الفراعغ .. قصة قصيرة


نوال السعداوي
2023 / 6 / 5 - 20:52     

فراغ قصة قصيرة
------------------

وضعت قدمی علی سلم صغير ، لأصعد فوق المنضدة الحديدية المغطاة بملاءة حمراء من المشمع.. وما أن استويت عليها ، حيت أحسست بيد قوية خشنة تمسك ذراعى بغير رفق ، وتربطها برباط من الكاوتشوك.. ثم شُد الرباط بقوة، وشعرت بألم حاد في ذراعي ، انتقل سريعاً الى معدتي ، وأحسست بطعم شئ غريب في جوفى.. وفجأة.. رأيت السماء تكتسى بلون أحمر قان، ثم أخذ اللون الأحمر يبهت شيئاً فشيئاً ، حتى أصبح غلالة حمراء رقيقة تهتز مع النسيم الرقيق على نافذة حجرتي، ووجدتني أجلس وحدى فى حجرتى .. والباب مغلق علىَ، أجلس على طرف الكرسي وأضغط أصابع يدى فى عصبية وانفعال، وأهز رأسي في ضيق وحيرة.
لقد مللت .. مللت كل شئ ! لم يعد هناك شئ يثيرني، يحركني،يهزنی ! عرفت كل شئ ! عرفت الكفاح المرير من أجل دريهمات قليلة. وعرفت الرخاء والكسل والنعيم والنشوة، عرفت الحب والكره.. وجربت الأصدقاء والأعداء عرفت الرجال والنساء.. ولعبت مع الأطفال لعبة الثعلب فات فات.
مرت بي سنين ، كنت أخرج فيها كل صباح باكر قبل أن تبزغ الشمس لألحق بأول قطار يقلنى الى بنى سويف. ولم يكن القطار يحمل إلا العمال والمزارعين والموظفين الصغار من الدرجة التاسعة فما تحت، وكانت البراغيث تترك كل هؤلاء وتقبل نحوى متبخترة، وتتسلق ساقی.. ثم تبدأ عملها اليوم كأنها موظف حكومي نشط .. وأبدأ أنا في القفز من مقعد الى مقعد ، وقد منعنى الحياء والخفر ، من أن أدفع عن نفسى بالطريقة الطبيعية ضد هذه الحشرات اللعينة.
وكان عملى مرهقاً، أو لعله كان الذهاب الى عملى هو المرهق.
وانتهت سنوات القحط هذه كما ينتهى اى شئ.. ووجدتني فجاة أقوم من فراشي الوثير ، وأنا أتثاءب فى استرخاء وكسل وأنظر إلى عقارب الساعة بنصف عين.. وحينما أجد أن الساعة لم تبلغ الا التاسعة ، أعود فأغمض عينى وأسبح في أحلام لذيذة .. عملى ليست له مواعيد.. أذهب العاشرة أو الحادية عشرة .. أو لا أذهب على الإطلاق.. تبعاً لمزاج سيادتى الشخصى .. فأنا مديرة كبيرة ، وليس لأحد سلطان علىَ .
لكن سنوات الرخاء لا تلبث أن تدبر ، كما يدبرأى شئ ، وأجد نفسي محشورة مع ركاب الدرجة الثانية فى الأتوبيس ، بعد أن كنت أركب عربة خاصة بي ، وأعطى لسائقها الأوامر ، بأن يذهب بي حيثما أشاء.
وكانت لي صديقة حميمة ، عملها الرئيسى فى الحياة هو أن تسجل ما يطرأ على حياتى من تغيير، إلى جانب أعمالها الأخرى ، كربة بيت لها زوج وأولاد.. وكانت تقول لى دائماً يا شيخة حرام عليكى.. ده أنا تعبت مش لاحقة أجرى وراكى فين والا فين.. مش ناوية تستقرى بقى ؟ .
كانت كلمتها هذه ، تثير فى نفسى كثيراً من الأفكار والأسئلة والحيرة : أستقر ؟.. كيف ؟.. ولماذا ؟.. ومتى ؟...
ثم كيف استقر ، وأنا أقف على أرض كروية تدور وتلف بلا توقف ؟ . كيف لا أتحرك ، وقدماى مشدودتان الى شئ يتحرك ؟..
لكن صديقتي كانت مخلصة ، وكانت تحبنى ، فلم أشأ أن أغضبها . فقلت لها : "حاضر يا عزيزتى .. سأستقر .. ولنبدأ ."
