر بدا لك هذه المرّة أكثر من غريب.استبدّ بك.متى؟؟ ومن أين لك أن تدري؟؟ احتمال أن يكون في أوّل غبش اللّيل،ويُرجّح أن يكون في الهزيع الأخير منه. بعض الشّكّ الواثق يقودك إلى أنّ الأمر قد يكون حدث البارحة من ذات سنة من سنوات خلت.لا موجب يدفعك إلى الكذب، حتّى لو كان جميلا مهذّبا،رغم أنّه لا شيء أيضا يشجّعك على الصّدق المفضوح. صدق ثقيل ومؤلم.
من سمات الهذيان قدراته الخارقة على الانفلات والتّسرّب خارج مجال رادارات المراقبة ومراوغتها-إن وُجدت-(ولا يمكن إلاّ أن توجد).كان لزاما عليك أن تمسك بالخيط النّاظم لشريط الوقائع والأحداث. بدا لك القبض عليها مستعصيا إن لم يكن مستحيلا. أحداث متداخلة متنافرة تتزاحم على الذّاكرة.تغازلها وتنتظر. بعضها كأشدّ ما يكون الانتظام،وبعضها الآخر هو النّشاز والتّنافر وقد تألّق وتآلف فبات ضربا من الإغراء. رونقها وجمالها فيما هي عليه من الفوضى والانزياح عن كلّ انتظام. تترجّاك أن لا تبذل جهدا في البحث لها عن بعض المعقوليّة.أن لا تقمع جموحها وتعيد ترتيبها كما تمنّيتها أن تكون بما يرضي غرورك ويشبع عنادك الجامح ويريحك من بعض الإحراج،فيضيع ما فيها من صدق منفلت ساعةَ غياب الرّقابة والرّقيب.فيض من الصّور تتراقص أمامك. بعضها في غاية البيان والصّفاء الملتبس،وبعضها في غاية الغموض الواضح. تنتصب أمامك الأماكن ركنا ركنا مهمومة حزينة ذابلة، مداخلها منتكسة.لا شيء يحيل إلى أنّها ذات يوم كان لها عصمة ما.بعضها ضاع كحبّ خبا قبل أن يكتمل. أغرتك بداياته.أطربك موّاله وطوّح بك. لمّا فيه تهت فرّ منك حالما استوى.لماذا؟ لو كنت تعرف السّبب لما حدث ما حدث.لحظة انفلات شاردة كان همّك أن تلتحف بها،أن تكون أنت، منها وإليها، وتكون هي سبيلك إلى محو بعض من الخيبات ،أن تداري ما خيّم عليك من أحزان،أن تسيطر على ما ركبك من أشجان شردت وضاعت كما ضاعت رهانات وتبخّرت أحلام يوم اختلط تيتّم المدن وانكسار الشّوارع وبهتة القبو وأحزان العواصم وتهاوي الجسور واغتصاب النّوايا بانهزام الطّفولة وتلاشي عربداتها، بنحيب الصّبايا وانحباس الدّمع في الأحداق وتعفّن الجراح وامّحاء الأسماء وإصرار الألقاب على البقاء.
تداهمك الذكرى،هذه التي ما خنتها يوما وتقدّر أنّها خذلتك أيّاما أو هكذا يبدو لك .تخاف عليها أن تتسلّل كحبّات الرّمل، تخاف أن يكون حالك معها كمن يريد القبض على الماء فتخونه فروج الأصابع.
ذات يوم بدون سابق إعلام، وبدون سبب هجرك من تحبّ. صارحك بعد كم سنة في لقاء فجئيّ عابر غير منتظر إطلاقا أنّك لم تفهم معنى أن يتجاوز العشق حدّه.ذلك ما كان. فكان لا بدّ من تأجيجه.وليس كالجفاء إلى ذلك سبيل. تسلّل كما تسلّلت مدن أفنيت عمرا ترسم في مخيّلتك أسوار حمايتها . ضاعت عواصم. تهاوت خيام .انكسرت أزقّة. رحل من الأحبّة الكثير.قلت لا باس. الحلم باق. اندثر الحماة والكلّ قابع يلتمع في مكان ما جدّ قصيّ. كالرّغبة، لمّا يسكنك اليقين أنّها خذلتك وخبت، تراودك ساعة يتمكّن منك اليأس ويجثم عليك الإحباط. اختلطت عليك الأفكار وتزاحمت الأمكنة.امتزجت الأزمنة بالدّروب المتداخلة. تعانقت عاتيات الأيّام واللّيالي المكلومة والأفراح الشّاردة.
