تأثيل جدل القبيلة والدولة


المنصور جعفر
2023 / 5 / 29 - 12:00     

يهتم هذا النص بتأثيل وتمحيص وضع القبيلة والدولة في الحياة السياسة في آخر حلقات الدولة النخبوية في السودان مع تركيز على بعض عوامل تنافر وتداخل أنشطة ومصالح نخب القبائل ونخب الدولة.


1- خمسة معالم للقبيلة:

(أ) مجموعة كثيرة العدد من العائلات والقرابات تنتسب إلى حال أو مكان قصة أو تأريخ معين،

(ب) لأنشطتها وطقوس حياتها شكل وتنظيم معين،

(ج) تتركز في منطقة معينة أو ترتبط بها،

(د) علاقة جيران مع سكان المنطقة تتميز بفترات تعاون أو تمايز أو تنافر ونزاع،

(هـ) علاقات مع تنظيم وأنشطة الدولة، فيها التحالف وفيها التنافر.

تختلف قوة القبيلة حسب موقعها وعددها وطبيعة نشاطها وتأثيرها سلباً أو موجبية على إقتصاد الدولة أو على بعض العلاقات الداخلية للدولة أو بعض علاقاتها الخارجية.



2. من العوامل المؤثرة على وجود القبيلة وتغير حالتها:

(أ) تنوع البيئات الجغرافية بين خصوبة وتصحر. وجبل وسهل، ونهر وبحر.

(ب) تنوع الظروف الإقتصادية الإجتماعية بين تمدن وبداوة،

(ج) تنوع مساحة الوجود والحركة بين مستقلة، مشتركة، متداخلة سواء في فترة أو فترات معينة.

(د) مدى الوحدة الثقافية والطبقية داخل القبيلة، في أي سياق؟ وفي أي مجال من المجالات؟
.
(هـ) فاعلية التنظيم والتوجيه السياسي داخل القبيلة، ومدى رفعه لشأن إستقرارها أو لقوتها.


-

3. المصادر الخارجية والداخلية لتوتر وضع القبيلة:
(أ) مصادر خارجية:
¹التغيرات السلبية في البيئة الطبيعية ²تمدد أنشطة أو مشاكل الجيران،
³ أنشطة حكومية تنقص من قوة القبيلة.

(ب) مصادر داخلية:
¹التنازع الداخلي (أفراد أو أسر أو عائلات)
²خلل الحكم والعناية،
³ نموء الفروق الثقافية والمعيشية وبالتالي إختلاف نظر و قرارات أو قبول قرارات القبيلة.



4. القبيلة والدولة والنظام الطبقي:
تمثل هيئات "الدولة" دور الكيان الناظم والتنظيمي المهيمن على غالبية أشكال الوجود المجتمعي، وتعامل الدولة مع أشكال الوجود المجتمعي وتعامل المجتمعات مع الدولة تعامل ذو وجهين:

فبينما تزعم الدولة إنها داعمة لكل المجموعات! أو انها غير منحازة لبعضها فان لها قرارات في مجالات المعيشة والإقتصاد تأ تظلم بعض المجموعات ويربح بعضها! كذلك تزعم القبائل انها محايدة تجاه أنشطة الدولة ولا تتدخل فيها لكن بعض أبناء أو نخب القبائل لهم تأثير كبير على بعض أنواع ومسارات نشاط الدولة فبعض القبائل بحكم عددها العامل أو بحكم منطقة وجودها تؤثر على إنتاج أو إستثمار مهم في الدولة (غذاء، قطن، نفط، ذهب، يورانيوم) أو تؤثر بكثرة مساهمة أبناءها في نشاط أمني أو عسكري أو في حزب سياسي على قرارات حكومية أو على إنفاذها أو تدفع قبائل أخرى لأخذ موقف إزاء سياسة الحكومة.

لذا فحسب الطبيعة الطبقية للدولة وحسب أنشطة مكونات القبيلة تتأثر أوضاع نخبة الدولة ونخب القبائل بقرارات بعضهما إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر.



