قراءة في كتاب -اليسار الجديد: صنع الإرث الراديكالي-

محمود الصباغ
2023 / 6 / 8 - 04:47     

جاستن فاسالو
ترجمة محمود الصباغ
أعلن محررو مجلة "اليسار الجديد New Left Review "، في مقال نُشر في نهاية العام 1968 حول الإضراب العام في باريس في ربيع ذلك العام، عن أن الحديث عن الإضراب يعني لاشك الإيذان بقيام ثورة. وتساءلوا. "كيف يمكن تفسير هذا التحول المفاجئ في الوعي؟"، أي "هذا التحول الفجائي من القبول إلى التمرُّد، من الطاعة إلى العصيان؟". وقد مثّل ربيع باريس (أيّار) 1968، كما احتفل به في العديد من المرات، تتويجاً وفي ذات الوقت انقطاعاً، لحدث تردد صداه إلى ما هو أبعد من باريس حين بلور يساراً جديداً عالمياً احتوى منظمات مختلفة يقودها شباب راديكالي. ويشير، في ذات الوقت، إلى تمايز الأجيال الجديدة عن جيل "اليسار القديم" الذي باتت سمعته على المحك، بنظر نُقّاده، بسبب تكيّفه مع رأسمالية الرفاهية فضلاً عن توافقه الثقافي معها ومع سياسات القانون والنظام والإمبريالية. غير أن ما بلغته أحداث أيّار 68 بالضبط -وإرث اليسار الجديد في حقبة الستينيات على نطاق أوسع- مازال شكل مصدراً ثرياً ومتواصلاً لسجالات ونقاشات عديدة. ويؤكد المؤرخ توني جادت، في رسائل متبادلة نُشرت في مجلة New York Review of Books في العام 2010، وفي سياق الركود الاقتصادي العظيم، وبعد ظهور حركة احتلال وول ستريت Occupy Wall Street، بأن "الإضراب العام ليس بالضرورة سلوكاً "ثورياً".. بل هو "بحاجة إلى قيادة". كما يؤكد جادت أن "إضرابات واعتصامات العام 1968 كانت رائعة ومميزة بسبب عفويتها، ولكنها، ولهذا السبب بالتحديد، لم تكن تتمتع بأي استراتيجية أو أهداف منسقة ومتماسكة". استند تقويم جادت إلى فهم رصين للتطورات السياسية الرئيسية وردود الفعل التي أعقبت الحركات الاجتماعية وحالات التمرد في الستينيات. وقد شهدت أوروبا والولايات المتحدة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، انهياراً ملحوظاً للمنظومة الاجتماعية الديمقراطية. وأكدت زيادة الاضطرابات في صفوف اليسار، وتشتت الطبقة العاملة بين أحزاب يسار الوسط واليسار، على تغيير بنية الخطاب السياسي في السياسات النيوليبرالية إلى جد كبير، كما اختزلت هذه الاضطرابات، أو أبعدت أفق احتمالات التحول الراديكالي. وبرغم ابتذال الأجندات السياسية الملموسة إلا أنها تبدو عملية نوعاً ما، وهو ما يشير إليه جادت، ضمناً، رغم أن هذه الأجندات مازالت مساراً معيناً يمكن للجميع أن يسلكه.
أدت تأملات جادت الأكثر تشاؤماً حول أحداث ربيع 68 إلى إهمال ارتباطها بنوع من إحياء دوري للجناح اليسار، والذي تجدد في السنوات الأخيرة. وشهدنا على مدى العقد الماضي انفجاراً في حركات اجتماعية غير هرمية تنافس قدرات ما قام به جيل الستينيات من الراديكاليين والمحتجين. وتتركز هذه الحركات على أهداف صعبة ومترابطة، مثل: عدم المساواة الاقتصادية غير المسبوقة وتجمعات الثروة المحمية من الطبقة السياسية، والشرطة المتجهة نحو الفاشية والأشكال المستمرة من الاضطهاد العنصري، وأزمة المناخ الملحة ذات المنحى التصاعدي. وعلى الرغم من قدرة هذه الحركات على إثبات نفسها إلا أنها ظهرت مجزأة وربما تفتقر إلى نوع من التفاؤل الملهم الذي ساعد حركة من سبقهم على الفعالية، غير أن ما يحسب لها عدم قدريتها وضياعها، وهو الأمر الذي اعتاد اليسار الغربي أن يقع فيه في ذروة العولمة، عندما غابت السياسات الطبقية الدولية، واعتنقت أحزاب يسار الوسط اقتصاد السوق، وازدهرت في الأوساط الفكرية نقاشات تدور حول "نهاية التاريخ". ورغم حذر هذه الحركات الجديدة من السلطة السياسية الرسمية، إلا أنها كانت مصممة على التأثير عليها وتغيير طريقة تصور المجتمع للظلم.
لذلك، تبدو حركات [اليسار الجديد] اليوم، من وجهة نظر المؤرخ تيرينس رينو، متسقة ومتوافقة مع إرث يساري طويل يسائل الأساليب والأشكال التي يمكنها بناء عالم ما بعد الرأسمالية. ويسلط رينو في كتابه الجديد والمقنع: "اليسار الجديد: صنع إرث راديكالي New Lefts: The Making of Radical Tradition " الضوء على أصول التشكيل الاجتماعي والسياسي المميز الذي يسميه "نيو لفت neoleftism/ النزعة اليسارية الجديدة"، التي يعرفها كمحاولة داخلية للجماعات اليسارية تهدف إلى "تجسيد.. نوع من الديمقراطية التشاركية والسيطرة الشعبية التي يتوقعونها من مجتمع ما بعد الرأسمالية المستقبلي" لتجنب التحول نحو الأوليغارشية داخل حركاتهم. ويوفر إطار عمل رينو المميز زمناً موسعاً وتفسيراً للجدلية متعددة الجنسيات والعابرة للحدود بين مجموعات القوى اليسارية المختلفة، وهو ما سيكون موضحاً بشكل خاص للقراء في الولايات المتحدة. وقد طغت الإشارة إلى اليسار الجديد الأمريكي المعروف - مثل عالم الاجتماع سي رايت ميلز، ونشاط حركة طلاب من أجل مجتمع ديمقراطي Students for a Democratic Society ، وظهور "حركات اجتماعية جديدة" أخذت تحل محل وسائل العمل الطبقية القديمة والراديكالية.. جميع هذه الإشارات طغت -إلى جانب نظيراتها الأوروبيين الأكثر تشدداً، في سياق أوسع بكثير. ويكشف هذا التاريخ المبكر عن سمات "النزعة اليسارية الجديدة" على نطاق جغرافي وزمني أوسع، متتبعاً أصولها إلى الدوائر الفكرية الصغيرة والجماعات السياسية السرية في أواخر فترة فايمار وألمانيا النازية المبكرة، واستكشاف صلاتها بحرب إسبانيا، وألمانيا بعد هزيمة النازيين، وأخيراً في فرنسا خلال إضراب أيّار1968.
