الطبيعة الطبقية للحزب الشيوعي / جزء 1من 5/ بقلم بابلو ميراندا / ترجمة مرتضى العبيدي


مرتضى العبيدي
2023 / 5 / 29 - 14:19     

الطبيعة الطبقية للحزب الشيوعي
في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، استولت التحريفية المعاصرة، بقيادة خروتشوف، على السلطة في الاتحاد السوفيتي وعلى قيادة الحزب الشيوعي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. ومنذ ذلك الحين، وفي سيرورة مستمرة، كان هناك تراجع نحو الرأسمالية أدى إلى استعادتها بالكامل، بعد انهيار "الاشتراكية الحقيقية" وتفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991.
ومن أجل أن تصل عملية استعادة الرأسمالية إلى ذروتها، أنجز التحريفيون الخروشوفيون مهمة تغيير الطبيعة الطبقية للحزب الشيوعي. ففي عملية التحديث والتطوير المزعومة للماركسية اللينينية، وضعوا أطروحة "حزب كل الشعب". وادّعوا أن تطوّر الاشتراكية كان من أهدافه أن يسمح بالقضاء على الطبقات والتناقضات الطبقية، وأن "الديمقراطية والحرية ستسودان"، وبالتالي كان على حزب الطبقة العاملة أن يختفي ويفسح المجال لحزب كل الشعب. (والشعب يشمل وقتها جميع الطبقات والقطاعات الطبقية التي كانت موجودة آنذاك في الاتحاد السوفياتي، وكذلك بقايا الطبقات الحاكمة القديمة والأثرياء الجدد الذين ظهروا في أتون الفساد والانتهازية في الاتحاد السوفياتي). وفي الواقع، لم يصبح الحزب البلشفي الذي كان شرسًا في يوم من الأيام حزب كل الشعب، بل أصبح منظمة سياسية في خدمة البيروقراطية والأثرياء الجدد، وأداة لاستعادة الرأسمالية، واضطهاد الطبقة العاملة والطبقات الكادحة الأخرى.
وتبعا لذلك، في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، تقدم التحريفيون الذين كانوا على رأس الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، ولا سيما قادة الحزب الشيوعي الفرنسي، بسرعة أكبر، فنبذوا اللينينية والمركزية الديمقراطية. حتى أن قادة الحزب الشيوعي الإيطالي ذهبوا إلى حد تغيير اسم الحزب. كلاهما حوّل الأحزاب الشيوعية المقاتلة التي قادت نضال المقاومة ضد النازية إلى أحزاب متعاونة غير مؤذية مع برجوازية بلادهم. وفوق كل شيء، قاموا بالدور الشائن المتمثل في نزع سلاح الطبقة العاملة أيديولوجياً وسياسياً. واتبع التحريفون الإسبان مسارًا مشابهًا، وأصبحوا ملكيين بحجة الانتقال من الفرانكية. وأعلن الجميع تخليهم عن مصالح الطبقة العاملة، وأصبحوا ممثلين لرجال الأعمال، وأطلقوا على أنفسهم اسم "الأورو شيوعيين" ومثّلوا تعبيرا صريحا للخيانة.
وفي العقد الأخير من القرن العشرين، بعد انهيار الإمبريالية الاشتراكية السوفيتية، وانهيار الاشتراكية الحقيقية، وهيجان السياسات النيوليبرالية لرأس المال المالي، وهزيمة بعض السيرورات الثورية الجارية، وانهيار الاشتراكية في ألبانيا، وأثناء الحملة الشهيرة المعادية للشيوعية التي أطلقتها الرجعية والإمبريالية، كان هناك تراجع للنضال الثوري، وتفكك أيديولوجي وتنظيمي للحركة العمالية والنقابية. لقد تفاقمت أزمة الأحزاب التحريفية، وعانت الحركات الثورية المختلفة، ومنظمات البرجوازية الصغيرة من تداعياتها، وانحلّ بعضها وتأثرت بشكل خطير. كما تأثرت الأحزاب الماركسية اللينينية بالهجوم، وعانت من بعض الانتكاسات.
