صراع العسكر ومستقبل السودان


رضي السماك
2023 / 5 / 27 - 20:17     

بادئ ذي بدء يمكننا التأكيد بأنه لا يمكن الوصول إلى مقاربة سياسية تتكهن بمستقل السودان في ضوء تطورات الأزمة التي تفجرت عسكرياً على نحو دام مؤسف منذ أكثر من شهر ، وما زالت متواصلة حتى الساعة ، دون التذكير بسلسلة الأنقلابات العسكرية التي اُبتلي بها الشعب السوداني، بدءاً بالمحاولة الإنقلابية الفاشلة 1957، أي بعد عام واحد فقط من الاستقلال ، ومروراً بانقلاب الجنرال إبراهيم عبود 1958، فانقلاب جعفر نميري 1969، فانقلاب هاشم العطا اليساري عام 1971 الذي نجح لمدة ثلاثة أيام فقط، ووجد فيه نميري ضالته لتنفيذ تصفيات دموية بحق قيادات من خيرة الحزب الشيوعي، ومن أبرزهم مؤسس الحزب الشهيد عبد الخالق،محجوب، والشهيد الشفيع الشيخ ، وغيرها من سلسلة الأنقلابات اللاحقة الفاشلة، وصولا إلى انقلاب عمر البشير 1989 والذي أستمر أكثر من 30 عاماً والذي أطاحته الثورة الشعبية أواخر 2018، لكن ورثته في الجيش والدعم السريع (القطبان العسكريان عبد الفتاح البرهان رئيس هيئة الأركان، ومحمد حمدان دقلو قائد قوات التدخل السريع) نكثا بتعهدات التسوية مع ممثلي الثورة القطبين وكلاهما من مخلفات النظام الفاشي السابق لعمر البشير، وصولا لانفجار الصراع العسكري على السلطة بين الرجلين، وهو الصراع الذي ما فتئنا نتابع فصوله المؤلمة، حيث تدور رحى معاركه في المدن والقرى، وكلاهكا يراهن على سحق الآخر واجباره على الإستسلام ليستفرد هو وحده بإنقلابه .
ومع أن أن الإنقلابات السودانية تتشابه في تكرارها بالإنقلابات في بعض الجموريات العربية، إلا أن ما يحدث في السودان بين مشروعي إنقلابين هو الأعنف والأخطر في تاريخ الأنقلابات السودانية والعربية،ليس بالنظر لأحداثه الدامية التي تعصفت بالبلاد -شعباً ودولة- فحسب، بل والنتائج الخطيرة التي ستظل البلاد تعاني منها لفترة طويلة،تضع علامات استفهام على المستقبل المجهول الغامض الذي ينتظرها دولةً وشعباً.
من المفيد هنا الرجوع إلى واحدة من الدراسات التي تناولت بالتحليل ظاهرة الأنقلابات العسكرية العربية، وفد أعدها الباحث الأنثروبولوجي اللبناني الراحل فؤاد إسحاق خوري وصدرت 1990 عن دار الساقي، غداة أنقلاب الجناح العسكري للأخوان المسلمين بقيادة الجنرال عمر البشير تحت عنوان" العسكر والحكم في البلدان العربية"، فمما جاء فيها حول البلدان العربية التي عرفت ظاهرة الأنقلابات: "… وطالما أن الجيش مؤلف من عدة فئات واثنيات متنوعة، فهو بالتالي يلعب أدواراً سياسية متنوعة. وطالما أنه لايقوم على أساس القواعد الديمقراطية. فمن الصعب توقع إنجازات ديمقراطية منه. فالأنقلاب العسكري،وكحدث فردي لا يأتي عن طريق مجموعة كبيرة من الضباط إنما عن طريق شلة صغيرة من الضباط" .( ص 78 ) ويضيف في موضع آخر من الدراسة حول الوضع الداخلي في المؤسسات العسكرية " … أن دوائر النفوذ ضمن المؤسسة العسكرية تُبنى لا على أساس الأداء إنما على أساس القرابة والزواج والأصل الإثني والعائلي". ورغم مرور أكثر من 30 عاماً على صدور الدراسة، إلا أن الأستنتاجين المذكورين مازالا يصحان في تفسير أنقلاب عمر البشير "الإخواني"، وما تمخض عنه من تداعيات حركية شعبية، برز خلالها صراع بين قيادتي الجيش والدعم السريع ( البرهان وحميدتي ) على السلطة، كما يفسر أيضاجانباً مهما رئيسيا في ظاهرة الأنقلابات العسكرية، وصولاً إلى الأنقلاب الأخير .
وإذ لم تفد كل مناشدات ومبادرات الدول العربية والجامعة العربية المتكررة، فضلا عن مبادرات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بالإغاثة لوقف قوري لإطلاق النار من قِبل كلا الطرفين، تخفيفاً على الأقل من حدة الكارثة والمحنة المأساوية التي تأخذ بخناق شعبهما، حيث تزداد أعداد القتلى والجرحى من المدنيين بالآلاف، عدا عن عشرات ألوف النازحين الفارين، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تطحن أكبر شريحة من الشعب تتضور جوعاً جراء الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها ، فضلاً عن أزدياد أعداد الجرحى والمرضى التي فاضت بهم المستشفيات لعدم قدرتها أستيعابهم، وأنعدام المستلزمات الطبية والعلاجية، فإن ذلك كله ليبعث حقاً على التشاؤم والغموض حول المستقبل الذي ينتظر السودان دولةً وشعباً جراء هذه الحرب الداخلية الخطيرة المدمرة .
وإذا كانت الإنقلابات العربية تتوسل شعارات تبرر بها أمام الشعب أنقضاضها على السلطة بالدبابات، كمكافحة الفساد، وتحسين أحوال المواطنين، أو نصرة القضية الفلسطينية وأتهام النظام المنقلب عليه بخيانتها ، فإن المتصارعين على السلطة دون مبالاة بالكارثة التي تحل بشعبهما فوق الكوارث التي جناها من نظام البشير الذي جاء بهما على مدى ثلاثة عقود ونيف، إنما يتعرى مشروع كل منهما الأنقلابي من ورقة التوت في العجز عن تبرير هذا الأمعان المدمر الذي أرجع السودان عقوداً إلى الخلف أمام تفرج المجتمع الدولي ولا مبالاة النظام الأقليمي العربي، وعلى رأسه دول مجلس التعاون، وذلك بغية اضعاف السودان إلى أدنى حد والا ستئثار بعدئذ على استثمارات الإعمار حيث ستظل إرادة أي حكم بعدئذ، إذا ما جاء كان على شاكلة الأنظمة الدكتاتورية السابقة، أسيراً للقوى الخارجية من عربية ودولية غربية!