وكانت البداية أن عرفتني بعريس.. فإن الاستقرار في رأى صديقتي ، هو الزواج ولا شئ غيره، ولم أكن أعرف ذلك ، الا بعد أن وجدت نفسى أجلس فى حجرة الصالون فى بيتها ، ومعى رجل لم أقابله من قبل. ولم يعجبنى الرجل .. لكنى رحت مجاملة لصديقتي ، أفتش في ملامحه أو في جيوبه عن شئ يثير الاهتمام.. لكنه كان خالي الوفاض من كل شئ... حتى عيناه كانتا خاليتين من التعبير .
لكنى رغم كل ذلك تزوجته.. مجاملة لصديقتي .. لم أشأ أن أخيب ظنها في نفسها، وفى مقدرتها على إقناعي بالإستقرار.
تزوجته .. لأننى أشعر نحو صديقتى بعاطفة ما.. لا أستطيع أن أصفها. ولكنها عاطفة قوية تجعلني أفكر في بعض الاحيان أن أسعدها.. وأحسست أن زواجى من هذا الرجل ، سيكون سببا في سعادتها.
لكننى لم أستطع أن أستمر فى إسعاد صديقتى كثيراً.. وهذا عيبى.. فأنا لا أتحلى بشئ من الصبر.. وسرعان ما يصيبنى الملل..
أه الملل !.. هذا العملاق الفاغر فاه ، دائماً يبتلع في جوفه كل شئ.. ثم يترك من حولى فراغاً كتيباً قاتلا كأنه الموت، فراغ عنيد.. يتبعنى أينما ذهبت.. ويطاردني بالليل وبالنهار.. لا يخشى رهبة الحكومة وموظفيها الموقرين.. فيتسلل الىَ من تحت باب المكتب ، وأجده متربصاً بي وأنا أقلب الأوراق وأنجز الأعمال.
ولا تخدعه الهوايات التي جمعتها فى نفسى، فيلاحقني وأنا ألهث أثناء اللعب والمباريات.. ويجلس يدندن وأنا أعزف على آلتي ، فتعلو دندنته الغليظة النشاز على صوت أنغامي.
أستغيث منه، وأصرخ فى أذنه، وألطمه على وجهه، وأكسر القلم في عينه، وأقلب عليه دواة الحبر.. لكنه ثقيل عنيد لا يفارقني.. فألقى كل ما يدى وأترك له المكان وأخرج الى الخلاء لاشم الهواء.. فاذا به يتسلل مع الهواء إلى أنفى .
وأخبط رأسى فى جذع شجرة سميكة خشنة ، حتى تسيل منه الدماء... لكنه لا يدعنى.. فليس هو ممنْ يرهبون منظر الدماء.
ورأيت الناس يسيرون اثنين اثنين .. رجلاً وامرأة.. والتقت عيناى بعينى رجل يختلف عن الآخرين.. قلت له : " أهو أنت ؟ " .. قال " نعم ".
وسرنا جنباً إلى جنب.. وعرجنا على طريق النيل .. وهبت نسمة باردة ندية من صفحة الماء فشعرت بالبرد ، وأحسست بيده في يدى ، فنظرت إليه، كان قريباً مِنى ، ويقع على وجهه ضوء مصباح قريب. وتأملت وجهه.. كان غريباً .. لم يكن هو الوجه الذي رأيته من قبل.. كانت عيناه صغيرتين حمراوين .. وأنفه كبير الحجم.. وشاربه الطويل يتدلى على حافة فمه.
ووقفت .. وسحبت يدى من يده.. وقلت له : " لنرجع. لقد أخطأت. أنك لست هو".
وعدت الى بيتى. وأغلقت باب حجرتي، وجلست على طرف الكرسي أضغط أصابع يدى فى حيرة وقلق.. وتلفت حولى.. كأنما أفتقد شيئاً.. آه .. تذكرت .. الفراغ .. أين هو ؟..
ولم يهمني.. رأيته يدخل منحنياً من فرجة الباب.. ويقف منتصبا أمامي.. أهلاً.. فراغ !..
وجلس إلى جوارى بوجهه القبيح.. وقال لى مشفقا : " إنك يا عزيزتي في حاجة إلى شئ جديد ".
قال: " لماذا لا تسافرين " ؟ فقلت في مرارة " لم يعد هناك شئ جديد ".
... لقد سافرت الى كل شبر من الأرض يخطر على بالك.