وكان من بين العناصر التي وضعتها الأحداث في قلب النقاش، داخل حركة العمال والشعوب والمنظمات والأحزاب الثورية، ضرورة وجود حزب البروليتاريا، ونضاله الثوري. خاصة وأن البعض شرع في كيل التهم للحزب الشيوعي وتحميله مسؤولية هزيمة الاشتراكية. وانطلاقا من هذه الفرضية، استنتجوا أنه للقيام بالثورة لم تكن هناك حاجة لحزب سياسي، ناهيك عن الحزب الشيوعي.
ووجه البعض الآخر سهامهم إلى ما أسموه بـ"الستالينية"، ولطبيعة الحزب، وللمركزية الديمقراطية بالذات، و لـ"غياب الديمقراطية وهيمنة الاستبداد"، و"قمع المبادرة الفردية ". ومن هذا المنطلق خلصوا إلى أن الحزب القادر على القيام بالثورة يجب أن يكون "حزباً ديمقراطياً تعددياً "ممثلا لطبقات متعددة" يعترف بالعصر الجديد والمشاكل الجديدة.
وفي السنوات الأولى من الألفية الجديدة، كانت الأطروحات القديمة لـ "اليسار الجديد"، و"اشتراكية القرن الحادي والعشرين"، و"الثورة السلمية"، و"الفاعلين الجدد للثورة" تملأ المكان. وبدعم من الانتصارات الانتخابية للقوى التقدمية في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور ودول أخرى، أصدروا مرسوماً بإنهاء الحزب الشيوعي أي لما يسمونه "الاختزالية الطبقية" (le réductionnisme de classe) وأعلنوا ظهور أحزاب "يسارية وثورية" عُمّدت على أنها "متعددة الطبقات"، أي كممثلة لمصالح الطبقات "الثورية" المختلفة. أما في الواقع، فإن الحزب الاشتراكي الفنزويلي (PSUV)، وحزب MAS (بوليفيا)، وأليانزا بايس (إكوادور)، هي أحزاب سياسية تدعي أنها ثورية واشتراكية وهي في الواقع تدعم النظام الرأسمالي، وحق الملكية الخاصة المقدّس لوسائل الإنتاج؛ وهي منظمات سياسية تمثل مصالح جزء صغير من الطبقات الحاكمة.

النظرية الماركسية بخصوص الأحزاب السياسية
بالنسبة للعلم السياسي البرجوازي، فإن الحزب السياسي هو مجموع الأشخاص المنظمين بطريقة مستقرة بهدف الحصول على السلطة، ومن هناك تجسيد مقترحاتهم وتصوّراتهم للتنظيم الاجتماعي والدولة. فكل الأحزاب السياسية لها أيديولوجيا تميزها وتعطيها أهدافاً مشتركة، وهي محددة في المذاهب والنظريات، في أرضياتها وبرامجها وشعاراتها.
كانت هناك دائمًا مجموعات ومنظمات سعت إلى الاستيلاء على السلطة، ونفذت أنشطة وأعمالًا ونضالات، ولكن في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بعد السيرورات الثورية الليبرالية، بدأ إنشاء ما يسمى بالأحزاب السياسية، وفي القرن التاسع عشر اكتسبت هذه الأخيرة معظم الشروط التي تميزها.
تفترض النظرية الماركسية للأحزاب السياسية بشكل أساسي هذه المفاهيم، وتطورها لتحديد أهداف ومقاصد الأحزاب السياسية كتعبير عن المصالح الطبقية لممثليها وقادتها. وهي تؤكد بإصرار أن قرار التنظم في حزب سياسي لا يأتي استجابة لمواقف أخلاقية، بل هو يستجيب بشكل أساسي للدفاع عن المصالح المادية والرغبة في الاستيلاء على السلطة السياسية للدفاع عن هذه المصالح.