5. الاقتصاد والقبيلة:
تمثل معالم الاقتصاد داخل الدولة (السودان) جزءاً تابعاً من النظام الرأسمالي العالمي وتقسيمه لأنشطته في غالبية دول العالم وتتم هذه التبعية بمهمات وأشكال ورتب مختلفة تشمل موارد وأسواق وشركات وبنوك وحكومة السودان، وهي تبعية تسم كل إقتصادات إعادة إنتاج التخلف في العالم التي تتكون من قطاع لإنتاج الخامات بوسائل وأساليب قديمة وقطاع حديث يهيمن برخصه وتمويلاته ودولاراته وإتصالاته العالمية على التجارتين الداخلية والخارجية وإمكانات الإنتاج الداخلي.

في إقتصاد إعادة انتاج التخلف تخلخلت بنية القبائل الزراعية وتغيرت معالمها وثقافتها بفعل أنشطة التمدن والتجارة والاستثمارات الرأسمالية وبحكم الانتشار وكثرة تمازج أبناء القبيلة حيث غابت الوحدة العنصرية والجغرافية والإدارية لكن ابناءها بحكم التمدن منذ أواخر عهد الاستعمار البريطاني احتلوا غالبية مناصب ووظائف الدولة والتجارة وقيادات الجيش وفي جانب آخر لنفس تركوا مهمة تنمية مناطق الرعي حيث زاد تعداد الثروة الحيوانية وحاجتها إلى مراع أكبر وهي الثروة التي تقدم للسودان مئات ملايين الدولارات في العام الواحد تلتهم نخب مركز الدولة غالبيتها.

في مناطق تداخل أنشطة الزراعة وأنشطة الرعي أدت زيادة السكان وغلاء المعيشة لزيادة الحاجة إلى الطعام والنقود من ثم مع غياب التنمية زاد التوسع الأناني في حوز الأراضي كذلك زادت حاجة القبائل الرعوية إلى مزيد من الأراضي للرعي بحكم ثبات معدلات التصدير وتكاثر رؤوس الحيوان.


6. الصدامات القبيلية وبعض آثارها:
مع غياب التنمية وما يلازمها من ضبط أراضي الزراعة وأراضي الرعي أدى التوسع الزراعي والتوسع الرعوي في عدد من المناطق إلى اصطدامات بين مجموعات من الزراع ومن الرعاة من ثم زادت مع الصدامات حمية ونعرة القبيلة،كما زادت تقلبات الأسعار والخسائر والأرباح وبزيادة هذا الاضطراب الإنتاجي والتجاري والإجتماعي زاد مكر الساسة في مجالات الحكم والاقتصاد والأمن ضمن قرارات من الدولة وقرارات من نخبة القبيلة.

ويشكل معين أدت علاقات المعيشة-القوة في مناطق النزاعات بعض الزراع والرعاة على الاراضي إلى إزدهار تضامن القبيلة كتأمين عسكري ومالي لوجود الأسرة خاصة مع حاجة الأسر إلى إغاثة أو حماية أو تمويل وبازدهار رابطة القبيلة وكسب شيوخها من ذلك زاد ميلهم إلى تمييز وجودها على أراضي الدولة منفردة باحتكار مناطق معينة بتوافق أو بإختلاف وحرب بين القبائل الجيران.

بتأجج العنف ورابطة القبيلة عادت الهيبة إلى سلطة ومكانة الشيوخ التي كانت عوامل التمدن قد أضعفتها منذ الخمسينيات والستينيات، من ثم منذ ثمانينيات االقرن العشرين إلى اليوم ظن كثير من الناس في الريف والمدن إن حيازة القبيلة للأرض تحقق لأبناءها قدراً كبيراً من الأمن والإستقرار.


7- تداخل مصالح النخب:
واشجت سطوة الشيوخ حيازتهم لإمازات سلطوية توالت حكومات الاستعمار وما بعده على منحها لهم كمساعدين لها ضمن نظام "الإدارة الأهلية" وهي إدارة إقطاعية تشمل نطاق أو حيازةأو حاكورة القبيلة إذ تجمع في يد شيخها السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وما إليها من أمور.