تتمحور المعضلة الأساسية لكل موجة متعاقبة من موجات هذه النزعة اليسارية الجديدة، على حد قول رينو، في كيفية "الحفاظ على حيوية الحركة الاجتماعية الأساسية دون الاستسلام للتسلسل الهرمي والقيادة المركزية والروتين السياسي المبتذل". وتواجه، اليوم، حركة "حياة السود مهمة" (Black Lives Matter)، ونشطاء المناخ، ومجموعات تقدمية أخرى التحديات ذاتها بخصوص طريقة إدارة الصمود، والحفاظ في الوقت ذاته على الدينامية والاستقلالية عن النظام السياسي القائم. ويبدأ دعاة النزعة اليسارية الجديدة بإظهار الدور الحاسم لمكافحة الفاشية المتجذرة في الماركسية غير التقليدية في تثبيت هوية لليسار الجديد الأول الذي ظهر في ألمانيا خلال فترة ما بين الحربين. حيث تأثرت المجموعة السرية المعروفة باسم "التنظيم the Org "، وبعد ذلك باسم "البداية الجديدة New Beginning " بمفكرين مثل الهنغاري الشاب جورجي لوكاش، الذي امتد نقده للمجتمع الصناعي الحديث ليتجاوز التحليل الماركسي التقليدي لبنية نظام الطبقات وتنظيم الحزب العمالي والاعتقاد "العلمي" بأن ما سوف يعجل من السقوط الذاتي للرأسمالية يتمثل في الوصول إلى مرحلة تستولي فيها البروليتاريا الثورية بشكل نهائي على وسائل الإنتاج. وتمثل عملية تبادل السلع الرأسمالية بتجسيد سلسلة العلاقات الاجتماعية الإنسانية ما يسمه لوكاش "إعادة التجسيد"، ويرى فيها السبب وراء قيام المجتمع الصناعي إنتاج عمال بعيدين أو منقطعين عن الوعي بأهمية الفعالية الشخصية والهوية الجماعية. مما يجعلهم مثل هذا الاغتراب يقبلون آليات حكم المجتمع الرأسمالي -قوانينه ومؤسساته واستغلاله الجوهري. ومع انتشار الرأسمالية المتقدمة وتغلغلها وبالتالي تسليع مجمل جوانب الوجود، سيكون العمال أكثر استعداداً لإعادة إنتاج هذا الوعي الزائف بسهولة، حتى لو أحسّوا، في بعض الأحيان، بقسوة ظروف العمل وبالفظائع وبظروف عيش قاسية.
ووفقاً لرواية رينو، كانت رؤية لوكاش الرئيسية خلال فترة 1918-1919 تتمثل في إظهار كيف كانت الأحزاب العمالية التي عملت ضمن معايير الديمقراطية البرجوازية عُرضة لمحاكاة المؤسسات الداعمة للمجتمع الرأسمالي. ولم تنجح السياسة الحزبية في تخفيف القمع والاغتراب بصورة كبيرة، بل أفسدت مثل هذه السياسات الحركات العمالية على المدى الطويل إلى حدٍ جعل الأحزاب العمالية والنقابات تقوم بتشكيلات هرمية داخلية والمشاركة في المؤسسات الرأسمالية. ويشرح رينو، من وجهة النظر هذه، كيف أدى سعي الأحزاب التي استوعبت البروليتاريا من أجل تحقيق أهداف تقدمية، إلى "البيروقراطية والمؤسساتية والركود الثقافي"، بما سوف يهدد بالقضاء على الوعي الراديكالي والعمل الثوري.
يلاحظ رينو أن هذا النقد كان موجهاً في المقام الأول إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (SPD) وتوجهه الإصلاحي المتزايد، ولكن لوكاش حذر أيضاً -في مجموع كتاباته التي نُشرت في العام 1923 بعنوان "التاريخ والوعي الطبقي"- من أن الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي قد يكون عرضة لهذا النوع من الجمود والتكلس. ورغم توجهه لاعتناق موقف منضبط تجاه الاتحاد السوفيتي، إلا أن نقده وضعه في موقف ضعيف، إلى حد ما، بين فلاديمير لينين وروزا لوكسمبورغ. ووفقاً لرينو، كان لوكاش مدركاً للمشكلة التي يمكن أن يصبح فيها حزب النخبة اللينيني منعزلاً ومتعالياً، غير أنه لاحظ أيضاً كيف كان إيمان لوكسمبورغ بالقدرات الثورية للطبقة البروليتارية للقيام بتحرك جماهيري عفوي يعبر عن موقف غير كاف وساذج أيضاً. ورأى لوكاش، عند تحديد المجالس الثورية باعتبارها تعبير مثالي عن التنظيم العمالي في الفترة السوفييتية المبكرة، أن وجود المثقفين اليساريين يمثل ضروري لا غنى عنها لنشر الأفكار التي يمكن أن تغير وعي الطبقة العاملة وثقافتها وقدراتها، وبالتالي استباق أو التغلب على القيود الاجتماعية والفساد.. تلك البنى التي تتشكل بفعل التبعية للبيروقراطية.
استكمالاً لتأثير لوكاش، عبّرت أفكار كارل مانهايم، عالم الاجتماع الهنغاري الآخر، الذي أشار في العام 1928 عن تشكل وعي الأجيال من خلال تجربة اجتماعية مشتركة للأحداث العميقة تمسّ المجتمع بأكمله، ويمكن للجيل بوصفه "بناء اجتماعي" كما يلخص رينو، تشكيل هويته عبر الفوارق الطبقية المختلفة، وكذلك عبر الثقافات المختلفة من خلال المشاركة في المنظمات التي تُشكل شعوراً مشتركاً بالمكانة داخل التاريخ. ولكن الأهم من ذلك، في مقولات مانهايم، عدم ضرورة توافق وعي الجيل مع حدود عمرية صارمة. وتربط الحرب العالمية الأولى وفشل حركات الثورة في فترة ما بعد الحرب في حشد القوة في غرب أوروبا وانتشار المجموعات اليمينية والفاشية على مدى عشرينيات القرن العشرين.. وهذا من شأنه ربط الكوادر اليسارية الأكبر سناً بالكوادر الأصغر اللذين يعارضون فعالية التوجهات الإصلاحية والمؤسسات السياسية للطبقة العاملة. وقام اليسار الجديد في ألمانيا، في بداية النصف الأول من ثلاثينات القرن العشرين بتوسيع أفق النقد الذي قدمه كل من لوكاش ومانهايم لشرح الأسباب التي أدت إلى الصعود المرعب للاشتراكية القومية (النازية)، حين اعتبرها ظاهرة جماهيرية حقيقية لدرجة تظهر فشل الأحزاب الاشتراكية والشيوعية القائمة على إيقافها. يقول رينو: "خلقت كوادر اليسار الجديد والجماعات ذات الصلة الثقافية ثقافة معارضة ستستمر حتى الحرب العالمية الثانيةـ بسبب قناعتهم بأن هزيمة الفاشية تتطلب ثورة شاملة في مجالات الحياة كافة". ولكن على عكس لوكاش والماركسيين الغربيين الآخرين الذين كانوا يراهنون على تعزيز مكانتهم مع الاتحاد السوفيتي، حافظ اليسار الجديد في ألمانيا في فترة ما بين الحربين على مقاربة متنوعة غير تقليدية، وحيث أن العديد منهم طرد من الحزب الشيوعي أو غادروه باختيارهم. وبالتالي، مثلت هذه الخطوات بداية مواقف جديدة واستراتيجيات وإيديولوجيات تتعارض مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي والكومنترن. لقد أدى هذا بالديمقراطية الاشتراكية من وجهة نظر "التنظيم the Org / مؤسس "البداية الجديدة New Beginning "واليساريين الجدد الآخرين مثل والتر ليفينهايم، إلى الفوضى العشوائية (انتروبيا entropy) وانقسام اليسار، وتقديم تنازلات ومساومات لصالح الدولة الرأسمالية والمصالح المحافظة بما يؤكد الخوف والتردد في مواجهة التهديد الفاشي. وعلى الرغم من أن ليفينهايم وزملاؤه تحركوا في ضوء مُثُل ذات علاقة بالممارسات الثورية المستمدة من الثورة الروسية، إلا أنهم أدركوا تدريجياً إمكانية قيام النخبة الإيديولوجية الطليعية بخيانة تطلعات ووعود التحرر الاشتراكي بسهولة وغرابة ووحشية. وأدى التحول الستاليني في الاتحاد السوفيتي إلى زيادة شكوكهم هذه في احتمال تحول الدولة الشيوعية الجامدة إلى حالة بيروقراطية تسلطية أكثر عسفاً.
