الكاتب المستقرىء


خالد بطراوي
2023 / 5 / 26 - 14:22     

كتب أحد الأشخاص مستفسرا ذات يوم قائلا " لماذا لا يستقريء الأحداث التي ستقع كل من يكتب وخاصة المحللين في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها؟".
صراحة هذا السؤال جعلني أفكر مليا، فهل فعلا غاب التحليل في المقالات، وهل فعلا كان هذا التحليل موجودا بالأصل ليس لأحداث حدثت وإنما لأحداث ستأتي؟
لا أستطيع صراحة الأجابة المطلقة على هذا السؤال بالنفي أو التأييد، ذلك أن الكثير ممن يكتبون بالفعل يستعرضون أحداثا وقعت والى حد ما يستقرؤون ما قد ينجم من تداعيات جراء هذه الأحداث، لكن أن يقول لك أي كاتب بالقطع عما سيقع من احداث مستقبلية إستنادا ال معطيات الماضي والحاضر، فإن معرفة ما سيحدث هو عند الله سبحانه وتعالى ولم تتمكن البشرية حتى الان من "العلم بالغيب" ولا أعتقد أنها ستتمكن مستقبلا.
هناك نوعان من الكتاب، النوع الأول هو أولئك الذين يرصدون الأحداث التي وقعت وتداعياتها وربما يكتبون متوقعين ما سيحدث في المستقبل المنظور القريب لكنهم ليسوا على يقين مطلق بذلك، والنوع الثاني أولئك الذين يكتبون وهم يستندون الى معلومة مؤكدة أو مسربة لهم بغية ترويجها، وهم "زلم" الأنظمة وأباطرة رأس المال والسلاح والمخدرات والأدوية.
وأنا أكتب العبارة الأخيرة أعلاه، يمر بذاكرتي مجموعة من الكتاب والاعلاميين العرب المشهورين أمثال محمد حسنين هيكل وأحمد سعيد وغيرهما وقد تصدروا المشهد الإعلامي في الوطن العربي، لأجد أن محمد حسنين هيكل كان يبني تحليلاته وتوقعاته لما سيحدث وفقا لتوجيهات رسمية مصرية ولمعلومات أعطيت له بغية نشرها وتعميمها.
المسألة الأخرى تتعلق ببعض القراء الذين ومع الاحترام لشخصهم - ولشديد الأسف - لا يربطون مقالات سابقة لهذا الكاتب أو ذاك مع بعضها البعض، فيما يهتم كثيرون بالحاضر ويرددون دوما المثل الشعبي القائل " يا شاري الخبر بفلوسه ... إستنى لما يجيك ببلاش"، أو " إحنا أولاد اليوم".
في الشأن العراقي مثلا، وعندما إشتعل فتيل الحرب العراقية الإيرانية، كثير من الكتاب كتبوا عن عبثية هذه الحرب وإستنزافها لموارد البلدين وكتبوا أيضا توقعاتهم بأنها ستدوم لفترة ثم تتوقف دون تحقيق أي شيء لكلا الطرفين، وكثيرون أيضا كتبوا وتوقعوا العدوان العراقي على الكويت وأشاروا الى عبثيته، وإستقرأوا أن ذلك سيكون مقدمة لضرب العراق، وقالوا وبملء الفم أن النظام العراقي سوف يسقط " كما البسكوت" فجيشه لا يقاتل بعقيدة بل خوفا من بطش نظام البعث العراقي الذي طغى وإستبد بالشعب العراقي وقواه السياسية، وتوقع كثير من الكتاب أن تدخل العراق في لجّة حرب إستنزاف وصراعات داخلية طويلة الأمد ما زالت الى يومنا هذا.
أما فيما يتعلق بالربيع العربي، فقد كتب كثيرون يتوقعون بأن الربيع العربي ما هو إلا أكذوبة، وأن جلّ الأمر هو إستبدال الامبريالية لحرسها القديم في المنطقة بالحرس الجديد وأن التحركات الجماهيرية ستحظى بصمت قيادة الجيش في كل بلد، ما يمهد لاغتيال الرؤساء أو هروبهم إلا في سوريا التي ستصمد.
وفي الشأن السوري كتب كثير من المحللين قائلين أن سوريا ستشهد صراعا مسلحا يستنزف البلد والشعب ويمزق اللحمة وسوف تسكت روسيا في البداية الى أن "تبيع" الى المتحاربين في سوريا عتادها العسكري البالي القديم مثل "دبابات تي 54" وصواريخ "جراد" وسلاح " الديكتريوف" وحتى طائرات " السيخوي" وبعدها سوف تقف الى جانب النظام الرسمي وتستأجر قاعدة عسكرية ( الان تسمى قاعدة حميم) وسوف ينتعش وضع نظام بشار الأسد.
وفيما يتعلق بالجماعات التكفيرية أمثال داعش، فقد كتب كثيرون متوقعين إن يتنامى تأثير هذه الجماعات في البداية، ثم تندثر فقد إنتهت مهمتها، وسيبقى بعض فلولها هنا وهناك، وفي ذات الوقت وفي ذروة تنامي دور الدواعش أعلن المفكر الفلسطيني خالد عودة الله أن " داعش لا تحتاج الى تحليل في صالونات سياسية ... بل تحتاج الى فعل على الأرض حتى لو لزم استخدام القوة" مستعرضا تاريخ "داعش في ميزان الفكر السياسي الاسلامي".
في الشأن الفلسطيني، لم يتوقع أي كاتب سواء أكان من "زلم الأنظمة" أم كاتبا مستقلا بعيدا عنها، أن تفضي "إتفاقيات أوسلو" الى دولة فلسطينية كاملة السيادة ومستقلة بل ذهب الجميع الى القول بأن كل ما يحصل ما هو إلا ذر للرماد في العيون.
وعن التطبيع مع الكيان الصهيوني، أجمع كافة الكتاب على أن الكيان قد ينجح في التطبيع مع الأنظمة لكنه لن ينجح حتى ولو في إحداث إختراق واحد بين الجماهير في كافة الاقطار العربية.
خلاصة القول، أن فضاء الكتابة واسع ومفتوح على مصراعيه، هناك الكاتب المحسوب على "النظام" والذي يعطي له النظام المعلومة كي يكتب عنها كما لو أنه يستقرىء ما سيحدث، وهناك الكاتب الذي يقوم بإعمال فكره وعقله فيحلل ما حدث ويضع تصوراته وتوقعاته لما قد يحدث لكنه لا يستطيع أن يتوقع ما قد يحدث في المستقبل البعيد بل في المستقبل القريب بل والقريب جدا.