من ثم صارت القبائل في مناطق نزاعات الزراع والرعاة دولاً داخل الدولة وان اختلف تأثير كل قبيلة على جيرانها وعلى أوضاع المنطقة حسب القوة الداخلية لكل قبيلة من حيث عدد أفرادها وتسليحهم وموارد وضعهم المعيشي والتجاري وحسب نفوذ القبيلة داخل هيئات الدولة العسكرية أو المدنية. وبإرتباط وحود القبيلة في مناطق العنف بمنطق ومعالم القوة، غابت بشكل كبير المساواة الحقوقية بين فئات المواطنين سواء كانوا من قبائل مختلفة أو في داخل حكر القبيلة.


8- تمازج الأزمات والمصالح النخبوية:
تظهر أزمة التمييز وعدم المساواة بين القبائل في حالات الاختلاف الحاد حول الأرض وحق إستعمالها أو حماية استعمالها حيث تفوز القبيلة الأقوى المنتصرة عسكرياً بالسيطرة، أما في داخل كل قبيلة فايضاً تسود الفئة الأقوى التي صارت شبه إقطاعية بفضل الإمازات والدعوم الحكومية الإدارية والتجارية والعسكرية والإعلامية.

كذلك بفضل منطق قوة القبيلة أو منطق تقويتها اضطربت علاقة عموم المواطنين مع هيئات الدولة وأنشطة الحقوق والسياسة مثلما إضطربت واجبات هذه الهيئات إزاء عموم المواطنين حيث صارت تميز بينهم في بعض الأمور على أساس القبيلة/المنطقة وما يداخل هذا التمييز المباشر أو غير المباشر من ثقافة وأفكار مواشجة لشعور بالتفوق كشعب الله المختار أو مواشجة لحالة وشعور الإضطهاد والظلم وتطلع للانعتاق من حالة البؤس لا يجد سياسية أو دولة فعالة تلبي طموحه.

من ثم بفعل أزمات النزاعات القبيلية وبحجة وقفها زادت قوة السلطات المركزية وقوة السلطات القبيلية إلى درجة ان الدولة وبعض وليس كل النخب القبيلية في مناطق انتاج الخامات أسست ميليشيات كبيرة الحجم جنودها عشرات الألوف من شباب الريف الذي لا يجد إمكانية نموء وتنمية، وازدحمت البلاد وسياستها مع الفساد بأمور الميليشيات وتحاصصها مع شؤون الجيش شؤون الدولة التي كانت عامة.


9- العنف كفعل نخبوي:
بشكل عام أدى تلاقح الإمازات و الفوائد وتبادل الهدايا بين نخبة القبائل الأقوى ونخب هيئات الدولة العسكرية والمدنية إلى انتاج حالة مركبة من أنشطة التمييز والتهميش واستثمار أو إنزاف الموارد تؤدي فيها النزاعات دور الفاصلة في تنظيم قراءة العبارات على السطور، أو ما يشبه دور غرفة الاحتراق في إنتاج طاقة جديدة للنخبة.

بتداخل مصالح النخب لم يعد العنف آخر وسيلة للبؤساء للبقاء وكسب العيش بل صار العنف أو السكوت على أسبابه أو على فظائعه وسيلة للنخب العسكرية والمدنية في المدن وفي الارياف لتعزيز وجودها وزيادة هيمنتها وأرباحها.

لعل تداخل مصالح نخب القبائل ومصالح نخب الدولة وتركز الكسب الأكبر من مظالم الريف في العاصمة جعلها بالتدريج منذ أكثر من مائة وعشرون عاماً مركزاً لإنتاج العنف بحكم تغييب نخبتها/نخية الدولة للتنمية والعدل في الأقاليم وولوغ هيئات النخب في تبرير ودعم حالة شبه الإقطاع ونظام القبيلة/الحاكورة رغم كل اختلالاته ومظالمه وكذلك سكوت غالبية النخب والسكان على تغييب التنمية خوفاً على أوضاعهم أو طمعاً في زيادتها في ثقافة سياسية تتعايش مع نتيجة السرقة ورغد المظالم.