وبقدر ما تصور هؤلاء الكوادر أساساً جديداً للوحدة اليسارية، فقد ركزوا على إدامة التجديد الإيديولوجي قبل كل شيء -وهو هاجس نخبوي يمكن اعتباره موقفاً متعصباً، من شأنه أن يتمظهر لجميع التشكيلات اليسارية الجديدة اللاحقة ويعوق تطورها في أحيان كثيرة. وبعيداً عن هذا، تردد صدى معركة هذه المجموعة من الكوادر اليسارية مع الفاشية بصورة واسعة مكانياً وزمانياً، بما يتجاوز أعضاء هذه الحلقة المتواضعة. وقامت هذه المجموعة بنقل ونشر ماركسية غير تقليدية إلى أوروبا الغربية بهدف زرع ثقافة ثورية قابلة لاحتضان التجربة بأساليب عمل تنظيمي جديدة. وتمت عملية النقل هذه من خلال "الوحدات" والكتيبات، بما في ذلك البيان الذي تم قراءته على نطاق واسع في العام 1933 بعنوان "بداية جديدة Neu beginnen!". وعلى غرار مسار لوكاش السابق، وسعت هذه الجهود نطاق اللغة التحررية الاشتراكية حتى عندما طالب ليفينهايم من الأعضاء الجدد الانضواء تحت راية أفكار هذه الماركسية عير التقليدية بقيادته. وسوف يتحدى الأعضاء البارزون الآخرون هيمنة ليفينهايم على المجموعة بعد وقت قصير من تأسيسها، وسوف يربطون رؤيتهم للماركسية بالنظريات الناشئة الأخرى المتعلقة بالاجتماع الإنساني ومسائل علم النفس والجنس. فعلى سبيل المثال اتسع هدف التحريض على التنظيم الذاتي الديمقراطي الراديكالي من خلال التربية ليشمل ليس فقط العمال الصناعيين التقليديين ولكن جميع البشر الذين يحملون تحت نير المؤسسات المحافظة والهيمنة الاجتماعية وذلك بسبب تأثر حركة اليسار الجديد بنظريات فيلهلم رايخ حول النظام الأبوي والتحرر الجنسي. وسوف يكون من شأن الأنماط البديلة غير الهرمية لصنع القرار وإعادة الإنتاج الاجتماعي التأكيد على إمكانية حدوث الأعمال السياسية الموضوعية ذات الطابع الجوهري دون الحاجة إلى وسيط يمر عبر الهياكل الحزبية الرسمية أو الأنظمة البرلمانية "البرجوازية:.
بعد الأحداث الحاسمة التي عززت صعود الدولة النازية وهيمنة هتلر داخل حزبه -مثل [قانون إصلاح ضائقة الشعب والدولة والمعروف باسم] قانون التفويض أو التمكين في آذار 1933 ثم [عملية التطهير التي تعرف باسم] ليلة السكاكين الطويلة في العام 1934- اضطر العديد من اليساريين الألمان الجدد إلى الاختباء أو الفرار خارج البلد أو تعرضهم للنفي، على الرغم من تعرض البعض منهم للسجن في معسكرات الاعتقال. وفي غضون ذلك، لفت التطورات في إسبانيا انتباه المهاجرين الباحثين عن بؤرة عمل ثوري جديد. وقد انقسم اليساريون الإسبان، على غرار نظرائهم من حقبة فايمار، حول الفرص التي قدمها إعلان الجمهورية الإسبانية الثانية في العام 1931، والتي منحت الحزب الاشتراكي الإسباني تذوق طعم السلطة لأول مرة في إطار حكومة ائتلافية. وأدى إضراب عمال المناجم في تشرين الأول1934 إلى إضراب عام سحقته الحكومة بعنف غير عادي، مما أدى إلى تصدع الحزب الاشتراكي. واستولى بعض النشطاء اليساريين على الإدارات المحلية والإقليمية، تماماً كما حاول من قبلهم عمال المناجم، بينما اعتنق عدد متزايد منهم تجارب صغيرة ذات توجهات نسوية وأناركية وأشكال ذات بعد راديكالي لقضايا الحكم الذاتي بعيداً عن هيمنة الدولة.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية [الإسبانية] في العام 1936، توحدت الأجنحة الأكثر تحفظاً في الحزبين الاشتراكي والشيوعي الإسبانيين للدفاع عن حكومة الجبهة الشعبية، ولكن كان قد تشكل فعلياً في العام 1935 تحالف بديل يضم المجموعات الثورية. ويشرح رونو كيف أظهر عناصر البوميستا Poumistas المعروفين [وهم أعضاء حزب العمال الماركسي الموحد " POUM " Partido Obrero de Unificación Marxista وتشكل من اندماج مجموعة اليسار الشيوعي التروتسكي اليساري في إسبانيا Izquierda Comunista de España وفصيل مجموعة العمال والفلاحين Workers and Peasants Bloc - المترجم ] ممارسة عملية سعت حلقة "البداية الجديدة" إلى تصويرها لليسار الألماني. لقد كان نمو نهج البوميستا في الحشد والتنظيم ينبع من تفكيرهم المعادي للفاشية وللسلطوية: تجمع العمال والفلاحين والمعلمين والمثقفين واليساريين الملتزمين الآخرين جميعاً لتشكيل لجان المساواة والميليشيات -بما في ذلك الكتائب النسائية- في خدمة الحكم الذاتي الثوري ومقاومة القوى اليمينية. بينما ستستدعي ظروف الحرب الحاجة لدى البوميستا لإنشاء مزيد من الهياكل الرسمية لميليشياتهم، إلا أنهم سيستمرون في استقطاب مئات المهاجرين من ألمانيا وإيطاليا المستوحاة بشكل خاص من نموذج البوميستا. وفي النهاية، سوف يقلل العنف الشديد بين المقاومين للفاشية في العام 1937 من قوة البوميستا ويضعف قدرتهم على مواصلة العمل الثوري الذي كانوا رواداً فيه.