تتذكّر صديقا ضاع منك في منتصف الطّريق لمّا توزّعت الدّروب وكان لا بدّ من الاختيار.ندمت على أمر واحد:كيف لم يخطر ببالك أن تودّعه من باب التّحسّب من فواجع الحياة أيّاما قبل رحلة الضّياع، وأنت تدري أنّ الحياة حسناء قد تقبل عليك فتحييك، ولكنّها بالمقابل لعوب،"كلبة بنت كلب"إذا أدبرت عنك تدميك . فكرة مجنونة كهذه كان يجب أن تخامرك.
يذبحك طيف امرأة أوغلت بك في وعر المسالك،مرادها أن تعبث بالمألوف،أن تصوّب الاعوجاج الذي صاحب مسار حياتها بأن تصنع من صدفة غريبة أفقا عجيبا.
ضحكتَ من جسارتها وجنونها وإصرارها على تحويل مجرّد احتمال إلى لحظة فارقة،وضحكت هي ممّا اعتبرته تردّدا منك مميتا.
لما رحل أبوك ذات صباح قبل الأوان - وأبوك لا يمكنه أن يذهب إلى الموت بدون قرار- قلت: ليكن. لا حزن ولا شجن. سألتحف بما تركه من حكايات تكفي لتأثيث ما سنقتلعه من سنوات الجدب المقبلة.
لما غزتك الأفكار وسافرت بك عذابات التّذكّر تأمّلت السّاعة،اكتشفت أنّها هي أيضا تحملق فيك بكثير من الحنين.كنت متأكّدا،ولم يساورك أدنى شكّ في أنّ شطرا من اللّيل لا بدّ أنّه قد مضى.غريب .كم كانت مفاجأتك أليمة؟؟. عقارب السّاعة ثابتة وما بها عطب. أنت بعدُ في أوّل اللّيل.
في التّاريخ من الأعاجيب والمفارقات ما يشيب لها الولدان وتضع كلّ ذات حمل حملها قبل الأوان بأشهر قمريّة، ومن المفاجآت والنّشاز ما يحيّرالعقول،يدمّرها ويسكرها، ومن تشعّب المآسي ما يغري بتأليف أكثر الرّوايات دراميّة. غصْ في كلّ ما هو غريب وعجيب من حكايات تلك الأزمنة.دعك من المألوف فقد بات مضحكة منذ تخطّاه الزّمن .هو الآن متكأ للسّفلة والكسالى. الخيانة على سبيل المثال ليست بالضّرورة عارا ولا هي بالميتة الحقيرة كما ظلّ يصر على ذلك رفيقنا ابن عكّا مادامت تحوز على كلّ مقوّمات إرساء أسس أبدع مأساة. وقد تكون رائعة ومريعة لمّا تهتك الحجب بين حدّ المأساة وأفق الملهاة.لا عليك. فبعد كلّ حرب خاسرة يؤلّف الرّوائيّون بديع المآسي. وبعد كم تجربة فاشلة يدبّج الشّعراء ديوان غريب المراثي، ويأوي السّادة الملوك والأغنياء إلى مخادعهم منتشين يأسرون الجواري بأحاديث عن بطولات وهميّة في حروب لاذوا بالفرار منها ساعةَ قبل اندلاعها.
النّديم الذي يسامرك-الذي هو أنت-كان غارقا في صمته. يخطر له أحيانا أن يبتسم ابتسامة حيرى منفلتة من دبر التّاريخ، تريد أن تسخر من بلادة الزّمن، ومع ذلك تروم أن تكون مساوية لنفسها.ما هو بالمختلّ .لم تصرعه الذكرى. لم يسلّم بعدُ أنّه عجز عن الإمساك بها. ذكرى جميلة غزته على غير رغبة منه.لمّا فتنته تمنّى أن ترسخ في ركن من مخيّلته، تعشّش فيه إلى الأبد حتّى يكون بإمكانه أن يتفرّد بها في ما قد ُيملى عليه من المسامرات، وفي تلك التي لن يحد مفرّا من أن يسعى إليها.