وبغض النظر عن انضمام مئات وآلاف الأشخاص الى الأحزاب السياسية من الجماهير الكادحة والشعوب والجنسيات المضطهدة، فإن طبيعة أيديولوجيا وبرامج ومقترحات المنظمات السياسية تتوافق مع الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والسياسية للطبقة أو للقطاع الطبقي الذي تنتمي إليه النواة الرئيسية لقيادته. في الأحزاب المحافظة و / أو الليبرالية، في الأحزاب الرجعية والفاشية التي كانت مهيمنة في زمن ما، يأتي الجزء الأكبر من المنتسبين إليها ومن مناضليها من الطبقات الكادحة والشرائح الاجتماعية الشعبية، التي كانت تشكل القوات التي يتم تلقينها الأيديولوجيا، والمقترحات والفكر الذي يصرح به القادة، وهم في الأساس يدافعون بوعي عن مقترحاتهم وبرامجهم. لا يعني هذا الوضع أن هذا الحزب البرجوازي أو ذاك، لأنه يتألف عضوياً من أشخاص ينتمون إلى الطبقات الكادحة، يمثل مصالح هذه الأخيرة ويدافع عنها، ولا يعني ذلك أنه يطبقها عندما يكون في السلطة. من الواضح أنه عندما يناضل حزب سياسي برجوازي، مهما كانت أيديولوجيته، من أجل السلطة وينتهي به الأمر بالفوز بالحكومة، فإنه يعمل على الحفاظ على قاعدته الاجتماعية وأتباعه وناخبيه وتوسيعها. لذلك فهو يقترح ويطور البرامج والأنشطة التي تلبي رغبات وتطلعات الجماهير، وتعزز الإنجازات المادية التي تسمح للناخبين برؤيتها والقبول بهم كـ"حكام صالحين"، مهتمين بالشعب، وفي خدمة الوطن والأمة.
بشكل عام، تخفي الأحزاب السياسية البرجوازية مصالحها الاقتصادية الحقيقية وراء عبارات ديمقراطية ووطنية. يعلنون الحرية، مع الحرص على التذكير بأن الديمقراطية والحرية والدفاع عن السيادة التي يقترحونها تشير إلى مصالحهم الخاصة والجماعية، إلى القطاع الطبقي الذي يهمهم والذي ينتمون إليه. لهذا السبب، من المناسب أن نتذكر النصيحة الشعبية الحكيمة بأن الناس والأحزاب السياسية وخاصة رؤسائها يجب أن يتم الحكم عليهم من خلال ما يقولونه وما يفعلونه، ولكن قبل كل شيء من خلال ما يفعلونه، من خلال طريقة تصرفهم.
مع ظهور الرأسمالية والمجتمع البورجوازي وإحدى أرقى تعبيراته، الديمقراطية التمثيلية، يتم التعبير عن النضال السياسي من أجل السلطة (أهم تعبير عن الصراع الطبقي، في ظل هذه الظروف) بطريقة جديدة وأساسية، تتمثل في وجود الأحزاب السياسية ومواجهات بعضها لبعض.
في المجتمع الرأسمالي، تعبر البرجوازية، صاحبة السلطة، عن مصالحها من خلال وجود ونضال مختلف الأحزاب السياسية، وجميعهم ممثلين لمصالح طبقية، والمصالح العامة للرأسماليين والإمبرياليين، والملكية الخاصة، والحق في المنافسة وتراكم ومركزة الثروة التي يخلقها العمال. من الواضح في جميع البلدان الرأسمالية وجود أحزاب سياسية برجوازية مختلفة، كل منها، بالإضافة إلى التمثيل والدفاع عن المصالح العامة لكبار رجال الأعمال والمصرفيين، والاحتكارات والبلدان الإمبريالية، فهي تجسد أيضًا المصالح الخاصة لكل جزء من أجزاء البرجوازية والجماعات الاقتصادية والاحتكارية الكبيرة.