تسلط مناقشة رينو حول البوميستا الضوء على حقيقة وجود عدة اتجاهات لليسار العابر للحدود المشارك في الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يكن العديد من هذه الاتجاهات متوافقاً مع الاتحاد السوفيتي والقوات التي يدعمها، أو كانت تنتقد السوفييت علناً. ويظهر رينو إشارة جماعة البوميستا إلى أن "سيطرة" البيروقراطية الستالينية "على الكومنتيرن تشكل خطراً حقيقياً على الطبقة العاملة الدولية". بل أن المعارضة ذهبت، في البداية، إلى ما هو أبعد مما طرحته جماعة "البداية الجديدة"، الذين كان أعضاؤها يأملون على وجه العموم أن يكون الاتحاد السوفيتي عاملاً للتقدم الثوري والذين اعتقدوا أن تحقيق التوافق بين الشيوعيين واليساريين الآخرين لا تزال رغبة مطلوبة وقابلة للتحقيق. ومع ذلك، تحول الحذر الأولي لجماعة "البداية الجديدة" من الستالينية إلى خيبة أمل كاملة مع تقدم عقد الثلاثينيات.
اعتبر ريتشارد لوينتال Richard Lowenthal، أحد المنظرين الرئيسيين للمجموعة، أن استراتيجية الشيوعيين وراء الجبهات الشعبية في إسبانيا وفرنسا غير كافية من الناحية الثورية. وكما يلخصها رونو، يعتقد لوينتال أن هؤلاء "قللوا من معاداة الفاشية إلى الحد الأدنى من الناحية الإيديولوجية.. بينما يحتاج المناضلون ضد الفاشية إلى برنامج اشتراكي قوي يتجاوز الدفاع الخلفي عن الديمقراطية الانتخابية". قد يبدو هذا المنظور غريباً في ضوء التركيز العملي الذي كان يشدد عليه اليساريون الجدد فيما يتعلق بالتعاون بين مجموعات اليسار. ولكن، كما يعيد رينو تكراره، احتوت النزعة اليسارية الجديدة على هدفين مستقرين على الدوام - إحياء قاعدتها الراديكالية بشكل متواصل، وفي الوقت نفسه إقامة تحالفات مستدامة يمكن أن تتجاوز الصراعات الداخلية. بالنسبة لبعض أفراد اليسار الجديد، مثل لوينتال، كانت الأدلة تتراكم خلال فترة الجبهة الشعبية في منتصف وأواخر الثلاثينيات بأن مشاركة الاتحاد السوفيتي في النضال ضد الفاشية كانت تفتقر إلى المحتوى وساذجة وجوفاء، إن لم تكن مثار سخرية.
وكان أكبر مصدر للقلق قد تجاوز بكثير التدهور المحبط للآمال الذي كان يخشاه اليسار الجديد في انتقاداتهم المبكرة للبيروقراطية الستالينية. فقد أثار اختطاف وقتل أحد الزملاء في إسبانيا على يد عملاء سوفييت، متبوعاً بأخبار عن محاكمات موسكو الصورية، توقعات سوداوية لجماعة "البداية الجديدة". وجاءت نقطة الانفجار مع اتفاق مولوتوف-ريبنتروب في آب 1939 الذي أعلن توقيع اتفاقية عدم اعتداء بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي (استمرت العمل بالاتفاقية حتى انتهكها هتلر في صيف العام 1941). واستجابة لذلك، يشير رونو إلى أن "لوينتال ادعى بمنطقية دوافع الاتحاد السوفيتي، ولكن فقط عندما يتم تقديرها من وجهة نظر الجغرافيا السياسية البحتة". وسيواصل تطوير نقد "البونابرتية الروسية الألمانية"، والتي، على الرغم من عدم تساوي النظامين الإيديولوجيين السياسيين، خلصت إلى أن كلاهما يهدد الآن بثورة مضادة مستدامة للتخلص من الأهداف الاشتراكية التحررية.
وإلى جانب تطورات أخرى -نقل جماعة "البداية الجديدة" مكتبها الخارجي من باريس إلى لندن، والتركيز المتزايد لشبكات المهاجرين في المملكة المتحدة ومدينة نيويورك، وحتى تعيين علماء مهاجرين ينتمون إلى اليسار الجديد في كليات شمال شرق الولايات المتحدة- فقد شكلت هذه الأحكام بداية تحول أوسع نطاقاً لليسار غير الشيوعي وغير البرلماني. ويقول رينو: "على الرغم من معارضتهم للرأسمالية والديمقراطية البورجوازية والعسكرية، فإن العديد من اليساريين الجدد المناهضين للفاشية سيتحولون إلى شركاء متعاونين في جهود الخلفاء الحربية" -مشاركة في جهود الدعاية وجمع المعلومات والتحليل والأنشطة ذات الصلة. ومما يجدر ذكره بدرجة من الأهمية أن انضمام الاتحاد السوفياتي إلى الحلفاء بعد غزو النازيين له لن يغير من هذا المسار. فسوف تؤدي المصالحة بين شرائح اليسار الألماني غير الشيوعي، من خلال اتحاد المنظمات الاشتراكية الألمانية في بريطانيا، إلى "عملية اعتدال إيديولوجي" "تنذر بتحديث الاشتراكية الديمقراطية بعد الحرب". لقد جلب المجهود الحربي والمشكلات العملية التي تلت حول كيفية إعادة بناء ألمانيا المحتلة وتحويلها إلى نظام ديمقراطي، اليساريون الجدد الرئيسيون الذين كانوا يعملون بكل فخر على هامش السياسة التقليدية في العمليات الرسمية لبناء الأحزاب وصنع السياسات. ويوضح رينو أنه بالإضافة إلى التجارب التي شهدتها إسبانيا، فإن التجربة المطوّلة للجوء كان لها أيضاً دور في توسيع فهم اليسار الجديد لما يمكن أن تكونه طبقات المجتمع باعتبارها جزءً من القاعدة الشعبية العمالية. و "هذا المفهوم الجديد قدم نموذجاً للتحول لمرحلة ما بعد الحرب" للحزب الاشتراكي الديمقراطي "من حزب طبقي إلى حزب شعبي"، ولكن الأهم من ذلك أظهر "استيعاباً تدريجياً للمعايير الديمقراطية الليبرالية". لقد تطلب الحفاظ على معاداة الفاشية في ظروف الحرب الأمل، وبالتالي تبني قرارات وتسويات واقعية براغماتية.
وأدى إحياء الأوساط الشيوعية في المنطقة السوفيتية في ألمانيا، إلى جانب القيود التي فرضها الجيش الأمريكي على النشاط السياسي في أماكن أخرى، إلى تأكيد الحاجة إلى استراتيجية جديدة. ويمكن أن تلتزم جماعة اليسار الجديد المعاد تجميع صفوفها مرة أخرى -والذين نجا معظمهم من الحرب- بالسياسة الحزبية ويشكلوا النتائج السياسية والاقتصادية، أو أن يخضعوا لثنائية الإدارة المحافظة في الغرب والهيمنة السوفيتية في الشرق. في حين اعتبر البعض مرة أخرى إمكانية تجاوز الانقسامات مع الشيوعيين، اعتقد "معارضو الاندماج" مثل كورت شميت، كما يذكر رونو، أن الديمقراطية الداخلية للحزب الاشتراكي الديمقراطي سوف تجعلها أفضل وسيلة لتنظيم "الحياة السياسية الألمانية بشكل مستقل عن القوى العظمى". وهذا يتطلب من اليساريين الجدد التعاون مع قادة الحرس القديم من الحزب الاشتراكي الديمقراطي مثل كورت شوماخر، من ناحية، بينما يعيدون إحياء عضوية الحزب بجيل جديد، من ناحية أخرى. وعلى الرغم من المعتقدات الراديكالية السابقة لليسار الجديد، والتي لم تضمحل تماماً في فترة ما بعد الحرب، فإن التحول نحو بناء حزب شعبي يعني في نهاية المطاف الاستنجاد الاستراتيجي لمحترفي الطبقة الوسطى وأولئك الذين يطمحون إلى النمو الطبقي، وليس إعادة إنشاء "جبهة شعبية" أو تعبيرات مشابهة للشعبوية اليسارية الرومانسية. ويستنتج رينو أن آثار التسوية الشاملة للحرب وضرورات اجتثاث النازية ومعارضة الاتحاد السوفييتي، أجبرت هذه جميعها، كما يرى رينو، اليسار الجديد إذا أرادوا أن يكونوا جزءً من مستقبل ديمقراطي جديد لألمانيا على الانخراط بشكل أكثر كفاءة في جوانب ومفاصل الاقتصاد السياسي.
