الفصل ال 16 من كتاب أوهامي في روسيا: ماريا سبيريدونوفا

إيما غولدمان
2023 / 5 / 31 - 12:22     

الفصل الـ 16 من كتاب أوهامي في روسيا الصادر عام 1923 عن دار نشر Doubleday, Page & Company والمنشور في أرشيف الماركسيين على الانترنت.



كما ضمت مفوضية التعليم قسم المتاحف. ترأس متحف الثورة في بتروغراد شخصان: كان لوناتشارسكي واحداً منهما، كان من الضروري توقيعه على أوراق اعتمادنا التي وقعت فعلياً من قبل زينوفييف، الرئيس الثاني للمتحف. وقد جرى تكليفي لرؤية لوناتشارسكي.

شعرت بالذنب أمامه. فقد تركت موسكو في آذار/مارس واعدة بالعودة خلال أسبوع للانضمام إليه في عمله. اليوم، وبعد 4 أشهر، جئت طالبةً منه المساعدة في مجال مختلف بالكامل. ذهبت إلى الكرملين لإخبار لوناتشارسكي عن شعوري إزاء الوضع في روسيا. لكنني ارتحت لوجود عدد من الأشخاص في مكتبه؛ ولم يكن هناك وقت لتناول هذه المسألة. أمكنني فقط إبلاغ لوناتشارسكي بالهدف من الرحلة الاستكشافية وطلب مساعدته في العمل. وقد وافق على طلبي. كما وقع على أوراق اعتمادنا وزودنا برسائل توصية وتعريف بنا لتسهيل جهودنا نيابة عن المتحف.


في حين كانت المفوضية تستعد للرحلة إلى أوكرانيا، وجدت وقتاً لزيارة عدة مؤسسات في موسكو والالتقاء بأشخاص مثيرين للاهتمام. من بينهم كانوا أعضاء في تكتل اليسار في الاشتراكيين الثوريين والذين كنت قد التقيت بهم في زيارتي السابقة. أخبرتهم حينها إنني متحمسة للقاء ماريا سبيريدونوفا، التي سمعت عن حالتها عدة روايات متضاربة. ولكن لم أتمكن من عقد لقاء معها: ربما قد أعرّض سبيريدونوفا للخطر، لأنها كانت تعيش سراً، كفلاحة. فعلاً التاريخ يعيد نفسه. تحت الحكم القيصري تنكرت سبيريدونوفا بزي امرأة ريفية، وأطلقت النار على لوخانوفسكي، حاكم تامبوي، المشهور بجلد الفلاحين. فاعتقلت وعذبت وحكمت بعقوبة الإعدام. فهبّ العالم الغربي، وبفضل هذه التظاهرات تبدلت عقوبة سبيريدونوفا إلى النفي لمنطقة سيبيريا مدى الحياة. فأمضت 11 سنة هناك؛ وقد حررتها ثورة شباط/فبراير وأعادتها إلى روسيا. مباشرة، ألقت ماريا سبيريدونوفا بنفسها في النضال الثوري. اليوم، وفي ظل الجمهورية الاشتراكية، باتت ماريا تعيش من جديد متنكرة بعد أن هربت من سجن الكرملين.

أخيراً، اتخذت الترتيبات لإتاحة الفرصة لي للقاء سبيريدونوفا، وجرى تحذيري من ضرورة التأكد من أن رجال التشيكا لا يلحقون بي. اتفقنا على الالتقاء بماريا بمكان للاجتماع. مررنا بعدة شوارع وصولاً إلى غرفة صغيرة تحتوي على سرير، ومكتب صغير وخزانة كتب وعدة كراسٍ. أمام المكتب، المليء بالكتب والرسائل والأوراق، جلست امرأة ضعيفة جداً، إنها ماريا سبيريدونوفا. كانت واحدة من أعظم الثائرات في روسيا، المرأة التي واجهت بكل صلابة التعذيب الذي تعرضت له على يد شرطة القيصر. وقد أخبرني [سيرغي] زورين وجاك [جون] ريد أن سبيريدونوفا تعاني من انهيار وأنها قد وضعت في مصحة. قالوا إن مرضها كان وهناً عصبياً وهيستيريا حادة. عندما قابلت ماريا، عرفت فوراً أن الرجلين قد خدعاني. لم أعد متفاجئة من زورين: فقد اكتشفت شيئاً فشيئاً أن كل ما أخبرني به كان كذباً تماماً. أما بالنسبة لريد، الذي لم يكن على علم باللغة وخاضعاً بالكامل لإيمانه الجديد، فقد أخذ الأمور كأشياء مسلم بها. وبالتالي، لدى عودته إلى موسكو، أتى لإعلامي أن قصة إطلاق النار الجماعية على السجناء عشية إلغاء عقوبة الإعدام كانت حقيقية بالكامل. لكنه، طمأنني، أن هذا كله كان خطأً من أحد المسؤولين في التشيكا الذي دفع حياته [عقاباً] مقابل ذلك. أتيحت الفرصة للتحقق من ذلك. وقد وجدت أن جاك[جون] قد جرى تضليله مرة أخرى. لم يكن الأمر أن رجلاً معيناً كان مسؤولاً عن القتل الجماعي في ذلك اليوم. كان ذلك مندرجاً ضمن نظام وطابع جهاز التشيكا بأكمله.

