من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 1


عبدالرحيم قروي
2023 / 5 / 31 - 04:50     

الحب من منظور ماركسي....
إذا كان مؤسسا الماركسية قد أدانا كل أنواع العلاقات البرجوازية في الاقتصاد والمجتمع، فانهما أدانا أيضاً (( التمرد الفوضوي على الزواج البرجوازي )) من خلال علاقات الحب الرومانسي غير الشرعية خارج إطار الزواج ، وكيف أن الشقاء والتمرد صارا خاصيتين ملازمتين للحب . كما أدانا الدعوات المتطرفة المطالبة بمشاعة النساء كرد فعل على بؤس الزواج البرجوازي ، وعدّا أن ذلك سيؤدى إلى (( إباحةٍ معّمقةٍ تفضي باسم الحب الحر إلى بغاءٍ عامٍ.)) . وقد حددا بالاستناد إلى نظرتهما المادية الطبقية (( أن الحبَ ذلك التفتح الرائع للشخص الإنساني ، مهددٌ بخطرٍ مزدوج ، اجتماعي وفردي : العبوديات الخارجية النابعة من علاقات الإنتاج ، ونداءات الغريزة الغاشمة . )) . وبالتالي فأن الحب بمضمونه التحرري الإنساني العميق لم يتحقق بعد على الأرض ، (( ففي كل المجتمعات الطبقية التي توالت على مر العصور ، اضطهدت المرأة وأستغلت ، وسُحـــِق الحب وأضطهِد وضُربَ عليه التحريم . )) وتوصــــلا إلى أن التغنّي بالنزوات الجنسية هو ردّ فعلٍ على الرياء البرجوازي اللا الأخلاقي ، وأن الإباحية (( إنما تعكسٍ فسادَ المجتمـــع البرجــــوازي ، إذ أن الفرد العاجز عن الانعتاق من العبوديات الاجتماعيـــة يصبح عبدَ الغريزة )) .
إن أرقى شكل للعلاقة بين الرجل والمرأة ، يظلّ مشروطاً لدى ماركس و انجلز بالمساواة الاجتماعية الكاملة . فعندما يتحرر الحب من جميع عناصره الحيوانية والإكراه المكشوف أو المقـنّع ، ويتحول في لحظةٍ إلى حالة من الاتحاد الروحي المتحقق بفضل المساواة التامة بين الرجل والمرأة ، آنذاك فقط تولدُ أسسً شكلٍ جديدٍ هو أسمى أشكال الزواج الوحداني . يستدل من ذلك أن مؤسسي الماركسية يحددان ٍمحتوى كل ظاهرة اجتماعية بنمط علاقات الإنتاج السائدة في مكان وزمان تلك الظاهرة ، وبالتالي فأن الحب لا يمكن أن يكون إنسانياً حقاً إلا في ظروف علاقات إنتاج حرةٍ تماماً وخاليةٍ من مفهوم (( الإنسان - السلعة )) الذي يستتر خلف كل بناء حضاري طبقي . فأصبح الحب بين المرأة والرجل في نظرهما ، ظاهرةً اجتماعية واقعيةً مرتبطةً بالضرورة بالبناء التحتي للمجتمعات ، وإنْ كان هذا الارتباط ليس خطياً أو سكونياً بسيطاً ، فالحب ليس نتاجاً ميكانيكياً مباشراً لعلاقات الإنتاج إذ يجب إدخال العناصر الفكرية الأخرى أيضاً في معادلة تكوينه .
لاشك أن العلوم النفسية والاجتماعية الحديثة تتفق إلى حد كبير مع الفلسفة الماركسية في تنظيرها المتعلق بالأثر الحاسم للبيئة الاجتماعية في تحديد سلوك الإنسان وإبكاره ومشاعره . ولا تكاد تخلو نظرية نفسية حديثة من التأكيد في أحد مضامينها على دور المحيط الخارجي في توجيه سيكولوجية الإنسان . لكن النقطة التي ينبغي التوقف عندها هي أن مؤسسي الماركسية يقرّان بوجود فروق بيولوجية بين الجنسين ، إلا انهما يصرّان بحتمية قويةٍ على أن التطور الاجتماعي للحضارة في المستقبل كفيلٌ بالتغلب على كل اللامساواة التاريخية بين الجنسين وبما يحقق حباً حراً راسخاً بين طرفي كل علاقة . إن نظرتهمـــــا (التبسيطية) هذه للعاملين البيولوجي والاجتماعي ( والتي لا تتفق مع منهجهما الجدلي الشمولي ) وتغليبهما للعامل الاجتماعي بوصفهٍ مفتاح التغيير المؤكد ، كان نتيجةً منطقيةً للحرب الفكرية التي وجدت الماركسية نفسها تخوضها ضد التيارات المثالية والغيبية والمادية الميكانيكية في القرن التاسع عشر ، فكان أن أولتْ جلّ اهتمامها لعاملٍ واحدٍ : ((العامل الاقتصادي - الاجتماعي )) ، شأنها في ذلك شأن التيارات الفلسفية والعلمية المهمة التي ظهرت في المرحلة الواقعة بين منتصفي القرنين التاسع عشر والعشرين ، والتي ركزت اهتمامها على عاملٍ واحدٍ أساسي عدته محور التفسير والتنبؤ ، كا لداروينية (عامل التكيف البايولوجي) ، و الفرويدية (عامل الجنس ) ، والحيوية (عامل الحدس) .