فما هي البرامج التي سينادون بها وما هي أفضل طرق بناء الدعم الشعبي لها؟
إن ظروفاً كهذه سوف تتطلب بلا شك مقاربة تجديدية مختلفة أقل تركيزاً على النواحي الإيديولوجية والنظرية مما كانت تنادي به جماعة "البداية الجديدة" في الثلاثينيات. ويؤكد رينو على تاريخ العمل الأساسي الذي شرع القيام به أفراد اليسار الجديد السابقون على خلفية الحرب الباردة، موضحاً كيف أصبحوا اشتراكيين ديمقراطيين في ظل الأجواء المحافظة في ألمانيا الغربية تحت حكم الحزب الديمقراطي المسيحي بزعامة كونراد أديناور. ففي نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كان التجديد يعني إزالة أكثر الروابط وضوحاً بين الاشتراكية الديمقراطية والماركسية، ويمثل مؤتمر "باد غودسبيرغ" التاريخي للحزب الاشتراكي الديمقراطي في العام 1959، حسبما يرى رينو: "السلام النهائي مع الشكل الحزبي المؤسسي، والوضع الجيوسياسي الراهن، والرأسمالية الديمقراطية.. فتحت شعار التجديد والتحديث، رسخ الحزب الاشتراكي الديمقراطي مكانته في اليسار القديم بصورة متناقضة إن لم تكن ساخرة." واعتقد لوينتال، الذي كان في ذلك الوقت صحفياً ومفكراً عاماً معروفاً، أن أزمات الثلاثينيات والتغيرات الناجمة عن التعبئة الحربية والتعافي الاقتصادي أدت إلى تمايز جوانب الاشتراكية في جميع الديمقراطيات الغربية في الوقت الحالي، حتى تلك الديمقراطيات التي تملك حكومات محافظة. وبالتالي، كانت مهمة الاشتراكيين الديمقراطيين تتمثل في صياغة طريقة مُثلى لتنظيم الاقتصاد تتبنى مبدأ السيطرة الديمقراطية من خلال التدخل التكنوقراطي. ويشير رينو إلى قيام الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) بمتابعة هذا الوصف لإصلاح الدولة عبر التزامه بدولة الرفاهية الاجتماعية Sozialstaat، أي دولة رفاهية توزيعية على نطاق واسع. ومع ذلك، يؤكد رينو أن برنامج الحزب كفل أيضاً حماية الملكية الخاصة وتعزيز مصالح الأعمال الصغيرة والمتوسطة. ويمكن القول إن التأكيدات المؤيدة لاقتصاد السوق أغلقت باب الانتقال إلى الاشتراكية الديمقراطية؛ وفي النظر إلى الوراء، كانت مواقف الحزب الاشتراكي الديمقراطي واستراتيجيته الانتخابية المرتبطة بها مشابهة لمواقف الحزب الديمقراطي ما بعد الصفقة الجديدة New Deal Democratic Party، التي مثلت قاعدة الطبقة الوسطى المتنامية من المحترفين مدفوعي الأجر والإدارة التي تم تحريها بشكل متزايد لاختبار لسياسات مجموعات المصالح والخطوط العريضة المستقبلية لقوى ومراكز يسار الوسط في أوروبا الغربية. بالإضافة إلى ذلك، توقع برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي تصدر مبادئ النهج النيوليبرالي للطريق الثالث. ويشير رينو إلى تحديد الحزب الاشتراكي الديمقراطي رؤيته لتنمية الاقتصاد الاجتماعي السوقي وإنسانيته وجعله أكثر سخاءً، وهو ما تم بناؤه بشكل كبير من قبل الديمقراطيين المسيحيين والاقتصاديين الليبراليين ordoliberalعبر "حرية اختيار المستهلك، وحرية اختيار التوظيف، والمنافسة الحرة، والمؤسسة الحرة" كمبادئ واضحة، بدلاً من تحويل الدولة لتحقيق أعلى ضغط ممكن للأجور وأقصى قدر ممكن من التحول في الملكية في الاقتصاد مع الحفاظ على حقوق المواطنة الديمقراطية - وهو نهج في الاقتصاد السياسي تتبعه أحزاب الديمقراطية الاجتماعية في الدول الاسكندنافية-. وعزز الحذر الذي أبدته سياسات يسار الوسط في ألمانيا الغربية من تعميق الاحتقان/ الاستقطاب المتزايد في وسط الشباب اليساري الألماني، الأمر الذي انعكس أيضاً على نظرائهم في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. أما بالنسبة للشباب اليساري الذي نشأ خلال ذروة الحرب الباردة، فقد كان وعيهم يستند، ربما بشكل غير مسبوق إلى المعمار العالمي للنظام الرأسمالي ومعرفة الظلم والاستغلال المتضمنان فيه. ويشير رينو، في الجزء الأخير من الكتاب، الذي يتطرق إلى التيارات الفكرية والناشطة التي ستشكل اليسار الجديد في الستينيات، إلى تحوّل اليسار الجديد ما بين الحربين إلى "شبح من الجاذبية والتنافر بذات الوقت" بسبب رضوخه لفترة ما بعد الحرب إلى المقاربة الإصلاحية. في حين أن أمثلة مختلفة من العنف والقمع أثارت تحركات جذرية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية -من أبرزها الحروب في فيتنام والجزائر والعنصرية المنهجية ضد السود في الولايات المتحدة- تلاقت هذه التيارات في نقدها للرأسمالية والظلم الذي لا يمكن لدول الرفاهية القائمة وأحزاب يسار الوسط أن تتغاضى عنه.
وهذا يعني تعزيز البُعد العالمي العابر للحدود عن طريق الحركات الطلابية التي وجهت انتقاداتها، ولو جزئياً، إلى صعود الفلاسفة اليساريين المؤثرين وعلماء الاجتماع في الكليات والجامعات. وعلى غرار حركات الطلاب، كان على هذه الفئة من الأساتذة مواجهة بيئة محافظة للغاية -وفي حالات مثل الباحث في العلوم السياسية الاشتراكية فولفغانغ آبندروث، وجود نازيين سابقين بين أعضاء الهيئة التدريسية. على الرغم من احتلالهم المكانة ذاتها في السياسة اليسارية التي صاغتها "البداية الجديدة"، إلا أنه حصل تحديث لانتقادهم الموجهة نحو الديمقراطية الليبرالية ليعكس السلام الاجتماعي الهش الذي تم تأمينه من خلال نظام ما بعد الحرب. وعبّر آبندروث عن فكرة وجود مجتمع عدائي يتغلغل في ظل التباسات دستور ألمانيا الغربية، الذي سمحت المادة 15 منه ببناء هيكل اقتصادي اجتماعي تدريجي. وكما يلخص رينو، فقد كانت العقبة الكبرى أمام استخدام أكثر مساواة للدولة تتمثل في "عدم إمكانية الوثوق باحترام الطبقة الحاكمة، في مجتمع متعارض كهذا، للقانون وعدم لجوئها إلى العنف في حالة الطوارئ". وبقدر ما يمكن للنخب الاقتصادية العمل على تعطيل سيادة القانون، فلا تزال الفاشية تمثل تهديداً كامناً حتى في الديمقراطيات التي قننت درجة معينة من الحقوق الاجتماعية والسياسية لم تكن موجودة قبل العام 1945 بالنسبة لملايين الأشخاص.