فالمواجهة بين الأحزاب السياسية البرجوازية على السلطة مسألة قائمة في جميع الظروف. يتم التعبير عنها في الانتخابات والبرلمان والحكومات المحلية. وفي أوقات معينة، يمكنها التعبير عن نفسها من خلال أعمال الشغب والانقلابات وحتى الحروب الأهلية. وتحت كل الظروف، ووفقًا للأيديولوجيين الرأسماليين، فإن وجود أحزاب برجوازية مختلفة يؤشر على وجود وحيوية التعددية الموعودة. ولا يشارك أي من الأحزاب البرجوازية أهدافه المحددة مع أي حزب آخر؛ بل إنهم يحمون خصوصياتهم بأسنانهم. هذه المواجهة بين التشكيلات السياسية المختلفة للبرجوازية تعبر في الواقع عن التناقضات البورجوازية، بين المجموعات الاقتصادية، بين الشرائح المتمايزة حسب المصالح الاقتصادية المختلفة. وفي أحيان أخرى، تتوصل المجموعات الرأسمالية المختلفة إلى اتفاقات، وتحتفل بالتحالفات، وتواجه معًا وضعًا معينًا دون أن يتخلى أي منها عن مصالحه الخاصة.
الشعبوية هي أحد التعبيرات السياسية لبعض شرائح البرجوازية التي تفترض وجودها من أجل الحصول على دعم الجماهير العاملة باسم الشعب. يعرّف العلم السياسي البرجوازي الشعبوية على أنها النسخة الآنية (immédiatiste) للسلطة، لذلك فإنها النسخة التي تبدد موارد البلاد دون أن تقدّم مشروعًا اقتصاديًا وسياسيًا على المدى المتوسط والطويل.
وتتخذ الشعبوية مظاهر وتعبيرات مختلفة: فهناك من يعلنون أنفسهم مدافعين عن النظام ويعارضون علنًا التغيير، ويعتبرون المناضلين الاجتماعيين والمنظمات العمالية أعداء للمجتمع، وممثلين للشر؛ هناك مواقف شعبوية تدعي أنها قومية ووطنية، فهي ترفع أعلام الاستقلال لكسب تأييد الجماهير. هناك مواقف شعبوية تعلن صراحة الدفاع عن الحرية والديمقراطية، وتتباين مع بعض الدوائر الحاكمة مثل الأوليغارشية وأصحاب الامتيازات، وتستخدم السخط الشعبي لكسب الأتباع. باختصار، فإن التعبيرات المختلفة للشعبوية لا تغير جوهر طبيعتها وأغراضها، بل هي بالطبيعة القمعية للسلطة السياسية من خلال مواقفها الداعمة للنظام الرأسمالي، محاولة الاستفادة من تلك الظروف لصالح قطاع الطبقات المهيمنة التي يمثلون.
في حياتها السياسية، تسلط الشعبوية الضوء على شخصية كاريزمية ترفع تصريحاته أمام الناس، وتستخدم صفاته المسرحية لفرضه كزعيم. تثير الشعبوية الأوهام، ويمكنها أن تبني حركات سياسية نشطة للغاية، وحتى مستويات مهمة من التنظيم السياسي، من خلال كوادر مؤهلة.
وتصل العديد من التعبيرات الشعبوية إلى السلطة، عادةً من خلال الانتخابات، على الرغم من أنه يمكنها الوصول إليها كذلك من خلال الانتفاضات الشعبية وحتى حركات التمرد. من السلطة، تسعى الشعبوية إلى التأكيد والإطالة. تواصل عملها السحري وتطور خطاب العروض وتخلق أعداء ستواصل مواجهتهم بدعم من الناخبين؛ كما تسعى لتفعيل جزء من مقترحاتها من خلال المساعدات؛ وتسعى لتحقيق إنجازات ضخمة ذات انعكاسات مرئية.
في الأساس، تعد الشعبوية خيارًا برجوازيًا موجودًا في أوقات وظروف معينة، وينمو في الغالبية العظمى من البلدان. وهي، في حالات خاصة، أداة مثالية لصرف الحركة الجماهيرية والشباب عن السياسات الثورية. في أمريكا اللاتينية، هناك تعبيرات نموذجية للأنظمة الشعبوية، البيرونية في الأرجنتين، الحكم الطويل للحزب الثوري المؤسسي في المكسيك PRI، غولارت في البرازيل، فيلاسكيز في الإكوادور، كأمثلة.