أن إلغاء الطبقية وتحقيق التوازن بين المتطلبات الاقتصادية والبايولوجية للإنسان ، لا يمكن أن يحقق منظوراً كاملاً لحل مشكلة الحب دون النظر والبحث في خفايا وميكانزمات عمل الجهاز العصبي المركزي للإنسان . فالحب بكل أشكاله أداء نفسي يعكسُ آليةً ماديةً فسيولوجيةً هي )) الانفعال)) Emotion ، ولكنه لا يعكس ذلك بطريقة مباشرة أو بسيطة . فالمسافة العصبية العقلية الواقعة بين ذلك الأداء النفسي وتلك الآلية الجسمية ، تكون مكتظةً بالمتغيرات الاجتماعية والحضارية والنفسية للفرد . فالإنسان هو الكائن الحي الوحيد القادر على إعطاء الانفعال الهرموني معانٍ معرفية ! فما هي نوع ودرجة الانفعال التي تحقق مفهوم الحب لدى الإنسان ؟ وما هي نقاط الاستمرارية أو الانقطاع في هذا الحب والمرتبطة حتماً بإيقاع الجهاز العصبي المركزي الخاضع لكل مثيرات الطبيعة والمجتمع ؟ إن تجارب وشواهد كثيرة تدلنا أن ااحب كثيراً ما يتوقف عن الديمومة بين أناسٍ متكافئين ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً . ألا يخلق الاستقرار والهدوء والمساواة واللا تمايز بين امرأة ورجل وضعاً يتسم بالملــــل ونقصــان الانفعال والإثارة إلى حد هبوط شحنة الحب عن ذروتها المنشودة ، بل ربما استحالته إلى تمثال أثري جميل ؟!
إن حلّ المعضلة الاقتصادية للبشر ، وتجريد علاقاتهم من طابعها التملكي الظالم ، و إقامة نمط من النظام الاجتماعي الملبّي للحاجات العقلية والفسيولوجية للإنسان والمرتكز على المنطق العلمي في إدارة شؤون الحياة وعلى الإدراك السليم لغايات الوجود البشري ، ومنع تغريب الإنسان و إعادة توحيده مع ذاته ومع المجتمع ، … إن كل ذلك ضروري حتماً لظهور نمط جديد من الحب الأصيل الحر بين المرأة والرجل ، إلا أن الأمر لابد أن يظل مرتبطاً بالتحليل الفسيولوجي والنفسي لا الاجتماعي فحسب لظاهرة الحب ، وصولاً إلى تحديد مفهوم أرقى له يتضمن كل متغيراته دون استثناء . فغموض مشكلة الحب تجعلنا نتريث في إطلاق أحكام نهائية عن أصولها وعن تحولاتها وعن مستقبلها ، ولا بدّ أن نبدأ بتجزئتها إلى مشكلات فرعية أولية قريبة أو إلى مستويات اكثر دقة وتفصيلاً ، دون أن نفقدَ نظرتنا الشاملة إلى الظاهرة بوصفها كلاً فسيولوجياً نفسياً اجتماعياً حضارياً لا يتجزأ إلا لأغراض البحث العلمي المصطنعة . وان التراكم المعرفي لمستويات البحث هذه على بعضها قد يولّدُ نظرةً كليةً جديدةً نسبياً للحب ، يكون لها أثرها المهم في العلوم الاجتماعية الأخرى فضلاً عن علم النفس ، فنقرر عند ذاك هل الحب ضرورة طبيعية لابدّ منها تتعلق بالتجاور البيولوجي بين الكائنات الحية عموماً وبين بني الإنسان خصوصاً ؟ أم هو تعبير عن حاجة الإنسان لكسر طوق عزلته الكونية والاجتماعية بتوجيه مشاعره نحو موضوع يخفف عزلته ؟ وهل الحب بين الجنسين نغمُ يَعزفُ على أوتار الجهاز العصبي في كل مكان وزمان ، وبالتالي لا فرق جوهري بين أنماطه عبر العصور ؟ أم شأنه شأن الغيرة والخوف والغضب هو نتاج فوقي من المشاعر والأفكار المتغيرة في ماهيتها ودرجتها حسب درجة تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المحيطة به ؟ ومتى يضعف العامل البيولوجي في الحب ويقوى العامل الاجتماعي ؟ ولماذا يفشل الحب في ظروف الاستقرار والأمان ، فيما ينجح ويتطور ويتقد في الظروف القاسية غير المؤاتية ؟
لنستمع أخيراً إلى الشاعر الفرنسي " بول ايلوار " ( 1895- 1952 )م الذي بدأ سريالياً وانتهى ماركسياً ، وهو يحدد ملامح هذا الحب الذي بشّر به ماركس وانجلز :
(( تلك التي أحب‘ ،
تجسّدُ رغبتي في الحياة
الحياة التي ألتـقـيها الآن فإذا هي أبـداً الآن
رغبتي في حياةٍ بلا حسرةٍ
في حياةٍ بلا ألمٍ ، في حياةٍ بلا موت
ولأنه ليس ثمة حياة أخرى فأنها حياة رائعة ! ))
(( المخطوطات الاقتصادية والفلسفيــة ))1844....
كارل ماركس
منشورات المكتبة الشيوعية