في هذا المناخ من الصحوة الفكرية، حيث تم استجواب واجهة القيم والمعايير الديمقراطية الليبرالية، استعاد جيل جديد الماركسية واليسارية غير البرلمانية. واستهدف هذا اليسار الجديد الناشئ أحزاب يسار الوسط الرئيسية -الديمقراطيين الاجتماعيين في القارة الأوروبية وحزب العمل في المملكة المتحدة والجناح الليبرالي للحزب الديمقراطي- على غرار نقد أسلافهم في فترة ما بين الحربين، لتواطئهم مع نظام مليء بالنفاق والظلم. وأدى تعمق المعرفة بالنضالات المضادة للاستعمار والحركات الاشتراكية في البلدان النامية إلى تضخيم كيفية فهم اليسار الجديد للقوة التي بنت الرأسمالية الديمقراطية في العالم الصناعي. على الرغم من أن اليساريين الأوروبيين والأمريكيين يشتركون في مبدأ تعزيز الديمقراطية التشاركية، إلا أن السياقات السياسية المحلية ستشكل مطالب وأهداف الجماعات المعنية. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، دعا بيان بورت هورون للعام 1962 الصادر عن الطلاب من أجل مجتمع ديمقراطي إلى قيام "تحرك يعيد ترتيب التنظيم السياسي والاقتصادي"، ويؤيد المهمة الجبارة المماثلة الداعية إلى إعادة هيكلة الحزب الديمقراطي للمساعدة في تحقيق أهدافه. وتتناقض مثل هذه المصالحة المقترحة بين التيارات الليبرالية والاشتراكية -التي تهدف إلى تحقيق استقطاب يعود بالنفع على النظام الأمريكي القائم على الحزبين- مع جهود الماركسيين الأوروبيين لتشكيل تحالف يتجاوز السياسات الحزبية التقليدية تماماً. وسوف تشكل حركة أيّار 1968 ذروة نشاط اليساريين لحقبة ما بعد الحرب الذين يوجهون العمل المباشر وتحالفات القطاعات المتعددة (والعابرة للحدود) التي تصورها من سبقهم من اليساريين الجدد. وللحظة ما وجيزة، عكست استراتيجية وهوية الاشتراكيين الديمقراطيين الرئيسيين "الشعبية" نوعاً من الشعبوية اليسارية النمطية . وكما يكتب رينو، كان "الطموح الأعظم لليسار الجديد في الستينيات يتمثل في تصور تحالفات غير مجربة عبر الجامعة والمصنع والمستعمَرة".
ولكن بالإضافة إلى جميع العوامل الخارجية والخبيثة التي يمكن أن تقضي على مثل هذه التحالفات، فمن الممكن تحديد مشكلتين جوهريتين، على الأقل، في سياق التطورات التي يتحدث عنها رينو. وبرغم التصريحات التي تشير إلى عكس ذلك، لم يكن هناك مساواة حقيقية في المواقف بين طلاب الجامعات والعمال الصناعيين والمياومين المهاجرين والثوار البعيدين الذين يخوضون حروب وطنية تحررية في الجنوب العالمي. وبعبارة أخرى، كان ينقص حدوث مساواة "أفقية" لتشكيل جمعية عامة ديمقراطية جذرية يذوب فيها كل من القيادة السياسية البيروقراطية والتسلسلات الهرمية الاجتماعي الصارمة للنظام الرأسمالي. كما لم يكن هناك وضوح واتفاق حول الأهداف القريبة المحددة بين الطلاب الأكثر تطرفًا والعمال الذين سيضطرون بالضرورة للعودة إلى ضبط إيقاع حياة المصانع. كان الطلاب في المقدمة والأكثر تجوالاً، من حيث المكانة والميول. وملخصاً للتفسير الذي قدمه عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين في أوائل السبعينات، يؤكد رينو أن اليسار الجديد "بدون قادة" الذي يقوده الطلاب الكاريزميين "شهد صعود طبقة عاملة جديدة" خارج وسائط الإنتاج التقليدية، توجهت لمحاربة التكنوقراط وتعزيز طبقة مثقفة جديدة. وكما يؤكد رينو، فإن اليسار الجديد يحاكي تدمير الإبداع الخاص بالرأسمالية في الدعوة إلى أشكال وأساليب جديدة للعمل ضد الوضع الراهن. ويمكننا هنا توسيع القياس إلى ما هو أبعد من ذلك. لقد ساعد اليسار الجديد، بدلاً من استبدال اليسار البيروقراطي القديم، في تسريع تقادم ثقافة الطبقة العاملة في منتصف القرن العشرين، التي تعتمد على التضامن المرتبط بالمكان والعلاقات المنغرسة منذ مدة بين النقابات وحلفائها السياسيين التقليديين. ولهذه الأسباب وغيرها، يمكن ظهور تردد معين تجاه بعض جوانب اليسار الجديد في الستينيات، وهذا أمر مفهوم في الوقت الحاضر. حيث تظهر تناقضات بعض تلك الجوانب لمن يرى في نفسه نوعاً من الحنين لعالم جديد، وأيضاً لمسار يربط بين الثقافة المضادة لتلك الحقبة والسهولة التي يعلي فيها المجتمع المتعلم الحياة الفكرية المجسدة و"القيم" السياسية على حساب الروتين الشاق والانتصارات النادرة للنشاط المستدام.
