الاغتراب واللاغتراب: مواجهة بين لوكاتش وهايدغر (الجزء الثامن والأخير)


أحمد رباص
2023 / 5 / 28 - 04:47     

إن الإصرار الذي أكد به هايدجر في دروسه التي ألقاها في أوائل العشرينيات من القرن الماضي وقبل كل شيء في مخطوطة عام 1922 على أن "الانحطاط" ( Verfallen) يشكل جزء من الوجود البشري، وأن مصدر الاغتراب متأصل في الوجود الدنيوي باعتباره كذلك، بقدر ما تسمح الذات لنفسها بأن يتكفل بها العالم (وبالتالي يبدو بالفعل أنها تماثل الاغتراب بالتشييء!)، والطاقة التي بها تتنصل من اولئك الذين يثقون في "اكتمالية" الطبيعة البشرية وفي إمكانية تجاوز الاغتراب في "عصر أكثر سعادة في الثقافة الإنسانية"، يذكران بطرق عديدة بالعقيدة المسيحية عن "الخطيئة الأولى" (حتى لو دافع هايدجر عن نفسه بشكل طبيعي في "الوجود والزمان" لتحديد الوجود "المنحط") ويبرران تاويل فكره على أنه لاهوت معلمن (ذهب كارل لوفيث و لوكاتش في هذا الاتجاه).
تكون أوجه التشابه أكثر وضوحا عندما نلاحظ أن الاغتراب من جانب "الإنسان" يتطابق مع الوجود المريح والآمن، والذي يسمح لنفسه بأن تلفه إغراءات العالم (يرتبط الاغتراب صراحة بالغواية - Versuchung - وبالتهدئة - Beruhigung ) وأن الحركة المضادة التي تهدف إلى انتزاع الوجود-هناك من الاغتراب تتم مماثلتها مع لاطمأنينة الوجود: الوجود المريح ("البرجوازي") مرادف لاحتجاب الوجود الأصيل ( Verdeckung - الاحتجاب - هو فعل يتكرر كلازمة في "الوجود والزمان" للإشارة إلى الوجود المنحط). نحن نفهم كيف أن تمسك هايدجر بحركة سياسية مدعوة في نظره إلى تجسيد هذا التكفل ب"الصلابة والثقل" (اللذين تحدث عنهما في المحاضرات التي ألقاها خلال موسم 1921-1922) اندرج ضمن الخطوط الداخلية لفكره.
أكد لوكاتش بحق على الدور الذي لعبه منتقدو مقولة "الأمان" في الصعود القوي لإيديولوجيات اليمين المتطرف (ذكر بأن الأمان كان مقولة مهمة في النزعة الإنسانية الألمانية الكلاسيكية وأن فيلهلم فون هومبولت كان أول من صنفها على هذا النحو) وهو لم يغفل ذكر مساهمة فكر هايدجر وياسبرز في "اضطراب" أيديولوجية الأمان.
ظهر مفهوم الاغتراب بطريقة مذهلة عند هايدجر في مقطع ذكر مرارا من كتاب "رسالة في النزعة الإنسانية" (حرر في خريف عام 1946) وهذه المرة بإشارة مباشرة إلى ماركس. إذا كان من غير المرجح أن لهايدجر علما بنصوص ماركس أو بالنصوص الماركسية في الوقت الذي كتب فيه "الوجود والزمان" (رأينا أن لوكاتش نفسه تخلى عن فكرة أن الفيلسوف الألماني كان مهتما بكتاب مثل "التاريخ والوعي الطبقي")، فلدينا يقين أنه في عام 1932 اكتشف نصوص ماركس المبكرة من خلال قراءة المختارات التي نشرها في العام نفسه سيجفريد لاندشوت تحت عنوان "الاقتصاد الوطني والفلسفة" (كرونر فيرلاغ). لقد لاحظنا في مكان آخر وجود صدى مباشر لقراءته للمجلد في ملحق محاضرة 1932 حول النظرية الأفلاطونية عن الأفكار. يجب أيضا أن نأخذ في الاعتبار تأكيد هايدجر في رسالة رده على كارل لوفيث، حيث أقر باستلام كتيب بعنوان "ماكس فيبر وكارل ماركس"، الذي نُشر في عام 1932، حيث أسر لمراسله بأنه لا يعرف كارل ماركس (قد نذكر بشكل عابر أنه في كتابه كال لوفيث عدة مرات المديح ل "التاريخ والوعي الطبقي").