أمضيت يومين مع ماريا سبيريدونوفا، أستمع لروايتها للأحداث منذ تشرين الأول/أكتوبر 1917. وقد تحدثت مطولاً عن حماسة الجماهير وحماستها والآمال التي أطلقها البلاشفة؛ من صعودهم إلى السلطة وتحولهم التدريجي إلى اليمين. شرحت اتفاقية السلام بريست-ليتوفسك التي اعتبرتها الحلقة الأولى من سلسلة قيدت الثورة منذ ذلك الوقت. لقد ركزت على البرودرازفيرستكا نظام المصادرة الإجبارية [مصادرة المحصول الزراعي من الفلاحين]، الذي كان يدمر روسيا ويشوه سمعة كل شيء خيضت الثورة من أجله؛ وتحدثت عن الإرهاب الذي مارسه البلاشفة ضد كل نقد ثوري، عن البيروقراطية الشيوعية وانعدام كفاءتها، وعن الوضع الميؤوس منه. لقد كانت لائحة اتهام ماحقة ضد البلاشفة ونظرياتهم وأساليبهم.


إذا كانت سبيريدونوفا قد عانت حقاً من انهيار، كما أُخبِرْتُ، وكانت في حالة هستيرية وغير متوازنة عقلياً، إلا أنها كانت دون شك تتمتع بسيطرة غير عادية على نفسها. إذ كانت هادئة، مسيطرة على ذاتها، وواضحة عند كل نقطة [من حديثها]. كانت تتمتع بالسيطرة الكاملة للمواد والمعلومات الخاصة بها. خلال عدة مناسبات من حديثها، عندما لاحظت شكوكاً بدت على وجهي، قالت: “أخشى أنك لا تصدقيني بالكامل. حسناً، هذه هي بعض كتابات الفلاحين إليّ”، واتجهت صوب مجموعة من الرسائل على مكتبها وقرأت لي مقاطع مؤلمة تعبر عن حالات البؤس والغضب من البلاشفة. كتب فلاحو أوكرانيا وسيبيريا بخط واضح، وفي بعض الأوقات غير واضح، عن أهوال البرودرازفيرستكا وماذا سببت لهم ولأراضيهم. “لقد أخذوا كل شيء، حتى البذور الأخيرة للزرع المقبل”. “لقد سرق المفوضون كل شيء منا”. على نفس المنوال توالت الرسائل. كثيراً ما أراد الفلاحون معرفة إذا كانت سبيريدونوفا قد انتقلت إلى البلشفية. كتب أحد الفلاحين: “إذا تخليت عنا كذلك يا ماتوشكا [والدتي- لقب توددي]، فلن يكون هناك من نلجأ إليه”.

إن ضخامة اتهاماتها تتحدى المصداقية. بعد كل شيء، كان البلاشفة ثوريين. كيف يمكن أن يكونوا مذنبين في الأمور الفظيعة المتهمين بها؟ ربما لم يكونوا مسؤولين عن الوضع كما تطور؛ كان العالم كله ضدهم؟ حصلت اتفاقية بريست للسلام، على سبيل المثال. عندما وصل الخبر إلى أميركا كنت في السجن. فكرت طويلاً وبدقة فيما إذا كان لروسيا السوفياتية ما يبرر لها التفاوض مع الامبريالية الألمانية. ولكن لم أجد طريقة أخرى للخروج من هذا الوضع. كنت مؤيدة لاتفاقية بريست. ومنذ وصولي إلى روسيا سمعت روايات متناقضة عنها. اعتبر الجميع تقريبا، ما خلا الشيوعيين، أن اتفاقية بريست هي خيانة للثورة بقدر دور الاشتراكيين الألمان في [دعم] الحرب- هو خيانة للروح الأممية. من جهة أخرى، أجمع الشيوعيون على الدفاع عن السلام ورفضوا كل من شكك في الحكمة والثوريّ في تلك الاتفاقية. حاجج الشيوعيون “لا يمكننا فعل أمر آخر سواها، تتميز ألمانيا بجيش كبير، في حين لم يكن لدينا أي جيش. فلو رفضنا الاتفاقية كنا سنحكم على مصير الثورة. وأدركنا أن بريست عَنَتْ تسوية، ولكننا علمنا أن العمال في روسيا وبقية العالم سيعلمون أننا اضطرينا إلى ذلك. وكانت التسوية بالنسبة لنا مشابهة لتلك التي يحصل عليها العمال عندما يجبرون على قبول شروط أصحاب العمل بعد إضراب فاشل”.