10- ثقافة التعايش مع المظالم وثقافة الإنتقام:
في سياق أزمة التنمية وخلل التحكم في الموارد دأبت نخب الدولة ونخب الريف على إستعمال إصطلاح "الثقافة" أو بعض مكوناته أو مشمولاته لتبرير وضعها السياسي وتدعيم كينونتها ضمن سياق احتيالي يرفع مرة قيمة المنظار والنظر العلمي إلى الأمور متكلما عن أهمية الفحص والتمحيص العلمي للأمور الحاضرة والتاريخ. وفي أحيان أخرى يتكلمون عن "التاريخ" كمعطى كامل لا يحتاج إلى فحص وإنتقاد بل يجب بعث أهم معالمه (دولة، قبيلة، نظام إداري اعتقاد، لغة) على أساس ان الحاضر زيف أو كولونيالي وان العودة إلى الماضي أو إلى بعض معالمه (الجيدة) تحقق الأمل في العدل والتنمية.

في الحالتين حالة تمجيد العلمية وحالة تمجيد التاريخ يتم التعامل مع إصطلاح "الثقافة" بشكلين متداخلين انتقائي وإقصائي وفق مصلحة النخبوي القائم بعملية الانتقاء: فإن كانت له مصلحة في إضعاف الدولة أو تزكية روح القبيلة أشار إلى الدراسات أو إلى التواريخ التي ترفع شأن ما قبل الدولة أو بعض شؤونها أما إن كانت للنخبوي مصلحة مدينية تتطلب تخفيض سيطرة القبيلة، انتقى من النظريات ومن التاريخ ما يوكد بؤس ثقافة القبيلة ويعزز فكرة ان الثقافة كائن متقدم ومتغير باتجاه تنوعي تعددي لا مجال فيه لجمود قبيلة أو لغة أو اسرة حاكمة أو حدود حاكورة.

أي ان كل منتقي من قبيلة المصلحة يقصي ما لا يريده من مكونات أو مشمولات إصطلاح الثقافة زاعما أن كلامه هو الأقرب للموضوعية والأفضل لبناء المستقبل، وقد شكل كلام نخب المدينة ونخب المجتمعات الريفية قاعدة لثقافة تعايش نخب المجتمعات مع المظالم وفي نفس الوقت سدت فيه هذه الثقافة طرق الاصلاحات والتغيير الجذري التي اقترحتها لجان المقاومة والحزب الشيوعي السوداني وبرفض طرق الاصلاح زادت الاحتقانات في مختلف مناطق النزاعات وفي مركز الدولة المزدحم بالفساد وبخلافات محاصصات النفط والذهب والقمح والطاقة والسماد والقوات العسكرية وهي الخلافات التي أجل أسلوب التلتيق النخبوي إمكانات حلها جذرياً.


11- النتيجة الكارثية لأزمة النخب القبيلية والنخب المدينية:
فشلت ثقافة وسياسة القبيلة وفشلت ثقافة وسياسة دولة حرية التملك والتجارة بحكم ما أنتجته الثقافتان والسياساتان القبيلية والمدينية من تفاوت ونزاعات أدت في آخرها إلى موت دولة السودان القديمة. حيث انتهت تناقضات نخبها إلى تدمير مقراتها وتحطيم قوتها العسكرية وإحتراق دفاتر هيئاتها وإنغلاق خدماتها ونهب بنوكها وأسواقها وبيوتها، وهجرة نخبها.


12- الصباح:
من الخير الإهتمام بتأسيس دولة حديدة الإدارة والإقتصاد والعسكرية والحدود يحكم فيها الشعب أمور موارده ومعيشته على أسس ديموقراطية شعبية تتيح سيطرة فئات الطبقة العاملة (الرعاة والمزارعين والحرفيين والعمال والمهنيين) ومجتمعات العمل العام على شؤون الدولة مع القوى السياسية التي ترفض النظم النخبوية في الريف وفي المدن. انتهى