مازال الدّرب طويلا متشعّبا، ولكنّه على أيّة حال رغم التواءاته ليس أكثر امتدادا من الحلم.
لا تغتمّ،فالذّكرى التي تخالها هجرتك وإلى الأبد وتركت فراغا مرعبا في سجّل أيّامك هي-على خلاف فلسفتك في الحياة-في غيابها أكثر حضورا ممّا يخطر ببالك.لمّا تطاردها تضحك منك وعليك وتمضي
تبحث لنفسها عن مخبإ لكي لا تتذرّر، ولا تداهمك إلاّ ساعة تسلّم أن ليس بالإمكان استعادتها.
دعك من الهذيان وحاول أن تصحو.ماذا تذكّرت؟؟ كلّ شيء، ولا شيء.المشكلة إذن مهما بحثنا لك عن ظروف التّخفيف مشكلتك.ما تقسو على نفسك لتتذكّره وتدّعي أنّك لا تجد صعوبة في استحضاره متى أردت وبالكيفيّة التي تحلو لك وفي أيّة لحظة جنون تختارهو أكثر دهاء وتعقّدا ممّا تعتقد.أشياء مبعثرة لا يشدّها منطق تريدها منتظمة وهي تأبى الانتظام.ذاكرتك،حافظة أسرارك أكثر منك مكرا وعفويّة. تدرك أنّك لست مستعدّا للبوح بكلّ التفاصيل فتهبّ لنجدتك وتحجب عنك عمدا البعض من التّفاصيل. كم مرّة راهنت على صديق فكان كالولادة الميتة؟؟.
كم مرّة قسوت على ذاتك فما عنك ازورّت، ركبها العناد وظلّت ثابتة؟؟
كم مرة رسمت حلما لمّا بدا لك غامضا،هو إلى الوهم أقرب، كفرت به، فما نفر منك؟؟.
قرأتَ في كتب الأوّلين عن الأحلام التي تسافر إلى غير وجهة معلومة والمسارب التي تتشابك والأمكنة التي تحفر خدوشا في القلب والقلب الذي يداري ويلاته ليترك للأحلام مسربا منه تتسلّل.
قرأتَ عمّا يدمي القلب ويأسر العقل ويحبس الأنفاس. أوهموك أنّ الحلم ليس كفرا، وأنّ الدّولة تستميت في إنعاش أحلام رعاياها بالمجان، حتّى تلك التي تبلغ حدّ التّطاول على الأخلاق الحميدة وتستهتر بالمقدّسات وتهتك أعراض السّلطان وتتنافى مع ما يضبطه القانون. كلّ ذلك مسطور في كلّ دساتيرها حتّى لا تترك لجاحد أيّة إمكانيّة للكذب والافتراء .
أوهموك أن لا سلطان للزّمن على خفق القلوب وهمس الجفون وتنطع الأشجان.
حاصرتك أسئلة لم يكن واردا ولا من اللاّئق أن تتفنّن في صياغتها :
ما الذي يمنع الدولة من استصدار مراسيم تمنع الأحلام وتراكم الحواجز لتحول دون تدفّقها فتريحك من مكابدة ما تثيره فيك من أشجان؟؟ احذرْ أقاويل الرّعاع وتخريفاتهم. فقد أخذت منهم حبوب الهلوسة كلّ مأخذ.لمَ لا تسلّم بحقّ حكيم آخر الزّمان في تشييد مجتمع الرّفاه الافتراضيّ بفرض هيبة افتراضيّة لدولة افتراضيّة؟؟
ما المانع أن يصوغ الطّبيب تقريرا يقطع الشّكّ باليقين؟؟ مثلا أن يثبّت بكامل الوثوقيّة: ما بك مرض. كلّ ما في الأمر أنّك توسّدت قلما واحتضنت أحزانا مفرحة وابتلعت قرص أحلام. فتوهّمت أنك متّ.دليل الوهم ما وجدوه مرتسما على محيّاك من ابتسامة ثكلى وعلى شفتيك من بهتة ضحوك. التّقرير الطبّيّ يخلو من كلّ لبس،واضح وضوح الشّكّ لمّا يكون سبيله العبور إلى ساحل اليقين.