لكن سبيريدونوفا لم تقنع مقتنعة. “لا يوجد أي كلمة من الحقيقة في المحاججة المقدمة من البلاشفة”، تقول. صحيح إن روسيا لم يكن لديها جيش منضبط لمواجهة الهجوم الألماني، ولكن كان لديها ما هو أكثر فاعلية بشكل كبير: لديها شعب ثوري وواعٍ كان سيقاوم الاجتياح حتى آخر نقطة دم. في الحقيقة، الشعب هو الذي صدّ كل هجمات الثورة المضادة التي شنت ضد روسيا. من هو غير الشعب، بفلاحيه وعماله، من جعل الأمر مستحيلاً على الجيشين النمساوي والألماني البقاء في [احتلالهما] لأوكرانيا؟ من هزم [أنطون] دينيكين وسواه من جنرالات الثورة المضادة؟ من انتصر على [ألكسندر] كولتشاك و[نيكولاي] يودينيتش؟ ادعى لينين وتروتسكي أنه كان الجيش الأحمر. لكن الحقيقة التاريخية كانت، أن وحدات المتطوعين العسكرية للعمال والفلاحين- البوفستانتسي [الانتفاضات الفلاحية]- في سيبيريا وكذلك في جنوب روسيا- هي التي تحملت عبء المواجهة عند كل جبهة، وغالباً ما أكمل الجيش الأحمر انتصاراتها. كان تروتسكي يرغب بالتوصل إلى الموافقة على اتفاقية بريست، لكنه رفض في وقت ما التوقيع عليها، كما عارضها [كارل] راديك و[أدولف] جوف وسواهما من القادة الشيوعيين. في حين يزعمون الآن أنهم استسلموا للشروط المهينة لأنهم أدركوا يأس توقعاتهم بأن العمال الألمان [الثورة الألمانية] سيمنعون/تمنع الجيش الألماني من المضي في [هجومه] ضد روسيا الثورية. لكن لم يكن ذلك هو المبرر الحقيقي. إنما كان سوط الانضباط الحزبي هو الذي أرغم تروتسكي وآخرين على الرضوخ.



أكملت سبيريدونوفا: “المشكلة مع البلاشفة أنهم لا يؤمنون بالجماهير. أعلنوا عن أنفسهم حزباً بروليتارياً، ولكنهم رفضوا الوثوق بالعمال”. شددت ماريا، على أن هذا النقص بالإيمان [بالعمال] هو الذي جعلهم يرضخون أمام الإمبريالية الألمانية. وبما خص الثورة نفسها، كانت اتفاقية بريست هي التي وجهت ضربة قاضية. إلى جانب خيانتهم [لثورة] في فنلندا، وروسيا البيضاء، ولاتفيا وأوكرانيا- التي جرى تسليمها بلا رحمة للجيش الألماني بسبب اتفاقية بريست- رأى الفلاحون الآلاف من إخوتهم يقتلون، كان عليهم الرضوخ للسرقة والنهب الذي تعرضوا له. لم يتمكن عقل الفلاح البسيط فهم أسباب الانقلاب الكامل في شعارات البلاشفة “لا تعويض ولا إلحاق”. ولكن حتى أبسط الفلاحين كان بإمكانهم فهم أن تعبهم ودماءهم كانت تذهب لدفع التعويضات التي فرضتها شروط اتفاقية بريست. تنامت عدائية الفلاحين ومرارتهم تجاه النظام السوفياتي. فقد أحبطوا ويئسوا وتحولوا عن الثورة. بما خص تأثير اتفاقية بريست على العمال الألمان، كيف يمكنهم الاستمرار بالإيمان بالثورة الروسية في ضوء واقع أن البلاشفة تفاوضوا ووافقوا على شروط السلام مع أصحاب العمل الألمان الرابضين على رؤوس العمال الألمان؟ تبقى الحقيقة التاريخية أن اتفاقية بريست شكلت بداية نهاية الثورة الروسية. من دون شك أنه يوجد عوامل أخرى قد أدت إلى الكارثة، لكن بريست كانت أكثر تأثيراً منهم.