يعتمد إرث حركة أيّار، جزئياً، على طابع شبه مقدس نما بعناية مع مرور الوقت، حيث أصبحت مثالاً يستخدمه الخيال الراديكالي. ولكن مع زيادة الاحتفاء أكثر فأكثر بمشهد العمل الراديكالي، فقد بدأت الفرص الفعلية للتغيير الجذري -أو حتى للرؤى الأكثر تقدماً لفترة ما بعد الحرب- تتفكك بسرعة. وبعد عدة عقود من الحكم النيوليبرالي، يبدو أن لا مناص من خيبة الأمل في صفوف من يرون في يسار الستينيات الجديد تجربة فشلت في توقع كيف يمكن مزج "التحرر" بسلاسة مع التوسع السوقي من ناحية ، وإفساح المجال من ناحية أخرى أمام الرجعية الثقافية المحافظة. ولا ينبغي لهذا الطايع النقدي، بالطبع، حجب النظر عن الواقع الذي جرت فيه حركة أيّار، ولا ينبغي التقليل من صدقيتها وأصالتها ومساهماتها الهامة في مواجهة الدولة والرأسمالية وسياسات التوافق الثقافي. ومع ذلك، وبقدر ما كانت تلك الحركة قوية وفريدة من نوعها في فترة ما بعد الحرب، لم يكن من المقرر لها أن ترسخ على المدى الطويل لجان العمل المتسرعة والأشكال الأخرى للتنظيم الثوري. وكما يوضح رينو، فقد كان الحزب الشيوعي الفرنسي والنقابات المتحالفة معه يشعرون بالغيظ من المشاركين بها، حيث كانوا يسعون للسيطرة على الأحداث من خلال الإضراب العام. وإذا كان بإمكاننا انتقاد اليسار الجديد لأفكاره الرومانسية المفرطة عن السلطة الثورية، فقد أصيب اليسار القديم بالعته لضيق أفقه وخياله، كما سوف يتجلى ذلك في أهدافه المتواضعة المتمثلة في رفع الأجور والإصلاح التدريجي. وبالنسبة للكثير من الأمور والمصاعب، كان الصفقة الأفضل في ظل الرأسمالية الديمقراطية هي النتيجة المفضلة -حتى ولو أصبحت أكثر تعقيداً بعد الصدمات الاقتصادية وإعادة تنظيم السياسات في السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
أين يضعنا، بالأحرى، يتركنا هذا التاريخ، وأي أثر يتركه فينا بأي شكل من الأشكال؟
تقدم دراسة رينو طريقة جديدة لفحص أصول اليسار الجديد والروابط الزمنية التي لا تحظى بالتقدير الكافي بين اليساريين الأوروبيين الذين تجنبوا، في ذروة راديكاليتهم، الأشكال الحزبية، لكنهم مارسوا نفوذاً وتأثيراً كبيرين. إن هذا الطيف الذي تم تصويره في هذه الدراسة ينم عن مركزية أوروبية مقصودة، على الرغم من إشارة رينو، في كثير من الأحيان، إلى آثار اليسار المحلي والعالمي العابر للحدود المنتشر في قلب أوروبا الصناعية، مما يجعلنا نتأمل في كيفية تقاطعه مع حركات ماركسية وشعبوية يسارية في أمريكا اللاتينية وبلدان نامية أخرى في مسار التطور أو استعادة استقلالها، فضلاً عن صدى محتمل للحركات الديمقراطية والإضرابات العمالية في الدول الشيوعية في وسط وشرق أوروبا. ومن بين المساهمات المركزية لعمل رينو تركيزه على المفكرين اليساريين الرئيسيين الأقل شهرة بين الجمهور الناطق باللغة الإنكليزية، حيث يعيد التوازن بطريقة مقصودة للاهتمام المكرس في العادة، لمدرسة فرانكفورت.
يعتبر الكتاب، أيضاً، معالجة دقيقة للمعتقدات المتغيرة والتنافسات والفصائل والظروف السياسية المتغيرة - وهذا ليس بالأمر الهين نظراً للتقلبات التي شهدتها عدة أجيال من الكوادر اليسارية الذين لم يكونوا طليعيين بالمعنى التقليدي، لكنهم لا يزالون يشكلون نواة هامة للفكر اليساري البديل. ويبدو من الواضح تعاطف رينو مع كل من اليساريين الجدد الأصليين في فترة ما بين الحرب وخلفائهم في الستينيات بسبب شغفهم وشجاعتهم وعدم رضاهم الفكري. لقد كانت الانتقادات الموجهة ضد البيروقراطية مبررة تماماً في كثير من الأحيانً. وكان أبناء الـ 68 متنبئين بشكل خاص بالتحجر المتزايد للحزب الشيوعي الفرنسي، الذي، قبل انهياره السريع بعد نهاية الحرب الباردة، اتخذ موقفاً قائماً على القيود تجاه الهجرة غير الأوروبية في أوائل الثمانينيات، على عكس حكومة الاشتراكي فرانسوا ميتران. وفي ذات الوقت لا يشعر رينو بالخجل وهو يستعرض في تقويمه أوجه القصور لدى اليساريون الجدد، بما في ذلك حالات قصر النظر المحبطة وأحياناً الانفصال عن الأهداف والظروف السياسية الملموسة ، على الرغم -أو ربما بسبب- تجاربهم الخاصة المرتبطة بعنف الدولة وتجارب المنفى. وسوف يتم انتقاد اليسار الجديد، ربما بصورةٍ متناقضة، سواء من اللينيين أو الاشتراكيين الاجتماعيين المعتدلين، لمواقفهم "الساذجة، الطفولية" ورومنسيتهم المضادة للرأسمالية. ولكن كما يوثق اليسار الجديد بإسهاب، فقد أفرز اليسار الجديد، بفضل موقعهم الوسط بين الاشتراكية الاجتماعية والشيوعية السوفياتية، تحليلات قوية جديدة حول المؤسسات السياسية والثقافة والجنس والنوع والاستعمار لم تتمكن الأشكال التقليدية للحزب والأعضاء التقليديين في الحزب من إنتاجها. وفيما يتعلق بالقضية الشائكة الدائمة ذات الطبيعة الملتبسة حول الغلاقة بين الإصلاح والبراغماتية، يمتنع اليسار الجديد عن إبداء حكم نهائي حول الدروس التي قد يستمدها النشطاء واليساريون من أصحاب الميول السياسة اليسارية اليوم من إرث اليسار الجديد في منتصف القرن العشرين. ويؤكد رينو أن "القوة السياسية لم تكن هي الهدف الرئيسي قط.. لم يكن المتشددون الشباب مهتمين ببناء تحالف برلماني جديد". ويضيف: "الاستيلاء على الدولة كان أمراً هامشياً لمشروع اليسار الجديد، بغض النظر مما قد يخشاه معارضو اليسار".
ومع ذلك سوف يبدو هذا التشبث بـ "التجديد" لليسار الجديد بالنسبة للكثيرين مبالغ فيه ومفرط في الرومنسية. وعلى العكس من ذلك معادٍ للسياسة. وبنظرة إلى الوراء، في الوقت الذي ازدادت فيه قبضة اليمين على الولايات المتحدة وبعض أجزاء من أوروبا، سوف يبدو للبعض الخطأ الفادح في رفض متابعة السلطة السياسية على وجه التحديد- مقابل السلطة الاجتماعية أو الثقافية-. يعطي اليسار الجديد شعوراً بأن عناصره، في أوج لحظات العمل المباشر والديمقراطية الأساسية، قد استهلكتهم نشوة ترقب -وقوع الكارثة، أو حتى ثورة اجتماعية شاملة. ومع ذلك أعاقت معارضتهم الانعكاسية لشكل الحزب الحصول على رافعة أكبر، وبالتالي عدم الاعتراف بأن بعض التنازلات من رأس المال والدولة تستحق النضال من أجلها، وأن التحسينات الأفضل لا تأتي على حساب أهداف أكثر راديكالية. ولا يمكن إنكار أن دولة الرفاهية جعلت من اليسار الجديد في الستينات أن يظهر كما كان فعلاً، ويشغل المساحة الثقافية والسياسية التي اختارها. وهذا لا يعني أن نقد اليسار الجديد كان بلا أساس؛ بالعكس، لقد كان أمراً ضرورياً للغاية. ولكن يجب أن يكون المرء عقلانياً بشأن حدود رفض السعي وراء السلطة السياسية.