الآن وعجلة الزّمن ثابتة،ونديمك-الذي هو أنت- تعتصره الحيرة فليس لك أن تدّعي أنّ الخيال قادك بعيدا، وأنّ الذكرى تهجم كشلاّل يعسر رصد مآلاتة. أنت أردت ذلك. تغافوت حينا وتناومت أحيانا، تتلذّذ ما تخاف أن ينفلت ويتذرّر قبل أن تتمكّن ذاكرتك من شحنه ذخرا لمسامرة أخرى لا مكان فيه لنديم ينغّص عليك متعة الاستفراد بلحظات الوجد والاكتواء بما انساب من علبة الزّمن.
وأنت تودّع من اللّيل شطره لست تدري كيف قفزت إلى ذهنك نادرة رغم وضوحها التّامّ والتماع تفاصيلها سيستحيل عليك دوما تحديد زمن حدوثها بالدّقّة المطلوبة.
ما أنت متأكّد منه أنّ الأمر حدث في جلسة منادمة أكثرما فيها حميميّة نقاشها الصّاخب .
سألك الأصدقاء عن الشّخصيّات التي طبعت التّاريخ.رحت تحدثهم عن هرطقات بهلول أعقل المجانين وأعاجيب جحا الحكيم جحا المعتوه،وبطولات دونكيشوت الحالم واكتواء عفراء العاشقة بوجد مات قبل الأجل. حدّثتهم عن الكاهنة وكسيلة،عن أبي رغال وولاّدة بنت المستكفي الشّاعرة، وليس تلك التي قيل فيها "ذات وجه لم تشرق الشمس على أجمل منه".
سردت على مسامعهم حكاية قطام التّميميّة، الحسناء التي اشترطت على من وقع في غرامها(عبد الرّحمان بن ملجم) أن لا ترتضيه زوجا إلاّ أن يكون مهرها اغتيال عليّ .
حدّثتهم عن امرأة واعدتك مرّة أن توافيك في عزّ القيلولة.خلفت وعدها لسبب ظلّ لغزا لا أحد يعلمه غيرها لتفاجأ بها صبيحة اليوم الموالي تتجنّب الدّخول من الباب المفتوح وتتسلّل إلى غرفتك من النّافذة الموصدة.
ردّدت على مسامعهم حكاية ذاك الذي سأله من كلّفوا أنفسهم بحماية أمن الدّولة عن اسمه فزعم أنه إن لم يكن في غفلة منه ضاع فجزما قد تبرّع به لمن يتمّ دوما انتدابهم لرصد دلالات وإحالات الأسماء. لماذا فعل ذلك؟؟ تلك فلسفته في الحياة،أن يحرم "أولاد الحلال" من الانتفاع بأيّة إمكانيّة للوشاية. سألوه عن المدن والأوطان.استعاض عن ذكر الأسماء بالحفر في ما أطلِق عليها من ألقاب:أمّ المعارك/ أرض كنعان/ أمّ الرّبيعين/"المدينة المغسولة بماء البرق والرّعد"(بيروت)/ بلاد الرّافدين/عروس المدائن/أرض البرتقال الحزين(عكّا)/ زهرة المدائن،ولم يخجل عندما عجز عن مغالبة دمع انساب على الخدّين وهو يستحضر ما حوّلته فيروز إلى قرآن"لأجلك يا مدينة الصّلاة أصلّي،لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن، يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي" .
حدّثتهم عن شخص عاديّ لا يُعرف عنه لقب ولا كنية.تملّكته رغبة جنونيّة في إنجاز ما يجب أن يرفعه إلى مصافّ العظماء ويضمن تخليد اسمه.ليس فيلسوفا ولا حكيما ولا حتّى عرّافا.وما هو بشاعر. ليس بطلا أولمبيّا. ليس من أثرياء أثينا ولا من حسناوات اسبرطة.ليس خائنا من الدّرجة الأولى حتّى يُلاحق على مرّ العصور باللّعنات. مجرد رقم. ما العمل؟؟ لم يجد بدّا من حرق أكبر كنيسة في أثينا.
طلع الفجر أو كاد.الدّيك صاح.أمسكت شهرزاد عن الكلام المباح.وتلاشى مع ذاتك ما كان من مسامراتك