لذلك، من خلال مختارات لاندشوت اكتشف هايدجر الوزن الثقيل لمشكلة الاغتراب في فكر ماركس ونطاق حواره النقدي مع هيجل؛ ذلك ان المقطع من "رسالة حول النزعة الإنسانية"، حيث يذكر هايدجر أهمية أطروحات هيجل وماركس حول الاغتراب، بل يطرح فكرة التفوق التي تعود في هذه النقطة الحاسمة إلى الفكر الماركسي حول التاريخ في علاقة بفلسفة هوسرل أو سارتر، هو بمثابة صدى لهذا الوحي المتأخر ويظهر مدى حساسيته لاكتشاف تقارب في الإشكالية مع فلسفته الخاصة.
انطلاقا من هذا الموقف المبدئي، (كان كارل ياسبرز منزعجا جدا، لأنه رأى فيه تنازلا "غير مسؤول" لصالح الفكر العدو)، إذا توخى كاتب الرسالة "حوارا مثمرا" مع الماركسية، يجب التذكير برد الفعل الحاد للوكاش في "إعادة قراءة هايدجر" الذي، بينما وجد هذه الإحالة المباشرة الأولى إلى ماركس "مثيرة جدا للاهتمام" في نص نشره هايدجر، حذر من أي تقارب في الموقفين.
لطالما فسر لوكاتش اللاحتمية الأساسية التي تأثر بها "الإنسان" الهايدجري، في "الوجود والزمان"، بسماته السلبية التكوينية: التسوية، الرداءة، الاقتلاع، كإفساد لمصداقية الاجتماعية باعتبارها كذلك، بينما تكشف في الوقت نفسه عن صورة دقيقة ومنمقة للتلاعب المعمم الذي يتعرض له الأفراد في المجتمع البرجوازي الحديث. انصب جوهر تصويره الإشعاعي النقدي لفكر هايدجر على الطريقة التي غير بها هيأة مؤلف كتاب "الوجود والزمان" من الناحية الوجودية، أو بشكل أكثر دقة أضفى الطابع الكوني على وضع تاريخي خاص، وضع مثقف ألماني محافظ في مواجهة استفحال ظواهر الاغتراب و"الانحطاط" في الحياة العامة لذلك الوقت. وهكذا افتتح لوكاش قراءة تاريخية ل"الوجود والزمان" (في مجموعته المنشورة بعد وفاته عن هايدجر، شرع غونثر أندرس أيضا في هذا المسار، واصفا فلسفة هايدجر الأول بـ "فلسفة التحدي"، "فلسفة رغم انف ...") التي ستعاود الظهور في الأدبيات النقدية الحديثة التي أثارها الجدل حول هايدجر والنازية. لا شيء أفضل يوضح هذا التأطير السياقي النقدي ل"الوجود والزمان") عند هايدجر من غاية اللاتلقي المعارضة لـ "الديمقراطية": كون هايدجر يصف "غياب" "المسؤولية" كخاصية تكوينية للوجود العام يذكر منتقده باللعنات التي ألقاها اليمين المحافظ على الديمقراطية باعتبارها عهدا من اللامسؤولية تحت استبداد الأغلبية الحسابية.
ما وضعه لوكاتش موضع تساؤل في "التسامي" الأنطولوجي للتحديدات التاريخية-الاجتماعية التي قام بها هايدجر (يمكننا أن نتذكر أن الاغتراب الذي تحدث عنه هايدجر الأول يصبح "غيابا للوطن" و "نسيانا للوجود" لدى هايدجر الثاني)، كان حجبا للتكوين التاريخي-الاجتماعي الحقيقي لـ "الوجوديات" الذي تم استحضاره ، وتحييدا للديالكتيك التاريخي الحقيقي بهذه الوسيلة وإنعكاسا لنوع من الاغتراب بواسطة مسلك أسطوري بحت ثبت، في الملموس التاريخي-الاجتماعي، أنه حامل لأسوإ المخاطر. سيسمح الكائن المغترب لنفسه بأن يُعاد فهمه من خلال "بداية أخرى" ( البداية الأخرى مفهوم رئيسي في فكر هايدغر الثاني): حدد لوكاتش في "التاريخ والوعي الطبقي" هذه الطريقة في "التعميق" الوجودي للسيرورات التاريخية-الاجتماعية من خلال التحدث عن "التسطيح بواسطة "العمق"، و لم يتوقف أدورنو عن استحضار صيغة لوكاتشية بدت له أنها توضح جيدا استراتيجية تفكير خصمهما المشترك.