رغم أن كتاب "اليسار الجديد" لم يسعَ، صراحةً، لتقديم هذا الاستنتاج، إلا أنه يمكن استخلاص الدرس من كتاب رينو بالقول أن المشكلة المركزية التي تواجه الراديكالية الملتزمة بالنقد بدلاً من السلطة السياسية هي إمكانية تنفيذ برامج دولة الرفاهية حول التغيير التوزيعي وإلغاء التسهيلات ستبدأ وكأنها تبدو استسلامية بدرجة لافتة أو إصلاحية. ويخاطر هذا الموقف بترك العالم كما هو، وتأجيل العمل على عالم أفضل إلى وقت قد لا يأتي قط. وبهذا المعنى، فإن أي راديكالية تعمل بدون خطة أو أجندة سياسية محددة - والتركيز التكتيكي اللازم للفوز بالسلطة الرسمية لتنفيذها- تمثل خيانة في نهاية المطاف لهدفها الأسمى، أي خلق عالم أكثر عدلاً. إن إيديولوجية المعارضة الصارمة، التي لا يمكن التعرف عليها وقراءتها أو فهمها إلا للمطلعين المتحمسين من أفرادها، تتخلى، في نهاية المطاف، عن ممارسة بناء العالم للآخرين، بدءً من أولئك الذين يحددون ويعيدون تعريف حقوق الإنسان لتناسب حرية السوق القصوى وصولاً إلى أولئك الذين يعيدون إنشاء دولة قومية محصنة على أسس ثقافية عرقية شوفينية.
يشير رينو، في خاتمة الكتاب، إلى أن الحركات الاجتماعية المعاصرة، وخاصة موجة احتجاجات "حياة السود مهمة" خلال صيف العام 2020، تقوم بتوجيه أكثر جوانب جماعة اليسار الجديد السابقة حيوية. وتبدو الحدود بين المتشددين والمؤسسات المدنية أو السياسية، أكثر تسامحاً مما كانت عليه منذ أمد طويل. وفي الولايات المتحدة، هناك، من جديد، أشخاص تقدميون منتخبون على غرار الاشتراكيين الاجتماعيين -مثل ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، ورشيدة طليب، وإلهان عمر، وبراميلا جايابال وكوري بوش، وغيرهم- وقد منحوا القوة من خلال قواعدهم الانتخابية المتنوعة ومجموعة من الاستراتيجيات، وبالتالي تعزيز الأفكار التي كانت تناقش سابقاً في الجامعات فقط، أو في نادي صغير للكتب الراديكالية، أو في منظمة غير هامة، أو مجلة سرية أو مدونة.
بالطبع، سيستنتج بعض المراقبين أن الاتجاه الحديث للسياسة الانتخابية والتشريعية في الولايات المتحدة يؤكد سيادة منطق النيوليبرالية للانضباط الاجتماعي والمالي حتى على الإصلاحات شديدة التحفظ. إن تآكل البرنامج الاقتصادي [للرئيس جون] بايدن حتى الآن بسبب عقبات الديمقراطيين الوسطيين المتعنتين ليس سوى تعبير آخر عن قدرة الحزب الديمقراطي على إلحاق الضرر بنفسه على مر العقود، ويظهر السناتور "جو مانشين" وكذلك "كريستين سينيما" كأنهما عقبات عنيدة واضحة تحول دون تحقيق "إعادة توجيه" الحزب التي تصورها مؤلفو بيان بورت هورون: "إعادة تنظيم" الحزب على جميع مستويات الحكومة، هناك مدافعون ديمقراطيون عن الوضع القائم الذين يجب على اليسار مواجهتهم، إلى جانب عراقيل مؤسسية أخرى- من المحكمة العليا إلى التوزيع الجغرافي للدوائر الانتخابية والتلاعب فيها-. وليست هذه العقبات فريدة من نوعها في الولايات المتحدة. ففي الانتخابات البرلمانية الأخيرة في ألمانيا، أبرزت النتائج المخيبة لحزب اليسار "دي لينكه Die Linke" أن الخلافات داخل اليسار وعدم وجود أهداف سياسية محددة تؤثر سلباً على تعامل الجمهور العام مع التحديات التقدمية للوضع القائم.
ومع ذلك، هناك بعض الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل -وسيكون هذا ضرورياً نظراً للتحديات الهائلة التي تواجهنا. من خلال مزيج متطور للتنظيم الجماهيري والسياسة الانتخابية، استطاع اليسار الأمريكي أن يكتسب تأثيراً لم يكن لديه حتى قبل عشر سنوات، مما رفع مكانة الديمقراطية الاجتماعية في العملية. وفي الواقع، لم يكن يمكن تصور فكرة أن يكون بيرني ساندرز رئيساً للجنة الميزانية في مجلس الشيوخ قبل حملته في العام 2016. ويجب أن يرحب أي شاب يساري أوروبي بإمكانية حدوث انقطاع حقيقي عن النيوليبرالية في الولايات المتحدة، مما قد يؤدي في النهاية إلى تغيير الانطباعات في أوروبا. وفي هذه الحالة، يمكن إرجاع الفضل إلى اليسار الأمريكي في المساهمة في تفكيك النظام السياسي الدولي الذي زاد من عدم المساواة وأبقى الفقر على مستوى كبير من العالم لعقود من الزمن. وعلى الرغم من أنه من الضروري دراسة وتحليل وتقويم سرعة التغيير والنتائج الفعلية للسياسات، إلا أنه من الواضح، على الأقل من خلال خطابات التقدميين الأمريكيين، إعادة الربط الحاسم بين أهداف الاقتصاد العادل وأشكال العدالة الاجتماعية الأخرى.
يعكس اندماج استراتيجيات بناء التحالفات والاستراتيجيات اللاحزبية، بشكل غير مسبوق، الطابع الدولي والمتعدد الأعراق لليسار الحديث في الغرب. في حين يمكن أن تؤدي عوامل عدة إلى استنتاج يشير إلى ضعفهم بشكل لا يمكن علاجه وعدم قدرتهم على التأثير الانتقالي، إلا أن بروز اليساريين غير البيض في المقدمة -الذين يعرفون التراث الصعب لدول الرفاهية العنصرية والطبقية- لكنهم يسعون مع ذلك إلى استرداد وتحديث أفضل آلياتها- يشير إلى أن الديمقراطية الاجتماعية لديها القدرة على أن تتجدد، تماماً كما حدث في المشهد المروع لأوروبا في العام 1945.
وفي هذا السياق، يذكرنا كتاب اليسار الجديد بالأشكال المتعددة التي يمكن أن يتخذها بناء العالم. ولكنه يذكرنا، في ذات الوقت، بأنه لا الموقف الذي يتم تحديده بالسلب -مثل مكافحة الفاشية- ولا مخطط النموذج السياسي الاقتصادي كافيان لوحدهما لمواجهة أزمة المناخ والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي المستشري، وسوف يضطر المناضلون ذوو البصيرة البعيدة إلى استخلاص كيفية العمل داخل المؤسسات وخارجها، وبناء القوة في خطوة رئيسية واحدة في الوقت الذي يعملون فيه على الاعتناء بتغذية شعلة المتشددين في خطوة رئيسية أخرى.
...
ملاحظات
العنوان الأصلي Radical Movements and Political Power
المؤلف Justin H. Vassallo
المصدرhttps://www.bostonreview.net/articles/radical-movements-and-political-power/