شددت سبيريدونوفا أن تكتل اليسار الاشتراكي الثوري قد حذر البلاشفة من هذا السلام وناضل بشدة ضده. لقد رفض قبولها حتى بعد توقيعها. لقد اعتبر وجود [السفير الألماني ويلهلم فون] ميرباخ في روسيا الثورية انتهاكاً للثورة، وظلماً شديداً للشعب الروسي البطل الذي ضحى وعانى كثيراً في النضال ضد الامبريالية والرأسمالية. قرر حزب سبيريدونوفا أنه لا يمكن التسامح مع [وجود] ميرباخ في روسيا: كان على ميرباخ الرحيل [الموت اغتيالاً]. أعقبت عملية الاغتيال حملة اعتقالات واضطهادات جماعية، فقدم البلاشفة خدمة [إضافية] للقيصر الألماني. فملأوا المعتقلات بالثوار الروس.

في سياق حديثنا اقترحتُ أن طريقة تطبيق البرودرازفيرستكا قد تكون فرضت على البلاشفة بسبب رفض الفلاحين إطعام المدينة. في بداية الثورة، فسرت سبيريدونوفا، أنه ما دامت سوفيتات الفلاحين موجودة، سيعطي الفلاحون بكل رضى وكرم. ولكن عندما بدأت الحكومة البلشفية بحل هذه السوفيتات وباعتقال 500 مندوب فلاحي، أصبح الفلاحون معادين لها. إضافة إلى ذلك، فقد شهدوا على مستوى يومي على انعدام كفاءة النظام الشيوعي: لقد رأوا منتجاتهم مرمية في المحطات ومتعفنة، أو في حوزة المضاربين في الأسواق. بطبيعة الحال في مثل هذه الظروف لن يستمروا في العطاء. في الحقيقة لم يرفض الفلاحون تقديم الإعانات للجيش الأحمر، وأنه كان ممكناً استعمال طرق أخرى غير تلك التي استعملها البلاشفة. لم تؤدِ البرودرازفيرستكا إلا إلى زيادة الفجوة بين القرية والمدينة. لجأ البلاشفة إلى الحملات العقابية التي تضمنت ترهيب الريف. فقد حل الموت والخراب أينما وصلوا. بعد يأسهم من الوضع، بدأ الفلاحون بالتمرد ضد النظام الشيوعي. في مناطق مختلفة من روسيا، في الجنوب والأورال وفي سيبيريا اندلعت انتفاضات فلاحية فيها، وفي كل مكان أخمدت بقوة السلاح وبيد حديدية.

لم تتحدث سبيريدونوفا عن معاناتها لأنها افترقت عن [سياسة] البلاشفة. ولكنني علمت من آخرين أنها اعتقلت مرتين وسجنت لفترة طويلة من الزمن. حتى عندما كانت حرة بقيت تحت المراقبة، كما كانت في ظل حكم القيصر. في عدة مناسبات تعرضت للتعذيب وأخرجت ليلاً من معتقلها وأُعلِمت أنها ستعدم رمياً بالرصاص، الطريقة المفضلة عند التشيكا. لقد ذكرتُ الموضوع لسبيريدونوفا. لم تنكر الوقائع، على الرغم من أنها كانت تكره الحديث عن نفسها. فقد كانت منكبة بالكامل لمتابعة مصير الثورة وأحبائها من الفلاحين. لم تفكر في نفسها، ولكنها كانت حريصة على أن يتعرف العالم والبروليتاريا العالمية على الوضع الحقيقي للأمور في روسيا البلشفية.



من بين جميع معارضي البلاشفة الذين قابلتهم، أثارت ماريا سبيريدونوفا إعجابي كواحدة من أكثرهم صدقاً، واستقامة وإخلاصاً. كان ماضيها البطولي ورفضها التنازل عن أفكارها الثورية في ظل القيصرية وكذلك في ظل الحكم البلشفي، ضمانة كافية لنزاهتها الثورية.