قال ساخرا: " الأرض !.. وهل تسمين هذا سفراً ؟. أنت في حاجة الى تغيير جو الأرض.. لماذا لا تسافرين الى الزهرة ! هيا .. هيا .. ان آخر سفينة تطير إلى هناك في السابعة مساء، أمامك أقل من ساعة لتعدى حقيبتك..
وقلت: " والله فكرة .. عجيب.. لماذا لم أفكر في ذلك من قبل ؟ ".
ووجدتني بعد قليل أقف فى مطار سفينة الفضاء. فى يدى حقيبتي.. وعلى وجهى ابتسامة بلهاء ، تنم عن أى شئ ما عدا الذكاء أو الفهم.. ورأيت حشدا من النساء والرجال يجرون نحو السفينة فجريت معهم... وارتقيت بضع درجات صغيرة ، ثم وجدتني في جوف السفينة، ورأيت مضيفة حسناء تبتسم لى وتقودنى إلى أريكة صغيرة، ووضعت حقيبتي في مكان خاص.. وجلست على الأريكة، فإذا بي أغطس فيها كأنني ، وقعت في إناء من العجين، وتلفت حولى لأبحث عن منقذ ينتشلني ، فرأيت عدداً كثيراً من الأرائك تغطس فيها أجسام كثيرة لا تبدى ذعراً ، وإنما تستلقى فى هدوء. فغطست بدورى في صمت.. وسمعنا صفارة رفيعة.. أعقبها صوت نسائى رقيق يقول: " السفينة ارتفعت. سنتوقف في الزهرة عشر دقائق لنمون.. ".
ونظرت فى العدسة التي الى يسارى ، فرأيت الأرض تبتعد عنا بسرعة هائلة. فشعرت براحة تسرى فى أوصالي.. وتمددت في أريكتي وأغمضت عيني لأسرح ما أشاء في تلك الرحلة الى الزهرة، وقلت لنفسى : يا لها من مغامرة .. ترى ما شكل الرجل هناك؟.. وهل عندهم حب ؟ .. وتركت خيالى العنان يرسم ما يشاء من المغامرات البريئة ..
وبعد ساعات لم أعرف عددها سمعت صوت المضيفة الحسناء تقول: " تذاكر الزهرة .. " وأخذت حقيبتى فى يدى ونزلت من السفينة. وعلى وجهى ابتسامة عريضه جدا، استعنت عليها بكل مواهبي وتلفت حولى لأجد رجلاً أو مخلوقاً في المطار فلم أجد.. وسرت أضرب في الأرض الرملية علنى أجد عربة أو تاكسيا يقلني الى البلدة.. وقبل أن أصل الى موقف العربات .. رأيت رجلا يقف في وسط المطار وفي يده حقيبة.. وانبسطت أسارير وجهى لا أدرى كيف واتجهت نحوه.. ولما اقتربت منه وجدته رجلا عاديا يشبه رجال الأرض وله شارب صغير.. ولم أجد بدأ من أن أسأله: " هل أنت من الزهرة ". فقال الرجل بصوت غلیظ: " نعم "، فقلت: " والى أين أنت مسافر؟ " .. فقال: " الى الأرض". قلت: " الأرض لماذا ؟ ". فقال وهو شارد : " الفراغ".
وحملقت فى وجهه لحظة وقلت: " الفراغ ؟.. إنه في الأرض. لقد ودعته منذ ساعات . " فقال غاضبا " هراء....... إنه فى الزهرة. لقد وعدته منذ دقائق ! ".. فقلت له فى غضب:" بل إنه في الأرض ". فقال في ثورة " بل إنه في الزهرة ! " .. قلت: " فى الزهرة ! ".. وصفعني على وجهي ! فتحت عينى. ورأيت الطبيب واقفاً بجوارى ، يخبط بيديه على وجهي في صفعات لينة.. وسمعته يناديني باسم سهير .. سهير .. مبروك يا ستى.. خلاص العملية.
وتقلبت في الفراش مذهولة ، أحس أن رأسى قد أصبح في ثقل الكرة الأرضية.. وقلت فى غضب : " في الأرض! في الأرض.. "
سألنى الدكتور ضاحكا: " إيه هو اللى فى الأرض يا سهير ؟..".
فقلت وأنا أتثاءب من أثر المخدر ، الفر.. الفر..!..!..غ ".
-----------------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " حنان قليل " 1958
-----------------------------------------------------