الاغتراب واللاغتراب: مواجهة بين لوكاتش وهايدجر (الجزء السادس)


أحمد رباص
2023 / 5 / 26 - 02:52     

إن فحص مفهوم سارتر عن الاغتراب، كما يظهر من "نقد العقل الجدلي" أو قبل ذلك من "دفاتر من أجل الأخلاق"، من خلال مواجهة مع وجهة نظر لوكاتش، من شأنه أن يفترض اختبارا لأهمية انتقادات لوكاتش المنصبة على استمرار رؤى هايدجر لدى سارتر حول الشرط الإنساني (لمفاهيم "الوجودفيالعالم"، "المشروع" - "Entwurf" (المسودة) - وخاصة "الوجودالمقذوف"،Geworfenheit) وانطلاقا من هناك، حول وجود ميل لدى سارتر إلى تحديد الاغتراب والتشييء. تبين مقاطع دالة من "دفاتر من أجل الأخلاق" أو "نقد العقل الجدلي" أن مثل هذا التساؤل لا يفتقر إلى التبرير. ولكن، في الوقت الحالي، فإن مثل هذه المواجهة بين سارتر ولوكاتش حول السؤال الدقيق عن الاغتراب توجد خارج نطاق اعتباراتنا. من الضروري الأولى تحليل التصور الهايدجري للدازاين واغترابه (التصور الذي، وفقا للوكاتش، كان سيطبع فكر سارتر حتى في الفترة "الماركسية" من تفكيره)، نحن نفضل تكريس الجزء الأخير من هذا النص لمقاربة هذا المسألة المثقلة لتحديد موقف سارتر.
يمكننا أن نعتبر كحقيقة ثابتة اليوم أنه عندما نشر لوكاتش دراسته الشهيرة عن التسليع، من خلال إحياء إشكالية الاغتراب في مجال الفلسفة الماركسية (لم يفكر ماركسيو الأممية الثانية، بمن فيهم كاوتسكي أو بليخانوف، في قراءة ماركس من هذا المنظور ولوكاتش نفسه جادل في هذه الإشكالية دون معرفة نصوص ماركس الشاب التي احتل فيها مفهوم الاغتراب مكانة مركزية)، كان هايدجر في طور تطوير وصقل مفهومه الخاص عن "الاغتراب"، الذي سيظهره في صورة مكتملة عام 1927 في "الوجود والزمن".
إن تكرارات كلمة الاغتراب في هذا الكتاب، حتى لو لم تكن عديدة، لها أهمية حاسمة في تحديد خصوصيات "أنطولوجيا الدازاين"، خاصة إذا ربطناها بالتطورات الوافرة حول لاأصالة (Uneigentlichkeit ) وأصالة (Eigentlichkeit) الكائن-هنا. كما أشرنا في مكان آخر ، فإن العناد الذي حاول به لوسيان جولدمان لعقود من الزمن اعتماد الأطروحة التي بموجبها كان هايدجر قد نقل في "الوجود والزمن" اعتبارات لوكاتش حول التسليع، وبشكل أكثر دقة الأطروحة التي مفادها أن كتاب الفيبسوف الألماني سيحتوي في مواضع حاسمة على ردود على "التاريخ والوعي الطبقي"، لم يؤد إلى النتائج المتوقعة، وتحول بناء جولدمان في النهاية إلى رؤية عقلية.
مع ذلك، كان لفرضيات جولدمان (التي قدمها باعتبارها حقائق مؤكدة) تداعيات واسعة (يمكننا أن نلاحظ أنه في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، تحدث فيلسوف تم نسيانه الآن إلى حد ما، ماكسيميليان بيك، مدير مجلة "دفاتر فلسفية"، عن التقارب الذي كان هو نفسه قد وصفه بأنه "مذهل" بين هايدجر ولوكاتش وأن الفيلسوف الألماني الشرقي، جورج ميندي، طرح لاحقا في كتابه "دراسات في الفلسفة الوجودية"، الذي نُشر عام 1956 في برلين، نفس الحجج التي تهدف إلى اكتشاف ردة الفعل على الماركسية اللوكاتشية في "الوجود والزمن") وكان لا بد من نشر محاضرات هايدجر وكتاباته غير المنشورة التي تنتمي إلى الفترة التي سبقت نشر كتاب لوكاتش لإدراك أن استخدام مفهوم Verdinglichung وإشكالية الاغتراب بشكل عام كان حاضرا لدى هايدجر قبل وقت طويل من نشر لوكاتش لكتابه .
يبدو أن لوكاتش نفسه قد حاول لبعض الوقت النظر إلى حجة جولدمان وميندي على أنها "معقولة"، كما يظهر من رسالة إلى ناشره فرانك بنسلر بتاريخ فاتح ماي 1961. بعد ذلك بعامين، عندما رد على رسالة من كاريل كوسيك سأله تحديدا عن احتمالية رد فعل هايدجر في كتابه "الوجود والزمن" على كتابه "التاريخ والوعي الطبقي"، كان أكثر حذرا، حتى أنه صاغ الملاحظة الصحيحة جدا بأن حضور مفهوم "Verdinglichung" في عمل هايدجر لم يكن حجة كافية على الإطلاق لدعم مثل هذه الفرضية. أخيرا، في التقديم الذي كتبه عام 1967 خصيصا ل "التاريخ والوعي الطبقي"، قام ببساطة بوضع سؤال وصفه بأنه "فقه لغوي" بين قوسين (رفع مستوى المناقشة التي بدأها جولدمان من خلال التأكيد على أن أسئلة "التأثيرات" ثانوية في نهاية الأمر) واقتصر على تحديد أن مسألة الاغتراب كانت ضمن "روح العصر" عندما ظهر الكتابان، ما يفسر وجودها المركزي في كليهما. يبدو جوهر المشكلة بالفعل بالنسبة لنا في مكان آخر: في مقالته النقدية بعنوان "Heidegger redivivus" (إعادة قراءة هايدجر)، التي ظهرت سنة 1949 في كتابه "المعنى والشكل" وفي الترجمة الفرنسية التي نشرت في مجلة "أوروبا"، وكذلك في الصفحات المخصصة لهايدجر ضمن كتاب "تحطيم العقل"، تقدم لوكاتش بأطروحة مفادها أن التحليلات التي غدت شهيرة والمكرسة في "الوجود والزمن" للوجود المغترب سوف تمثل المقلوب "الأنطولوجي" لنقد النزعة الفيتيشية الذي طوره ماركس.
في "إعادة قراءة هايدجر"، من خلال الإشارة إلى الاستنتاجات التي صاغها باحثون مختلفون حول هذا الموضوع (ربما كان يفكر في جولدمان، وربما أيضا في ماكسيميليان بيك)، وصف "الوجود والزمن" بأنه "مواجهة عظيمة" (eine grosse Auseinandersetzung) مع أطروحات ماركس حول النزعة الفيتيشية، وفي كتابه "تحطيم العقل"، أول الكتاب على أنه رد فعل قوي ضد الفكر الماركسي وضد صعود الاشتراكية (وضع "الوجود والزمن" ضمن امتداد "تجاوز" المادية التاريخية عند زيمل، من خلال الكشف فيه عن نفس منهجية "التسامي الأنطولوجي" للمعطيات التاريخية-الاجتماعية).
إن عدم ذكر اسم ماركس أو غياب أي إشارة إلى فكره في "الوجود والزمن" أكدهما لوكاش، لكنه لا يرى فيهما حجة من شأنها أن تبطل أطروحته، لأن المرور على الماركسية في صمت كان في نظره شيئا معتادا في الإنتاج الفلسفي لذلك الوقت، ومن ناحية أخرى، كما كتب إلى كوزيك، بدا له أنه من غير المحتمل أن هايدجر لم يصادف الماركسية في طريقه (لتبرير تخمينه، قام بالتوازي بين مساري ماكس شيلر وياسبرز: الأول كان سيجد الدعم لفكره حول المجتمع في كاثوليكية تلك الفترة، بينما تميز الثاني بتراث ماكس فيبر، في حين كان من المعقول أن هايدجر، عبر بناء أنطولوجيا اجتماعية في "الوجود والزمن"، بدون مرجعية لاهوتية، كان سيصادف الماركسية في طريقه).
(يتبع)